كان العام 2014 بالنسبة إلى تونس مكتظّاً باللحظات التاريخية. لكن، على الرغم من صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة أدّت إلى انتقال سلمي للسلطة إلى حزب نداء تونس العلماني، لايزال الإجماع الديمقراطي الذي تم التوصل إليه بعد ثورة العام 2011 هشّاً. ولايزال أمام تونس مهمة شاقة متمثّلة في مصالحة مجتمع يعاين استقطاباً حاداً. إذ هو ممزّق بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين الديمقراطيين والمُعادين للثورة، وبين المناطق الساحلية المنفتحة وبين مناطق الداخل والجنوب المُقفرة.
مخاطر الانقسام الاجتماعي والجهوي
- ثمة انقسام في تونس ناجم عن الهوة بين الأجيال. يعاني الشباب صعوبة في إيجاد عمل ويشعرون بأنهم مستبعدون عن المشهد السياسي الذي لايزال يسيطر عليه سياسيون من الجيل القديم ووسائل العمل القديم في ممارسة السياسة.
- ثمة انقسامات إيديولوجية واجتماعية كبيرة بين الشمال المتطور وبين الجنوب المُهمَل من البلاد. لطالما طغى النقاش الخلافي حول الحقوق الدينية والحريات الفردية على هذه الانقسامات العميقة، إلا أنها عادت لتطفو مجدّداً على السطح خلال انتخابات العام 2014.
- يشرح هذا الشعور بالاستياء والإقصاء جزئيّاً أسباب الانجذاب المتزايد نحو المجموعات المتطرفة في أحياء تونس الفقيرة والمناطق المهمّشة.
- لم تهدأ بعد حمأة الجدل حول الإسلام السياسي. وثمة خلاف حاد داخل حزب النهضة الإسلامي والمجتمع التونسي الأوسع حول دور الدين في السياسة.
- بينما يحاول قادة تونس الجدد احتواء تأثيرات الاضطراب الجهوي ومحاربة الهجمات الإرهابية المتصاعدة التي ترتكبها مجموعات جهادية متفكّكة، قد لايقاومون إغراء إضعاف القيود المفروضة على سلطتهم وتهميش الإسلام السياسي. ومن شأن هذه الإجراءات أن تهدّد تجربة البلاد في تعزيز الشمولية للجميع وبناء الإجماع السياسي.
توصيات لقادة تونس وداعميها في الخارج
ينبغي على نداء تونس أن تقبل انتصارها بشهامة مثلما تقبّل خصومها الهزيمة بكياسة. وتكمن الأولوية لحكام تونس الجدد في إيجاد توازن بين القوى والتطلّعات المتعارضة.ينبغي أن يكون الإصلاح الاقتصادي في صلب الأولويات. يتعيّن على السلطتين التنفيذية والتشريعية الجديدتَين وضع سياسات ترمي إلى إلغاء مركزية الحكومة وجذب الاستثمار الخارجي إلى المناطق الحدودية والداخلية المهمَّشة.
ينبغي على المجتمع الدولي دعم الإصلاح الداخلي وتوطيد الديمقراطية في تونس. يتعيّن على الولايات المتحدة وشركائها الديمقراطيين منح تونس حزمة من القروض والإعانات لتحسين الحوكمة الديمقراطية والأمن والنمو الاقتصادي، وحثّ الحكومة الجديدة على اغتنام فرصة انخفاض أسعار النفط من أجل خفض الدعم الحكومي وتطبيق سائر الإصلاحات الهيكلية.
ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها أن تتابع بانتباه حرب تونس على الإرهاب. يتعيّن عدم السكوت عن أي تراجع سياسي أو انتهاك لحقوق الإنسان ترتكبه السلطات التونسية بذريعة محاربة الإرهاب.
مقدّمة
العام 2014 كان بالنسبة إلينا، نحن المُدمنين على الأمل والتفاؤل، لحظة مدهشة تكاد لاتصدَّق. إذ على الرغم من الفوضى المُثبطة، والعنف المخيف، والنكسات الديمقراطية في العديد من المناطق العربية، شهدت تونس، مهد الربيع العربي، سنةً من نقاط التحوُّل اللافتة. فبعد تسوية تاريخية حول دستور ليبرالي وديمقراطي في كانون الثاني/يناير، أجرت تونس انتخابات برلمانية في تشرين الأول/أوكتوبر. وهذا الاقتراع شهد هزيمة حركة النهضة الإسلامية التي كانت تسيطر قبل ذلك على معظم مقاعد البرلمان. وقد قَبِلَ إسلاميو تونس هذه الحصيلة الانتخابية بسموّ وتخلّوا عن السلطة، داحضين بذلك المقولة التي لطالما سرَت على نطاق واسع، والتي صكَّها السفير الأميركي الأسبق إدوراد بي. دجيرجيان بأن الإسلاميين لايسمحون سوى بـ" شخص واحد، صوت واحد، لمرة واحدة".1
ثم أقدمت تونس على خطوة أخرى في عملية الانتقال الديمقراطية بالغة الأهمية، حين أجرت بنجاح انتخابات رئاسية حرة وعادلة شهدت منافسة ضارية في تشرين الثاني/نوفمبر ودورة إعادة في كانون الأول/ديسمبر. وقد خرج نداء تونس، وهو الحزب العلماني الرئيس، متوّجاً بأكاليل النصر في الانتخابات البرلمانية، وانتُخِب مؤسسه الباجي قائد السبسي (80 عاماً) رئيساً للبلاد.
سيكون في مقدور العالم العربي تعلُّم الكثير من التجربة التونسية في مجال سياسات الاعتدال وفنون التسويات والحلول الوسط.
وهكذا، سيكون في مقدور العالم العربي تعلُّم الكثير من التجربة التونسية في مجال سياسات الاعتدال وفنون التسويات والحلول الوسط. لكن من المهم في الوقت نفسه عدم المغالاة في تقييم اللحظات التاريخية للعام 2014، وأيضاً عدم الاستسلام للرضى والاقتناع باحتمال ديمومة التجربة الديمقراطية التونسية منذ إطاحة الرئيس السابق زين العابدين بن علي في العام 2011. ذلك أن العديد من الانشقاقات والعداوات طفَت على السطح خلال الانتخابات الرئاسية، ما دلّ على هشاشة الإجماع الديمقراطي في تونس، وعلى استمرار وجود مخاطر التفكك الاجتماعي والجهوي. والآن وقد استكملت تونس بنجاح مرحلتها الانتقالية، لايزال أمامها المهمة السياسية الشاقة للغاية، والمتمثّلة في مصالحة مجتمع يعاين استقطاباً حاداً، إذ هو ممزّق بين الإسلاميين والعلمانيين، وبين الديمقراطيين والمعادين للثورة، وبين المناطق الساحلية المُنفتحة والمُثقفة وبين مناطق الداخل والجنوب غير النامية وغير المتطورة.
ويجب التذكير هنا أن الديمقراطية الوليدة غالباً ماكانت تُصاب بجروح بليغة بفعل إغراءات سلطة الأغلبية العددية الفظّة، وأيضاً نتيجةً لعدم قدرتها على الوفاء بجوهر مايتوقّعه الناس من حكومتها. العامل الأول، أي السلطة العددية الفظّة، يُمأسِس التطرف والإقصاء السياسيَّين، فيما العامل الثاني، أي التوقعات، يغذّي السخط والشكوك.
وهذه في الواقع مخاطر كبرى تواجه هذه الأيام القيادة التونسية الجديدة. فبعد انتصاره الانتخابي، يتعيّن على المعسكر العلماني ممارسة ضبط النفس والوفاء بتعهداته حيال الديمقراطية والالتزام بالتعدّدية وحقوق الإنسان. ثم أن إسلاميي حركة النهضة، وعلى الرغم من عيوبهم وأدائهم المضطرب في الحكومة، إلا أنهم أظهروا قدرتهم على إبرام التسويات، والشمولية للجميع، وضبط النفس خلال فترات التوترات الحادة.
علاوة على ذلك، ستختبر الاضطرابات الإقليمية والتهديدات المتنامية، التي تفرضها مجموعات جهادية مفككة، الحكومة الجديدة فيما هي تسعى إلى ضمان الاستقرار والأمن. وستكون طبيعة ردّة الفعل على الهجوم الإرهابي في آذار/مارس 2015 على متحف باردو الوطني في تونس، والذي أدّى إلى مصرع 17 سائحاً، مؤشراً يقيس مدى التزام القيادة الجديدة بحكم القانون. وكان هذا الهجوم أول اعتداء جسيم على المدنيين منذ العملية الانتحارية في العام 2002 ضد كنيس يهودي في جزيرة جربة التونسية، والتي خلَّفت 19 قتيلاً.
والحال أنه سيكون من الصعب على القادة غير الإسلاميين المنتخبين مقاومة إغراء ضعضعة القيود والتوازنات الدستورية المفروضة على سلطتهم بتبرير استعادة هيبة الدولة ومكافحة الإرهاب.2 وقد تُفتَن العناصر الأكثر راديكالية في المعسكر العلماني بفكرة استخدام الوسائل غير الديمقراطية لمحاولة تهميش الإسلام السياسي. وأدى تعيين الحبيب الصيد، الذي عمل سابقاً وزيراً للداخلية في عهد بن علي، إلى مفاقمة المخاوف من عودة وتائر القمع.
عملية الانتقال في تونس لاتزال متقلقلة وعُرضةً إلى كلٍّ من الصدمات الداخلية والخارجية.
يجب أن نضيف إلى ذلك المشاكل الاقتصادية المروِّعة التي تفرض هي الأخرى تحديات حادة. فالانتخابات أفصحت عن واقع الانقسامات والخصومات العنيفة بين الشمال المتطور والجنوب المُهمَل من البلاد. كما كشفت نتائج الانتخابات عن الهوة التي تزداد اتساعاً بين جيلَي الشباب والمُسنّين التونسيين. فإدارة الشباب ظهورهم للمشهد السياسي، الذي لايزال يسيطر عليه سياسيون من الجيل القديم، تجسّدت في إقبالهم الضعيف على أقلام الاقتراع.3 وهذه الفجوة بين الأجيال واستمرار اللامساواة والاستقطاب الجهوي يُشعِلان إوار اللااستقرار والتطرف العنيف في تونس.
إن ديمومة أنظمة الانتقال السياسي تعتمد على القيادة، والنمو الاقتصادي، ونفوذ العوامل الإقليمية والدولية، والحظ الصرف. وفي هذا السياق، لاتزال مآل التجربة التونسية كمّاً مجهولاً. فعملية الانتقال لاتزال متقلقلة وعُرضةً إلى كلٍّ من الصدمات الداخلية والخارجية.
قوة جذب الماضي
بالنسبة إلى التونسيين، مشاعر الفخار والإثارة التي ولّدتها الانتخابات التاريخية في العام 2014 مشوبة ومخضَّبة بمشاعر مضادة، يُتوّجها القلق على حالة البلاد. فالتأقلم مع زمن الاضطرابات العنيفة كان صعباً بما فيه الكفاية لمعظم المواطنين. وفيما كانت حكومة مابعد الثورة تتعثّر، عانت أسواق العمل من المشاكل، وتفاقم غياب الأمن، وبدأت أعداد متزايدة من الناس تتساءل عما إذا كانت الأنظمة السياسية الجديدة أفضل من سابقاتها السلطوية. وهذا أسفر عن نمط مُقلِق، وإن كان متوقّعاً: فمع تصاعد الإثباط والاحباط، تجذّرت الشكوك حول السياسات وترافقت مع نوبات من الحنين المر/الحلو للنظام القديم.4
لقد أظهرت استطلاعات الرأي أن التونسيين يحنّون إلى التوازن بين رموز الماضي وبين عواطف مستقبل أفضل. وهكذا، وجد استطلاع لمركز بيو للأبحاث (Pew) أن 62 في المئة من التونسيين يفضّلون الاستقرار على الديمقراطية، فيما أيّدت نسبة مماثلة الركائز الرئيسة للنظام الديمقراطي، على غرار الإعلام غير المراقب (63 في المئة)، وحرية الاحتجاج (68 في المئة)، والمساواة في الجندر (66 في المئة).5
والواقع أن حزب نداء تونس هو تجسيد وتجسيم لهذه الرغبة المتناقضة حيال إعادة توحيد النموذج الاجتماعي القديم بالتطلعات الراهنة للتغيير. فمنذ تأسيس هذا الحزب في العام 2012 كقوة موازنة للإسلام السياسي، تجلبب السبسي بعباءة الحبيب بورقيبة، مؤسِّس تونس الحديثة، في الوقت ذاته الذي حرص فيه على إبعاد نفسه عن تجاوزات بورقيبة ورفضه مشاطرة السلطة.6
وهذا ماجعل نداء تونس حركة سياسية مزركشة بقسمات القديم وإغراءات الجديد. وهو طرح إيديولوجية حداثية محافظة تحاول الإبقاء على النظام القائم للأمور، فيما يبقى منفتحاً على التجديد.7 ويتمحور خطاب الحزب حول حماية المجالات الإيجابية في النظام القديم في مجالات حقوق المرأة، والاستقرار الاقتصادي، والتعليم، والأمن العام، فيما هو يدوس بقوة على جوانبه البشعة.
سجّل سعيُ بورقيبة إلى الحداثة السلطوية بعض الانتصارات المؤسسية والمجتمعية. لكن مع مرور الوقت، تقوّضت بحدّة قدرته على تحديث البُنى الاجتماعية التونسية بفعل الجمود الإديولوجي وعدم المحاسبة والمساءلة السياسيَّين، ماوفّر مناخاً ملائماً لتفريخ الفساد والهدر والتجاوزات. وتقول الباحثة الأدبية هالة الباجي المرتبطة بقرابة مع الحبيب بورقيبة: "خلال عقود الديكتاتورية فقدت السياسة بوصلتها الأخلاقية، وتم السماح بكل شيء – بما في ذلك أفدح المظالم – من أجل الدولة".8
أدخل السبسي بورقيبة في حملاته الانتخابية بهدف استعادة مكانة الدولة وهيبتها، وإحياء قدرات تونس الاقتصادية، والحفاظ على حقوق المرأة. لكنه كان حذقاً بما فيه الكفاية لابتكار صورة عامة له تتميّز بالمرونة والبراغماتية. وعلى عكس بورقيبة، الذي أشاد نظاماً يستند إلى قمع المعارضة واضطهاد الإسلاميين، أعلن السبسي أنه يقبل الإسلاميين كجزء لايتجزأ من المشهد السياسي التونسي، قائلاً في مقابلات عدة: "نحن خصوم سياسيون ولسنا أعداء".9
الشعبوية في الانتخابات
سجّل نصر نداء تونس في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام 2014 نجاحاً للطابع القديم للشعبوية الوطنية، التي استندت إلى سياسات الخوف ووعد إعادة سلطة الدولة. كانت صرخة الحزب الحماسية بسيطة وصارمة: كل شيء في البلاد محطّم. وفي الحملات الانتخابية، اتهم السبسي النهضة بترك البلاد نهباً لمخاطر الانهيار بعد أن تزعّم (النهضة) الحكومة، من تشرين الثاني/نوفمبر 2011 إلى كانون الثاني/يناير 2014. وقال بتفجّع إن عدم كفاءة الحزب، وغروره وتجاوزاته وخروقاته، تركت التونسيين مكشوفين أمام مخاطر الإرهاب وزعزعة الأوضاع الاقتصادية.
أفاد نداء تونس أيما إفادة من التعبئة الناجحة للدعم الدولي، خصوصاً دعم مصر ودول الخليج التي وفّرت المساندة المالية واللوجستية الضرورية، والتي كانت حاسمة لإلحاق الهزيمة بالإسلاميين.10 وقد أشعل الإعلام مخاوف الرأي العام التونسي، ورسَّخ الانطباع بأن القطار التونسي خرج عن مساره بشكل خطر. وفي خاتمة المطاف، أثبت هذا النوع من السياسات المثيرة المُنذِرة بالكوارث أنه سلاح حاسم قادر على تحريك لا القاعدة المناوئة للإسلاميين وحسب، بل أيضاً عددٍ كافٍ من التونسيين الذين عقدوا العزم على إقرار عودة الحرس القديم، معتبرين نداء تونس الخيار الواقعي الوحيد لكسب الانتخابات ووضع البلاد مجدداً على درب الأمن والاستقرار الاقتصادي.11
بدوره، استخدم النهضة الدعوات الشعبوية لأغراض انتخابية. وفي حين أن بعض ناخبيه دعموا الحزب انطلاقاً من دواعٍ انتخابية، تحرّك آخرون بدافع الخوف من عودة السلطوية.
لكن، وعلى الرغم من سنتَين من تجربة الحكم المشوبة باقتصاد متباطئ النمو، ووضع أمني متفاقم، وتوترات اجتماعية متصاعدة، وإعلام جلُّه مُعادٍ، لايزال النهضة ركناً مهماً في المجتمع والحياة السياسية. وهذا في الواقع أحد الدروس الرئيسة للانتخابات. ففي حين أن الإسلاميين قُذِفوا إلى المرتبة الثانية في الاقتراع البرلماني، حيث نالوا 69 مقعداً في مقابل 86 مقعداً حصدها نداء تونس، إلا أن أداءهم كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير، في ضوء سخط الناخبين واستيائهم.12 بيد أن النهضة حاك بذكاء سردية أنه يدافع ضد عودة القادة السلطويين الذين قد يقوّضون التقدّم الديمقراطي التونسي وينسفون القيم التقليدية للبلاد.
وطيلة الحملات الانتخابية، شدّد الإسلاميون على دورهم في عملية الانتقال التونسية، وجادلوا بأنهم كانوا الطرف الوحيد الذي أظهر مسؤولية وطنية، واضعين المصلحة الوطنية فوق المصالح الآنية للحزب. المعنى الضمني المُستهدَف في هذه السردية: النهضة هو الحارس الأخلاقي لتونس الذي يصون الحريات السياسية والحرية الدينية.13
وهذا أيضاً يوضِّح لماذا ألقى الإسلاميون بثقلهم خلف المرشح الرئاسي منصف المرزوقي (69 عاماً)، الرئيس المؤقّت السابق والمُدافِع المكين عن حقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن النهضة لم يؤيّد رسمياً أي مرشح، إلا أن قاعدته اصطفَّت بقوة إلى جانب المرزوقي الذي اعتُبِر حاجز الدفاع الأخير أمام عودة السلطوية.
وثمة ألوان أخرى من الشعبوية تم استخدامها.
فسليم الرياحي، على سبيل المثال، وهو رجل أعمال ومالك نادٍ رياضي (النادي الأفريقي)، أسَّس حزب الاتحاد الوطني الحر في أيار/مايو 2011. وقد أبلى هذا الحزب بلاءً حسناً مفاجئاً في الانتخابات التشريعية في العام 2014. وقد أدرك الرياحي، الذي رشّح نفسه للرئاسة، أن جانباً من الشباب التونسيين كانوا أكثر اهتماماً بالبحبوحة، والرياضة، والتسلية، من السياسات المضطربة.
أسلوب الرياحي السياسي تجاوب بشكل جيد مع الشكوك العميقة التي كانت تدور على نطاق واسع في خُلد التونسيين. وعلى الرغم من كل تناقضاته وولعه بالبهجرة (نقّاده يدينونه لانتهازيته، وطموحه الوحشي، وافتقاده للمعتقدات السياسية)، إلا أن مؤيّديه، وجلّهم من محبّي كرة القدم، يرون فيه رمزاً للحيوية الديناميكية، والشجاعة والجرأة، ورجل الأعمال القدير الذي يمكن لألمعيته وبراعته وثروته أن تنتشل تونس من المستنقع الاقتصادي. هذا علاوة على أن فتوّة الرياحي تُميِّزه عن الديناصورات التي لاتزال تسيطر على المشهد السياسي التونسي. وفي حين أن وعوده الفخيمة بإلحاق الهزيمة بالإرهاب خلال ستة أشهر، وفي خلق عشرات آلاف فرص العمل كانت تبسيطية، إلا أنه كان لها مع ذلك رنين خاص لدى قسم من الجسم الانتخابي.
إن نجاح حزب الرياحي، الذي حلَّ ثالثاً وحصد 16 مقعداً من أصل 217، ليس استثناء. إذ سجَّل مديرو نوادي كرة قدم آخرون نجاحات أيضاً في مساعيهم السياسية. وهكذا تم انتخاب كلٍّ من منصف سلامي، الرئيس السابق لنادي "سبورتيف سفاكسيين" Sportif Sfaxien، والرئيس الحالي لنادي "ليتوال دي ساحل" L'Etoile du Sahel، في الانتخابات التشريعية في العام 2014. 14 وفي انتخابات الجمعية الوطنية التأسيسية في تشرين الأول/أكتوبر 2011، أذهل الهاشمي الحامدي، وهو قطب من أقطاب رجال الأعمال وصاحب محطة تلفزيون، المراقبين حين حلّت قائمته الشعبوية في المرتبة الثانية.15
بعد أربع سنوات من إطاحة تونس الحكمَ السلطوي، عادت إلى المسرح بقوة الوجوه القديمة ووسائل العمل القديمة في ممارسة السياسة.
والحال أن التمعُّن في النتائج الانتخابية عبر العدسات الشعبوية، يساعد على إضفاء معنى منطقي على هذه النتائج. ففي خاتمة المطاف، كان هذا اقتراعاً منفصلاً عن الحماسة العلمانية أو العواطف المشبوبة الإسلامية. بدلاً من ذلك، عمد التونسيون، الملدوعون من المعاناة الاقتصادية المؤلمة ومن تهديدات الاضطرابات الأمنية، إما إلى الامتناع عن التصويت، أو دعموا "سَحَرَةً" وعدوهم بالأمن والأمانة والاستقامة والبحبوحة.16 وفي الوقت نفسه، وبّخ الجسم الانتخابي حاد الطباع الإسلاميين، وعاقب بقسوة حزبَين علمانيَّين كانوا شركاء لهم (للإسلاميين) في الائتلاف: حزب المرزوقي، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي لم يحصل سوى على نسبة تافهة من المقاعد (4 مقاعد)، فيما كان لديه في الجمعية التأسيسية 30 مقعداً؛ كما خسر حزب التكتل اليساري كل مقاعده الـ21.
والحصيلة أنه بعد أربع سنوات من إطاحة تونس الحكمَ السلطوي، عادت إلى المسرح بقوة الوجوه القديمة ووسائل العمل القديمة في ممارسة السياسة. ومعظم النقاشات التي تجري الآن هي من إفرازات السياسيين أنفسهم والانقسامات الإيديولوجية نفسها التي كانت حاضرة في سبعينيات القرن العشرين. أما تلك القلة من السياسيين من السلالة الجديدة التي برزت، فهي تجد صعوبة جمّة في شقّ طريقها في خضم سياسات قديمة العهد تتمثّل في الزبائنية وعبادة الشخصية.
استقطاب متجذِّر
في حين أن الشعبوية قد تفسِّر نتائج انتخابات تونس للعام 2014، إلا أن أقلام الاقتراع تُظهِر أيضاً أن الاستقطاب الجهوي والانقسامات الطبقية لاتزال تُعتبَر قسمات أساسية للبلاد.17 فالداخل والجنوب المُفقران في تونس يفترقان بشدة إيديولوجياً واجتماعياً عن الشمال الساحلي. لابل جعلت نتائج الانتخابات الرئاسية – حين ظهر تأييد قوي في الجنوب للمرزوقي فيما اختار الشمال السبسي - تونس تبدو وكأنها أُمّتان إثنتان.
هذا الانقسام المتجذّر ليس جديداً. فكلٌّ من بورقيبة، الذي أُطيح من الحكم في العام 1987، وبن علي، همَّشا عن عمد محافظة صفاقس الجنوبية على الرغم من حيويتها الاقتصادية وروح الطموح والأداء الذي تتمتّع بها. هذا في حين أن مدينة سوسة، المعروفة باسم "جوهرة الساحل"، والتي تقع في المنطقة الوسطى على طول الساحل الشرقي لتونس، أفادت بشكل غير متكافئ من البنى التحتية العامة واستثمارات أخرى. هذا التفاوت ولَّد سخطاً جهوياً عنيفاً وخيبة أمل سياسية مريرة. وهذا ماجعل صفاقس، وهي مقرّ ثاني أكبر مدينة في تونس، "رمزاً للتمييز السياسي والاقتصادي الذي يتعرَّض إليه القسم الجنوبي من البلاد"، على حدّ تعبير فابيو ميرون Fabio Merone من جامعة غينت (Ghent University) البلجيكية.18
خلال حملة انتخابات العام 2014، هدفت صيغة المرزوقي – التي تُشدِّد على الهوية الاجتماعية والتظلمات الاقتصادية والدمقرطة – إلى طرح خطاب عقلاني وعاطفي في آن على السكان الساخطين والمناطق المهملة في البلاد. وقد استندت رؤيته العالمية إلى تمييز ثنوي بين الثورات الديمقراطية وبين الثورات المضادة، وبين المواطنين العاديين وبين النخب، وبين الجنوب المُهمَّش وبين الشمال المتمتّع بالامتيازات. كما أنه عبّأ الناخبين وفق خطوط جهوية وطبقية. والحال أن أنصار المرزوقي انحدروا بشكل كاسح من جنوب البلاد ومن المناطق المدينية المحرومة في مدن الشمال. معظم هؤلاء الأنصار كانوا عازبين، وشباناً، وذكوراً، ومعادين بشدة لمؤسسة الحكم،19 على الرغم من أن بعضهم جاء من بورجوازية المناطق الجنوبية الشرقية، خاصة في منطقة صفاقس، لكنهم يكنّون شعوراً ساخطاً لمنطقة الساحل المتمتّعة بالامتيازات.
اعتُبِر المرزوقي، الذي يتحدّر من الجنوب، بديلاً عن بنى السلطة التي هيمنت على تونس منذ الاستقلال العام 1956، والتي لعبت فيها النخب من العاصمة، تونس، والمناطق الساحلية في إقليم الساحل أدواراً قيادية.20 وفي حين أن ثورة 2011 خلقت فضاء ديمقراطياً سمح بالتنافس السياسي وأنشظة المجتمع المدني، إلا أنها لم تُغيِّر نظام الهيمنة الذي تقاسم أركانُه المصالح المشتركة، والهويات الطبقية، ووجهات النظر العالمية.
والواقع أن السلطة في تونس لطالما اقتصرت على طبقة ضيقة جغرافياً من المجتمع، وكانت تعتمد على بعضها البعض ومنغلقة داخلياً على نفسها. هذه النخب نفسها، التي تتراقص علاقاتها مع بعضها البعض بين التعاون والتنافس، لاتزال تُهيمِن على الاقتصاد وتتمتّع بروابط قوية مع دوائر النفوذ الدولية. والأسوأ من ذلك أن العديد من أعضاء نخب النظام القديم لايزال يحتلّ مواقع قيادية في البيروقراطية والإعلام.21
بالنسبة إلى بورجوازيي الجنوب التونسي، فإن انتصار السبسي سيعني إدامة حكم رأسمالية محاباة الأقارب والأصدقاء التي كرسّت لعقود عدة المحسوبية السياسية والفساد في الإنفاق وطريقة منح العقود الحكومية، وكل ذلك على حساب جنوب البلاد. ويخشى هؤلاء أن يؤدّي ذلك إلى إبطاء أو حتى عدم تطبيق اللامركزية السياسية والمالية التي نصَّ عليها الدستور الجديد.
إن البغضاء الإيديولوجية والانشطار الاجتماعي اللذين يقسمان الجنوب والشمال، يضربان جذورهما في الانقسامات القديمة التي شطرت الحركة الوطنية، التي ناضلت من أجل الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، إلى معسكرَين جهويَّين متعارضَي المصالح الإيديولوجية والسياسية. وفي الوقت نفسه، كان ثمة صراع عنيف بين بورقيبة وبين صالح بن يوسف، وهو قائد وطني آخر، على الهيمنة على جهاز الدولة ومواردها والسيطرة على الحزب الدستوري الجديد - الذي سيصبح لاحقاً حزب التجمّع الديمقراطي الدستوري – والذي حكم تونس منذ الاستقلال وحتى ثورة 2011. وقد أسفرت المعارك اللاحقة عن شبه حرب أهلية بين أنصار بن يوسف – بما في ذلك أعضاء المؤسسة الدينية، والتجار التقليديين، والنخبة التجارية السابقة في الجنوب، وقاعدة أنصاره في مسقط رأسه جربة التي تقع على الساحل الجنوبي الشرقي من تونس – وبين المدافعين عن بورقيبة الذين ضمّت صفوفهم المهنيين الحديثين، وملاك الأراضي، وعناصر البورجوازية الصغيرة في منطقة الساحل الساحلية.
خرج بورقيبة وعشيرته الساحلية ظافرين من هذا الصراع على النفوذ، بفضل الدعم العسكري الفرنسي، وأخضعا تمرّداً جنوبياً، وأجبرا بن يوسف على الفرار إلى المنفى في ألمانيا حيث اغتيل في العام 1961. ولايزال بن يوسف يُعتبَر بطلاً للعديدين في الجنوب وللمرزوقي الذي كان والده من أنصار بن يوسف. وقد بنى المرزوقي على هذا الميراث بتصوير نفسه على أنه الحارس الأمين لتراث بن يوسف والقائم على مصالح الجنوب وحرياته.22 أما السبسي فقد استند إلى ميراث راعيه بورقيبة.
هذه الانقسامات المتجذّرة المشوبة بالريبة وعدم الثقة حول مَن يسيطر على السلطة السياسية ومَن يتلقّى السخاء الحكومي، غالباً ماكانت تُظلِّلها النقاشات التونسية الانفعالية والمتناكفة للغاية حول الحقوق الدينية وحريات الأفراد. وقد أماطت انتخابات العام 2014 اللثام عن مخاوف المؤسسة القديمة في الجنوب، التي تخشى أن يؤدّي أي تحوّل في القوة الانتخابية إلى خلق حالة من اللااستقرار تُلحِق الضرر بمصالحها الاقتصادية. كما أنها تخشى أن تكسب الجماهير الجهوية في الجنوب صوتاً سياسياً يجسّد تطلّعاتها ويسفر بالتالي عن تحسُّن مواقعها في مناطقها.
انشقاق في الصفوف
منذ إطاحة بن علي، كان حلّ الأزمة وصنع القرار السياسي شأناً نخبوياً، إذ سعى القادة السياسيون الأساسيون إلى التسوية لتبديد التوتّرات وإبقاء البلاد في مسارها الديمقراطي.23 وقد استحقّت تونس ثناءً وتهنئةً واسعَي النطاق من المجتمع الدولي على تحلّيها بالاعتدال وضبط النفس والمنطق والواقعية. وثمة رهان كبير على مواصلة هذه المقاربات البراغماتية والمتروّية لبناء التوافق. لكن تنامي الانشقاق في صفوف التنظيمات السياسية الرئيسة في تونس، يمكن أن يجعل الاستمرار في هذه المقاربات أمراً صعباً. ويمكن ملاحظة هذا الانقسام بشكل خاص في حزب نداء تونس والاتحاد العام التونسي للشغل، اللذين اضطّلعا بدور أساسي في صياغة دستور البلاد الجديد.
بالنسبة إلى نداء تونس، يتمحور الانشقاق حول التعاون مع الإسلاميين. ويبرز الخلاف الداخلي بشكل خاص ضمن فصيل يساري ينظر إلى أي تقارب مع النهضة على أنه تجرُّع كأسٍ مُرّة. فالواقع أن الحزب هو تجمّع غير متّسق من ليبراليين ويساريين ومسؤولين في النظام القديم، يلمّ شملَه مؤسِّسُ الحزب الكاريزمي الباجي قائد السبسي.24
فضلاً عن ذلك، يواجه حزب نداء تونس انشقاقات مؤذية محتملة حول مَن سيخلف السبسي، الذي تنحّى عن رئاسة الحزب بعد انتخابه رئيساً للبلاد. فمنذ ذلك الحين، تفاقم صراعٌ بين فصائل الحزب للسيطرة على رئاسته وعلى مكتبه التنفيذي. وفي آذار/مارس، أعلن 46 نائباً ساخطاً من حزب نداء تونس، و60 عضواً من اللجنة التنفيذية للحزب، و24 منسّقاً محلياً، مقاطعة الهيئة التأسيسية العليا. ويعود السبب في تمرّدهم جزئياً إلى اقتراحٍ قضى بضمّ نجل السبسي، حافظ، وثلاثة آخرين إلى الهيئة التأسيسية. ويُتوقَّع أن يصبح التنافس الشرس على المواقع القيادية في نداء تونس أكثر حدّة قبل مؤتمرٍ للحزب مُقرَّر عقده في خريف العام 2015. 25
في نهاية المطاف، قد يتفكّك حزب نداء تونس، أو يوحّد نفسه في حزب ديمقراطي علماني، أو يحاول أن يعيد بناء دولة سلطوية جديدة. ويقترن مصيره غير المؤكّد بأسئلة تتمحور حول مَن سيُبقي الحزب متماسكاً بعد مغادرة السبسي الساحة السياسية. فالمرة الأخيرة التي أُبعِد فيها زعيمٌ في الثمانين من العمر عن السياسة التونسية، كانت عندما أطاح رئيس الوزراء بن علي بورقيبة ابن الرابعة والثمانين من العمر في العام 1987. هذا التاريخ يستوقف التونسيين الذين يُبدون خشيتهم إزاء صحة السبسي وإزاء الخصوم الذين يتنافسون على خلافته. وثمة مثال مُقلِق آخر يلفت انتباه التونسيين، وهو تقدّم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في العمر، علماً أنه أُعيد انتخابه لولاية رئاسية رابعة مدّتها خمس سنوات في نيسان/أبريل 2014، على الرغم من مرضه الخطير والشكوك حول قدرته على حكم البلاد.
تتجلّى الانقسامات الداخلية أيضاً ضمن الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تُبدي قواعده خيبةً من الاتجاه الذي تسير فيه قيادته، والذي يُنظَر إليه بشكل متزايد على أنه خاضع إلى المصالح التجارية على حساب حقوق العمّال.26
الانقسامات في النهضة
يعاني الإسلاميون، بدورهم، من انقساماتهم الخاصة. فثمة تياران متنافسان ضمن النهضة اليوم، فيما تهدّد عودة قوى من النظام القديم بدقّ إسفين بين قيادة الحزب البراغماتية وبين قاعدته.
يعتقد التيار الأول أن الاندماج في النظام السياسي من خلال ائتلاف مع نداء تونس في الحكومة أو البرلمان، هو الاستراتيجية الأذكى لضمان المكاسب الديمقراطية وحماية الإسلاميين من المصير القمعي الذي أصابهم من العام 1999 إلى العام 2011. هذه المقاربة يدافع عنها رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، ومعظم قيادت الحزب المركزية، اللذين لايريان أمامهما خياراً آخر سوى ضبط النفس والتصالح مع عناصر النظام القديم الممَثَّلة في بعض صفوف حزب نداء تونس.27
أما التيار الثاني، الذي يناصره فرعا الحزب الجهوي والمحلي، فيخشى أن تكون حسابات الغنوشي الاستراتيجية معتمدة بشكل مفرط على حسن نيّة السبسي، الذي قيل إنه وعد بحماية حركة النهضة من المضايقة القضائية وقمع الشرطة.28 كما يخشى المتشدّدون في هذا المعسكر من أن يتم استلحاق قادة النهضة في النظام، وأن يخسروا مبادئهم ومصداقيتهم ووحدة قاعدتهم، وهم يشجبون استراتيجية الغنوشي الحمائية باعتبارها نخبوية وسلطوية.29
في الواقع، نضجت حركة النهضة في ظل قيادة الغنوشي، الذي رفع صوتاً قوياً ضد التطرّف الديني والإقصاء السياسي، لتصبح حزباً منضبطاً قادراً على التمسّك بمواقف معتدلة وسطية، وعلى توفير قيادة مسؤولة. ويعتقد الغنوشي وآخرون ممَّن يحبّذون التسويات، أن مستقبل الإسلام السياسي يكمن في التطبيع السياسي، والنزعة المحافِظة المعتدلة، وبناء التوافق. لكن الغنوشي سيحافظ على سلطته ضمن النهضة طالما تؤدّي استراتيجيته القائمة على التسوية والتدرّجية والشمولية إلى اضطلاع الإسلاميين بأدوار سياسية.
فضلاً عن ذلك، تستند مخاوف القواعد من حصول انتقام سلطوي، إلى التسييس المتزايد للإرهاب، والصخب الإعلامي حول الإسلام السياسي، والقلق العام المتنامي حيال عدم الاستقرار.
عندما اتّهم السبسي، بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التونسيين الذين صوّتوا لخصمه العلماني، المرزوقي، والذين بلغ عددهم 1.1 مليون تونسي، بأنهم متطرّفون ومتعاطفون مع الإرهابيين، أكّد ذلك أسوأ مخاوف الإسلاميين. فبعض القادة في نداء تونس كانوا، في نهاية المطاف، الأشخاص المخادعين القدماء أنفسهم الذين استخدمهم بن علي وبورقيبة. ومثل هذه الشكوك تتضافر معاً بشكل حاد لتنتج مجتمعاً يبدو فيه التونسيون الليبراليون والعلمانيون الصالحون يواجهون الإسلاميين الطالحين.
والحال أن الاستياء داخل الحزب إزاء تنازلات النهضة العديدة في مايتعلّق بالإيديولوجيا والسياسة، يتنامى منذ الصيف المضطرب في العام 2013، حين أدّى كلٌّ من الاغتيال السياسي لزعيم المعارضة التونسي محمد البراهمي، والانقلاب العسكري في مصر الذي أطاح الرئيس محمد مرسي الممثِّل للإخوان المسلمين، إلى إخضاع الإسلاميين إلى ضغوط قوية. ويلوم عددٌ ملحوظٌ من قواعد النهضة قيادتَه لأنها تصالحية للغاية إزاء خصوم النهضة العدائيين، ولأنها فوّتت عدداً من الفرص عندما كانت في السلطة لتطهير الإدارة والإعلام من رواسب النظام القديم. ففي رأي هؤلاء الأعضاء، إن تردّد النهضة في "تحصين الثورة" عبر استبعاد الشخصيات السياسية المرتبطة ببن علي عن المناصب الرسمية، وتفكيك شبكات الزبائنية التي دعمت النظام الدكتاتوري القديم، أتاح لحزب نداء تونس استخدامهم للحصول على الدعم الانتخابي. فأكثر من نصف نواب نداء تونس كانوا منخرطين بشكل فاعل في حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي المُدان التابع لبن علي، والذي جرى حلّه عقب الثورة.
ويخشى المشكّكون داخل الحزب الإسلامي من أن أي تحالف مع نداء تونس قد يترك للنهضة دوراً ثانوياً. وهذا ماحصل أساساً عندما شُكِّلَت حكومة ائتلافية في شباط/فبراير 2015، وأُعطيَ النهضة منصباً واحداً فقط من أصل 28 منصباً وزارياً، و3 حقائب لوزارة الدولة من أصل 14. 30
مع وصول السبسي إلى الرئاسة، أصبحت مقاليد السلطة الأساسية في يد نداء تونس، الذي سيقرّر التعيينات للمحكمة الدستورية ويسيطر على وزارة الداخلية.31 وهذه الأخيرة حوِّلَت في عهد بن علي إلى مؤسسة مُطلَقة النفوذ وركيزة للنظام، وهي تبقى هيئة ضبابية وموجودة في كل مكان. ولذا، لاعجب أن آلاف المحتجّين الذين ثاروا في العام 2011 تجمّعوا أمام مقرّ الوزارة، الذي يُعَدّ رمزاً كبيراً للقمع والتجاوزات اللذين كانا في صلب النظام القديم.32
عقب الثورة، لم يتغيّر التوجّه الأساسي والمعايير السلطوية للوزراة تغيّراً كبيراً، وسرعان ما أُعيد تفعيل سلطاتها واسعة النطاق وعاداتها القديمة مع بروز المجموعات المتطرفة العنيفة. لذلك تحذّر مجموعات حقوق الإنسان من العودة إلى استخدام ممارسات الترهيب والإذلال. ففي المناطق الحَضَرية الفقيرة وضواحي المدن، يشجب الشباب المضايقات المنتظمة للشرطة.33
تفضّل قواعد النهضة أن يصبح الحزب حزباً معارِضاً هادفاً، يعزّز الحوكمة التعاونية والتعاون مابين الأحزاب إن أمكن، ويؤدّي دور الرقيب على أي انتهاكات للدستور أو أي ميول مناهضة للديمقراطية ضمن نداء تونس. ويشير مؤيّدو هذه الاستراتيجية إلى التنسيق الفعّال بين الحزبَين في انتخاب رئيس البرلمان (من حزب نداء تونس) ونائبَيه (من النهضة وحزب آخر) في أوائل كانون الأول/ديسمبر 2014. كما أن موقع النهضة في المعارضة سيتيح له توطيد صفوفه، والتحضير للتنافسات الانتخابية المقبلة، وتجنّب فخّ ربطه بالإصلاحات الاقتصادية المؤلمة وغير الشعبية التي يجب أن تطبّقها الحكومة.34
والواقع أن الغنوشي ومعسكره ضغطا بشدة من أجل المشاركة في الحكومة. وطريقة تفكير الغنوشي المرتكزة إلى التسوية السياسية ليست بجديدة، فهو لطالما نادى بالتقارب مع مَن يمسك بزمام السلطة.35 بين العامَين 1987 و1989، على سبيل المثال، توصّل إلى اتفاق لم يدُم طويلاً مع نظام بن علي، أتاح للإسلاميين التنافس في الانتخابات. هذه "التسوية التاريخية"، كما وُصفَت آنذاك، تداعت حالما بدا أن نتيجة الإسلاميين الانتخابية تهدّد مصالح الدكتاتورية القائمة على الهيمنة.36
في العام 2002، حاول الغنوشي مجدداً أن يجسّ النبض بالثناء على تجربة المغرب في إدماج إسلامييها ضمن الحدود الصارمة للأحكام والأنظمة المَلَكية. وكانت رسالة الغنوشي إلى النظام التونسي أنه يستطيع هو أيضاً أن يعتمد نموذج تعايشٍ حيث يقبل بن علي، الذي أعلن نفسه "رئيساً مدى الحياة"، تشاطُر بعض السلطة مع برلمانٍ مُنتخَبٍ ديمقراطياً. وفي العام 2007، كرّر الغنوشي دعوته إلى مصالحة وطنية وحوار أثناء المؤتمر السياسي للنهضة في لندن. وعندما وصلت النهضة إلى الحكم في تشرين الثاني/نوفمبر 2011، عمدت إلى إبطاء عملية العدالة الانتقالية التي أُطلِقَت لمعالجة المخالفات السابقة، وعارضت الإقصاء السياسي لأعضاء من النظام القديم.37
أقرّت قيادة النهضة بأن هذا التدبير شرط أساسي للاستقرار السياسي، وعمدت، خصوصاً بعد انقلاب العام 2013 في مصر، إلى الاستخفاف بوصفات الإسلاميين المثيرة للجدل، وكبح المنظّرين الذين يجدون صعوبة في تقبّل الآراء أو العقائد المختلفة. وقد لوحظ هذا الجهد الهادف إلى الطمأنة في استراتيجية الحركة في انتخابات العام 2014 البرلمانية. فلدى اختيار حزب النهضة مرشّحيه، استبعد معظم مسؤوليه المتشدّدين المُنتخَبين الذين لم يبلوا بلاءً حسناً؛ ولم يرشّح سوى 33 نائباً لولاية ثانية من أصل 89 سعوا إلى إعادة الانتخاب. وطُبِّقَت الاستراتيجية نفسها على مجلس الشورى، الهيئة الاستشارية في الحزب، التي استُبعِد معظم أعضائه الأكثر حماسة.
تُدرك قيادة النهضة جيداً أن الحركات الإسلامية التي لاتزال قراراتها وسياساتها تتّسم بالتصلّب الإيديولوجي والنزعة المحافظة البالية، هي حركات مصيرها الفشل. ففي مصر، أدّى عجز جماعة الإخوان المسلمين عن تقليص تأثير أجنحتها المحافِظة المهيمنة في عهد مرسي، إلى استدراجها إلى معارك مدمّرة حول الهوية والحريات الفردية.38 وجعلت إغراءات السلطة الإخوان غير مدركين لواقع بسيط وهو أن بقاء الإسلام السياسي يتوقّف على قدرة الإسلاميين على الوفاء بعهودهم بتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
عوضاً عن ذلك، يسعى النهضة إلى محاكاة حزب العدالة والتنمية في تركيا، الذي يواصل سلسلة انتصاراته الانتخابية على الرغم من شكوك العلمانيين بميول الإسلاميين السلطوية وأجنداتهم الخفيّة المزعومة.
لقد أوشك إسلاميو تركيا على الانهيار عندما تدخّل الجيش في العام 1994 لإطاحة رئيس الوزراء الإسلامي نجم الدين أربكان، ووضع حدّ لاستيلاء الإسلاميين على مؤسسات الدولة العلمانية. ولم يعودوا إلى السلطة الكاملة في العام 2002 إلا بعد أن بذلوا جهداً كبيراً ومثيراً للجدل في الغالب لخفض نزعتهم الإيديولوجية وحقن أجنداتهم وخياراتهم التكتيكية واستراتيجياتهم بجرعة كبيرة من الواقعية البراغماتية.39 وكما ذكرت مجلة "إيكونوميست" في العام 2008، "غالباً ماتحظّر الأنظمة السلطوية في العالم الإسلامي الأحزاب الدينية، التي تنشط عندئذ في الخفاء وتتحوّل إلى العنف. لكن إسلاميي تركيا اتّخذوا مساراً مختلفاً. فمع أن السياسيين المتديّنين حُظِّروا واستُبعِدوا من السلطة مراراً وتكراراً، إلا أنه نأوا بأنفسهم عن العنف، واعتنقوا الديمقراطية، وانضمّوا إلى التيار السائد".40
فيما تخطّ النهضة مسارها، تستخلص درساً واضحاً وهو أن غالبية الناخبين يهتمّون بالاقتصاد والتنمية أكثر مما يأبهون لاقتراب المجتمع من نظام اجتماعي إسلامي مثالي.41 وكما طرح حزب العدالة والتنمية التركي نفسه بنجاح على أنه حزب صديق للأعمال ملتزم بالحوكمة الرشيدة والتنمية الاقتصادية، تعمل النهضة بجهدٍ لتوسيع قاعدتها الانتخابية من خلال المناداة بالديمقراطية وبناء قاعدة محافِظة مؤلّفة من مقاولين من الطبقة الوسطى والطبقة البورجوازية. والواقع أن منطقة جنوب تونس المحافِظة تشكّل حقل اختبار لهذه الاستراتيجية. إذ تأمل النهضة في إدماج أعضاء من الطبقة الصفاقسية الوسطى والبورجوازية، الذين يهتمون بجني المال أكثر مما يهتمون بتطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك لموازنة طبقة رجال الأعمال التابعة لبورقيبة والمناهضة للإسلاميين، والتي ترتبط بحزب نداء تونس.42
يخوض إسلاميون آخرون مشاركون في السياسة الانتقالية التكيُّفات الإيديولوجية والسياسية نفسها. ففي المغرب على سبيل المثال، كان لصعوبات الحوكمة والأنماط المعقّدة للتطبيع الإسلامي مع القصر والقوى العلمانية تأثير كبير للغاية على السلوك السياسي والميول الإيديولوجية لحزب العدالة والتنمية.43 والمثال الأفضل على هذا التوجّه هو الانتخاب المفاجئ لعبد الرحيم شيخي، في آب/أغسطس 2014، لرئاسة الجناح الإيديولوجي للحزب. فبعد ثلاث جولات من التصويت، هزم شيخي، وهو خبير مالي ومستشار لرئيس الوزراء عبد الإله بنكيران، عدداً من أشهر منظّري الحركة، بمَن فيهم أحمد الريسوني الذي يعود الفضل إليه في وضع الركائز الفكرية والإيديولوجية التي تُميِّز الإسلام السياسي المغربي عن التعاليم السلفية والفكر السياسي للإخوان المسلمين. كما أن الإجراءات السياسية وانتخاب قيادة أكثر تصالحية، بما في ذلك انتخاب امرأة في منصب نائب رئيس الحركة، هي دليل قوي آخر على جهود الإسلاميين لضبط أجنحتهم المحافِظة والنأي بأنفسهم عن المعارك الإيديولوجية.44
سيواصل الإسلاميون في تونس والمغرب، خلال سعيهم إلى إعادة تعريف أنفسهم، مواجهة التحدي من داخل صفوفهم من جانب المنظّرين شديدي الحماس الذين ينتمون إلى جانبَي خطّ صدع المواجهة العلماني-الإسلامي.
حدود الإسلام السياسي المتغيّرة
ثمة خلافات كبيرة أيضاً خارج النهضة حول الدور المناسب للإسلام السياسي في تونس، بعضها تعتريه مستويات عالية من الارتياب الاجتماعي.
على سبيل المثال، يُبدي العديد من العلمانيين ريبةً إزاء تطور النهضة الإيديولوجي؛ فكثير منهم ينتقد الحزب بسخرية واصفاً إياه بالحرباء. وفي نظرهم، إن طموح الإسلاميين الأوسع هو أسلمة المجتمع والسياسة في تونس، وهو إغراء سلطوي يقول المنتقدون إنه متجذّر في جينات الإسلاميين، بغضّ النظر عن خطابهم وممارساتهم الحالية. ولذا، يمكن فهم الدعوات إلى الحذر من مظاهر الإسلام السياسي المعاصرة.
سيواصل الإسلاميون في تونس والمغرب، خلال سعيهم إلى إعادة تعريف أنفسهم، مواجهة التحديات من داخل صفوفهم من جانب المنظّرين شديدي الحماس الذين ينتمون إلى جانبَي خطّ صدع المواجهة العلماني-الإسلامي.
لكن ثمة الكثير مما يدفع إلى التفاؤل حيال المسار الإصلاحي الذي اتّخذه النهضة. فمرونة الحزب وبراغماتيته، يدفعان بعض الشيء إلى إبداء التحلّي بالثقة في مايتعلّق بالاحتمالات المسقبلية. وعمله أثناء تواجده في الحكم يدلّ على التزامٍ بالسياسة الديمقراطية والتعدّدية الدستورية. فمنذ الثورة على سبيل المثال، وَفَى حزب النهضة بوعده بأنه لن يحكم منفرداً، أو يفرض الشريعة، أو يسعى إلى الرئاسة في انتخابات العام 2014. 45
صحيح أن منتقدي النهضة يقرّون ببراغماتيته ومرونته، إلا أنهم يؤكّدون أن هاتين السمتين هما بحكم الضرورة ويمكن التراجع عنهما بسهولة.46 ويحاجج هؤلاء المنتقدون أن الدافع البراغماتي للحزب سيتلاشى إذا انتقلت السلطة إلى الإسلاميين، فتحلّ مكانه محاولات للهيمنة على النظام، وتهميش خصوم النهضة، وفرض القيود على الحقوق والحريات الفردية.
بيد أننا إذا نظرنا إلى الواقع عن كثب، رأينا أن البراغماتية، وإن استندت عادةً إلى الضرورة والقيود، لاتبرز في ظل فراغٍ إيديولوجي. الواقعية التي تتّسم بها النهضة هي نتاج عقود من النقاش الإيديولوجي الداخلي حول الوسيلة الأمثل للتوفيق بين المبادئ الإسلامية وبين طريقة عمل العالم المعاصر.47 هذه النقاشات جاءت بدفعٍ من القيود السياسية المحلية والضغوط الإقليمية والدولية. ومن الصعب تصوّر اعتناق النهضة المبادئ الليبرالية والديمقراطية المكرَّسة في الدستور التونسي الجديد، من دون العملية الطويلة والمثيرة للجدل الهادفة إلى المراجعة الإيديولوجية وإعادة النظر النقدية في المبادئ الدينية التي حفّزت الإسلام السياسي التونسي. هذا التطور الإيديولوجي يواصل التأثير على قرارات الحركة السياسية.48
إن تعبير النهضة عن الإسلام السياسي الإصلاحي يثير انتقادات أيضاً من فروع أخرى من المجتمع التونسي، حيث يرى البعض أن الحزب يبتعد عن جذوره الإسلامية ليصبح هيئة سياسية باهتة وعادية. كما يرفض المزيد من السلفيين المحافظين اعتناق الحزب الديمقراطية وفهمه للدولة الإسلامية باعتبارهما نقيضاً تاماً للإسلام السياسي النقي. وينظر العديد في المعسكر السلفي إلى تفسير الغنوشي التقدّمي للشريعة الإسلامية بكونها متّسقة مع مبادئ الحرية والتحرّر والمواطنة، على أنه مهزلة.
وليس السلفيون وحدهم مَن يرفضون توصيف النهضة على أنه إسلامي. فبعض العلمانيين الذين يعتبرون أن النهضة صادق في اعتداله وبراغماتيته، يؤكّدون أن مثل هذا التطور هو دليل على فشل الإسلام السياسي. هم يحاججون أن انفصال النهضة عن مبادئه الإيديولوجية هو الذي أتاح له البقاء في بيئة تعدّدية.49 هذا الرأي يتّفق مع وجهات النظر الأكاديمية التي ترى أن الديناميكيات المتغيّرة ضمن بعض الحركات الإسلامية تشير إلى بزوغ فجر حقبة مابعد الإسلام السياسي. والواقع أن الإيديولوجيا ذاتية التقييد لهذه الحركات، وعجز هذه الأخيرة عن تقديم أي حلول إسلامية لمشاكل الحوكمة، هما مادفع اللاعبين الإسلاميين البراغماتيين إلى اعتناق الديمقراطية والحقوق الفردية. بعبارة أخرى، ليس أمام الإسلاميين من خيار سوى تخطّي الإسلام السياسي واعتماد لغة وسياسية جديدتَين تستندان إلى الحقوق والتعدّدية والدولة المدنية.50 وفي هذا السياق، تحوّل الإسلاميون إلى إسلاميين بالاسم فقط، لأنهم أصبحوا غير متميّزين عن الأحزاب المحافظة الأخرى من اليمين الوسط.
تصف فرضية مابعد الإسلاميين هذه بشكلٍ مناسبٍ القيودَ الذاتيةَ للإسلام السياسي وديناميكياته التي سهّلت انتقاله من تفكير متصلّب إلى انفتاح ومرونة جديدَين. لكن هذا الانتقال لايشير إلى نهاية الإسلام السياسي كمشروع سياسي واجتماعي متماسك. فكما يشرح الغنوشي، أن إعادة التفكير في السياسات الإسلامية هي استمرار لتقليد طويل الأمد من التجدّد والإصلاح الإسلاميَّين في المغرب العربي.51 وفي هذا الإطار، يتماشى تجدّد النهضة مع جوهر التعاليم الإسلامية، ولاسيما العدالة والحرية.52
في نهاية المطاف، سيتأثّر مسار النهضة الخاص بالإصلاح والتعلّم السياسي، بعوامل داخلية وخارجية. وإذا مافشل انخراطها البنّاء داخلياً أو أُحبِط من الخصوم، فسيحصد الإسلاميون والجهاديون الأكثر تطرّفاً الفائدة الأكبر. والواقع أن السلفيين المتطرفين فاقموا أصلاً اختلافات المجتمع ونزاعاته. والتهديدات التي تفرضها مثل هذه القوى المتطرفة تشكّل تحدّياً كبيراً للانتقال الديمقراطي في تونس.
الإرهاب وفقدان الأمن
بعد إطاحة بن علي في كانون الثاني/يناير 2011، أتاحت الصعوبات التي واجهتها الحكومة الانتقالية خلال محاولة إعادة القانون والنظام بسرعة وتحسين الظروف الاقتصادية، أمام السلفيين الأكثر تطرّفاً مجالاً للتوسّع. وساهم مسار الدمقرطة المتعرّج في تطرّف بعض التونسيين الذين كانوا يشعرون بالسخط من العملية السياسية وفشلها في الاستجابة إلى مخاوفهم وتظلماتهم.
وفي حين أن معظم التونسيين سلميّون، مارست أقلية متطرفة العنفَ والترهيبَ في ضواحي تونس الفقيرة، الأمر الذي شكّل تحدّياً أمنيّاً كبيراً للحكومة.53 فقد سيَّر سلفيّون متطرفون ولجان الأمن الأهلية دوريّات في الأماكن العامة، وفرضوا الزي الديني، وهدموا الأضرحة الصوفية، ودمّروا الحانات، وأثاروا الرعب في نفوس كل من تجرّأ على تحدّيهم أو على المساس بالحدود الأخلاقية. كما شمل نشاط هؤلاء الأشخاص، الذين نصّبوا أنفسهم حرّاس الفضيلة، إصدار أحكام قضائية بسيطة وسريعة، وتوزيع الصدقات، وتوفير فرص العمل.54
حتى منتصف العام 2013، سمح حزب النهضة بتشريع المنظمات الإسلامية المتطرفة لكن السلمية، مثل حزب التحرير، آملاً أن يتبنّى السلفيون نموذج التغيير التقدّمي التي يتّبعه الحزب، وأن يكيّفوا إيديولوجيتهم وفقاً للقيود التي تمليها عملية الانتقال السياسي. ظنّ زعماء النهضة أنه من خلال المشاركة والحوار، قد يرى السلفيون فضائل اعتماد البراغماتية والمقاربة التدرُّجية في سعيهم إلى تحقيق أهدافهم الإيديولوجية، ويقدّرون الحرية التي تتيحها الديمقراطية في الدعوة والانخراط في نشاط ديني خالٍ من القيود، لكن بشكلٍ سلمي.55
بلغ رفض معظم السلفيين الاستجابةَ إلى مناشدة النهضة بالمشاركة في الحياة السياسية والتخلّي عن المواجهة، مستوًى خطيراً في العام 2013، حين بدأ متطرّفون باستهداف القوات التونسية ومسؤولين أمنيين. اعتمد حزب النهضة مقاربةً أكثر حزماً تجاه السلفيين المتطرّفين في آذار/مارس من ذلك العام، بعد اقتناعه أنهم باتوا يشكّلون عبئاً. وبعد فترة انتقالية من الارتباك وانعدام الاستقرار، عادت أجهزة الشرطة والاستخبارات إلى العديد من المناطق التي شهدت موجات عنف. ومع تولّي مهدي جمعة منصب رئيس الحكومة في كانون الثاني/يناير 2014، كان السلفيون في الأحياء الفقيرة آخذين في التراجع. وبعد عام على ذلك، توقّفت مسيرات التهديد والوعيد الكثيرة التي كان ينفّذها شباب ذوو لحى طويلة يرتدون الزي التقليدي.56
أنصار الشريعة هي مجموعة جهادية مُتّهَمة بمهاجمة السفارة الأميركية في تونس في أيلول/سبتمبر 2012، وصنّفتها الحكومة التونسية مجموعةً إرهابية في آب/أغسطس 2013، وهي ملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية التونسية؛ ويقبع حوالى 2000 شخص من متشدّدي هذه الحركة ومناصريها في السجون. أُسِّسَت المجموعة في العام 2011 على يد سيف الله بن حسين، المعروف أيضاً باسم أبو عياض التونسي، وهو جهادي تونسي أراد أن ينشئ ثقلاً موازناً في وجه إسلام النهضة المتراخي برأيه.57 وقد انضمّ الشباب الإسلاميون الذين سئموا من تنازلات حزب النهضة الإيديولوجية ومقاربته التدرُّجية، إلى أنصار الشريعة في تونس، واتّبعوا دعاة سلفيين متشدّدين ندّدوا بتعايش حزب النهضة مع الأحزاب العلمانية واستبعاده الشريعة من الدستور.
لم تكن حركة أنصار الشريعة في بداياتها منظمة إرهابية، بل كانت تركّز على تعزيز قواعدها من خلال الدعاية السلفية النشطة والنشاط المجتمعي. كما أنها اتّبعت في البداية استراتيجية مزدوجة ارتكزت على بناء منظمة شعبية كبرى تجنّبت العنف المسلّح داخل تونس، فيما دعمت بقوة الانضمام إلى صفوف مسلمين خارج تونس يقاتلون من أجل البقاء. بيد أن هذا الخط الفاصل بين السلام في تونس وبين الحرب في الخارج تبدّد تدريجيّاً، حين أصبحت حركة أنصار الشريعة في تونس عدائية أكثر تجاه الحكومة التي كانت تحت قيادة حركة النهضة.
تفاقمت حدة الإجراءات المضادة القاسية التي اتخذتها الدولة، ودخلت الأمور في دوامة من القمع والثأر. وبعد أن منعت الحكومة حركة أنصار الشريعة في تونس من عقد اجتماعها السنوي الثالث في العام 2013، صعّدت الحركة لهجتها ضد الدولة والنهضة. وتزامنت عملية التطرف هذه مع صعود الإرهاب في مناطق تونس الحدودية. إذ ظهرت مجموعة جهادية تُطلِق على نفسها اسم ميليشيا عقبة بن نافع في منطقة جبل الشعانبي بالقرب من الحدود الجزائرية، وعمدت إلى قتل عددٍ من الجنود التونسيين في صيف العام 2013. 58 واتهمت الحكومة التي يقودها حزب النهضة حركةَ أنصار الشريعة بدعم هذه الخلية الجهادية المسلّحة، وحمّلتها مسؤولية هجمات جبل الشعانبي وقتل البراهمي وسياسي علماني آخر هو شكري بلعيد.
تفاقمت موجة القمع والثأر بعد مقتل 15 جنديّاً تونسيّاً في جبل الشعانبي في 16 تموز/يوليو 2014. وبعد مرور بضعة أيام على الهجوم، حظّرت السلطات المنظمات المحلية التي اشتُبِه بأنها متعاطفة مع السلفيين المتطرفين، فتم إغلاق المساجد والمواقع الإلكترونية والإذاعات والقنوات التلفزيونية المُتّهَمة بالتحريض على التطرّف واحتجاز مئات الشباب الذين يُشتبَه بارتباطهم بمجموعات متطرّفة. وقد أثارت هذه الإجراءات قلق منظمات حقوق الإنسان التي خشيت من عودة النظام القمعي القديم.59
أصبحت حركة أنصار الشريعة غير منظمة وضعيفة جدّاً منذ أن بدأت الدولة حملتها القمعية ضدّها، كما نبذها التيار السياسي السائد، وباتت غير متأكدة من كيفية تحقيق أهدافها، وغير قادرة على السيطرة على قاعدتها الشعبية أو على حشد التعاطف مع إيديولوجيتها. إلا أن العديد من فصائلها لايزال صامداً. ويمكن رؤية مخاطر مثل هذا الانقسام والفوضى في الهجمات الإرهابية العنيفة وغير المتوقّعة التي شنّها أفراد أو مجموعات صغيرة لم تَعُد تابعة لأنصار الشريعة. كما أن بعضاً من هذه المجموعات منخرطٌ في أنشطة إجرامية.
في الوقت الراهن، انقسم ماتبقى من حركة أنصار الشريعة في تونس إلى مجموعات عدة. تشدّد إحدى المجموعات التصالحية على النشاط الاجتماعي السلمي. وثمة أيضاً تيّاران جهاديان كبيران، أحدهما منجذبٌ إلى تكتيك الصدمة والرعب الذي تعتمده الدولة الإسلامية، والآخر متعاطف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ويرتبط به أحياناً.60
يحدّد التيار الثاني، وهو الأكبر، استخدامه للعنف في إطار سردية الجهاد الدفاعي ضد قمع الدولة والهيمنة الغربية. وتكمن حسابات هذا التكتيك في أن العنف المُوجَّه ضد القوى الحكومية المتنمّرة سيؤدّي إلى اتخاذ إجراءات مضادة قاسية وعشوائية، تعزّز بدورها قضية المتشددين داخل قاعدتهم الاجتماعية المغبونة – أو ستُسهِم على الأقل في جعل أنشطتهم مقبولة.
التسويغ الفقهي والسياسي للعنف المحدود ضد الأجهزة الأمنية يميّز هذه الحركة عن المتعاطفين مع الدولة الإسلامية الذين يفاخرون بالأفعال الوحشية التي يرتكبها في ساحات القتال في سورية والعراق رجالٌ من أتباع أبو بكر البغدادي الذي عيّن نفسه خليفة هذا التنظيم السنّي المتطرّف. لايبالي تنظيم الدولة الإسلامية بالأُسُس الفقهية لسائر وجهات النظر الإسلامية. فإيديولوجيته العسكرية تعطي الأولوية للعنف عوضاً عن الفقه، وكذا الأمر بالنسبة إلى انخراطه المجتمعي الذي يولي أهمية أكبر لتحقيق الانتصارات منه إلى ممارسة العقيدة. يروّج تنظيم الدولة الإسلامية لنفسه على أنه في طليعة البعث الإسلامي، ويصوّر عملياته السريعة والحاسمة كدليل على قدرته على صنع التاريخ وتوفير الخلاص للمسلمين الساخطين.
جذبت دعوة البغدادي إلى القتال عدداً من أعضاء أنصار الشريعة في تونس. ومع أن هذا التيار لايزال يشكّل أقلية في صفوف أنصار الشريعة، إلا أن التجنيد الواسع الذي حقّقته الدولة الإسلامية في صفوف التونسيين (تقدّر وزارة الداخلية أنه ثمة 3 آلاف مقاتل تونسي في سورية والعراق، يشكّلون أكبر مجموعة من المقاتلين الأجانب)، يشي باحتمال أن ينخرط في القتال عددٌ أكبر من الشباب الساخطين من المناطق الريفية الفقيرة والمناطق الحدودية المهمّشة.
في نهاية المطاف، النجاح يستسقي دوماً النجاح. وطالما يُنظَر إلى الإسلاميين المتطرفين على أنهم مقاتلون لايُقهَرون، ستواصل قدرتهم على التحمّل ورشاقتهم في ساحات القتال في حثّ عددٍ من التونسيين على السير على خُطى أبناء وطنهم الذين انضمّوا إلى الميليشيات الإسلامية في سورية والعراق وليبيا. ومن شأن السياسة التي تتّبعها الدولة في القضاء على أنصار الشريعة في تونس، أن تسرّع قيام تحالف بين ماتبقى من حركة أنصار الشريعة وبين تنظيم الدولة الإسلامية. إذ تسهّل ممارسات الشرطة الأكثر قمعاً جعل المعارضين متطرّفين، وتدفع بعض الأعضاء إلى العنف الفردي.
يكمن التحدّي الآن في كيفية إدارة عمليات مكافحة الإرهاب من دون إقصاء المجتمعات المغبونة وتقويض الحقوق التي حُصِّلت بعد صعوبات جمّة.
لكن المدافعين عن الممارسات القمعية في عمليات مكافحة الإرهاب يرَوْن أن الإجراءات المضادة القاسية ضرورية لإحباط الهجمات وإخضاع المجموعات المتطرفة العنيفة. ويوفّر الدعم الشعبي لإعادة الاستقرار والأمن دافعاً قويّاً لهذه المقاربة التي تشدّد على ضرورة إجراء مفاضلة بين الأمن وبين الحريات المدنية.61 ويعتبر عدد لايُستهان به من التونسيين أن اتخاذ موقف تصالحي لن يساعد في ثني السلفيين المتطرفين عن استخدام العنف أو الترهيب لنشر رؤيتهم. وفي مطلق الأحوال، لم تؤدِّ مقاربة حزب النهضة المرنة لدمج السلفيين المتطرفين واستيعابهم، إلى الحدّ من تشدّدهم.
يكمن التحدّي الآن في كيفية إدارة عمليات مكافحة الإرهاب من دون إقصاء المجتمعات المغبونة وتقويض الحقوق التي حُصِّلت بعد صعوبات جمّة.62 ويُعَدّ الإقصاء والاقتصاد والسياسة عوامل ثلاثة تُنبِئ بالتطرف في تونس.
الجهادية والجريمة المنظَّمة
يُضاف إلى طبيعة التطرف العنيف وصعوبة مواجهته، خطرٌ كبير متمثّل في الجريمة المنظّمة في تونس. إذ تشهد المناطق الشرقية والجنوبية المُهمَلة مزيجاً من تهريب المخدرات والأسلحة الصغيرة والتطرف العنيف بأشكال لايمكن التنبّؤ بها. وفيما يشتدّ السعي إلى السيطرة عبر التهريب والتجارة غير الرسمية، يصبح قيام التحالفات الفضفاضة بين الجهاديين وتجار المخدرات وشباب القبائل الانتهازيين واقعاً في المناطق الحدودية.63
مع أن الجهاديين المسلّحين لايسيطرون على الاقتصاد الإجرامي المربِح، إلا أنهم يمارسون نفوذاً فيه من خلال الحماية والأذونات التي يمنحونها إلى المهرّبين الذين ينقلون حمولات من المخدّرات وغيرها من السلع المهرّبة باهظة الثمن. هذه الشراكة قوية على وجه الخصوص في المناطق الحدودية، حيث يسيطر المتشدّدون على المعابر المهمة. ومامن خيار أمام شبكات التهريب سوى التعاون مع المتشدّدين الذين يسيطرون على أجزاء من الحدود الغربية الجبلية والحرجية مع الجزائر. ولقاء المرور الآمن، على المهرّبين تسديد أتاوة وتوفير مواد غذائية للمتشددين. وبعض الهجمات التي شُنَّت على الجنود في هذه المنطقة منذ العام 2012 لم تكن لغايات جهادية، بل لإلهاء قوى الأمن وحرف الانتباه عن طرق التهريب العابرة للحدود.64
كما هي الحال في سائر البلدان حيث تترافق المخدرات مع الجهادية، ينتمي المتشدّدون والمهرِّبون أحياناً إلى القبائل نفسها. وقد تصبح هذه التحالفات أكثر احترافاً وقدرةً على الصمود. يُعتبَر الإتجار بالمخدرات عامل جذب يتمثَّل في المال السهل الذي يتحصّل عليه المسؤولون الأمنيون ذوو الأجر المنخفض، والعدد الكبير من الشباب العاطلين عن العمل والمحبطين في المناطق الحدودية والمناطق الحَضَرية المحرومة. ويحذّر تقرير صادر عن المجموعة الدولية للأزمات ممّا يلي: "إذا كان عدد الناشطين المسلحين المتحصّنين في المناطق الجبلية والحرجية في الغرب لايتجاوز عددهم المئة، فإن عدد العاملين في مجال التهريب ومايرتبط به من عمليات عنف يُعَدّ بعشرات الآلاف في مناطق الحدود وفي محيط المدن الكبرى".65
أدّى انهيار النظام في ليبيا إلى جعل الحالتين الأمنية والاجتماعية أكثر اضطراباً على طول الحدود الجنوبية الشرقية وسهّل اختراقها. وأخلّت التغييرات المتعاقبة في موازين القوى في صفوف الميليشيات القبلية الليبية بالنظام القائم للعصابات التقليدية التي كانت تسيطر على معابر التهريب والمواقع الحدودية على الجانب الليبي. وقد زعزع هذا الأمر استقرار سوق التهريب وأتاح تشكيل مجموعات انتهازية جديدة يجهلها المسؤولون الأمنيون، وهذه المجموعات أكثر استعداداً للإتجار بالمخدرات والأسلحة النارية والتعاون مع أي من المجموعات المسلحة لتحقيق الربح.
تغذّي مشاكل تونس الاقتصادية التحديات الأمنية والتطرف الذي تواجهه البلاد.
كان تدفّق المهاجرين والأسلحة والمخدرات إلى تونس محدوداً حتى الآن، كما أن المنطقة لم تتحوّل إلى خط إمداد أساسي للفصائل المتحاربة على الجانب الليبي من الحدود. لكن هذا الأمر قد يتغيّر إذا ماغرقت ليبيا في الفوضى الكاملة أو إذا ضعفت الدولة الإسلامية أو تشرذمت، ودفعت عدداً هائلاً من الجهاديين التونسيين إلى العودة إلى صفوف المهرّبين والمجموعات الجهادية الناشطة في مناطق تونس الحدودية. وتُعَدّ قدرة الحكومة على منع سيناريو كهذا من الحدوث محدودةً جدّاً، لأن الوضع يعتمد بشكل كبير على نتائج الصراع خارج الحدود التونسية.
الضغوط الاقتصادية
تغذّي مشاكل تونس الاقتصادية التحديات الأمنية والتطرف الذي تواجهه البلاد.
فالاقتصاد لايزال هشّاً، ويعاني النمو الحقيقي جموداً قُدِّر بنسبة 2.8 في المئة في العام 2014. وتشكّل الاختلالات الخارجية والتضخّم المتزايد (6.5 – 7 في المئة) والعجز في المالية العامة بنسبة 9.2 في المئة، أبرز أسباب المشاكل التي تعانيها حكومة تواجه ضغطاً يتمثّل في معالجة نظامها الضريبي والبطالة المرتفعة (15 في المئة) وضخ استثمارات في المناطق المهمّشة في داخل البلاد وفي المناطق الحدودية.66
إضافةً إلى ذلك، يشكّل حجم الاقتصاد غير الرسمي الذي نما بشكل كبير ليبلغ 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، عبئاً على النمو الاقتصادي.67 لايتم التداول في البضائع المهرَّبة من الجزائر وليبيا فقط في المناطق الحدودية بل أيضاً في جميع أنحاء البلاد. وقد اضطرت شركات محلية عدة إلى الإقفال بسبب منافسة البائعين غير المرخَّص لهم.
ساهمت الأزمة الاقتصادية الحادة التي شهدتها البلاد في السنوات الأربع بعد الثورة في زيادة هذا التوجُّه غير الرسمي. لكن ثمة أيضاً محدّدات هيكلية لاقتصاد السوق السوداء، على رأسها الفساد البيروقراطي والتنظيم المفرط والضرائب المرتفعة والتكاليف العالية لإنشاء شركات جديدة. وسوف تواصل النشاطات الاقتصادية غير المصرّح بها الازدهار، طالما أن الدولة غير قادرة على توفير بدائل في الاقتصاد الرسمي ومعالجة الفساد.68
من شأن الهبوط في أسعار النفط العالمية الذي بدأ في أواخر العام 2014، أن يسهّل مهمة الحكومة الجديدة المتمثّلة في خفض الدعم الحكومي المُسرِف وسائر الاختلالات الاقتصادية. كما سيساعد انخفاض أسعار النفط في خفض العجز في ميزانية البلاد وتقليص التضخّم. لكن التجربة تشي بأنه سيكون من المبالغة في التفاؤل توقُّع أن تنفّذ القيادة الجديدة المُنتخَبة الإصلاحات الهيكلية اللازمة التي ستؤثّر حكماً على القاعدة الانتخابية وجماعات المصالح القوية التي دعمت الفائزين في انتخابات العام 2014.
يشكّل التفاوت الخطير بين مناطق تونس الساحلية وبين ضواحيها المهمّشة، مصدراً لانعدام الاستقرار وتهديداً لتوطيد الديمقراطية.69 والسنوات الأربع الفائتة لم تحسّن اقتصاد هذه الدوائر، ولاتزال المحنة الاقتصادية على حالها في هذه المناطق التي تشكّل نصف البلاد، باستثناء موجة التوظيف التي أطلقتها الدولة في الفترة الأولى بعد الثورة، والجهود الخجولة لجذب المستثمرين إلى المنطقة.
جزءٌ من صعوبة سدّ الفجوة بين شطرَي تونس هيكلي. ففي الاقتصادات التي تعتمد على التجارة الخارجية، تواجه المناطق التي تفتقر إلى البُنى التحتية صعوبةً في جذب المستثمرين. إذ تتطلّب الصناعات الموجَّهة نحو التصدير قرباً من المرافئ وبُنى تحتية فعّالة للنقل، وهذا ماتفتقر إليه المناطق الداخلية في تونس. لتشجيع الاستثمار في هذه المناطق المهمّشة منذ فترة طويلة، ينبغي على الدولة تقليص ديونها وزيادة مواردها، الأمر الذي يتطلّب إصلاح النظام الضريبي غير العادل.70 إضافةً إلى ذلك، ينبغي أن تكفّ السلطات التنفيذية والتشريعية الجديدة عن التحيّز الوظيفي والمعاملة التمييزية ضد الشركات الواقعة في الجنوب، وأن تطبّق صلاحيات وسياسات لامركزية للسماح للبلديات بالتخطيط وتنفيذ وتقديم الخدمات وفقاً لمبدئَي الشفافية والمساءلة.
خاتمة
خلال الانتخابات الرئاسية التونسية التاريخية في العام 2014، استفاد السبسي بدهاء من القلق المتزايد في صفوف التونسيين وحنينهم الملموس إلى المعالم المألوفة لمرحلة أبسط وأكثر أماناً. فمرحلة ماقبل الثورة، على الرغم من مساوئها، كانت أكثر ثباتاً واستقراراً بكثير، مقارنةً بالوضع الراهن المخيف والمربك. كما أن السبسي واصل الإشادة بالأيام الخوالي، متجنّباً الخوض في ذكريات الدكتاتورية السيئة. يبقى في نهاية المطاف أن سخطاً كبيراً من حكومة النهضة دفع عدداً كبيراً من التونسيين إلى إعادة مسؤولين في النظام السابق إلى السلطة.
ليست هذه سمة خاصة بالثورة التونسية. فالواقع أن معظم عمليات الانتقال الديمقراطي تتّبع هذا النمط إلى حدّ كبير: يطغى أعداء النظام السابق على أول انتخابات حرة وعادلة، فيما تميل الانتخابات الثانية إلى إعادة أشخاص من الماضي إلى السلطة (على الأقل أشخاص لم يفقدوا مصداقيتهم تماماً)، لأن هؤلاء يوحون بالاطمئنان بعد اضطرابات السنوات الأولى للمرحلة الانتقالية.
ينبغي على نداء تونس، بعد فوزه الانتخابي المقنع، أن يقبل انتصاره بشهامة مثلما تقبّل خصومه الهزيمة بكياسة. وتكمن الأولوية لحكام تونس الجدد في إيجاد توازن بين القوى وبين التطلّعات المتعارضة.
على المستويَين الاقتصادي والاجتماعي، ثمة حاجة ملحّة إلى إصلاح النظام المالي والضريبي، وتعزيز نظام الرعاية الاجتماعية، والحدّ من الاختلالات الجهوية. فقد أسهم تركّز مشاريع الاستثمار العامة في المناطق الساحلية في ارتفاع معدّلات البطالة والفقر في المناطق الأخرى. ومن شأن إعادة تقييم سياسات التنمية الجهوية وتوزيع الموارد بشكلٍ عادل على مناطق تونس الداخلية المهمّشة والمناطق الجنوبية، أن يساعدا في الحدّ من التفاوت الاجتماعي والجهوي الصارخ في البلاد، وفي تعزيز حضور الدولة في المناطق النائية.
ينبغي أن تترافق الجهود المبذولة للحدّ من التطرف العنيف ووقف التهريب العابر للحدود مع التأهيل المهني لأجهزة الأمن.
كما ينبغي على القيادة التونسية أن تتعامل مع مأزق الأمن والحرية الذي تواجهه البلاد. إذ يشكّل الاعتداء على المتحف الوطني في باردو ضربةً موجعةً لبلد يعتمد إلى حدّ كبير على السياحة، كما يشكِّل امتحاناً أساسيّاً لمدى التزام السلطات التونسية بحكم القانون وحرية التعبير.
ينبغي أن تترافق الجهود المبذولة للحدّ من التطرف العنيف ووقف التهريب العابر للحدود، مع التأهيل المهني لأجهزة الأمن. إذ يشكّل قطاع الأمن الذي لم يتم إصلاحه عائقاً أمام الديمقراطية والأمن والتنمية المستدامة. إضافةً إلى ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها أن تتابع بانتباه حرب تونس على الإرهاب، لضمان ألا يضحّي قادة البلاد بالحريات المدنية في سعيهم إلى إرساء الأمن.
للمجتمع الدولي أيضاً دورٌ بارزٌ في إبقاء تونس على مسار توطيد الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي. وينبغي على الولايات المتحدة وشركائها الديمقراطيين تشجيع تونس على تحسين ممارسات الحوكمة في البلاد، وإجراء الإصلاحات الاقتصادية الملحّة، من خلال منحها حزمة من القروض والإعانات.
يثير الاستقطاب الإيديولوجي والسياسي الشديد الذي يمزّق المنطقة أصداءً خطيرةً في تونس. فالبلاد ليست منعزلة عن محيطها، ولدى مجموعاتها السياسية المتنافسة اتصالات وارتباطات مع مختلف الفصائل المتحاربة في الحرب الباردة العربية الجديدة. فعلى سبيل المثال، نداء تونس قريب من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر المصمّمة على سحق منافسها الإيديولوجي، جماعة الإخوان المسلمين، وعلى تقويض الحركات الشعبية المُطالِبة بالديمقراطية. وسيشكّل الأمر مأساةً إذا بدأت هذه القوى الإقليمية باستخدام تونس كساحة صراع أخرى في خضمّ سعيها إلى سحق الإسلاميين.
هوامش
1 Edward P. Djerejian, “The U.S. and the Middle East in a Changing World,” DISAM Journal (Summer1992): 32–38, www.disam.dsca.mil/pubs/Vol 14_4/Djerejian.pdf.
2 من بين المؤشرات المثيرة للقلق على وجه الخصوص اعتقال بعض المدونين والكوميديين وغيرهم من منتقدي مؤسسات الدولة مثل الجيش والرئيس في أوائل العام 2015. أنظر:
http://news.yahoo.com/tunisia-arrests-comedian-tv-host-offending-president-155125851.html
3 Eric Reidy, "Tunisian Youth Skip Presidential Vote," Al Monitor, November 25, 2014, http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2014/11/tunisia-presidential-elections-low-youth-turnout.html#.
4 أظهر استطلاع للرأي صادر عن مركز بيو للدراسات في تشرين الأول/أكتوبر 2014 استياء متزايداً من السياسة. إذ كشف الاستطلاع عن أن 65 في المئة من التونسيين يعتبرون أن "القادة السياسيين لايهتمّون إلا بالسلطة والمنفعة الشخصية". وكشف الاستطلاع أيضاً عن أن الإقبال على الانتخابات في سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، كان من بين الأدنى في البلاد. وسُجِّلت أيضاً مستويات منخفضة من المشاركة الانتخابية في المناطق الحدودية التي تعيش على اقتصاد التهريب. أنظر:
“Tunisian Confidence in Democracy Wanes,” Pew Research Center, October 15, 2014, www.pewglobal.org/2014/10/15/tunisian-confidence-in-democracy-wanes.
5 أنظر:
“Tunisian Confidence in Democracy Wanes,” Pew Research Center, October 15, 2014, www.pewglobal.org/2014/10/15/tunisian-confidence-in-democracy-wanes.
6 عمل السبسي سفيراً ورئيس البرلمان في عهد دكتاتور تونس السابق، زين العابدين بن علي، كما شغل مناصب وزارية كبيرة في عهد سلفه القوي الحبيب بورقيبة، بما في ذلك منصب وزير الداخلية في الستينيات، حين قمع المعارضة. بعد الثورة، تولّى بشكلٍ مشرّف منصب رئيس وزراء الحومة المؤقتة وقاد تونس بنجاح في المرحلة الانتقالية المحفوفة بالمصاعب، وصولاً إلى الانتخابات الديمقراطية التي أُجريت في تشرين الأول/أكتوبر 2011، والتي فاز بها حزب النهضة.
7 Jerome Heurtaux, “Tunisie, fausse victoire du camp laïc,” Liberation, November 4, 2014, http://www.liberation.fr/monde/2014/11/04/tunisie-fausse-victoire-du-camp-laic_1136133.
8 Christina Omlin, “Ennahda Has an Unbelievable Capacity to Adjust,” Qantara.de, January 20, 2014. http://en.qantara.de/content/interview-with-hele-beji-ennahda-has-an-unbelievable-capacity-to-adjust.
9 Charlotte Bozonnet, “M. Essebsi: ‘Nous sommes des concurrents, pas des ennemis d’Ennahda,’” Le Monde, October 30, 2014, www.lemonde.fr/international/article/2014/10/30/m-essebsi-nous-sommes-des-concurrents-pas-des-ennemis-d-ennahda_4515066_3210.html.
10 أنظر:
Vincent Geisser, “La démocratie tunisienne confrontée à ses démons populistes,” Zaman France, October 27, 2014, www.zamanfrance.fr/article/democratie-tunisienne-confrontee-a-demons-populistes-12958.html.
11 أنظر:
Anne Wolf, “Power Shift in Tunisia: Electoral Success of Political Parties Might Deepen Polarization,” SWP Comments, December 2014, www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2014C54_wolf.pdf.
12 حلّ الاتحاد الوطني الحر ثالثاً مع 16 مقعداً، تلاه ائتلاف الجبهة الشعبية اليساري مع 15 مقعداً، وحزب آفاق تونس الليبرالي مع 8 مقاعد.
13 أنظر:
Vincent Geisser, “La démocratie tunisienne confrontée à ses démons populistes,” Zaman France, October 27, 2014, www.zamanfrance.fr/article/democratie-tunisienne-confrontee-a-demons-populistes-12958.html.
14 Charlotte Bozonnet, “Slim Riahi, le Berlusconi tunisien, ” Le Monde, November 22, 2014, www.lemonde.fr/tunisie/article/2014/11/22/slim-riahi-le-berlusconi-tunisien_4527785_1466522.html.
15 لكن في الانتخابات الرئاسية فشل الرياحي. كان الفوز بالانتخابات على المستوى المحلي أسهل من التنافس على الساحة الوطنية، حيث ينبغي أن يتحلّى المرشحون الناجحون بمزايا رجال الدولة.
16 Geisser, “La démocratie tunisienne confrontée à ses démons populistes.”
17 أنظر:
International Crisis Group, “Old Wounds, New Fears,” Middle East and North Africa Briefing no. 4419 December 19, 2014, www.crisisgroup.org/en/regions/middle-east-north-africa/north-africa/tunisia/b044-tunisia-s-elections-old-wounds-new-fears.aspx.
18 Fabio Merone, “The New Islamic Middle Class and the Struggle for Hegemony in Tunisia,” Afriche e Orienti, forthcoming (2015).
19 أنظر:
International Crisis Group, “Old Wounds, New Fears.”
20 Brésillon, “La Tunisie reste terre d’espoir: la révolution aux urnes.”
21 المصدر السابق.
22 المصدر السابق.
23 International Crisis Group, “Old Wounds, New Fears.”
24 أنظر:
Anouar Jamaoui, “The impact of the coalition on Ennahda and Nidaa Tounes,” March 11, 2015,
https://www.opendemocracy.net/arab-awakening/anouar-jamaoui/impact-of-coalition-on-ennahda-and-nidaa-tounes.
25 أنظر:
Walid al-Talili, “Revolt brewing within ranks of Tunisia's ruling party,” Al-Araby, march 10, 20155, http://www.alaraby.co.uk/english/politics/2015/3/11/revolt-brewing-within-ranks-of-tunisias-ruling-party#sthash.j6e3YbD6.dpuf.
26 International Crisis Group, “L’exception tunisienne: succès et limites du consensus,” June 5, 2014.
27 Rached Ghannouchi, “Why did Ennahda Accept an Unequal Partnership,” Al Jazeera English online, February 11, 2015. https://www.middleeastmonitor.com/articles/africa/17355-why-did-ennahda-accept-an-unequal-partnership.
28 أنظر:
International Crisis Group, “Old Wounds, New Fears,” p. 8.
29 أنظر:
“Analyse du compromis Nidaa/Nahda: le ‘syndrome de Stockholm’ n’est-il pas en train de devenir le ‘syndrome de Tunis’?” Zaman France, December 6, 2014, www.zamanfrance.fr/article/analyse-compromis-nidaanahda-syndrome-stockholm-nest-il-pas-en-train-devenir-syndrome-tunis.
30 أنظر:
Monica Marks, “Tunisia opts for an inclusive new government,” The Washington Post, February 3, 2015. http://www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/2015/02/03/tunisia-opts-for-an-inclusive-new-government/.
31 مع أن السلطات الدستورية لمكتب الرئاسة قد قُلِّصَت، إلا أن الرؤساء لايزالون يتمتّعون بالأهمية ويمكن أن يكونوا مؤثّرين في تحديد مسار الانتقال الديمقراطي. كما أن شرعنة الانتخاب الشعبي تمنح الرئيس شيئاً من السلطة. والكثير يعتمد على نظرة الرئيس إلى مسؤوليته الدستورية ومقاربته للتفسير الدستوري. مع أن الدستور الجديد يبتعد بشكل ملحوظ عن التنافر والتعارض في الدستور السلطوي السابق، إلا أنه ينطوي على مساحة من الالتباس يمكن استخدامها لتوسيع صلاحيات الرئيس.
32 Brésillon, “La Tunisie reste terre d’espoir: la révolution aux urnes.”
33 International Crisis Group, “L’exception tunisienne: succès et limites du consensus,” June 5, 2014.
34 International Crisis Group, “Old Wounds, New Fears.”
36 المصدر السابق.
37 المصدر السابق.
38 أنظر:
Khalil al-Anani, “Whither Political Islam?” Al Jazeera Online, December 24, 2013, www.aljazeera.com/indepth/opinion/2013/12/whither-political-islam-2013122310825761430.html.
39 المصدر السابق.
40 “Turkey's secular constitution: See you in court,” The Economist, March 19, 2008. http://www.economist.com/node/10881280
41 أنظر:
Tarek Masoud, Counting Islam Religion, Class, and Elections in Egypt (Cambridge: Cambridge University press, 2014).
42 للاطلاع على مزيد من التحليل حول استراتيجية النهضة المناهضة للهيمنة، أنظر:
Merone, “The New Islamic Middle Class and the Struggle for Hegemony in Tunisia.”
43 أنظر:
Anouar Boukhars, “Morocco’s Islamists: Bucking the Trend,” FRIDE, June 2014. http://fride.org/download/PB_182_Morocco_Islamists.pdf.
44 أنظر:
Mohammed Masbah, “Islamist and Secular Forces in Morocco: Not a Zero-Sum Game,” SWP, November 2014, http://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2014C51_msb.pdf.
45 Nadia Marzouki, “The Politics of Religious Freedom: Nahda’s Return to History,” The Immanent Frame (blog), April 30, 2012, http://blogs.ssrc.org/tif/2012/04/30/nahdas-return-to-history.
46 يشير هؤلاء المنتقدون إلى التراجع الديمقراطي الذي شهدته تركيا. فحالما وطّد حزب العدالة والتنمية سلطاته، أصبح أقل اهتماماً بالتسوية وأقل تقبّلاً للمعارضة السياسية.
47 Francesco Cavatorta and Fabio Merone, “Post-Islamism, Ideological Evolution and ‘La Tunisianité’ of the Tunisian Islamist party al-Nahda,” Journal of Political Ideologies, forthcoming, 2015.
48 Soumaya Ghannoushi, “Misconceptions of Political Islam,” Huffington Post, November 16, 2014, www.huffingtonpost.com/soumaya-ghannoushi/misconceptions-of-politic_b_6166086.html?utm_hp_ref=tw.
49 على سبيل المثال، وافقت النهضة على إسقاط الإشارات إلى الشريعة الإسلامي في الدستور الجديد.
50 Asef Bayat, “New Texts Out Now: Asef Bayat, Post-Islamism: The Changing Faces of Political Islam,”Jadaliyya, November 14, 2013, www.jadaliyya.com/pages/index/15049/new-texts-out-now_asef-bayat-post-islamism_the-cha.
51 أنظر:
C. Lussato’s interview with Francois Burgat, “Tunisie: le retrait d’Ennahda n’est pas l’échec de l’Islam politique,” Le Nouvel Observateur, October 29, 2013, http://tempsreel.nouvelobs.com/monde/20131029.OBS3037/tunisie-le-retrait-d-ennahda-n-est-pas-un-echec-de-l-islam-politique.html.
52 Cavatorta and Merone, “Post-Islamism, Ideological Evolution and ‘La Tunisianité’ of the Tunisian Islamist Party al-Nahda.”
53 أنظر:
أنوار بوخرص، " بين نارين: مكابدات الإسلاميين في تونس"، ورقة كارنيغي، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، كانون الثاني/يناير 2014؛
Fabio Merone and Francesco Cavatorta, “Salafist Mouvance and Sheikh-ism in the Tunisian Democratic Transition,” Working Papers in International Studies 7, Center for International Studies, Dublin City University, 2012; Torelli, Merone, and Cavatorta, “Salafism in Tunisia: Challenges and Opportunities for Democratization”;
ومجموعة الأزمات الدولية، تونس: العنف والتحدي السلفي، تقرير الشرق الأوسط/شمال أفريقيا رقم 137، 13 شباط/فبراير 2013.
54 Aaron Y. Zelin, “Jihadi Soft Power in Tunisia: Ansar al-Shari‘ah’s Convoy Provides Aid to the Town of Haydrah in West Central Tunisia,” Al-Wasat, the Muslim World, Radicalization, Terrorism, and Islamist Ideology (blog), February 21, 2012.
55 أنظر: بوخرص، " بين نارين: مكابدات الإسلاميين في تونس".
56 مجموعة الأزمات الدولية: "الحدود التونسية (II): بين الإرهاب والاستقطاب الجهوي"، تقرير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رقم 41، تشرين الأول/أكتوبر 2014.
57 أنظر:
Stefano M. Torelli, “A Portrait of Tunisia’s Ansar al- Shari’a Leader Abu Iyad al-Tunisi: His Strategy on Jihad,” Jamestown Foundation, Militant Leadership Monitor 4, issue 4 (August 2013): 9–11.
58 أنظر:
Stefano M. Torelli, “Tunisia’s Elusive Jihadist Network,” Jamestown Foundation, Terrorism Monitor 11, issue 12 (June 2013): 4–6, and Stefano M. Torelli, “Meeting the Jihadi challenge in Tunisia: The Military and Political Response,” Jamestown Foundation, Terrorism Monitor 11, issue 17 (September 2013): 5–7.
59 أنظر: تقرير منظمة العفو الدولية، تونس: مسودة القانون الجديد "لمكافحة الإرهاب" ستُضعف حقوق الإنسان بدرجة أكبر، مذكرة منظمة العفو الدولية لمجلس الشراكة بين تونس والاتحاد الوروبي، 30 أيلول/سبتمبر 2003.
60 مجموعة الأزمات الدولية: "الحدود التونسية (II): بين الإرهاب والاستقطاب الجهوي".
61 أنظر:
Asma Ghribi, “In Tunisia, It’s Shoot First, Ask Questions Later,” Foreign Policy, February 17, 2014.
62 أنظر:
Julie Schneider, “Le dilemme tunisien face au terrorisme,” OrientXXI, March 6, 2014.
63 مجموعة الأزمات الدولية: "الحدود التونسية (II): بين الإرهاب والاستقطاب الجهوي".
64 المصدر السابق.
65 المصدر السابق.
66 في النصف الأول من العام 2014، انخفض الاستثمار الأجنبي بنسبة 15 في المئة مقارنةً بالفترة نفسها من العام 2013. كما سجّلت الصادرات أيضً انخفاضاً. يعيش حوالى مليون ونصف المليون تونسي على حافة الكفاف، بأقل من دولارين في اليوم، وقد تضاعف هذا العدد في السنوات القليلة الماضية. لايزال قطاع الصناعة في البلاد قريباً من الركود بسبب الانكماش الاقتصادي وعدم تحسّن الطلب في أوروبا. بالكاد نمت قطاعات المنسوجات والإلكترونيات والميكانيك بنسبة 1 في المئة، بينما تراجع القطاع الهيدروكربوني بنسبة 15 في المئة. وفيما تضاعف عدد العاملين في قطاع الفوسفات منذ الثورة، أدّت الإضرابات وسائر الاضطرابات العمالية إلى تقليص المردود بمقدار النصف. الشركة التونسية للكهرباء والغاز هي أيضاً في وضع سيّئ، فيما تعاني صعوبات ناجمة عن الإضرابات المتفرّقة ورفض بعض المستهلكين دفع فواتيرهم. في 31 آب/أغسطس 2014، أدّى عطل في الشبكة إلى انقطاع التيار الكهربائي في العاصمة وفي مناطق سياحية على الساحل.
67 أنظر:
Charlotte Bozonnet, “Une économie mal en point,” Le Monde, September 8, 2014. www.lemonde.fr/economie/article/2014/09/08/une-economie-mal-en-point_4483541_3234.html.
68 منذ قيام الثورة، تم إبعاد أفراد عائلة بن علي الفاسدين، لكن وسطاء الاقتصاد القائم على النهب لايزالون منتشرين على نطاق واسع في قطاعات استراتيجية، مثل العقارات والبناء والنقل وتجارة المنتجات الزراعية بالجملة. لاتزال القيود البيروقراطية التي قوّضت المنافسة وعزّزت الرأسمالية المحسوبية قائمة. يسهم هذا التخريب للمؤسسات التنظيمية والسياسية على يد الأقوياء بشكل مباشر في تحقيق نتائج اقتصادية واجتماعية وخيمة. وما لم تتغيّر السياسات الاقتصادية الماضية، ستستمر حفنة قليلة من الأشخاص ذوي النفوذ في الاستفادة من النظام على حساب غالبية الشعب.
69 تشهد انتفاضة العام 2010، التي انطلقت شرارتها في الداخل، على اليأس المسيطر في منطقة تعاني من ارتفاع معدّلات انعدام المساواة وارتفاع معدلات البطالة وانسداد الأفق. والأشخاص الذين يجهدون لتأمين لقمة العيش من خلال العمل الصناعي المحدود ذي الأجر الضئيل، يبقون محاصرين بسبب غلاء المعيشة.
70 أنظر:
Sybille De Larocque, “Tunisie: malgré le vote de la Constitution, la révolution n’est pas terminée,” JOL Press, February 6, 2014, www.jolpress.com/tunisie-vote-constitution-revolution-francois-hollande-article-824307.html.