المصدر: Getty

حاجة المعارضة السورية إلى خطاب اقتصادي

إن غياب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي خلال مرحلة النزاع الدائر في سورية يُظهر المعارضة وكأنها بلا مشروع بديل على الأصعدة كلها، ويُظهر ضعفاً ليس بالضرورة صحيحاً حيال قدرتها على إدارة الشؤون العامة ووضع السياسات الملائمة، كما من شأنه أن يثني لاعبين مهمين عن الانضمام إلى مجموعات المعارضة غير المسلحة التي تحتاج إلى أشكال الدعم كلها.

نشرت من قبل
الحياة
 on ٢١ أغسطس ٢٠١٢

المصدر: الحياة

المتابع للشأن السوري لا يجد أي حديث عن سياسات ما بعد الثورة في شكل عام، وفي ما يخص الشأن الاقتصادي لا يكاد يوجد شيء يُذكر، وينطبق الأمر ذاته على سياسات المرحلة الانتقالية، فالمعارضة لا تستطيع توحيد خطابها تحت مظلة واحدة ما يجعل من السهل الهجوم عليها والتشكيك في قدرتها على إدارة الشأن العام، خصوصاً أن المعارضة تتنازعها سياسات متباينة ومتضاربة أحياناً. وكثيرون محتارون حيال كثير من السياسات التي يمكن أن تتبعها المعارضة بعد سقوط النظام الحالي.

وربما يجادل البعض بأن الحديث عن سياسات اقتصادية - اجتماعية يُعتبر سابقاً لأوانه في ظل أجواء التوتر والتدمير الممنهج للبنية التحتية في سورية، لكن في الحقيقة لا يوجد ما يمنع من تطوير خطاب اقتصادي لقوى المعارضة الرئيسة. وتكمن أهمية إيضاح الخطاب الاقتصادي بأنه سيرسل إشارات واضحة مثلاً إلى رجال الأعمال والتجار الذين وقفوا حتى الآن على الحياد حيال الأحداث الجارية، وتلك الفئة المهمة ارتبطت مصالحها تاريخياً بالنظام البعثي بغض النظر عن نياتها الحقيقية، فهناك كثيرون من رجال الأعمال وقيادات القطاع الخاص التي لم يكن أمامها بدائل سوى التعامل مع الواقع القائم بكل مساوئه. هذه الفئة من قطاع الأعمال يجب أن تكون محط اهتمام المعارضة السياسية التي يجب أن ترسل لها رسائل طمأنة توضح معالم الطريق المقبلة.

الرسائل الثانية يجب توجيهها إلى مؤسسات القطاع العام والعاملين فيها، ومضمون هذه الرسائل يقوم على نية القوى السياسية الجديدة الحفاظ على تماسك هذه المؤسسات، خصوصاً الخدمية منها والتي تتعامل مباشرة مع الجمهور، والتفريق بين هذه المؤسسات وبين المؤسسات السياسية والأمنية التي ستنهار بحكم الضرورة فور سقوط النظام وستعمل على إشاعة الفوضى ما أمكن، وهذا ما حدث في كثير من الدول التي شهدت تغييرات لرأس الحكم في ظل غياب الديموقراطية.

ويمكن تفهم أسباب التأخير في هذا النوع من السياسات، لكن الساحة الإقليمية والدولية فيها كثيرون من الفاعلين والمؤثرين الذين بدأوا التفكير عملياً بالوضع الاقتصادي في سورية ما بعد بشار الأسد، وكيف يمكن لهذه الهيئات والمؤسسات المساهمة والمساعدة في إدارة المرحلة الانتقالية وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها تلك المؤسسات في أماكن أخرى حول العالم، حيث تأخر رد فعلها وتدهورت الأمور في بعض الدول إلى أسوأ مما كانت عليه إبان الحكم السلطوي على غرار ما وقع في العراق مثلاً.

وليس صعباً وضع عدد من الخطوط الرئيسة والعامة التي ستتبع خلال المرحلة الانتقالية، وتلك المسائل تتعلق بدور الدولة والقطاع الخاص، ودور المؤسسات الإقليمية ومؤسسات التمويل الدولية، فمثلاً بات ضرورياً إيضاح ما هو النظام الاقتصادي الذي تسانده القوى السياسية المعارضة: هل هو نظام اقتصادي يشكل امتداداً للسلطة المركزية التي كانت سائدة ونظام شبه اشتراكي؟ أم هو نظام سيقوم على المبادرات الفردية وسيقلل من دور الدولة؟ وما هي الأولويات التي سيركَّز عليها؟

ومن شأن خطاب كهذا في ظل دخول الأزمة السورية مرحلة جديدة، جذب مزيد من المؤيدين إلى الثورة، خصوصاً الذين لا يزالون متخوفين من القوى الصاعدة، كذلك سيساهم هذا الأمر في تسهيل الإستراتيجية التي يمكن اتباعها من قبل الراغبين في مساعدة سورية أثناء عملية التحول.

وهناك عدد من الدروس التي يمكن للمعارضة السورية الاستفادة منها خلال المرحلة الانتقالية، منها مثلاً تحديد أولوية الحفاظ على مؤسسات القطاع العام كما هي وعدم محاولة إفراغها من الكفاءات العاملة فيها، فتلك المؤسسات بغض النظر عن كفاءتها وسمعتها، ضروري الحفاظ عليها والتفكير لاحقاً بسبل تطوير أدائها وترشيدها.

يتبع هذه الخطوة التفكير بسبل تشغيل المؤسسات العامة وتأهيلها لتقديم الخدمات الضرورية من تعليم وصحة وإدامة البنية التحتية، وهذا الأمر من شأنه بث طمأنينة ضرورية خلال فترات التحول وتجنب وقوع الفراغ الذي يمكن أن يؤدي إلى فوضى وتدمير لتلك المؤسسات الوحيدة القادرة على القيام بتنفيذ مهامها في المجالات الاجتماعية والتربوية.

أما الخطوة الثالثة فتكمن في وضع خطط لإعادة هيكلة هذه المؤسسات والسعي إلى التعاطي مع مشكلاتها الجوهرية، وهذا يتطلب شرعية سياسية ووقتاً طويلاً قبل أن تظهر ثماره، وسيكون ضرورياً بناء توافقات محلية حيال السياسات المستقبلية المتوسطة والبعيدة المدى.

إن غياب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي خلال مرحلة النزاع الدائر يُظهر المعارضة وكأنها بلا مشروع بديل على الأصعدة كلها، ويُظهر ضعفاً ليس بالضرورة صحيحاً حيال قدرة المعارضة على إدارة الشؤون العامة ووضع السياسات الملائمة، ويفتح كذلك مجالاً من التشكيك والضبابية حيال المرحلة المقبلة، من شأن غياب الخطاب الاقتصادي إثناء لاعبين مهمين عن الانضمام إلى مجموعات المعارضة غير المسلحة التي تحتاج إلى أشكال الدعم كلها. وأخيراً من الناحية السياسية، فإن تطوير خطاب متكامل حيال القضايا كلها التي تهم المجتمع السوري، تظهر بأن المعارضة لديها مشروع دولة ولا تقف طموحاتها عند مجرد إزاحة النظام القائم.

تمّ نشر هذا المقال في جريدة الحياة

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.