مقدّمة
في العام 2022، استخدم الرئيس التونسي قيس سعيّد صلاحياته لإقرار دستورٍ جديدٍ حوّل النظام السياسي في البلاد إلى نظام رئاسي. كانت الأوضاع الاقتصادية في تونس سيّئة أساسًا، إلّا أنها ازدادت تدهورًا. وخلال العام 2023، كان لا يزال من الممكن أن تتجنّب البلاد التخلّف عن سداد دينها العام، لكن ذلك تطلَّب من الحكومة التي يقودها سعيّد مقاومة الإغراء المتمثّل في الضغط على البنك المركزي لإقراضها المال. لكن في العام التالي، للأسف، لم تستطع الحكومة مقاومة ذلك.
ففي شباط/فبراير 2024، أقرّ مجلس نواب الشعب تعديلًا يتيح للبنك المركزي إقراض الخزينة العامة تمويلًا مباشرًا بقيمة 7 مليارات دينار (أي ما يُعادل مليارَي دولار أميركي)، في خطوة تهدف إلى سدّ العجز في الميزانية. وقد تطلّب هذا الإجراء تعديلًا لأن القانون عدد 35 لسنة 2016 نصّ على ما يلي: "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة".
تغيّرت الأمور بعد ثماني سنوات، وجرى تقديم تعديل العام 2024 للقانون عدد 35 لسنة 2016 على أنه إجراء "استثنائي". لكن الضرر كان قد وقع. وأتاح هذا التعديل للحكومة التدخّل في عملية صنع القرارات داخل البنك المركزي، وأدّى عمليًا إلى إخضاع هذه المؤسسة للحكومة (التي بات يسيطر عليها الرئيس فعليًا)، الأمر الذي شكّل سابقةً خطيرة. ظلّ الوضع المالي في البلاد هشًّا منذ إقرار التعديل، واعتُبر لجوء الحكومة إلى احتياطيات البنك المركزي للحصول على التمويل خطوةً يائسة لتأجيل أزمةٍ آتية لا محال.
البنك المركزي التونسي مرساة لضمان الاستقرار الاقتصادي
تأسّس البنك المركزي التونسي في العام 1958، بعد عامَين على استقلال تونس عن فرنسا. وعقب انتفاضة العام 2011، التي أطاحت الرئيس زين العابدين بن علي بعد فترة حكمٍ طويلة، نجح البنك المركزي في المحافظة على احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية في ظلّ وضع سياسي متقلّب، إذ استلم السلطة ما لا يقلّ عن ستّ حكومات على مدى خمسة أعوام. وفي العام 2016، سُنّ دستورٌ جديدٌ مُنِح بموجبه البنك المركزي قدرًا كبيرًا من الاستقلالية، عزّزها لاحقًا في العام نفسه القانون عدد 35 لسنة 2016. فقد جاء هذا القانون على خلفية وضعٍ سياسيّ غير مستقرّ، في ظلّ نظامٍ برلماني، ورئيسٍ لا يتمتّع سوى بصلاحيات تنفيذية محدودة، وتغيّرٍ متكرّرٍ للحكومات. شكّل انعدام الاستقرار السياسي هذا تهديدًا لاستمرارية السياسات العامة، وأبرَزَ للجميع ضرورة أن يكون البنك المركزي مستقلًّا.
بعد أن رسمت المادة 25 من القانون عدد 35 لسنة 2016 خطًّا واضحًا بين البنك المركزي التونسي والحكومة، أصبح هذا البنك واحدًا من أكثر المصارف استقلاليةً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يُضاف إلى ذلك أن صلابة الموقع الذي تمتّع به البنك المركزي في المشهد السياسي والاقتصادي للبلاد استُمِدَّت أيضًا من عملية تعيين الحاكم وأعضاء مجلس الإدارة الآخرين. فرئيس الوزراء يختار، بدعمٍ من ائتلافه البرلماني، مرشّحًا لمنصب حاكم البنك المركزي، على أن يصادق عليه رئيس الجمهورية؛ وإذا حصل على مصادقة الرئيس، مُنِح ولايةً مدّتها ستّ سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط. وبموجب القانون نفسه، يحقّ للرئيس إقالة الحاكم، غير أن قرار الرئيس منوطٌ بموافقة مجلس نواب الشعب. وهذا كلّه يدلّ على أن حاكم البنك المركزي بقي على مسافة من السلطات السياسية، وكان حتى مستقلًّا عنها بدرجة كبيرة.
وبالفعل، تُظهِر مؤشّرات اقتصادية عدّة أن البنك المركزي كان يعمل حتى العام 2024 بطريقة مستقلّة إلى حدٍّ بعيد. فعلى سبيل المثال، رفع البنك أسعار الفائدة بشكلٍ كبير ردًّا على انخفاض قيمة الدينار بعد قبول الحكومة برنامجًا إصلاحيًا من صندوق النقد الدولي في العام 2016 (وقد انهار هذا الاتفاق لاحقًا). حصل ذلك على الرغم من رغبة الحكومة في تحفيز النموّ، الذي يتطلّب عادةً خفضًا لأسعار الفائدة. لقد أبقى البنك المركزي أسعار الفائدة مرتفعةً طوال فترة النمو الهزيل للناتج المحلي الإجمالي، ثم عمَد في العام 2020 إلى خفضها استجابةً لصدمة وباء كوفيد-19، ولكن ليس بشكلٍ كبير، بل بنسبةٍ بلغت نحو 6 في المئة؛ وكان ذلك الإجراء متواضعًا للغاية نظرًا إلى طبيعة الحدث غير المسبوقة.
فضلًا عن ذلك، استطاع البنك المركزي الحفاظ على حجم احتياطيات العملات الأجنبية وحتى زيادته. فصحيحٌ أن القيمة النسبية لهذه الاحتياطيات، المُقاسة بأشهرٍ من الواردات، انخفضت على مدى العامَين الماضيَين، إلّا أنها لا تزال فوق العتبة الأساسية البالغة ثلاثة أشهر من الواردات، أي الحدّ الأدنى الذي يُعَدّ ضروريًا للاستقرار في اقتصادات الأسواق الناشئة. والواقع أن قدرة البنك المركزي على المحافظة على استقرار الاحتياطيات الأجنبية، على الرغم من الوضع القائم في تونس، يُشابه إلى حدٍّ كبير الحال في المغرب، الذي يسجّل أداءً اقتصاديًا أفضل، ويميل نظامه نحو الإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة. وهذه النتيجة أفضل من تلك التي حقّقها البنك المركزي في تركيا، التي تعاني من مستويات عالية جدًّا من انعدام الاستقرار، وأفضل من تلك التي سجّلها البنك المركزي الجزائري، الذي شهدت احتياطياته خلال الفترة نفسها انخفاضًا كبيرًا ومتواصلًا، سواء في قيمتها المطلقة أم في قيمتها النسبية.
وقد ارتفع معدّل التضخّم في تونس بين العامَين 2016 و2019، ثم انخفض إثر وباء كوفيد-19، ليعود ويرتفع مجددًا في العام 2022 مع تعافي الاقتصاد العالمي، والأهمّ مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فانعكاسات هذه الحرب جاءت سلبيةً بشكل خاص على الاقتصاد التونسي الذي يعتمد اعتمادًا كبيرًا على واردات الطاقة والغذاء. في تلك الفترة، أبقى البنك المركزي التونسي على أسعار الفائدة مرتفعةً لمكافحة التضخّم، مع أن نموّ الناتج المحلي الإجمالي بقي ضعيفًا، ونصيب الفرد منه كان يتراجع بشكلٍ كبير، ما ولّد اضطرابات سياسية وزعزع استقرار الحكومات المتعاقبة حتى تموز/يوليو 2021، عندما حلّ سعيّد البرلمان، وبدأ عملية توطيد سلطته.
كان إبقاء البنك المركزي التونسي على أسعار الفائدة مرتفعةً ضارًّا بالنموّ من دون شكّ. ومع ذلك، تبيّن بوضوح نجاحُ البنك في تطبيق سياساتٍ حمَت احتياطيات النقد الأجنبي، وحافظت على استقرار الأسعار، وعزّزت الاستقرار المالي في بيئة اقتصادية متدهورة للغاية، وهذه كلّها عوامل أساسية في الحفاظ على ملاءة البلاد. وأثبت البنك، في الفترة الممتدّة بين العامَين 2016 و2024، أنه قادرٌ على الإبقاء على نهجه بالرغم من الاحتكاك مع الحكومات المتعاقبة. والواقع أن التمكّن من فعل ذلك في سياقٍ حيث الجدارة الائتمانية للبلاد هي موضع شكّ، وحيث البلاد تواجه تحدّيات إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد، وخفض البطالة، ومكافحة التضخّم، كما كانت الحال في تونس، هو أمرٌ لافتٌ بالفعل.
اقتصاد تونس في مهبّ الريح
أجرت الحكومة التونسية في العام 2024 تعديلًا على قانون العام 2016 الذي يضمن استقلالية البنك المركزي، مُلزمةً هذا الأخير بالتمويل المباشر لعجز الميزانية البالغ في ذلك العام 9.2 مليارات دولار. وهذه الخطوة لم تكن مجرّد تعديل، بل خالفت القانون عدد 35 لسنة 2016. صحيحٌ أن الحكومة أصرّت على أن التعديل لن يُستخدَم إلا لسدّ فجوة التمويل للعام 2024، ولكن في ظلّ رئيسٍ كان يعمل على تجريد المؤسسات المستقلّة من سلطتها، وتدمير جميع الضوابط والموازين المؤسّسية، لم يكن بيان الحكومة مدعاةً للطمأنينة.
كان التأثير المتوخّى من التعديل إضعاف قدرة البنك المركزي على تطبيق السياسات التي لا تصبّ في مصلحة الحكومة، وهو ما كان القانون 35 لسنة 2016 يهدف إلى حظره. لكن الضرر الذي سيلحق باستقرار تونس المالي يفوق إلى حدٍّ كبير الفوائد القصيرة الأجل المتوقّعة من هذا الإجراء الحكومي. وسيصبح من الصعب أكثر استيعاب الضغوط المالية الحرجة التي يواجهها الرئيس وفريقه بسبب هذا الإجراء غير المدروس. فقد أدّى مزيج العجوزات المالية، وفجوات التمويل الخارجي، ومعدّلات التضخّم المرتفعة، وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع البطالة، إلى وضعٍ خطيرٍ للغاية.
وتَفاقم هذا الخطر بفعل المأزق المالي الشديد الذي لا يترك للحكومة أيّ مجالٍ للمناورة. فالطريق لا يزال مسدودًا أمام الوصول إلى أسواق السندات الدولية، فيما يجري تداول سندات اليوروبوند التونسية عند مستوياتٍ تَشي باحتمال التخلّف عن السداد، إذ تصل العوائد إلى 50 في المئة لبعض الإصدارات. وثمّة مخاطر إضافية تتأتّى من الميزان التجاري، الذي سجّل عجزًا قدره 3.9 مليارات دولار خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2024. يُعَدّ ذلك تحسّنًا طفيفًا مقارنةً مع العجز الذي وصل إلى 4 مليارات دولار في الفترة نفسها من العام 2023، إلا أنه لا يزال تحسّنًا غير مستدام.
في مواجهة هذه المخاطر كلّها، استطاع البنك المركزي التونسي حتى الآن الحفاظ على مستوى احتياطياته من العملات الأجنبية. فقد كانت هذه الاحتياطيات، في أيلول/سبتمبر 2024، عند مستوى ثابت يعادل 117 يومًا من الواردات، إلّا أن قيمتها البالغة 8.45 مليارات دولار تبقى أقلّ من مستوى العام 2023 البالغ 8.8 مليارات دولار. ويُخشى أن تتسارع وتيرة استنزاف الاحتياطيات، فتنخفض نسبتها إلى الواردات إلى ما دون الحدّ الأدنى البالغ 90 يومًا، ما قد يسفر عن انهيار ماليّ.
وتُثير القلق أيضًا مسألتا التضخّم والنموّ الاقتصادي، بحيث سجّل التضخّم نسبة 9.3 في المئة في العام 2023، وقد تراوح ما بين 7.1 و7.3 في المئة خلال الأشهر العشرة الأولى من العام 2024. وقرّر البنك المركزي التونسي في اجتماع عُقد في حزيران/يونيو 2024 الإبقاء على أسعار الفائدة عند نسبة 8 في المئة، بسبب المخاوف المستمرّة من التضخّم. لكن هذه النسب المرتفعة تهدّد بمزيدٍ من التباطؤ في النشاط الاقتصادي الهزيل أصلًا. ويتوقّع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدّل النمو الاقتصادي 1.6 في المئة في العام 2024، بعد أن سجّل أداءً ضعيفًا في العام 2023، حينما بلغ 0.4 في المئة فقط. هذا المنحى المتواصل من النمو الاقتصادي المتدنّي أدّى إلى بقاء نسبة البطالة مرتفعةً عند 16 في المئة، فيما وصلت البطالة في صفوف الشباب إلى نسبةٍ مقلقةٍ قدرها 38 في المئة عمومًا، و23 في المئة في صفوف خرّيجي الجامعات.
ويزيد التعديل الذي أُجري في العام 2024 على القانون عدد 35 لسنة 2016 حالة انعدام اليقين. فاستخدام البنك المركزي لتمويل الفجوات في الإنفاق والعجز يرغمه على ضخّ السيولة في السوق، ما من شأنه فعليًّا أن يسرّع وتيرة التضخّم، ويولّد ضغوطًا تنازليةً على قيمة الدينار. يمكن للبنك المركزي التعويض عن ذلك برفع أسعار الفائدة أكثر، إلّا أن هذه الخطوة قد تتسبّب بكبح نموّ الناتج المحلي الإجمالي، وتؤدّي إلى ركود مُحتمَل. عوضًا عن ذلك، يمكنه تعزيز قيمة الدينار من خلال بيع احتياطيات العملات الأجنبية، لكنّ هذا الإجراء سيجعل من الصعب الحفاظ على مستوى الاحتياطيات فوق الحدّ الأدنى الأساسي البالغ ثلاثة أشهر من الواردات. في هذا السياق، تُظهِر ورقة عمل حول انعكاسات انخفاض قيمة الدينار في العام 2016 أن هذا الانخفاض أثّر سلبًا على ميزان تونس الخارجي للسلع والخدمات، مولّدًا ضغطًا إضافيًّا على احتياطيات الدولة من العملات الأجنبية.
وعلى الرغم من محاولات سعيّد تهدئة المراقبين القلقين، يثير تعديل العام 2024 للقانون 35 لسنة 2016 المخاوف أيضًا من أنه سيشكّل سابقةً لتدخّل الحكومة في قرارات البنك المركزي التونسي. ولذا، من المفيد النظر في هذا السياق إلى ما حدث في كلٍّ من تركيا ولبنان. فعندما ارتفع التضخّم في تركيا في العام 2018، عارض الرئيس رجب طيب أردوغان كلّ مبادرة من البنك المركزي لرفع أسعار الفائدة. وقد تعاقب على رئاسة البنك سبعة حكّام من العام 2016 حتى العام 2024، ذلك أن أردوغان أقالهم الواحد تلو الآخر بعد أن قدّم كلٌّ منهم خطّةً لرفع أسعار الفائدة بغية مكافحة التضخّم، الذي وصل إلى 85 في المئة في العام 2022، ولا يزال يتجاوز نسبة 70 في المئة عند كتابة هذا المقال. وخلال تلك الأعوام الثمانية، فقدت الليرة التركية 89 في المئة من قيمتها مقابل اليورو، ما وجّه ضربةً كبيرةً لاقتصاد البلاد، وأسفر عن عجزٍ مقلقٍ في الحسابات الجارية.
يقدّم لبنان مثالًا عن الكارثة التي تقع بعد أن يعمَد البنك المركزي إلى إنقاذ الحكومة بصورة متكرّرة. فقد تولّى البنك المركزي اللبناني، أي مصرف لبنان، تمويل العجز في الموازنات السنوية للحكومات المتعاقبة، سواء بشكلٍ مباشر من خلال القروض وشراء سندات الخزينة، أو غير مباشر من خلال الضغط على المصارف الكبرى في البلاد ودفعها إلى استخدام ودائعها بالعملات الأجنبية لشراء سندات الدين الحكومي. علاوةً على ذلك، وفي محاولةٍ لطمأنة المصارف بشأن المخاطر التي تنطوي عليها هذه الخطوة، أبقى مصرف لبنان على سعر صرف ثابت بشكلٍ مصطنع عند 1507 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي. لكن اتّضح في نهاية المطاف أن هذا الوضع غير مقبول نتيجة ازدياد عمليات تحويل الودائع إلى خارج لبنان، ما تسبّب باستنزافٍ سريع لاحتياطيات مصرف لبنان وبانهيار النظام المالي بأكمله في العام 2019. أدّى هذا الوضع إلى أزمة مالية صنّفها البنك الدولي، من حيث تأثيرها نسبةً إلى حجم الاقتصاد، بأنها "من ضمن أسوأ عشر أزمات، وربما حتى من ضمن أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر". فقد تدهورت قيمة الليرة اللبنانية، لتستقر راهنًا عند نحو 90 ألف ليرة مقابل الدولار. وعَقِب تخلّف لبنان عن سداد ديونه الخارجية، انهار القطاع المصرفي على خلفية المخاطر التراكمية التي تكبّدتها الميزانيات العمومية للمصارف بسبب استثماراتها الكبيرة في السندات الحكومية، وقُدِّر انكشافها على مقترِض واحد هو الدولة بنسبة 70 في المئة، فضلًا عن مزاحمة قدرة القطاع الخاص على الحصول على القروض.
والآن، فيما يوشك العام 2024 على الانتهاء، تناهز نسبة الدين العام التونسي، بما في ذلك ديون المؤسسات المملوكة للدولة، 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مع الإشارة إلى أن 60 في المئة من هذه الديون خارجية. ويعني ذلك أن هذه الديون عرضةٌ للتأثّر إلى حدٍّ كبير بأي تدهورٍ في سعر صرف الدينار، ناهيك عن أنها تطرح تهديدًا مباشرًا لحجم احتياطيات العملات الأجنبية. علاوةً على ذلك، يشهد حجم القروض المخصّصة لتمويل الدين العام ارتفاعًا سريعًا، وهو منحى مثيرٌ للقلق يُشبه ما حصل في لبنان، حتى لو أن الوضع التونسي بعيدٌ عن المستويات الخطيرة التي سُجّلَت هناك. إن دلّت التجربة اللبنانية على شيء فهي تدلّ على أن تخلّف تونس عن سداد الدين العام قد يغرقها أكثر في لُجج أزمة اقتصادية حادّة ويدفع أعدادًا أكبر من السكان إلى هوّة الفقر. وهذا السيناريو ممكنٌ حدوثه. حتى أن قرار وكالة فيتش رفع تصنيف تونس الائتماني من CCC- إلى CCC+، عقب التحسّن الذي شهده مؤخرًا العجز التجاري للبلاد، والقصير الأمد على الأرجح، لا يغيّر الكثير من المعطيات. وبحسب تعريف وكالة فيتش الخاص، يشير تصنيف CCC+ إلى "احتمالٍ كبير بالتخلّف عن السداد".
باختصار، لا تزال الآفاق قاتمة. فعلى الرغم من أن تمويل العجز المالي السنوي للحكومة يزداد صعوبةً بشكلٍ كبير، يرفض سعيّد تطبيق إصلاحات من شأنها تمكين البلاد من الحصول على تمويل دولي. ويواصل بدلًا من ذلك الاعتماد على إقناع الشركاء الدوليين، مثل مجلس التعاون الخليجي والدول الآسيوية الأبعد، بمنح تونس قروضًا جديدة، وممارسة الضغوط على القطاع المصرفي، ولا سيما البنك المركزي، لتمويل العجز. لا ينمّ هذا النهج عن قصر نظرٍ فحسب، بل يلحق أيضًا الضرر بمصداقية البنك المركزي، التي تُعتبر عنصرًا أساسيًا لضمان الشفافية والاستقرار الماليَين.
خاتمة
ثمة سبيلٌ للخروج من المأزق السياسي والاقتصادي الذي تتخبّط فيه تونس، والخطوة الأولى تتمثّل في إعادة منح البنك المركزي استقلاليته. من الناحية النظرية، لا يزال البنك المركزي يتمتّع بالاستقلالية وما زال القانون عدد 35 لسنة 2016 ساري المفعول. لكن تونس لم تُطمئن الدائنين المحليين والدوليين بأن التعديل كان حالة استثنائية حصلت لمرة واحدة. لذا، بإمكانها طمأنتهم مثلًا من خلال إقرار قانون يقضي بزيادة عدد أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي الذين يعيّنهم الحاكم شخصيًا، ما من شأنه أن يعزّز استقلالية المؤسسة. صحيحٌ أن هذه الخطوة وحدها لن تُبعد شبح الإفلاس عن تونس، إلّا أنها ستوجّه رسالةً قوية للمستثمرين الدوليين والمؤسسات المالية بأن سعيّد وحكومته على استعداد لتطبيق الإصلاحات الضرورية من أجل جذب القروض من صندوق النقد الدولي في إطار برنامج إصلاحي.
للأسف، عند تاريخ نشر هذا المقال، يبدو أن سعيّد المُنتخب حديثًا لولاية رئاسية ثانية، يميل إلى اتّخاذ قرارات أخطر من أي وقت مضى. فالمعطيات تشير إلى أن أعضاء البرلمان والحكومة في صدد إعداد مشروع قانون قد يجرّد البنك المركزي من السلطة الحصرية لتعديل أسعار الفائدة وسياسة الصرف. وإذا ما تمّت الموافقة على هذا المشروع وإقراره، سيكون الرئيس وحكومته قد دفعا تونس أكثر إلى حافة الهاوية. ومن شأن إسقاط البلاد في هذه الهاوية أن يفضي ليس فقط إلى حالةٍ من الركود الاقتصادي الحادّ، بل سيؤدّي أيضًا على الأرجح إلى زعزعة الاستقرار السياسي في تونس.