مقدّمة
منذ تسلُّم العاهل المغربي الملك محمد السادس مقاليد السلطة في العام 1999، سعى إلى تنفيذ برنامج تحديث طموح. ويبدو الوقت ملائمًا الآن لتقييم المسار الاقتصادي للمغرب بمناسبة مرور خمسة وعشرين عامًا على تولّيه الحكم. في العام 1999، كان المغرب يقبع في مرتبة متدنّية على مؤشّر التنمية البشرية، لكنه أحرز تقدُّمًا كبيرًا خلال فترة العقدَين ونصف العقد الماضية. وتشير البيانات الصادرة عن الأمم المتحدة إلى تحسّن على مستوياتٍ عدّة بين العامَين 1998 و2023، فقد ارتفع متوسّط العمر المتوقّع بمقدار تسع سنوات، ليصل إلى حوالى خمسة وسبعين عامًا؛ وتضاعف متوسّط دخل الفرد بالقيم المعدّلة تبعًا للتضخم؛ وتضاعف تقريبًا متوسّط سنوات الدراسة المتوقّع من 8.1 سنوات إلى 14.6 سنة. ووفقًا للمندوبية السامية للتخطيط التابعة للحكومة المغربية، انخفض معدّل الفقر المطلق بشكل كبير من 15.3 في المئة في العام 2001 إلى 1.7 في المئة في العام 2019.
بدا لافتًا على نحو خاص تحسّن ظروف معيشة الأُسر الريفية، التي كانت تمثّل نحو نصف سكان المغرب في العام 1999 ولا تزال تشكّل ثلث عدد السكان اليوم. فقد أصبح جميع المغاربة الذين يقطنون في المناطق الريفية يحصلون على خدمات أساسية مثل الكهرباء ومياه الشرب، مقارنةً مع أقل من النصف في العام 2000. مع ذلك، سلّط تفشّي وباء كوفيد-19 وموجات الجفاف المتعاقبة الضوء على التحديّات الاجتماعية الراسخة، ولا سيما في ظلّ ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة والخمول. علاوةً على ذلك، كشف الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز في سلسلة جبال الأطلس خلال العام 2023 عن الثغرات التي تعتري الاستراتيجية التنموية.
إذًا، بعد نجاح الاقتصاد المغربي في تجاوز عتبة الدخل المنخفض إلى الدخل المتوسط، عليه الآن التركيز على عملية التحوّل الهيكلي. في هذا الإطار، من الضروري استحداث المزيد من فرص العمل، وخاصة في أوساط النساء والشباب، فضلًا عن تقليص فجوة الفوارق الاجتماعية والمناطقية. وستتطلّب هذه الأهداف الاستثمار في تعزيز رأس المال البشري والابتكار، وإرساء بيئة عمل أكثر تنافسيةً، وتخصيص حيّز مالي إضافي، والتكيّف مع المشهد الجيوسياسي المتقلّب. هذه كلّها تحديّات هائلة، لكن لا يمكن إنكار الإنجازات التي حقّقها المغرب حتى الآن، مع أن المسار الذي ينتظره سيكون محفوفًا بالعقبات.
اندفاعة المغرب التحديثية
نفّذت الحكومات المتعاقبة في المغرب، على مدى ربع القرن الماضي، برنامجَ تحديث شاملًا استند إلى رؤية طويلة المدى. وقد أنشأت المملكة بنية تحتية متطورة مثل ميناء طنجة المتوسط، سمحت لها بالدخول في سلاسل القيمة العالمية، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتعزيز الصناعة الموجّهة نحو التصدير. وفي الوقت نفسه، بذل المغرب جهودًا لتحقيق المزيد من الاستدامة، ووضع أهدافًا طموحة لزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجدّدة والحفاظ على المياه.
المغرب يصبح جزءًا لا يتجزأ من سلاسل القيمة العالمية
شهد المغرب نموًا اقتصاديًا ملحوظًا في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مدعومًا بالاستثمارات العامة في البنية التحتية. فقد تمّ تمديد شبكة الطرق السيارة السريعة، التي كانت محدودة جدًّا في السابق، إلى 1800 كيلومتر، ويُتوقّع أن يصل طولها إلى 3000 كيلومتر بحلول العام 2030. ومن بين الإنجازات البارزة أيضًا تطوير ميناء طنجة المتوسط في المياه العميقة في العام 2007، ثم توسعته في العام 2019 (التي شهدت إضافة ميناء طنجة المتوسط 2) لزيادة طاقته الاستيعابية، وتحويله إلى أكبر ميناء حاويات في البحر الأبيض المتوسط. إضافةً إلى ذلك، دشّن المغرب خطّ قطار فائق السرعة كان الأول من نوعه في أفريقيا. وبفضل هذه المشاريع المتطورة، أصبحت قطاعات النقل الجوي والطرق والموانئ في البلاد تستوفي معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
مع ذلك، واعتبارًا من العام 2006، واجهت المملكة سلسلةً من التحديات الخارجية، بما في ذلك انتهاء العمل باتفاقية الألياف المتعدّدة مع الاتحاد الأوروبي، والأزمة المالية العالمية في العام 2008، وأزمة الديون الأوروبية خلال فترة 2010-2011 (التي أثّرت على شركائها التجاريين والاستثماريين الرئيسين)، إضافةً إلى ارتفاع أسعار الطاقة. واستجابةً لهذه التحديات، أطلقت الرباط استراتيجية صناعية قائمة على التصدير، تُوِّجَت بمخطّط تسريع التنمية الصناعية بين العامَين 2014 و2020. واستندت هذه الاستراتيجية الجديدة إلى الأفكار الصادرة عن مختبر النمو التابع لجامعة هارفرد، مستفيدةً من البنية التحتية للمغرب، ولا سيما طنجة المتوسط، لتسهيل دخول البلاد إلى سلاسل القيمة العالمية التي تركّز على التكنولوجيا، وخاصة في قطاعَي صناعة السيارات والفضاء. وعلى المنوال نفسه، أنشأت الحكومة مناطق طنجة المتوسط، وهي مجموعة من المراكز الصناعية واللوجستية بالقرب من الميناء الذي يحمل الاسم نفسه، ما حوّل طنجة إلى المنطقة الحرة الصناعية الرائدة في أفريقيا.
إن الاستثمارات الكبيرة التي خصّصتها المجموعتان الفرنسيتان لإنتاج السيارات، رينو (Renault) وبي إس إيه (PSA Group)، سمحت للمغرب بأن يصبح أكبر مُنتج ومُصدّر للسيارات في القارة الأفريقية، متقدِّمًا بذلك على جنوب أفريقيا. علاوةً على ذلك، تستضيف المملكة الآن شركات كبرى لصناعة قطع غيار السيارات، بما فيها شركة فاليو (Valeo) الفرنسية والشركتان اليابانيتان يازاكي (Yazaki) وسوميتومو (Sumitomo). وقد أسفرت هذه الاستراتيجية المتمثّلة في تشجيع الشركات المصنّعة للسيارات ومكوّناتها على نقل بعض عملياتها إلى المملكة، عن تدفّق استثماراتٍ أجنبية مباشرة كبرى إليها. عمومًا، ارتفعت نسبة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع الصناعة من 15 إلى 37 في المئة بين العامَين 2010 و2019، مدفوعةً إلى حدٍّ كبير بالمكاسب التي حقّقتها صناعة السيارات.
بفضل هذا العوامل، تَمكَّن المغرب من الحفاظ على مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي عند حوالى 15 في المئة، مُعاكِسًا بذلك منحى "التخلّي عن التصنيع قبل الأوان". واقع الحال أن المغرب يصدّر الآن منتجاتٍ صناعية ذات مستوى تكنولوجي متوسط أكثر بكثير من منافستَيه الإقليميتَين تونس ومصر، إلّا أن صادراته من المنتجات ذات التكنولوجيا المتقدّمة لا تزال أقلّ بكثير من العملاقَين الصناعيَين الآسيويَين الصين وفيتنام. كذلك، أدّى التركيز على الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى بروز ازدواجية اقتصادية حادّة، إذ تواجه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم الموجَّهة نحو الأسواق المحلية صعوباتٍ في الانخراط ضمن المنظومة الصناعية الخاضعة لهيمنة الشركات الأجنبية ذات معايير الجودة الصارمة.
تحقيق استدامة أكبر
اعتمد المغرب تقليديًا على واردات الطاقة، لكنه شرع منذ العام 2009 في التحوّل نحو نموذج نمو أكثر استدامةً بعد اعتماد الاستراتيجية الطاقية الوطنية، التي تستند إلى ركائز أساسية ثلاث هي: زيادة القدرة على إنتاج الطاقة المتجدّدة، وتعزيز النجاعة الطاقية، وتحقيق الاندماج الإقليمي. يُشار إلى أن الحكومة المغربية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، قرّرت في العام 2014 رفع الدعم بالكامل عن الوقود الأحفوري المُستخدَم في وسائل النقل.
وفي العام 2015، حدّد المغرب هدفًا جديدًا يتوخّى توليد 52 في المئة من احتياجات الكهرباء من مصادر الطاقة المتجدّدة بحلول العام 2030، بعد أن كان الهدف 42 في المئة سابقًا. ومن الإنجازات البارزة لهذه السياسة بناء محطّة "نور"، وهي أكبر مجمّع للطاقة الشمسية المركّزة في العالم. وقد تمكّنت الحكومة المغربية من تأمين مبلغ 3 مليارات دولار الذي كان يحتاجه هذا المشروع من مانحين من القطاع العام وكذلك مستثمرين من القطاع الخاص، ولا سيما مجموعة "أكوا باور" السعودية. سجّلت مصادر الطاقة المتجدّدة من السعة الكهربائية للمغرب بحلول العام 2023 حصة قدرها 37 في المئة، يتألّف الجزء الأكبر منها من الطاقة الريحية والطاقة الكهرومائية.
تتضمّن استراتيجية التحوّل الأخضر خارطة طريق لتقليل انبعاثات الكربون الصناعي، مع التركيز على قطاعات الإسمنت والصلب والأسمدة التي يصعب خفض الانبعاثات الكربونية فيها. وتُعدّ هذه العملية ضرورية كي تتمكّن البلاد من الحفاظ على قدرتها التنافسية ووصولها إلى الأسواق الأوروبية، ولا سيما على ضوء آلية الاتحاد الأوروبي الجديدة المتمثّلة في ضريبة الكربون الحدودية، التي سيفرض بموجبها رسومًا على المنتجات ذات الانبعاثات الكربونية الكثيفة. وتضطلع مجموعة المكتب الشريف للفوسفات (OCP Group)، المعنيّة باستخراج الفوسفات وتحويله إلى منتجات مشتقّة من الفوسفات مثل الأسمدة، دورًا محوريًا في هذا التحوّل. هذا ويُبدي المستثمرون الدوليون اهتمامًا متزايدًا بالمشاريع المخصّصة لإنتاج الهيدروجين الأخضر في المغرب ودمجه في العمليات الصناعية في البلاد.
لكن على الرغم من التقدّم المُحرَز حتى الآن، لا يزال إنتاج الكهرباء في البلاد من مصادر الطاقة المتجدّدة أقل من 20 في المئة من إجمالي الإنتاج، ما يمثّل عُشر الاستهلاك الإجمالي للطاقة الأساسية فقط، والذي لا يزال الوقود الأحفوري يهيمن عليه. ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، يجب ألّا تبقى جهود الحكومة محصورةً بقطاع الكهرباء، بل عليها وضع أهدافٍ لاستخدام الطاقة المتجدّدة في قطاعَي السكن والنقل. يشكّل نقص التمويل عقبةً في هذا الصدد، ولا سيما في وجه الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وبحسب بعض التقديرات، سيتطلّب التحوّل الأخضر في المغرب نحو 78 مليار دولار بحلول العام 2050.
إضافةً إلى الطاقة، تشكّل إدارة المياه قضية ملحّة. فلطالما عانى المغرب من ندرة حادّة في المياه، فاقمتها موجات الجفاف المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة. ولمعالجة هذا النقص، أطلقت المملكة المخطّط الوطني للماء 2020-2050، الذي تُقدَّر تكلفته بنحو 40 مليار دولار، على أن تُخصَّص استثمارات بقيمة 13 مليار دولار للفترة ما بين 2020 و2027، توفّر الدولة ما يصل إلى 60 في المئة منها، ويؤمّن نسبة 40 في المئة المتبقّية مستثمرون من خلال شراكات بين القطاعَين العام والخاص. وتنطوي الخطة على بناء تسع محطات جديدة لتحلية مياه البحر بحلول العام 2030، ليصل عددها الإجمالي إلى عشرين محطة تبلغ قدرتها الإنتاجية الإجمالية 1.4 مليار متر مكعب. إضافةً إلى ذلك، لا بدّ من زيادة سعة تخزين المياه العذبة من خلال تعجيل وتيرة بناء السدود والأحواض المائية ورفع معدّل إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المُعالَجة.
الاقتصاد المغربي في عالمٍ متعدّد الأقطاب
خلال فترة العقدَين ونصف العقد الماضية، سعى المغرب إلى توسيع شراكاته الاقتصادية الخارجية وتنويعها عبر إبرام مجموعة من اتفاقيات التجارة الحرة، واتفاقات التعاون، والمبادرات الاستراتيجية. وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يُعدّ منذ فترة طويلة أحد الشركاء الاقتصاديين الأساسيين للمغرب، شهدت المملكة انعطافًا نحو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وأصبحت صلة وصل عالمية في ظلّ مشهد جيوسياسي متعدّد الأقطاب على نحو متزايد.
الاتحاد الأوروبي شريكٌ راسخ وموثوق
أنشأ الاتحاد الأوروبي والمغرب منطقة تبادل تجاري حر في إطار اتفاق الشراكة الذي وقّعه الطرفان في العام 1996 ودخل حيّز التنفيذ في العام 2000. وبعد ربع قرن من الزمن، لا يزال الاتحاد الأوروبي أهم شريك اقتصادي للمغرب، ويُتوقَّع أن يبقى كذلك في المستقبل المنظور. فتجارة السلع مع الاتحاد الأوروبي مثّلت 49 في المئة من التبادلات الخارجية للمملكة في العام 2022، بحيث بلغت نسبة صادرات المغرب إلى الاتحاد الأوروبي 56 في المئة، ناهيك عن أن 45 في المئة من وارداته كان مصدرها الاتحاد الأوروبي. في ذلك العام، بلغت قيمة التبادلات التجارية بين الجانبَين 56.1 مليار دولار، وسجّلت تجارة الخدمات بينهما 12 مليار دولار. يُعدّ الاتحاد الأوروبي أيضًا أكبر مستثمر أجنبي مباشر في المغرب، بحيث بلغ الرصيد التراكمي للاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة إلى المملكة نحو 24 مليار دولار. علاوةً على ذلك، كان المغرب أحد أكبر المستفيدين من تمويل الاتحاد الأوروبي بموجب سياسة الجوار الأوروبية، إذ تلقّى 1.6 مليار دولار على شكل مساعدات ثنائية بين العامَين 2014 و2020.
صحيحٌ أن المغرب يسجّل عجزًا تجاريًا إجماليًا مع الاتحاد الأوروبي، إلّا أن الشراكة الاقتصادية بينهما حقّقت منافع كبيرة للطرفَين. وعلى الرغم من التوترات العرَضية بينهما، سهّلت هذه الشراكة زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة والصادرات الصناعية الأوروبية إلى المغرب، وعزّزت في الوقت نفسه قدرة المنتجين المغاربة على الوصول إلى الأسواق الاستهلاكية في الاتحاد الأوروبي. يُشار إلى أن تركيز الاتحاد الأوروبي على السيادة الاستراتيجية والصمود في وجه الأزمات شجّعه على نقل العمليات التجارية إلى بلدان مجاورة له، ما من شأنه أن يصبّ في صالح المغرب. لكن الاتحاد الأوروبي افتقر إلى الزخم الاقتصادي على مدى العقد الماضي، وفضّلت دوله التركيز على شؤونها الداخلية عبر الحدّ من الهجرة وتحقيق أمن الطاقة. وقد دفعت مثل هذه العوامل المغرب إلى خفض اعتماده المفرط على أسواق الاتحاد الأوروبي.
الانعطاف نحو أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى
في العام 2017، انضمّ المغرب مجدّدًا إلى الاتحاد الأفريقي، بعد غياب دام اثنين وثلاثين عامًا، وزاد انخراطه مع دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وكان ذلك مدفوعًا جزئيًا بالتنافس مع الجزائر ورغبته في الدفاع عن موقفه بشكل أفضل حول قضية الصحراء الغربية. وتجلّى هذا الانخراط من خلال استثمارات كبرى أطلقتها مجموعة المكتب الشريف للفوسفات، فضلًا عن مصارف وشركات مغربية عاملة في مجالات التأمين والاتصالات والبناء في بلدان أفريقية مطلّة على المحيط الأطلسي، وفي دول منطقة الساحل الحبيسة، ودول حوض نهر الكونغو. نتيجةً لذلك، أصبح المغرب ثاني أكبر مستثمر في القارة بعد جنوب أفريقيا. يُضاف إلى ذلك أن تحدّي الملك لميل النُخب المغربية تاريخيًا إلى "التحيّز للشمال"، عزّز انطباعات إيجابيةً أكثر عن الطلاب والمهاجرين من دول جنوب الصحراء.
شكّل انعطاف المغرب نحو أفريقيا جنوب الصحراء أيضًا ردّ فعل جزئيًا على مشروع التكامل المغاربي الذي كان بإمكانه أن يحقّق فوائد جمّة لو لم يُمنَ بالفشل. لكن النهج الجديد طموحٌ أكثر في نطاقه. وعلى الرغم من تعثُّر مساعي المغرب للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، حفّزته هذه الانتكاسة على بناء أشكال جديدة من التعاون، مثل المبادرة الأطلسية التي أُطلقَت مؤخرًا بهدف إقامة روابط اقتصادية دائمة بين البلدان الثلاث والعشرين المطلّة على ساحل المحيط الأطلسي لأفريقيا. وتأتي هذه المبادرة بعد انتقال التكامل الأفريقي من مرحلة الخطابات إلى مرحلة العمل، كما اتّضح من خلال المصادقة على منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية في العام 2019. مع ذلك، ينبغي الانتظار فترةً من الزمن قبل أن تصبح أفريقيا محرّكًا رئيسًا للنمو في المغرب. يُشار إلى أن صادرات المملكة إلى القارة الأفريقية كانت في العام 2022 مساوية لصادراتها إلى الولايات المتحدة وجنوب آسيا، لكنها لم تمثّل سوى 15 في المئة من صادراتها إلى أوروبا.
المغرب صلة وصل
في خضمّ التوترات المتصاعدة بين الدول الغربية وغير الغربية، تجنّب المغرب الانحياز إلى كتلة جيوسياسية دون أخرى، وبقي بمنأى عن التنافس بين قطبَي الاقتصاد العالمي، الولايات المتحدة والصين. صحيحٌ أن المغرب تجمعه علاقات تاريخية قوية مع الولايات المتحدة، ولا سيما أنه أحد أكبر حلفاء لواشنطن من خارج منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلّا أن مواقفه تجاه القضايا الدبلوماسية العالمية، بدءًا من الغزو الأميركي للعراق ومرورًا بالحرب بين روسيا وأوكرانيا ووصولًا إلى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كانت متماشية باستمرار مع توجّهات دول الجنوب العالمي. فقد اعتمدت المملكة مقاربة النفعية الاستراتيجية لتعزيز قدرتها على اغتنام الفرص الاقتصادية. ويندرج اتفاق تطبيع العلاقات مع إسرائيل في العام 2020 ضمن هذه الاستراتيجية نوعًا ما، على الرغم من أن هدفه الأساسي كان ضمان اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.
عزّزت الرباط شراكتها مع واشنطن بفضل اتفاقية التبادل الحر التي دخلت حيّز التنفيذ في العام 2006، وعمَدت في الوقت نفسه إلى توطيد علاقتها مع بكين في مجالَي التجارة والأعمال. وقد أثمر التعاون الصيني المغربي عن إطلاق مشروع مدينة "طنجة-تيك" في العام 2017، الذي من المُتوقَّع أن يضمّ 200 شركة تكنولوجيا صينية عند اكتماله بحلول العام 2027. وكان الأهم من ذلك ربما توقيع المغرب والصين اتفاقية خطة التنفيذ المشترك لمبادرة الحزام والطريق في العام 2022، لأنها تُتيح حصول المملكة على تمويل صيني لإنجاز مشاريع بنية تحتية ومشاريع مشتركة بين الشركات في مختلف المجالات.
يحاول المغرب أيضًا الاضطلاع بدور وساطة بين الشركات الصينية والأسواق الغربية. استثمرت شركات صينية كبرى لصناعة السيارات الكهربائية، مثل شركة بي واي دي (BYD)، مليارات الدولارات في قطاع السيارات سريع التوسّع في المغرب، بعد أن جذبها قرب المملكة الجغرافي من أوروبا واتفاقياتها التجارية مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. هذه الاستراتيجية، التي تتّبعها الشركات الصينية أساسًا في كلٍّ من المكسيك وفيتنام وإندونيسيا، تتيح لها فرصة التغلّب على العقبات التي تواجهها في الدول الغربية، وإمكانية الوصول إلى الأسواق الاستهلاكية في هذه البلدان. ونظرًا إلى دور المغرب المتنامي كوسيطٍ بين الصين والغرب، منحته مجلة بلومبرغ بيزنس ويك لقب "صلة وصل عالمية".
إرساء نموذج تنموي أشمل
على الرغم من نجاح استراتيجية المغرب القائمة على التصدير، سلّط تباطؤ النمو خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين الضوء مجدّدًا على التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي لا تزال تواجه البلاد. علاوةً على ذلك، وقع المغرب في فخّ الدخل المتوسط، وهو وضع حرج تتجاوز فيه الدولة عتبة الدخل المنخفض إلّا أنها تعجز عن بلوغ عتبة الدخل المرتفع. وقد بدأت المملكة في معالجة هذه القضايا من خلال صياغة نموذج تنموي جديد، لكن لا يزال عليها بذل الكثير من الجهود لإحداث تحوّل حقيقي.
العقبات الاجتماعية الاقتصادية
يعاني المغرب من أوجه تفاوت عميقة بين المناطق، وفجوة راسخة في الدخل بين سكان المدن والأرياف. وقد تجلّى ذلك بأوضح صوره عَقب الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز، وكذلك من خلال ارتفاع معدّلات العمل في القطاعات غير الرسمية، وانتشار البطالة في صفوف الشباب، ناهيك عن تدنّي انخراط النساء في سوق العمل. تكشف هذه التحديات عن التأثير المُثبِط للاقتصاد غير الرسمي، الذي يؤمّن نحو ثلثَي فرص العمل في البلاد، على الإنتاجية والنمو. وتنبع هذه المشاكل أيضًا من بطء وتيرة التحوّل الهيكلي للاقتصاد الرسمي واعتماده المتواصل على القطاع الزراعي، الذي لا يزال يوظّف ثلث القوى العاملة في البلاد. وباستثناء زراعة المحاصيل التجارية ذات العائد المالي العالي، يتأثّر القطاع الزراعي بشدّة بالعوامل الجوية، ما يؤدّي إلى تقلّب غلّة المحاصيل، وإلى العجز عن زيادة إنتاجية القطاع.
في ضوء هذه التحديات، كُلِّفت لجنة خاصة في العام 2019 بصياغة نموذج تنموي جديد لمضاعفة انخراط النساء في سوق العمل بحلول العام 2035، وخفض الوظائف غير الرسمية من 60 إلى 20 في المئة. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2020، وسط حالة الطوارئ الناجمة عن تفشّي وباء كوفيد-19، كشف الملك عن حزمة شاملة لإصلاح نظام الحماية الاجتماعية. أولًا، جرى توفير أرضية الحماية الاجتماعية (أي الضمانات والخدمات الاجتماعية الأساسية)، وتوسيع تغطية التأمين الصحي الإجباري والتحويلات المالية لتشمل 60 في المئة من الأسر الأكثر فقرًا واحتياجًا. ثانيًا، من المُقرَّر أن تشمل معاشات التقاعد وتعويضات البطالة جميع العمّال غير المأجورين بحلول العام 2025.
حتى الآن، يجري تمويل الإصلاحات من خلال إعادة توجيه الموارد المالية التي كانت مُخصَّصة لعددٍ من البرامج الاجتماعية، والسحب من صندوق تضامن وطني، ورفع الدعم تدريجيًا عن الغاز المنزلي. مع ذلك، ثمّة عددٌ من الثغرات الهيكلية المتعلقة بالإدارة والتمويل، التي لا تزال تعتري نظام الحماية الاجتماعية. وتتمثّل المسألة الأكثر إلحاحًا في تخصيص حيّزٍ مالي إضافي لضمان ديمومة برامج الحماية الاجتماعية وتعميمها على الجميع في المدى الطويل.
فخّ الدخل المتوسط
على غرار بلدان أخرى، يواجه المغرب الآن فخّ الدخل المتوسط، بحيث يتعيّن على نموذج النمو القائم على التصدير في البلاد التصدّي للمنافسة من بلدان منخفضة الدخل في الصناعات التي تتطلّب قدرًا كبيرًا من القوى العاملة، وأيضًا من اقتصادات مرتفعة الدخل في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا. ومن أجل الإفلات من هذا الفخّ والانتقال إلى خانة البلدان مرتفعة الدخل، تحتاج البلاد إلى زيادة الاستثمار في رأس المال البشري والبحث عن قطاعات جديدة خارج القطاع الصناعي لتحريك عجلة النمو، مثل الخدمات القائمة على كثافة المعرفة. في العام 2023، حلّ المغرب في المرتبة 70 على مؤشّر الابتكار العالمي من بين 132 دولة، وكان يمكن أن يحتلّ مرتبة أعلى لولا تصنيفه في المركز 111 في العالم من حيث استحداث فرص عمل في المجالات القائمة على كثافة المعرفة.
على جانب العرض، يشكّل تدنّي مستوى التعليم في المغرب عائقًا في وجه إحراز التقدّم في هذا المجال: فقد بلغ 18 في المئة فقط من الطلاب المغاربة مستوى الكفاءة 2 على الأقل في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة لمادّة الرياضيات، مقارنةً مع متوسّط منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديَّين البالغ 69 في المئة. وعلى جانب الطلب، يعكس انخفاض التوظيف القائم على كثافة المعرفة انتشار الأنشطة الرامية إلى توليد الريع، على حساب الأنشطة القائمة على الابتكار. ولتغيير ذلك، على المملكة اتّخاذ إجراءات أكثر صرامةً ضدّ رأسماليّة المحاسيب، التي تقوّض الكفاءة الاقتصادية، وأيضًا ضدّ ممارسات المحسوبية والمحاباة والرشوة، التي تضرّ بالتماسك الاجتماعي. ويُعدّ القرار الذي اتّخذه مجلس المنافسة وأفضى إلى فرض عقوبات على "كارتِل المنتجات النفطية" خطوةً في الاتّجاه الصحيح، لكن لا بدّ من تكثيف الجهود المبذولة في هذا الصدد.
خاتمة
لقد أحرز المغرب تقدّمًا كبيرًا على الصعيدَين الاقتصادي والاجتماعي خلال فترة ربع القرن الماضية. وقد ساعده الجمع الماهر بين الإصلاحات التي تركّز على جانبَي العرض والطلب في تجاوز الكثير من الأزمات. مع ذلك، سيتعيّن على المملكة إجراء المزيد من الإصلاحات المؤسسية والاستفادة بشكل أفضل من رأس مالها البشري من أجل تسريع وتيرة النمو الاقتصادي والاقتراب من شريحة البلدان مرتفعة الدخل. ويُفترَض أن تسهم هذه الإصلاحات في تحقيق تكافؤ الفرص في مجالات مهمّة مثل الحصول على التدريب والتعليم الجيّدَين، والتمويل، والمشتريات العامة.
تسبّب وباء كوفيد-19 بارتفاع مستويات الدين العام في المغرب، بما في ذلك الديون المضمونة من الحكومة، إلى أكثر من 80 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والدين الخارجي إلى أكثر من 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. في هذا الإطار، يوصي صندوق النقد الدولي باعتماد إجراءات الضبط المالي من أجل خفض حجم الدين نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي لمستويات ما قبل العام 2020. لكن تطبيق إجراءات الضبط المالي، ما لم يقترن بإصلاحات مالية كفيلة بتوسيع الحيّز المالي، قد يقوّض القدرة على تمويل الإصلاحات الهيكلية، ويؤخّر الاستثمارات الضرورية لدعم عملية التحوّل الاقتصادي.
تشكّل التهديدات الجيوسياسية عاملًا آخر قد يزيد من حالة اللايقين السائدة، ولا بدّ من إدارته بعناية. فقد تصاعدت التوترات مع الجزائر وأُعيد تأجيج الصراع المديد مع جبهة البوليساريو المتمرّدة بشأن الصحراء الغربية في العام 2020، عند تمزيق اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان مستمرًا منذ تسعةٍ وعشرين عامًا. وعلى الرغم من أن الخطة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء الغربية حظيت بدعم الولايات المتحدة وإسبانيا وفرنسا، تُعدّ العلاقات الدبلوماسية مع الجزائر، التي تدعم جبهة البوليساريو، حاليًا في أسوأ مراحلها. ومن شأن وضع استراتيجية لخفض التصعيد واستئناف المفاوضات أن تَحوْل دون انطلاق سباق تسلّح مُكلِف قد يسفر عن استنزاف الموارد المالية في وقتٍ تشتدّ الحاجة إليها.
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية (نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية). للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي.