المصدر: Getty

كسر الحلقة: نحو رؤية جديدة للنظام الغذائي في لبنان

تُعدّ الأزمة الغذائية في لبنان، الناجمة عن نظام غير متكافئ يحرم المزارعين المحليين من الاضطلاع بدور فاعل ويُهمل البيئة، فرصةً أمام البلاد للبحث عن مسار جديد لتحقيق العدالة الغذائية.

 نور عرفة و ميسون سكرية
نشرت في ٢٣ يناير ٢٠٢٤

مقدّمة

أصبحت الأسعار الباهظة للمواد الغذائية والنقص في هذه المواد – وفي مرحلة معيّنة، الطوابير الطويلة أمام الأفران لشراء الخبز – الواقع السائد في لبنان إثر الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد في العام 2019، والذي أسفر عن تداعيات ألقت بظلالها على مختلف القطاعات الاقتصادية وأدخلت البلاد في دوّامة التضخم المفرط. وبحلول كانون الأول/ديسمبر 2022، واجه 1.29 مليون مواطن لبناني (ثلث السكان المقيمين) و700,000 لاجئ سوري (نحو نصف مجموع اللاجئين السوريين في لبنان) حالة انعدام شديد للأمن الغذائي، فيما أشارت التقديرات إلى استمرار هذا المنحى في العام 2023. وقد سُجّلت مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي في أوساط المواطنين اللبنانيين المقيمين في عكار وبعلبك وطرابلس، وكذلك في أوساط اللاجئين السوريين، الذين تتضاءل قدرتهم على استيفاء الحدّ الأدنى من حاجاتهم من أجل تأمين سبل العيش.

يُنظَر إلى المأزق الذي يتخبّط فيه لبنان على الصعيد الغذائي بصورة أساسية بأنه من تبعات الانهيار الاقتصادي، إلا أنه في الواقع ناجمٌ عن أربع مشاكل متجذّرة هيكليًا في النظام الغذائي في البلاد وتتفاعل في ما بينها بما يزيد من حدّتها. وهذه المشاكل هي: انعدام الأمن الغذائي، والنقص في الإنتاج الغذائي، واستغلال اليد العاملة في القطاع الزراعي، وغياب الاستدامة البيئية. تقتضي معالجة هذه المشاكل الأربعة المترابطة إعادة النظر في النظام الغذائي اللبناني وبلورة رؤية غذائية جديدة تكون متجذّرة في مبادئ العدالة الغذائية، وتتيح للمواطنين اللبنانيين العاديين سيطرة أكبر على النظام الغذائي، وتعزّز حماية اليد العاملة الزراعية، وتعالج مسائل التوزيع والاستدامة.

تحليل مفصّل للأزمة الغذائية المتعدّدة الأوجه في لبنان

المشاكل الأربعة التي تقف وراء المأزق الغذائي الذي يعاني منه لبنان راهنًا ناجمة إلى حدٍّ كبير عن طبيعة النظام الاقتصادي في البلاد الذي لطالما اتّسم بالرأسمالية التجارية والاحتكارية. ولذا، من الضروري توسيع إطار التحليل ليشمل المشاكل الهيكلية الأوسع في النظام الغذائي من أجل تحديد سُبل الحؤول دون تكرار الأزمات الغذائية.

مشكلة انعدام الأمن الغذائي

أدّت الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان راهنًا، والتي بدأت في أواخر العام 2019، إلى تدهور قيمة العملة اللبنانية بعدما حافظت على استقرارها زهاء عقدَين من الزمن من خلال تثبيت سعر الصرف عند 1,500 ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي. بحلول أواخر آذار/مارس 2023، بلغ سعر الصرف 107,000 ليرة مقابل الدولار. وهكذا، بات متوسط الراتب الشهري للمواطن اللبناني، البالغ 2.5 مليون ليرة لبنانية في آب/أغسطس 2022، يعادل 15.6 دولارًا (وفقًا لسعر الصرف في آذار/مارس 2023). وتزامن انهيار العملة الوطنية مع ارتفاع بنسبة 500 في المئة في الأسعار بين كانون الأول/ديسمبر 2018 وتشرين الأول/أكتوبر 2021.

بلغ معدّل التضخم في أسعار المواد الغذائية مستويات مرتفعة جدًّا. فقد أشارت إدارة الإحصاء المركزي إلى أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت بمعدل عشرين ضعفًا بين كانون الأول/ديسمبر 2018 وتشرين الأول/أكتوبر 2021. على وجه التحديد، ووفقًا لما أوردته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، ازداد السعر الشهري للقمح (كما هو مبيّن في الشكل 1) والدجاج (كما هو مبيّن في الشكل 2) بمعدل يفوق سبعة وعشرين ضعفًا بين كانون الأول/ديسمبر 2019 وكانون الأول/ديسمبر 2022. في الواقع، يُصنَّف لبنان ضمن أوّل عشرة بلدان في العالم من حيث معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية في الآونة الأخيرة، وفي العام 2023، سجّل أعلى نسبة تضخم في أسعار المواد الغذائية حول العالم من حيث القيمة الاسمية والحقيقية.

أدّى التدهور المستمر في قيمة العملة، إضافةً إلى التضخم المفرط ووقف دعم المواد الغذائية، إلى تراجع حادّ في القدرة الشرائية للمستهلكين، ما حدّ بشدة من إمكانية الحصول على الغذاء. على سبيل المثال، بعدما بات 85 في المئة من اللبنانيين عاجزين عن تأمين المواد الغذائية الأساسية، أصبح أكثر من ثلث البالغين يفوّتون بعض وجبات الطعام اليومية. ولم تعد بعض الأسر تحرص على جودة الغذاء، فباتت تلجأ إلى وجبات طعام أرخص ثمنًا وأقل تغذية – ما يُعرِّض الأطفال لخطر الإصابة بسوء التغذية – فيما تضحّي أسر أخرى بالرعاية الصحية والتعليم من أجل جمع المال اللازم لتوفير الطعام. خلال العامَين الأوّلين من الأزمة، تحوّل النقص في المواد الغذائية إلى واقع جديد في لبنان الذي يعتمد على الاستيراد، وفي تلك الفترة أيضًا رُفِع الدعم عن المواد الأساسية. وعلى الرغم من أن مشكلة النقص في المواد انحسرت إلى حدٍّ كبير، تُسجّل أسعار السلع الأساسية مستويات مرتفعة جدًّا في الوقت الراهن بسبب الزيادة في تكاليف الاستيراد والانخفاض في احتياطي العملات الأجنبية. وقد وقعت أحداث عدة فاقمت أزمة انعدام الأمن الغذائي في لبنان، وعلى رأسها انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020 (إذ أصبحت صوامع الحبوب في المرفأ غير صالحة للاستخدام)، والاختلالات التي طالت سلاسل الإمداد بسبب تفشّي وباء كورونا، والحرب في أوكرانيا.

مشكلة النقص في الإنتاج الغذائي

ثمة جانب أساسي آخر يجب تسليط الضوء عليه في النقاش عن أزمة النظام الغذائي، وهو مشكلة الإنتاج الغذائي المستمرة منذ وقت طويل، والتي تعود إلى طبيعة الرأسمالية اللبنانية. بدايةً، وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي يتمتع بها لبنان لتحقيق الاكتفاء الذاتي، تعاني البلاد من ضعف شديد في الإنتاج الزراعي. ويُعزى ذلك بصورة أساسية إلى القطاع الزراعي غير المتطوّر الخاضع للسيطرة الاحتكارية والمُوجَّه نحو المحاصيل النقدية العالية القيمة، والتصدير. أُنشئت الدولة اللبنانية الحديثة في العام 1920 عَقِب المجاعة التي اجتاحت جبل لبنان (بين 1915 و1918)، الذي كان يعاني بعد تحوّله من المنتجات الزراعية المستهلكة محليًا إلى المحاصيل النقدية المخصّصة للتصدير مثل الحرير. لقد سعى مؤسِّسو لبنان إلى ضم مناطق زراعية مثل سهل البقاع إلى الدولة الجديدة، ونجحوا في ذلك. ولكن لم تبرز الزراعة في ما بعد، ولا سيما الزراعة الموجَّهة نحو الاكتفاء الذاتي الوطني، باعتبارها قطاعًا محوريًا في النظام الاقتصادي اللبناني. بدلًا من ذلك، استند الاقتصاد، منذ نشوء الدولة تقريبًا، ولكن بوجهٍ خاص بعد الاستقلال في العام 1943، إلى سياسات التغاضي وعدم التدخّل التي منحت الأفضلية للقطاعَين المصرفي والتجاري على حساب الزراعة والصناعة.

أتاح هذا النظام للبلاد الاضطلاع بدور الوسيط بين المجتمع الدولي والعالم العربي في المرحلة التي سبقت اندلاع الحرب. لكن لبنان فقدَ هذا الدور بسبب الحرب الأهلية (1975-1990) وصعود القطاع المصرفي في دول الخليج. مع ذلك، لم يخضع الاقتصاد اللبناني لعملية إعادة توجيه فعلية في مرحلة ما بعد الحرب، وظلّ يعتمد إلى حدٍّ كبير على قطاع البناء والقطاع المصرفي وقطاعات خدماتية أخرى.

كان إهمال الدولة المستمر للقطاع الزراعي سببًا مباشرًا في الاعتماد على الاستيراد، الذي لا يزال لبنان يعاني منه حتى يومنا هذا. فعلى سبيل المثال، يستورد لبنان نحو 80 في المئة من المواد الغذائية التي يستهلكها اللبنانيون، ولا يلبّي الإنتاج الزراعي الغذائي المحلي سوى 20 في المئة فقط من الطلب المحلي. حتى إن هذا الاعتماد على الاستيراد بكميات كبيرة يطال الحبوب والقمح اللذين يُعدَّان من المواد الغذائية الأكثر استهلاكًا من اللبنانيين. وفي هذا الصدد، يُشار مثلًا إلى أن نسبة 96 في المئة من القمح المستهلك في لبنان تُستورَد من أوكرانيا وروسيا (80.4 في المئة من أوكرانيا و15.5 في المئة من روسيا). شكّل هذا الاعتماد على الواردات الغذائية عاملًا مباشرًا في أزمة انعدام الأمن الغذائي التي يشهدها لبنان راهنًا، إذ أصبحت البلاد أكثر عرضةً للتأثّر بالصدمات الداخلية مثل تدهور قيمة العملة المحلية والانهيار الاقتصادي، وأيضًا بالصدمات الخارجية مثل تداعيات الحرب في أوكرانيا. وكذلك أدّى إهمال القطاع الزراعي، مقرونًا بالتمدّد الحضري المتزايد، إلىتقلُّص مستمر في مساحة الأراضي الزراعية في لبنان، ما تسبّب بتقويض إضافي للإنتاج الزراعي. حاليًا، تمثّل الأراضي المزروعة أقل من ربع مجمل مساحة البلاد، وهي بالتالي غير كافية لتلبية الحاجات المحلية من المواد الغذائية. علاوةً على ذلك، تسيطر نسبة عشرة في المئة من مالكي الأراضي على ثلثَي الأراضي الزراعية، وإلى حدٍّ كبير على سلسلة السلع الغذائية، مع الإشارة إلى أن قسمًا كبيرًا من الأراضي ذات المساحات الشاسعة يرتبط مباشرةً بشخصيات سياسية نافذة.

علاوةً على ذلك، وفي ضوء نظام الرأسمالية التجارية والتوجّه السائد نحو إنتاج المحاصيل النقدية، فإن ما يُنتَج من مواد غذائية في لبنان هو بداعي الربح المادي في معظم الأحيان. وقد منح ذلك المصدّرين، ومعظمهم من مدن بيروت وطرابلس وزحلة وصور، نفوذًا ومكاسب مادّية، وأدّى أيضًا إلى حوافز ضارّة واختلالات مزمنة في الإنتاج الزراعي، مع تبدّل مستمر لأنواع المحاصيل النقدية وزراعة الفواكه بحسب حاجات السوق. فغالبًا ما تُقلَع الأشجار وتُستبدَل استجابةً لطلبات السوق المتبدّلة، إذ تُستبدَل أشجار المشمش بالتفاح، ثم تُستبدَل بعض أصناف التفاح بأخرى، بحسب حاجات السوق. خلال الأزمة الراهنة، يعمد المزارعون مثلًا إلى اقتلاع أشجار التفاح، التي تحتاج إلى أسمدة تُباع بالدولار الذي يزداد شحًّا، ويزرعون مكانها أشجار المشمش التي تتطلّب عناية أقل.

في ظل إحكام المموّلين ومالكي الأراضي قبضتهم على السوق في ما يشبه احتكار القلة،وتركُّز ملكية أراضٍ شاسعة في أيدي حفنة من الأشخاص، تفاقمت أوجه التفاوت المنهجي في مختلف المناطق اللبنانية، وعانى المزارعون من الإفقار. مثلًا، في سهل البقاع الذي يُعَدّ المنطقة الزراعية الأكبر في لبنان، تمارس الطبقة التجارية الحضرية احتكارًا على الصادرات الزراعية، وتُحدّد بنفسها أسعار الفواكه والخضار، في حين أن المزارعين غير مُدرَجين في سلسلة القيمة الغذائية، ما يتسبّب بإضعافهم أكثر فأكثر. وينطبق الأمر نفسه على قطاع تجهيز الطعام وتوزيعه، الذي تُمسك به حفنة صغيرة من تجّار الجملة الذين يقرّرون أسعار السوق. وهذا يؤثّر سلبًا على توفر المواد الغذائية وإمكانية الحصول عليها، ويؤدّي إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض جودة الغذاء. وقد منحت بعض السياسات الحكومية أيضًا مزيدًا من النفوذ للجهات التي تمارس الاحتكار، مثلًا من خلال دعم منتجات زراعية محدّدة تسيطر عليها عائلات معيّنة. في المجمل، تسبّب هذا النظام، مقرونًا بتخصيص الدولةما نسبته 0.87 في المئة فقط في المتوسطمن موازنتها السنوية لوزارة الزراعة بين العامَين 1992 و2006، بتراجع حصّة الزراعة من إجمالي الناتج المحليمن 4.9 في المئة في العام 2007 إلى 1.4 في المئة في العام 2021.

مشكلة اليد العاملة الزراعية

يرتبط جانب آخر من جوانب الأزمة الغذائية في لبنان باليد العاملة في القطاع الزراعي. فقد أدّت أنماط ملكية الأراضي وتوزيعها، وسياسات الدولة الداخلية، والحروب، والتركيز على المحاصيل النقدية، إلى نزوح عدد هائل من سكان المناطق الريفية إلى المدن. وبحلول أوائل العام 1975، قُبيل اندلاع الحرب الأهلية، كانت عملية النزوح الداخلي، المستمرة منذ عقود آنذاك، قد أسفرت عن انتقال 40 في المئة تقريبًا من سكان الأرياف إلى مدينة بيروت على وجه الخصوص.

وفيما واصل بعض هؤلاء النازحين نشاطهم في القطاع الزراعي في ضواحي المدن، زاول بعضهم الآخر العمل المأجور أو تولّوا وظائف في مؤسسات الدولة. أعقب هذه الموجة الأولى نزوحٌ ضخم وأشدّ تركيزًا من الجنوب، الذي يضم مناطق زراعية مهمة، نتيجة الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 (واستمر الاحتلال حتى العام 2000). وأدّى هذا النزوح إلى حدوث نقص مزمن في اليد العاملة في القطاع الزراعي، وإلى استمرار تراجع الإلمام المحلي بممارسات الإنتاج الغذائي الوطني الملائمة بيئيًا.

وعلى مرّ السنوات، تم تعويض تناقص اليد العاملة الزراعية من خلال توظيف مهاجرين ولاجئين كانوا يتألفون تاريخيًا من الفلسطينيين، ومن المهاجرين السوريين بدءًا من تسعينيات القرن المنصرم، ثم من اللاجئين السوريين بعد العام 2011. وقد فاقم هذا الاعتماد على العمّال المهاجرين تدهور قيمة العمل الزراعي، واستغلال العمّالومن ضمنهم الأطفال، نظرًا إلى أن معظم القوى العاملة في الزراعة تتألّف من عمّال موسميين يعملون بشكل غير نظامي. علاوةً على ذلك، لم تمتلك فئة "المزارعين" يومًا وضعًا قانونيًا في البلاد. وهكذا، لا يتمتّع العمّال الزراعيون بظروف عمل لائقة وحماية اجتماعية، وهم أيضًا عرضةٌ لممارسات تمييزية على مستويَي التعويضات والمعاملة.

على سبيل المثال، قبل الأزمة الاقتصادية الراهنة، كان الرجال السوريون العاملون في القطاع الزراعي في البقاع وعكار يجنون أجرًا يوميًا لا يتجاوز 8,000 إلى 10,000 ليرة لبنانيةمقارنةً مع نحو 6,000 ليرة في اليوم للنساء السوريات العاملات في القطاع الزراعي. في المقابل، كان اللبنانيون العاملون في القطاع الزراعي يجنون ما بين 20,000 و40,000 ليرة في اليوم.علاوةً على ذلك، في الكثير من الأحيان، كان العمّال الزراعيون يتقاضون أدنى الأجور وكانوا غير محصّنين ماليًامقارنةً مع العاملين في جميع القطاعات الأخرى. وقد أدّى الاعتماد الشديد على اليد العاملة الزراعية المستغلّة وتدهور وضع العمّال الزراعيين إلى غياب الاستثمار في الابتكارات التكنولوجية في مجال الإنتاج الغذائي بمراحله كافة، ما تسبّب بتدنّي الإنتاجية وبأزمة استدامة.

مشكلة الاستدامة البيئية

أدّت طبيعة الإنتاج الذي يحتاج إلى رأسمال كثيف في لبنان إلى حدوث أزمة استدامة بيئية، ولا سيما أن ممارسات الإنتاج الغذائي غير مستدامة في البلاد. فقد ألحق الاستخدام الكثيف للمواد الكيميائية الزراعية ، على غرار المبيدات والأسمدة الصناعية، بهدف إنتاج أقصى قدر من المحاصيل والمكاسب، أضرارًا كبيرة بالبيئة، إذ إن هذه المواد الكيميائية تتغلغل في التربة وتلوّثها، ما يقوّض نمو المحاصيل ويقلّص الإنتاجية الزراعية.

تبرز المشاكل البيئية أيضًا بسبب الاعتماد المتزايد على الزراعة الأحادية المحصول ، وهي مقاربة تجارية واسعة النطاق تشمل زراعة محصول واحد في مساحة كبيرة. ويؤدّي ذلك إلى فقدان التربة مواد مغذّية أساسية وخسارة التنوّع البيولوجي، ما يزيد من احتمال فشل المحاصيل، ويقلّص الإنتاجية الزراعية، ويفاقم مخاطر نقص المواد الغذائية. وأسفرت الزراعة الواسعة النطاق أيضًا عن إزالة الغابات، ملحقةً ضررًا إضافيًا بالتنوّع البيئي، فضلًا عن تراجع خصوبة التربة ووفرة المياه.

وتتجلّى مشكلة الاستدامة البيئية في لبنان بأوضح صورها في النقص المتزايد في المياه العذبة. فقد أدّى الاستخدام الكبير للمواد الكيميائية الزراعية، والضخّ المفرط للمياه الجوفية، وتفريغ مياه الصرف الصحي غير المُعالجة والمخلّفات الصناعية ومياه الصرف الزراعي في الأنهر، إلىتلوّث المياه في لبنان. ويشير أحد التقديرات إلى أن أكثر من نصفالموارد المائية في البلاد ملوّثة، فيما يؤكد تقدير آخر أن 90 في المئة من المياه في المدن ملوّثة. وتلوّث المياه لا يؤثّر على جودة مياه الشربفحسب، بل أيضًا على الإنتاج الزراعي وسلامة المواد الغذائية، لأن المياه الملوّثة غير المُعالجة تُستخدم في الريّ وتسبّب بالتالي التلوّث الجرثومي للنباتات المرويّة والمحاصيل الجديدة.

وقد تزامنت مشكلة تلوّث المياه مع نقص المياه بصورة متزايدة في لبنان نتيجة أنظمة الريّ غير الفعّالة. فقد شهدت العقود الأربعة الماضيةتراجع مصادر المياه السطحية بأكثر من 55 في المئة، وتدنّي تصريف المياه من نهرَي الليطاني والدامور والنهر الكبير بنسبة 40 في المئة. وخلال الفترة نفسها، جفّت نسبة 60 في المئة من الينابيع في لبنان.

ركائز ثلاثة للعدالة الغذائية في لبنان

في أعقاب الأزمة الراهنة، اقتُرحت بدائل كثيرة لتحقيق الأمن الغذائي في لبنان، إلّا أن معظم الحلول المطروحة هي تقنية وبرامجية وتجسّد هيمنة النظام الرأسمالي التجاري. وبالتالي، فهي تخلو من التحليل الاجتماعي النقدي، وتفتقر إلى نظرية الدولة، ولا تقدّم تحليلًا لأنماط الإنتاج والتبادل.

على سبيل المثال، يركّز عدد من توصيات السياسة العامة التي تطرحها منظمات المجتمع المدني والقطاعان العام والخاص على ترويج زراعة المحاصيل النقدية (مثل البطاطا بهدف بيعها إلى العراق). وتسلّط حلول أخرى صادرة عن المجتمع المدني الضوء على الزراعة الدائمة والتعاونيات الزراعية، أو على توفير الدعم على شكل مواد كيميائية زراعية وقطعان من الماشية لمؤازرة المجتمعات المحلية الريفية. وعلى الرغم من أن هذه الحلول تُفيد كإجراءات مؤقّتة، إلّا أنها غير قادرة على معالجة المشاكل البنيوية التي ولّدت أوجه تفاوت على المستويات كافة، واستنفدت إمدادات المياه، وألحقت الضرر بالبيئة. وقد أُطلقت خلال السنوات الأخيرة مبادرات عدّة جديرة بالثناء في مجال الأغذية في لبنان، على غرار سوق الطيب وجمعية التجارة العادلة (Fair Trade)،بيد أنها لم تتمكّن حتى الآن من بلورة رؤية غذائية جديدة من شأنها معالجة المشاكل البنيوية الأساسية في البلاد.

وبما أن فترات الأزمات توفّر فرصًا مناسبة لصياغة رؤى وتصوّرات سياسية جديدة، تبدو الفرصة سانحة اليوم أمام لبنان لإعادة النظر في نظامه الغذائي. فأزمة الغذاء لن تنتهي إلا إذا عمد المسؤولون اللبنانيون إلى معالجة المشاكل المرتبطة بالإنتاج الغذائي واليد العاملة والبيئة، إضافةً إلى أوجه اللامساواة القائمة. وعلى وجه التحديد، ينبغي على النظام الغذائي الجديد معالجة المشاكل البنيوية التي تعيق لبنان.

يجب أن تستند الرؤية الغذائية الأمثل لحالة لبنان إلى ثلاث ركائز، وأن تكون متجذرة في مبدأ العدالة الغذائية. يمكن تعريف العدالة الغذائية بأنهاحق السكان المحليينبمن فيهم سكان المدن، في السيطرة على نُظمهم الغذائية الخاصة - ومن ضمنها الأسواق، والموارد الإيكولوجية، والثقافات الغذائية، وأنماط الإنتاج – وفي تحدّي سيطرة الشركات على النُظم الغذائية. ويسعى مبدأ العدالة الغذائية أيضًا إلى إنشاء نظامٍ غذائي عادل ومنصف ومستدام وشامل للجميع. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من معالجة العقبات البنيوية التي تعيق إمكانية حصول المواطنين على مواد غذائية صحية ومستدامة.

تعتمد الركيزة الأولى على تحقيق الأمن الغذائي من خلال التشجيع على إنتاج الأغذية بهدف استهلاكها محليًا، وبالتالي تخفيف الاعتماد على السوق وتقلّبات أسعار العملات. ويستلزم ذلك إعادة تقييم الإنتاج الزراعي الصغير النطاق، وخفض الاعتماد على أشكال الإنتاج التي تحتاج إلى رأسمال كثيف، ومراعاة السياقات الاجتماعية والبيئية بشكل أكبر، إضافةً إلى الاستثمار في إنشاء شبكات إمدادٍ تسهم في تحقيق الرفاه العام، بدلًا من تلك التي تكتفي بتحقيق القيمة.

يرتبط بهذه الفكرة إصلاح نظام الإنتاج الغذائي الذي يمثّل الركيزة الثانية في الرؤية الغذائية الجديدة، ولا يمكن تحقيق هذا الإصلاح سوى من خلال إدخال تغييرات بنيوية على الاقتصاد السياسي اللبناني. وتنطوي هذه التغييرات على إعادة إدراج قضية الزراعة في صُلب الأولويات وإضفاء قيمة أكبر على القطاع الزراعي، وإرساء مزيدٍ من التوازن بين مختلف القطاعات الاقتصادية، ومعالجة مشكلة التفاوت الكبير في أنماط ملكية الأراضي الزراعية، ووضع حدٍّ للاحتكار في توزيع المواد الغذائية وحفظها. ومن المهم أيضًا إلغاء الممارسات الاستغلالية للنظام القائمة على أُسس طبقية، من خلال العمل على تعزيز مبادئ عدّة منها: تنظيم الوضع القانوني للمزارعين؛ وتوسيع برامج الحماية الاجتماعية لتشمل المزارعين الفقراء، وتوفير الضمان الاجتماعي لهم؛ ودفع أجور منصفة، وضمان ظروف عمل لائقة للعاملين في النظام الغذائي؛ والسماح للعمّال الزراعيين بالانتساب إلى النقابات العمّالية؛ ومعاملة العمّال المهاجرين بالطريقة نفسها التي تنطبق على اليد العاملة المحلية؛ ومواكبة الابتكارات التكنولوجية، ما يمكن أن يعالج بعض جوانب مشكلة استغلال اليد العاملة.

ختامًا، ومن أجل صون حقوق الأجيال المقبلة، من الضروري ضمان تحقيق الاستدامة البيئية والزراعية. وينطوي ذلك على الحدّ من إهدار الأغذية ودعم الزراعات المحلية، والتشجيع على اتّباع ممارسات مستدامة للإنتاج الغذائي، مثل الزراعة العضوية واستخدام الأسمدة العضوية والبذور الأصلية لتفادي تلوّث المياه والبيئة. وعلى المجتمعات المحلية أيضًا تبنّي تقنيات الزراعة الإيكولوجية التي تسعى إلى تحقيق الاستدامة من خلال التركيز على المبادئ الإيكولوجية البيئية وعلى عمليات الإنتاج الزراعي، وتتمحور حول نُظم الزراعة المستدامة المراعية للبيئة والرامية إلى الحفاظ على التنوع البيولوجي، والدفع باتّجاه تحقيق العدالة الاجتماعية، واضعةً في صُلب أولوياتها تعزيز اضطلاع المزارعين بدور فاعل وتحقيق السيادة السياسية.

خاتمة

يُعزى تأسيس لبنان الحديث جزئيًا إلى المجاعة التي ألمّت بجبل لبنان، بعد التحوّل نحو زراعة المحاصيل النقدية المدرّة للربح، على حساب المنتجات الزراعية التي تُستهلَك محليًا. لكن الدولة اللبنانية الحديثة اتّبعت سياسات التغاضي وعدم التدخّل، بدلًا من العمل على بناء اقتصاد أكثر استدامةً وإنصافًا. تشكّل الأزمة الغذائية الراهنة فرصة لبلورة رؤية سياسية مختلفة للبنان، تكون متجذّرة في نظام عادل ومنصف لكلٍّ من المزارعين واليد العاملة والبيئة واللبنانيين عمومًا، من أجل تجنّب الممارسات الاحتكارية والاستغلالية على كافة المستويات. لإنجاز ذلك، لا بدّ من تمكين مزارعي المحاصيل الغذائية (سواء في الأرياف أو المدن) عبر الاعتراف بدورهم الفاعل، وإعطاء الأولوية للمعرفة والممارسات المحلية بدلًا من تحويل مسألة الغذاء واليد العاملة الزراعية إلى مجرّد سلعة، ومعالجة مشكلة التفاوت الكبير في أنماط ملكية الأراضي في لبنان. ولا يمكن تحقيق ذلك إلّا إذا تولّت الدولة اللبنانية زمام عملية إعادة توزيع الثروات المُنتَجة في الاقتصاد، بدلًا من أن تواصل الإبقاء على التركيبة الطبقية القائمة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.