مواجهة التحديات البيئية في مصر

تواجه مصر وضعًا بيئيًا دقيقًا، إذ يؤدّي تغير المناخ إلى تداعيات خطيرة تلقي بظلالها على اقتصاد البلاد وسيادتها واستقرارها. وقد تنجم سلسلة من العواقب الوخيمة عن سوء التكيّف مع الاضطرابات المناخية أو الاستمرار بالنهج المعتاد.

 يزيد صايغياسمين حسيننادين وهابجاستن دارغنندى عرفات, و أوليفيا لازارد
نشرت في ٥ ديسمبر ٢٠٢٣

تحرير يزيد صايغ

حقّقت مصر تحسينات ملحوظة في بعض القطاعات، إلا أنها لا تزال من بين أسوأ الملوِّثين البيئيين في المنطقة في قطاعات أخرى. استضافت البلاد مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ للعام 2022 (المعروف باسم COP27)، ما أتاح لها فرصة المساعدة في تعزيز الأجندة البيئية العالمية، ولا سيما في ما يتعلق بالتعافي والتجديد. لكن تتسارع الحاجة الملحّة إلى العمل داخل مصر.

في العام 2019، كان نصيب الفرد من البصمة البيئية الإجمالية في مصر أعلى بـ5.3 أضعاف من نصيب الفرد من القدرة الحيوية، ما يعني أن مجموع وارداتها من القدرة الحيوية من خلال التجارة وتصفية الأصول البيئية الوطنية وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون كانت أكبر من قدرة أنظمتها البيئية على استيعابها. وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، ارتفع متوسط درجة الحرارة في مصر بنحو 1.6 درجة مئوية، وقد يسجّل قريبًا زيادة مؤقتة تصل إلى 3 درجات مئوية بسبب ظواهر عابرة مثل بداية ظاهرة النينيو المناخية.

وكما أشار تقرير المناخ والتنمية الخاص بمصر الصادر عن البنك الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، "سيؤدي ارتفاع درجات الحرارة والمزيد من موجات الحر إلى رفع معدّل التبخر المرتفع بالفعل، وتسريع عملية نتح المحاصيل، وزيادة جفاف التربة والتأثير سلبًا على وظيفتها، وزيادة الاحتياجات من المياه للاستهلاك البشري والزراعة". ويفضي ارتفاع منسوب مياه البحر إلى تسريع تدهور السواحل ويهدّد بإغراق دلتا النيل، ما قد يسفر عن نزوح ملايين السكان واستبعاد مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة من العملية الزراعية في واحدة من "النقاط الساخنة الثلاث الرئيسة المعرّضة للخطر في العالم"، وفقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.

ولكي تتمكن مصر من مواجهة هذه التحديات وغيرها من التحديات البيئية بطرق مجدية اقتصاديًا ومرغوبة اجتماعيًا، يتعيّن عليها أن تعمل بفعالية مع مجتمعها المدني وشركائها الأجانب. وسوف يتطلّب هذا الأمر الشفافية والشمول في التصميم والتنفيذ ومراحل ما بعد التسليم لاستراتيجيات التخفيف والتكيف البيئي، إضافةً إلى عناصر مهمة أخرى.

تناقش هذه المجموعة من المقالات ما يتم القيام به لمواجهة التحديات البيئية التي تعصف بمصر في عيِّنة من القطاعات، والتأثيرات المتتالية لتغير المناخ على البلاد، والتكاليف المحتملة لسوء التكيف.

مصر في عصر الأنثروبوسين: متابعة النهج المحفوف بالمخاطر في خضم أزمة المناخ

قد يسجّل التاريخ أن العام 2023 هو أحد الأعوام الذي سرّع خلاله عصر الأنثروبوسين (أي عصر التأثير البشري) مسار البشرية بشكل ملحوظ نحو تدهور بيئي عالمي هائل أسفر عن تداعيات متعدّدة الأبعاد. لقد شكّل ذوبان القمم الجليدية حدثًا غير مسبوق، وعانت منطقة شمال المحيط الأطلسي من أول موجة حر على الإطلاق، وحطّمت درجات الحرارة خلال فصل الصيف في النصف الشمالي من الكرة الأرضية أرقامًا قياسية لم تُسجّل منذ 120,000 عام، وضربت كوارث غير مسبوقة أجزاء كثيرة من العالم. وهذه مجرّد بداية قصة أكبر من صنع الإنسان حول تغير المناخ الجامح وفشل السلة الغذائية والتراجع عن العولمة.

وكما هو الحال في الكثير من البلدان، ثمة عوامل اقتصادية عالمية عدّة خارجة عن سيطرة مصر، لكن الخيارات التي تتّخذها في التعامل مع رأسمالها البيئي سوف تحدّد ما إذا كان بوسعها أن تظل دولة قابلة للاستمرار اقتصاديًا في عالم يعاني من اضطرابات المناخ.

السياق الجيولوجي والمناخي

كانت مصر القديمة من أوائل الحضارات التي ازدهرت إلى حدٍّ كبير بفضل وفرة الموارد الطبيعية والموثوقية النسبية للمناخ. فقد أدانت بازدهارها إلى نهر النيل الذي أدّى إلى ولادة مجتمع زراعي مبكر أنتج أنظمة سياسية واقتصادية معقدة وملمّة بالقراءة والكتابة. ولكن فيما نظر المصريون القدماء إلى النيل كمصدر للحياة، فإن خلفية العصر الجيولوجي الهولوسيني الحديث والتسلسلات الجيولوجية التي سبقته هي التي أوجدت النيل في الأساس. بمعنى آخر، على الرغم من أن البشرية تنظر إلى مصر القديمة باعتبارها إحدى بدايات التاريخ البشري، فهي في الواقع مجرد مستفيد من العمليات الجيولوجية والجوية المعقدة التي أدت في نهاية المطاف إلى نوعٍ من الموثوقية البيئية، والقدرة على التنبؤ، والوفرة التي أتاحت للحضارة المعقّدة فرصة الازدهار. واليوم، في ظل المخاطر المُحدقة بالنيل والإرهاق البيئي المعمّم في مصر، والذي يتفاقم بسبب عدم القدرة على التنبؤ والتدهور الاجتماعي والاقتصادي، أصبح الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد المصري واستقرار البلاد وسيادتها على المحك.

لا يزال الجدل دائرٌ في أوساط العلماء حول أهمية عصر الأنثروبوسين وخصائصه ومتى بدأ بالضبط. يرى البعض أنه رأى النور عندما أنشأ البشر المستوطنات الزراعية، وبدأوا بالتالي بتحويل المساحات الطبيعية بشكل نشط، ما أخلّ بالتدفقات البيوكيميائية التي كانت قائمة على أساس تكافلي بين الاستقرار الجوي والبيئي. والمفارقة أن ذلك قد جعل مصر القديمة والحضارات المتفرّعة عنها أولى الوافدين إلى عصر الأنثروبوسين. ويرى آخرون أن هذا العصر قد تسارع، إن لم يكن قد بدأ، في وقت قريب من الثورة الصناعية، عندما ازدادت انبعاثات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي بشكل مفرط (نتيجة حرق الوقود الأحفوري) وبدأت بتغيير مخزون الغلاف الجوي وتكوينه، ما أدّى إلى نشوء ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي بشكل لا يمكن الرجوع عنه. وفي هذه الحالة، يمكن اعتبار مصر لاعبًا مهمًا بسبب تراكم ريوعها السياسية والاقتصادية من اعتمادها على الغاز الطبيعي والنفط. ومع ذلك، لا يقارَن استهلاكها للطاقة باستهلاك المجتمعات الأوروبية والأميركية، لكن المصريين يتعرّضون بوتيرة متسارعة للصدمات الناجمة عن تغير المناخ.

شهد العام 2023 الأشهر الأكثر سخونةً منذ 120,000 عام. فخلال حزيران/يونيو وتموز/يوليو، سجّلت مناطق من مصر بانتظام درجات حرارة أعلى من 40 درجة مئوية. وشهدت إيطاليا، على الجانب الآخر من حوض البحر الأبيض المتوسط من مصر، موجة حر شديدة أدّت إلى طقس عاصف تخلّله حدوث إعصار. وفي العام نفسه أيضًا، أكد العلماء أن المحيط المتجمّد الشمالي يمكن أن يشهد مواسم صيف خالية من الجليد بحلول العام 2030، فيما أكدت الأمم المتحدة أن توافر المياه العذبة يمكن أن يكون أقل بنحو 40 في المئة من الطلب بحلول العام 2030. وفي الوقت نفسه، تجاوز تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عتبة الـ420 جزءًا في المليون، وهو ارتفاع كبير عن العتبة الأصلية البالغة 350 جزءًا في المليون التي اعتبرها العلماء آمنة عند تقييم المخاطر المرتبطة بالمناخ. ويعني هذا الأمر زيادة قدرها 1.1 درجة مئوية في متوسط درجة الحرارة العالمية، مقارنةً مع مستوى ما قبل الثورة الصناعية.

لقد حذّر علماء المناخ ونظام الأرض بشكل حاسم من أن زيادة درجة الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية ليست مجرد هدف سياسي، بل هو الحد الفيزيائي الحيوي الذي ستبدأ النظم البيئية بعده سلسلةً من التحوّلات المتتالية، بدءًا بانهيار الصفائح الجليدية حول القطبَين. وسبق أن أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في العام 2023 أن ثمة فرصة بنسبة 66 في المئة لتجاوز عتبة 1.5 درجة مئوية في عام واحد على الأقل بين العامَين 2023 و2027، وأن هذا الشرط قد ينجم على الأرجح عن دورة جديدة لظاهرة النينيو، وهي ظاهرة تذبذب محيطية ترتبط عادةً بارتفاع شديد في درجات الحرارة والكوارث الطبيعية. وقد يكون هذا التجاوز مؤقتًا، لكن فقط إذا بدأت البشرية بشكل جماعي في الحدّ بشكل كبير من استخدام الوقود الأحفوري. وفي العام 2022، كان العالم لا يزال يعتمد على الوقود الأحفوري، على نحو متعنّت، بنسبة 82 في المئة.

مسار مصر

في مصر، تظهر هذه التغيرات العالمية على نحو أسرع من أي مكان آخر، إذ تُعدّ مصر جزءًا من منطقة ترتفع فيها درجات الحرارة بمعدّل ضعفَي المتوسط العالمي. ويُترجَم متوسط ارتفاع درجة الحرارة العالمية نحو 1.5 درجة مئوية إلى ارتفاع قدره 3-4 درجات مئوية في مصر والدول المجاورة. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا الأمر سيحوّل مصر إلى مكان غير صالح للعيش بشكل كامل أو جزئي. ولكن لا شك في أن أشهر الصيف سوف تصبح صعبة التحمّل، وسوف تتأثّر الموارد الطبيعية في مصر بشدة، ما سيؤدي إلى تقويض النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على نحو قد لا يسهل توقّعه دائمًا.

وبحلول العام 2025، قد تنخفض إمدادات المياه في مصر إلى أقل من 500 متر مكعب للفرد، وهو المستوى الذي يحدّده علماء الهيدرولوجيا بأنه مستوى "الندرة المطلقة"، وذلك قبل الوصول إلى متوسط 1.5 درجة مئوية المحتمل على المستوى العالمي؛ وإذا حدث ذلك، سيؤدي إلى المزيد من تبخّر المياه، وانخفاض أنماط هطول الأمطار، وزيادة الاضطرابات المناخية المرتبطة بالمياه، مثل الفيضانات وموجات الجفاف الطويلة.

وستعاني بشكل خاص منطقة دلتا النيل، حيث تقع المدن الكبرى وتوجد الكثافة السكانية الأعلى في مصر. إنّ ارتفاع معدلات تبخّر المياه وانخفاض هطول الأمطار سيفاقمان بشكل كبير الانخسافات الأرضية ومعدلات الجفاف نظرًا إلى أن الدلتا هي الموقع الأخير لتدفّق نهر النيل. إضافةً إلى ذلك، إذا استمر العالم في اتّباع ما تصفه الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ بسيناريو الانبعاثات المرتفعة، فسوف يرتفع أيضًا منسوب مياه البحر، ما سيؤثّر بشكلٍ مباشر على الساحل المصري، ليس فقط بسبب التآكل ولكن أيضًا بسبب زيادة الملوحة.

في الواقع، ستواجه مصر بشكل متزايد تحديات بيئية بسبب ارتفاع درجات الحرارة، والانخفاض الحاد في الموارد المائية، والانخساف الأرضي وزيادة الملوحة والكوارث الطبيعية. وسوف تشمل التأثيرات البيئية اضطرابات على مستوى الاقتصاد الكلّي المرتبطة بالندرة والصدمات، ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بالظلم المناخي واتّساع فجوة التفاوت والتهميش (التي تفاقمت بسبب الافتقار إلى شبكات الأمان الاجتماعي). وسيؤدّي ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرات ذلك على إنتاجية العمل والنشاط الصناعي، فضلًا عن قلّة الأراضي الزراعية، إلى زيادة العجز في الميزان التجاري. وفي ظل تزايد انكماش القطاع الزراعي في مصر وزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية، ستصبح البلاد أكثر عرضةً للضغوط التضخمية الناجمة عن اضطرابات سلاسل التوريد في جميع أنحاء العالم. ومن المتوقع أن تتفاقم هذه الاضطرابات بشكل كبير في السنوات القليلة المقبلة، ليس بسبب تأثير ظاهرة النينيو على الاقتصاد الحقيقي فحسب، بل أيضًا بسبب نقص التقدّم الملموس في مجال التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من حدة تأثيراته في جميع أنحاء العالم، وفي منطقة شمال أفريقيا ومصر.

وإذا اتجه الميزان التجاري المصري نحو المزيد من العجز الهيكلي، فسيؤدي ذلك إلى سلسلة من التأثيرات المتتالية. وكما هو موضّح في أحد مقالات هذه المجموعة حول التنمية الساحلية، يمكن أن تصبح مصر على نحو متزايد رافدًا للاستثمارات الأجنبية المباشرة التي غالبًا ما توفر دخلًا ضريبيًا أقل وتجعل الحكومة المركزية أكثر عرضةً للمساءلة أمام المستثمرين الأجانب مقارنةً مع الدوائر الوطنية. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى اتّساع فجوة التفاوت على مستويات الدخل والأقاليم، وفقدان الثقة بشكل أكبر في الحكومة الوطنية، وربما أيضًا إلى إدارة اقتصادية أقل شفافية.

وفي نهاية المطاف، قد يؤدي العجز الهيكلي إلى سوء تكيّف شديد، وبالتالي إلى تفاقم فجوة التفاوت والتهميش والعنف، ما من شأنه أن يدفع الحكومة المصرية إلى اتّخاذ مزيد من الإجراءات التي تنمّ عن سوء التكيّف. لقد حذّر الفريق العامل الثاني التابع للفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في تقريره للعام 2022، من أن البلدان التي تعاني حاليًا من مشاكل كبيرة مرتبطة بعدم المساواة والتهميش تواجه احتمالًا أعلى بعدم التكيّف مع الاضطرابات المناخية، ويُرجَّح أن تظل عالقة في حلقة مفرغة من عدم المساواة وسوء التكيّف، ما من شأنه أن يثبط جميع أشكال النمو الاقتصادي.

وقد تنحسر تدريجيًا وهيكليًا قدرات مصر الاقتصادية الكليّة والسياسية، ما قد يزيد من احتمال حدوث الاضطرابات وانتشار القمع والفقر. بعبارة أخرى، قد يفضي تغير المناخ إلى تضاؤل قدرة مصر على حكم نفسها وتحديد مستقبلها. فالمناخ والمساحات البيئية ليست خلفيةً للاقتصاد المصري، بل هي عوامل تسهم في تمكينه، كما هو الحال في أي مكان آخر.

المخاطر وتعزيز القدرات مقابل الانهيار ومتابعة النهج نفسه: مصر عند مفترق طرق

في مواجهة التغيرات المناخية والبيئية الجوهرية والمخاطر الجسيمة التي تهدّد استقرار مصر وسيادتها، يبرز سؤال مهم: كيف تقود مصر التغيير؟

يبدو أن الإجابة هي "بمتابعة النهج نفسه"، كما هو موضّح في هذه المجموعة من المقالات، التي تقدّم لمحات عن القضايا البيئية المختلفة وكيفية تعامل الحكومة المصرية وأصحاب المصلحة الآخرين معها. إذا تم تناول كل مقال على حدة، فقد يبدو وكأنه قصصي، مع تأثيرات محدودة النطاق جغرافيًا. لكنها تُظهر مجتمعةً أن أصحاب المصلحة المصريين يتبنّون ردود أفعال سياسية واقتصادية واجتماعية تفاقم إلى الممارسات البشرية التي تسهم في زعزعة الحوكمة والنسيج المجتمعي والاقتصادي، وفي تقويض الأُسس التي تقوم عليها مصر.

ترى ياسمين حسين، في مقالها، أن أعمال التطوير العقاري الساحلي في مصر تتجاهل عمليًا المخاطر الحقيقية والمتسارعة المرتبطة بتآكل السواحل وانخساف الأرض وزيادة الملوحة. ويسهم المطوّرون أيضًا في نزوح المجتمعات المهمّشة إلى الداخل، حيث تنخفض قاعدتهم الاقتصادية بسبب تدنّي خصوبة التربة وتراجع إمكانية الحصول على المياه العذبة وارتفاع درجات الحرارة. وهذا لا يؤدّي فقط إلى التمييز على مستوى الوصول إلى الساحل، حيث تُعطى الأفضلية للملّاك من القطاع الخاص بدلًا من المجتمع المحلّي، بل قد يسهم أيضًا في نشوء تبعية اقتصادية غير صحية مدفوعة بالاستثمار الأجنبي على حساب الصالح العام.

وتكشف نادين وهاب عن انتشار التلوّث البلاستيكي في مصر وحقيقة أنه لا يشكّل مصدر قلق كبير على جدول أعمال الحكومة. للتلوث البلاستيكي تداعيات صحية وبيئية مباشرة، فضلًا عن تداعيات غير مباشرة على الاقتصاد الكلّي في ما يتعلق بالإنتاج الزراعي والأنشطة الأخرى المرتبطة بالطبيعة. وعلى وجه الخصوص، توضح نادين وهاب تكاليف الاقتصاد الملوِّث، فضلًا عن الفرص الضائعة الناجمة عن افتقار مصر إلى أساليب تحويلية في إنتاج المواد البلاستيكية واستهلاكها.

ويتبنّى جاستن دارغن وجهة نظر تطلّعية أكثر حيال إمكانية أن تصبح مصر مطوّرًا رئيسًا للهيدروجين الأخضر. لا تتمتع مصر بمزايا نسبية في تطوير هذا الشكل الجديد من الطاقة فحسب، بل إنها أيضًا في وضع جيّد بشكل خاص لخدمة الأسواق الأفريقية والأوروبية وأسواق شمال أفريقيا. مع ذلك، يكشف هذا المقال العقبات الأساسية التي تحتاج مصر إلى التغلّب عليها لتحقيق اقتصادٍ خالٍ من الكربون ولا سيما أنها لا تزال تعتمد على الوقود الأحفوري لأكثر من 85 في المئة من احتياجاتها من الطاقة واقتصادٍ موجَّه نحو الخدمات للقطاعات التي يصعب التخفيف منها في جميع أنحاء العالم. ومن المفهوم أن تسعى مصر للاستفادة من أسواق الطاقة الجديدة لتحويل أسواق الأصول الخاصة بها، إلا أن توسيع قواعد الطاقة للانتقال إلى قاعدة الهيدروجين سيكون كثيف الموارد والمساحة. في الوقت الراهن، يتم اتخاذ قرارات لتطوير قطاع الهيدروجين الأخضر من دون إجراء تقييم سريع لما يمكن أن تضمنه الموارد الطبيعية في مصر من حيث القدرة الاستيعابية الصناعية.

وفي نهاية المطاف، تتطرّق ندى عرفات إلى المشكلة الأساسية التي تعاني منها مصر، وهي المياه. تواجه مصر قضايا حرجة تفشل الحكومة حاليًا في معالجتها، وتتراوح من ندرة المياه، إلى تلوّثها، إلى الفيضانات. ومن المثير للاهتمام أن مقال عرفات يظهر أن الحكومة تسارع إلى الاستجابة من خلال الآليات التكنولوجية واقتصاديات الحجم في مواجهة التحديات البيئية العميقة. ولا يزال المنطق الأساسي هو تعزيز الإنتاجية الاقتصادية بقدر الإمكان. لكن المشكلة هي أن مصر بعيدة كل البعد عن اتّخاذ التدابير اللازمة لإعادة بناء رأسمالها البيئي، فجلّ ما تقوم به هو تطبيق حلول تكيّفية سطحية، وليست تحويلية، على اقتصادها.

لكن، ثمة استثناء واحد. فعلى هامش مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ للعام 2022 (المعروف باسم COP27)، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقية لبدء مشروع تنمية شبه جزيرة سيناء. لا يزال المشروع في مراحله الأولى، لذا لا تغطّيه هذه المجموعة من المقالات. مع ذلك، فإن مجرّد وجود هذا المشروع يوضح نواة تفكير مختلف حول إمكانية إحداث اضطراب إيجابي. وفي السنوات المقبلة، ستعمل الحكومة المصرية مع نظرائها والمستثمرين الأجانب على إطلاق عملية تجديد على مستوى النظام البيئي في شبه جزيرة سيناء. يتجاوز مشروع الهندسة البيئية هذا عملية احتجاز الكربون، ويدور حول إعادة تشغيل السلامة البيئية والخدمات البيئية في منطقة رئيسة من العالم تربط بين مناطق حيوية مختلفة، وبالتالي يمكن أن يكون بمثابة حافز للتكيّف مع المناخ. وإذا نجح هذا التجديد، قد يساعد في إعادة بناء الدورة الهيدرولوجية في المنطقة، ويساهم في تجديد المياه في التربة، وبمرور الوقت قد يعيد تشكيل أنماط هطول الأمطار بطريقة من شأنها أن تحقّق استقرار الموارد الإقليمية على الرغم من الاضطرابات المناخية الأكبر.

قد يبدو هذا وكأنه أمرٌ بعيد المنال. فالوضع سيّئ للغاية في مصر، والجهود المبذولة للتخفيف من تأثيرات تغير المناخ محدودة للغاية حاليًا، لدرجة أن الحلول غير التقليدية والمُزعزِعة للوضع وحدها هي التي ستؤدي في النهاية إلى تعزيز الإنتاجية الاقتصادية وأداء الاقتصاد الكلّي والقدرات الاجتماعية السياسية. إنّ التقدّم التكنولوجي لن يقود مصر إلا إلى حدٍّ معيّن، ولا سيما أنها تتبنّى التكنولوجيا أكثر من كونها مبتكرًا تكنولوجيًا في الثورة الرقمية والصناعية الحالية. مع ذلك، قد تصل مصر إلى صيغتها الخاصة من التدابير غير التقليدية والمفيدة، إذا أعادت الاتصال بجذورها وطورّت حلولًا تجديدية ومعقّدة لضمان السيادة والاستقرار والمرونة في المستقبل.

تقدّم هذه المجموعة من المقالات لمحة موجزة، إنما مؤثّرة، عن المنعطف البيئي الحرج الذي تشهده مصر راهنًا. وإذا وضعناها في سياق تاريخي وجيولوجي وجغرافي أكبر، فإنها توضح مدى ضعف قدرات الحوكمة في مصر وكيف قد يتبيّن أن متابعة النهج نفسه من القرارات الاقتصادية قد يكون محفوفًا بالمخاطر لمصر.

التنمية على الساحل الشمالي الغربي لمصر: الدخول في حلقة مفرغة من الاضطرابات المناخية

بحلول العام 2050، قد يتعرض أكثر من 10 ملايين شخص على الساحل الشمالي الغربي لمصر للنزوح بسبب التداعيات الناجمة عن تغير المناخ، وفقًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. تدرك الحكومة المصرية المخاطر المُحدقة بالساحل الشمالي الغربي، لكنها لا تزال مستمرة في خططها الرامية إلى توطين 5 ملايين شخص في المنطقة بحلول العام 2052، في إطار جهودها الحثيثة لاستيعاب زيادة سكانية تُقدَّر بنحو 34 مليون نسمة على مستوى البلاد. ولتحقيق ذلك، أطلقت مصر سلسلةً من المشاريع الإنمائية وأجرت مراجعة شاملة لخططها الحضرية والطبوغرافية والإدارية الخاصة بالساحل.

في غضون ذلك، يواجه الشريط الساحلي المصري بأكمله، والذي يمتدّ من مدينة السلوم على الحدود الليبية إلى الإسكندرية غرب دلتا النيل، تحديات كبيرة بسبب التوسع الحضري،وسوء إدارة الموارد الطبيعية والتخطيط العمراني. وتتفاقم كل هذه التحديات بسبب الـتداعيات المدمرة الناجمة عن تغير المناخ، وتشمل ارتفاع درجات الحرارة، والتقلبات الشديدة في كمية وتوقيت هطول الأمطار، وزيادة تواتر وشدة العواصف والعواصف الرملية في غير مواسمها، وغيرها من الظواهر البيئية. وقد زاد ارتفاع منسوب مياه البحر والعواصف الشتوية الشديدة من تآكل أرض الساحل، والكشف عن نتوءات حادة من الحجر الجيري والحجر الرملي، وتعميق ما كان في السابق مناطق ضحلة من الساحل. وتتسارع وتيرة تملّح خزانات المياه الجوفية العذبة والتربة في الأراضي المنخفضة القريبة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تدمير الكثبان الرملية التي كانت تحمي المناطق الداخلية وتساعد في الحفاظ على التوازن بين المياه المالحة والعذبة. وتساهم هذه الظواهر مجتمعةً في تراجع السياحة الساحلية، وتغيُّر ممارسات صيد الأسماك، وانخفاض حجم الأراضي الصالحة للزراعة ومدى إنتاجيتها، ناهيك عن اتساع الفجوة بين العرض والطلب على المياه، وارتفاع تكاليف مياه الشرب والموادّ الغذائية، ومفاقمة العواقب الوخيمة على صحة الإنسان، وتدهور البنية التحتية.

ويطرح هذا الوضع أسئلة ملحة ليس فقط حول استدامة خطط التنمية التي وضعتها الحكومة المصرية، ولكن أيضًا حول سلامة سكان المناطق الساحلية وأمنهم، ولا سيما في ضوء التهديدات الحقيقية والحالية المتمثلة في نحر السواحل وارتفاع منسوب مياه البحر. وبطبيعة الحال، تنبع معضلة انعدام الأمن البيئي في مصر من السياسات البيئية للدول الأخرى، ولكن النهج الذي تتبعه الحكومة تجاه تنمية الساحل الشمالي الغربي يسفر عن حلقة مفرغة من خلال زيادة تأثّر البلاد بالمشاكل البيئية والصدمات المالية، وأعباء الديون الإضافية، وتراجع القدرة على التنمية. ينبغي على الحكومة - ويمكنها - أن تفعل المزيد لتحقيق العدالة المناخية المحلية من خلال تخفيف العواقب غير المتكافئة الناجمة عن تغير المناخ، والتي تواجهها المجتمعات المحرومة، وتوزيع هذه الأعباء بشكل أكثر إنصافًا. وهذا من شأنه أن يفي ليس فقط بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في تموز/يوليو 2022 والذي يعترف بحقّ الإنسان في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، ولكن أيضًا بالالتزامات المنصوص عليها في المادتَين 45 و46 من الدستور المصري.

حلقة قاتمة من سوء الإدارة البيئية

أدّت عوامل مثل التنمية غير مدروسة العواقب البيئية، وسوء الإدارة، وتدابير التخفيف القصيرة المدى على طول الساحل الشمالي الغربي إلى حلقة قاتمة من الأضرار البيئية. فبناء المنتجعات السياحية وحواجز الأمواج والمراسي البحرية والبحيرات الاصطناعية يسير وفقا لتوجّه عام يتم فيه تدمير جزء من الشريط الساحلي، ما يدفع المستثمرين والسكان الأثرياء إلى البناء على امتداد مساحات سليمة غربًا. ثم تفاقم عملية إعادة البناء هذه التداعيات في المناطق التي تركها هؤلاء المستثمرون والمقيمون وراءهم.

يقدّم منتجع مارينا العلمين مثالًا على ذلك. فعندما امتلأت ثلاث بحيرات مغلقة بالرواسب وازدادت فيها نسبة الملوحة وتحوّلت إلى سبخات، تم دمجها في بحيرة شاطئية واحدة وربطها بالبحر عبر قنوات للسماح بتجديد مياهها، وإنشاء رؤوس عمودية وألسنة صغيرة لحماية القنوات، ما تسبّب بتوليد تيارات مرتدّة شديدة بدأت تتسبّب بنحر الشواطئ شرقًا وبتراكم الترسبات على الشواطئ غربًا. علاوةً على ذلك، حدّت حواجز الأمواج التي أُقيمت عند مداخل البحيرة من تأثيرات الأمواج والتيارات البحرية، ما هدّد بإغلاق المداخل وإرجاع البحيرة إلى سبخات مالحة ضحلة. ولأن التوسع الحضري غير المنضبط قد دمّر وبدّل مواقع الكثبان الرملية المجاورة، لجأت القرى الواقعة شرقًا إلى اتخاذ تدابير دفاعية لمنع شريطها الساحلي من الانحسار، فشيّدت هياكل صلبة وحواجز أمواج متنوّعة للتعويض عن النقص الشديد في التكوينات الرسوبية أو مصادر استبدالها. على الرغم من التأثيرات السلبية وعمليات النحر الساحلي التي تسبّبها هذه المنشآت في المناطق المجاورة.

يقدّم الساحل الممتد على طول 155.3 ميلًا تقريبًا (250 كيلومترًا) غرب الإسكندرية في العموم مثالًا على الحلقة المفرغة التي تُحدثها التنمية والتدهور البيئي. يضم النصف الأول من هذا الشريط الساحلي، الذي شهد انتشار المنتجعات السياحية المملوكة للقطاع الخاص منذ ثمانينيات القرن الماضي، والمعروف محليًا باسم "الساحل الطيب"، نحو 90 منتجعًا قديمًا، يعاني معظمها من التدهور الساحلي. أما الجزء الثاني الأكثر ثراءً، والمعروف باسم "الساحل الشرير"، فيضم ما يقرب من 42 منتجعًا جديدًا لم يشهد بعد تدهورًا كبيرًا. وتقع الغالبية العظمى من هذه المنتجعات مباشرةً على الواجهة البحرية، ما يمنع معظم طرق الوصول إلى الشواطئ العامة ويعكس سياسة تخطيط متحيّزة تجاه المنتجعات الموسمية الخاصة. ويُظهر ميناء اليخوت الذي بنته شركة إماراتية في قرية مراسي كيف أدى هذا النمط من التطوير إلى تعرية الشواطئ الواقعة شرقًا من رمالها، ما أسفر عن تدمير 32.8 قدمًا (10 أمتار) من الشريط الساحلي سنويًا. ويتّضح أن في الفترة بين 2005-2015، اكتسب الساحل في منطقة سيدي عبد الرحمن تكوينات رسوبية تبلغ 0.78 قدم (0.24 متر) سنويًا، ثم تفوقت عمليات التآكل فتراجع خط الساحل 4.2 أقدام (1.3 متر) سنويًا بين العامَين 2015 و2022.

سوء التكيّف في مواجهة تغير المناخ

تستخدم الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عبارة "سوء التكيّف" لوصف استجابات الدول للتداعيات المناخية باعتبارها تُنشئ "مواطن ضعف ومعوّقات ومخاطر من الصعب والمُكلف تغييرها، فضلًا عن أنها تفاقم أوجه انعدام المساواة القائمة". إن التغييرات التي تجريها الدولة على استخدام الأراضي، فضلًا عن إنشاء الشركات الخاصة مثل المنتجعات السياحية ووسائل الحماية للواجهة البحرية، تركز على المدى القصير وتُعدّ محلية للغاية. وبالتالي، تنجم عنها تداعيات بيئية على طول الساحل. ويُعتبر البناء الجماعي، وهو ظاهرة جديدة نسبيًا، المسؤول عن ذلك بشكل خاص. وتقود الدولة عملية بناء مدن جديدة تهدف إلى توليد إيرادات من العملاء الأثرياء، ويسير على خطاها مستثمرو القطاع الخاص. وعلى الرغم من وجود القوانين واللوائح المُصمّمة لضمان حماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة، فإن الدولة والقطاع الخاص يتجاهلانها في الممارسة العملية بشكل روتيني. وبالفعل، تقوم الجهات الحكومية بإضفاء ممارسات ما يُسمّى بالتبييض الأخضر (greenwashing) على مشروعاتها لجذب المستثمرين وبيع الوحدات السكنية في المدن المبنية حديثًا.

أعلنت الحكومة عن جهود تقودها الدولة في عام 2014 لتطوير شمال غرب مصر، على النحو المنصوص عليه في رؤية مصر 2030 والمخطّط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية (انظر الشكل 1). وقد وُضعت هذه الخطط لتوجيه مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والحضرية المستدامة في البلاد. وتهدف على وجه التحديد إلى مضاعفة المعدل الوطني للمناطق العمرانية من 7 إلى 14 في المئة من إجمالي مساحة الأراضي في مصر لاستيعاب النمو السكاني السريع. وبالفعل، من المتوقع أن يرتفع عدد سكان محافظة مطروح، التي تضم جزءًا كبيرًا من الساحل الشمالي الغربي، من 530,270 نسمة في العام 2022 إلى 5 ملايين نسمة بحلول العام 2052. ومن المقرر بناء 16 مدينة جديدة لاستيعاب هذا النمو السكاني، كجزء من 182 مشروعًا تنمويًا تم تنفيذها أو ما زالت قيد الإنشاء في قطاعات الإسكان والنقل والاتصالات والطاقة والبنية التحتية في المحافظة.

ولإرساء إدارة إقليمية فعّالة، من المقرّر ترسيم الحدود المستقبلية لمحافظات الجمهورية بعد إضافة ثلاث محافظات جديدة، من ضمنها العلمين. وستستضيف عاصمتها، مدينة العلمين الجديدة، أحد أكبر المشروعات التي تمولها الدولة على الساحل الشمالي الغربي. وسيستمتع سكانها بمساحات خضراء شاسعة وطاقة نظيفة وشواطئ رملية واسعة وبحيرات اصطناعية وأبراج على طراز دبي. وعلى عكس المنتجعات السياحية المجاورة التي تعمل بشكل موسمي، تهدف مدينة العلمين الجديدة إلى أن تكون مركزًا سياحيًا على مدار العام. ولن تفضي خطط المدينة إلى تغيير شكل واستخدام واجهة الشاطئ التي يبلغ طولها 8.69 أميال (14 كيلومترًا) فحسب، بل أيضًا إلى إحداث أضرار بيئية شديدة على الساحل شرقًا في حالة عدم وجود خطط حماية واضحة وشاملة.

الإطار القانوني والتنظيمي

لدى مصر مجموعة كبيرة إلى حدٍّ ما من القوانين واللوائح البيئية، وفيها إطار تنظيمي قائم بالفعل ولكن يشوبه عددٌ من الثغرات وضعفٌ على مستوى التنفيذ، فيما يعيق الافتقار إلى الشفافية النقاش البنّاء. ولا تُبذل سوى جهود قليلة لضمان استمرارية السياسات الموضوعة ومواءمتها، مع محدودية القدرات المؤسسية والمتابعة ضعيفة، ما يحول دون ضمان دخول المبادئ التوجيهية والأهداف الاستراتيجية حيّز التنفيذ بشكل ملموس. علاوةً على ذلك، لا تعتمد استراتيجيات التنمية الحضرية للساحل الشمالي الغربي على دراسات التأثير البيئي المحدّثة التي تقيّم مثلًا تداعيات تغير المناخ في المنطقة أو تبعات المشروعات السابقة. ولاحظ عدد من خبراء التخطيط التنموي الافتقار إلى التكيّف في الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية والتخطيط الاستراتيجي الإقليمي للساحل الشمالي الغربي.

ترجع أحدث دراسة تفصيلية حول تنمية المنطقة من منظور بيئي إلى العام 2010. وأُجريت دراسة استكشافية للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في فترة 2016-2017، ولكن أعدّتها شركة استشارية أجنبية وتم النشر فقط على شكل خرائط تفاعلية على موقع إلكتروني باللغة الإنكليزية. ومن الصعب الحصول على دراسات تحليلية تفصيلية لكل قطاع إلا على شكل مسودة.

تتجلّى هذه العوائق من خلال النهج العشوائي الذي اتبعته الحكومة المصرية تجاه بناء القدرة المؤسسية وإطار متكامل للسياسة البيئية. فمع أن الحكومة أنشأت في العام 1994 لجنة وطنية للإدارة المتكاملة للمنطقة الساحلية، فإن اللجنة لا تزال غير نشطة على الرغم من إعادة تشكيلها رسميًا في العام 2007. وبالمثل، مع أن مصر أضافت استراتيجية وطنية للإدارة الساحلية المتكاملة في قانون حماية البيئة المعدّل رقم 9 للعام 2009 واللوائح المرتبطة به رقم 1095 الصادرة في العام 2011، فإن البلاد ليست جزءًا من البروتوكول الدولي للإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية الذي تم التوصل إليه في كانون الثاني/يناير 2008. وفي العام 2018، أطلقت وزارة الموارد المائية والري المصرية مشروعًا يحظى بتمويل الأمم المتحدة من أجل "تعزيز التكيّف مع تغير المناخ في الساحل الشمالي ودلتا النيل"، والذي تم تقديمه منذ بداية العام 2023 بأنه جزء من "نظام متكامل لإدارة المناطق الساحلية". لكن ما تم نشره عنه هو أقرب إلى مفهوم فضفاض منه إلى استراتيجية ملموسة: فموقع الوزارة الإلكتروني لا يقدّم أي تفاصيل، في حين أن البيانات الصحافية لا تقوم إلا بتكرار الأهداف والمبادئ العامة.

وتمثّل الثغرات عقبة أخرى في وجه التنفيذ الفعّال لأُطر الإدارة البيئية التي تبدو جيدة على الورق ولكنها تبقى قاصرة في الممارسة العملية. على سبيل المثال، أطلقت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية ووزارة البيئة بشكل مشترك "دليل معايير الاستدامة البيئية: الإطار الاستراتيجي للتعافي الأخضر" في العام 2021، بهدف دمج الاعتبارات البيئية بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية كافة سعيًا إلى تحقيق التنمية المستدامة. ووفقًا لقانون البيئة المصري رقم 4 للعام 1994، يتعيّن على المشروعات الجديدة إنجاز تقييم الأثر البيئي قبل البدء في أي بناء، لأن القيام بذلك هو أحد متطلبات الحصول على الترخيص. هذا الإطار جديرٌ بالثناء، لكنه يستند إلى تصنيف أجراه جهاز شؤون البيئة عن المناطق المعرّضة للخطر (أ، ب، ج) بحسب درجة الخطورة البيئية. وينتقل المشروع من تصنيفه الأساسي إلى التصنيف الأعلى خطورة بحسب مدى الضرر، ما يجعله لا يتحلّى بالكفاءة اللازمة لتقييم المشاريع على طول الساحل الشمالي الغربي. (فالساحل مصنّف أساسًا ضمن الفئة "ج"، العالية المخاطر). علاوةً على ذلك، وفي حين أن القطاع الخاص ملزمٌ بتقديم تقييمات الأثر البيئي قبل الحصول على تراخيص لبناء المرافق أو تعديلها، من غير الواضح ما إذا كان نظراؤه في القطاع العام يفعلون ذلك أيضًا. على سبيل المثال، عند مواجهة دعاوى قضائية بشأن مشروعَين إنشائيَّين، هما الطعن رقم 60 لسنة 73 قضائية والطعن رقم 13213 لسنة 72 قضائية في محكمة القضاء الإداري في الإسكندرية في العام 2018، لم تتمكن وزارة البيئة من تقديم تقييم الأثر البيئي، بحسب المحامي.1

وكما تشير اللمحة العامة أعلاه، قد تتعهد الهيئات الحكومية باتّباع المعايير البيئية، ولكن لا يمكن إثبات جهودها الفعلية في الممارسة العملية، إذ إن البيانات ذات الصلة ودراسات الأثر البيئي غير متاحة للتدقيق المستقل والنقاش العام. إن عدم القدرة على الحصول على المعلومات الإحصائية والوثائق الرسمية يشكّل انتهاكًا للمادة 68 من الدستور التي تضمن حق جميع المواطنين بذلك. يمكن الاطّلاع على جميع مشروعات التنمية من خلال الموقع الإلكتروني لخريطة مشروعات مصر، لكن المعلومات المتاحة للمواطنين تقتصر على لمحات عامة عن المشروعات وتفاصيل بسيطة عن موقعها الجغرافي وتصنيفها وتكلفتها وموعد التسليم النهائي. في الواقع، من الأسهل العثور على دراسات التأثير البيئي والاجتماعي على المواقع الإلكترونية للمانحين الأجانب الذين ينفّذون مشروعات تنموية.

مواطنون من أجل العدالة البيئية

إن الخطة الكبرى لسكان المنطقة الساحلية الشمالية الغربية تعني حتمًا زيادة هائلة في وتيرة التوسع الحضري، بما في ذلك شبكات النقل والبنى التحتية الكثيفة، وبالتالي تفاقم التلوّث، وغير ذلك من التداعيات البيئية. وتشكّل حماية الشريط الساحلي، الذي يعاني أساسًا من أضرار ظاهرة للعيان ناجمة عن اضطرابات من صنع الإنسان واضطرابات مناخية، تحديًا كبيرًا للمجتمعات المحلية ولسلطات الدولة. ومن الصعب تصوّر القيام بذلك على نطاق كافٍ لتعويض التوسع المنصوص عليه في رؤية مصر 2030 والمخطّط الاستراتيجي القومي للتنمية العمرانية. تُعدّ التنمية الساحلية موضوعًا معقدًا يتطلّب حوارًا متعمقًا ومعلومات شفافة وإشراك المجتمعات المحلية فيها. ولا يدور النقاش حول وقف التنمية الساحلية بالكامل، ولكن ينبغي تنفيذ هذه التنمية بطرق تدعم هدف الاستدامة المُعلن للحكومة المصرية. ولحماية التراث الطبيعي في مصر للأجيال المقبلة، يجب إعطاء الأولوية لتحقيق العدالة البيئية والمشاركة المجتمعية. لكن هذه المصطلحات تحديدًا غائبة عن القسم المتعلق بالبعد البيئي رؤية مصر 2030 والاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ في مصر 2050. ويمكن تحقيق ذلك من خلال استراتيجيات عدّة، مثل الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية التي تجمع بين الجهات المنخرطة في تنمية الساحل وإدارته واستخدامه لتحقيق هدف مشترك يتمثّل في الاستخدام المستدام للموارد الساحلية: إن التكيّف القائم على النظام البيئي، والذي يتضمن الحفاظ على النُظم البيئية وإدارتها المستدامة واستعادتها، يمكن أن يساعد الناس على التأقلم مع العواقب الوخيمة الناجمة عن تغير المناخ. ويمكن للبنية التحتية الخضراء التي تستخدم الوسائل والعمليات الطبيعية أن تُنشئ بيئة حضرية أكثر صحة وتدابير عمرانية قابلة للتكيّف.

واقع الحال أن ما تحتاجه مصر هو تحوّل في النهج من النمو غير المنضبط إلى تنمية مستدامة حقيقية تقدّر وتحمي الخصائص المميزة للساحل الشمالي الغربي، وتفتح حوارًا مع المجتمعات المحلية، وتحترم الدستور واللوائح المتعلقة بالبيئة والحق في الحصول على المعلومات، وتستفيد كذلك من الفرص الاجتماعية والاقتصادية. ومن دون هذا التحوّل في النهج، فإن السباق لتوطين ملايين الأشخاص على طول شريط ساحلي ضيّق بتكلفة تفوق إمكانات مصر بكثير سيغرق البلاد في حلقة متفاقمة من التدمير البيئي الناجم عن الطبيعة والبشر على السواء.

هوامش

1 مقابلة أجرتها المؤلّفة مع المحامي، الإسكندرية، أيار/مايو 2023.

النفايات البلاستيكية في مصر: أزمة وفرصة

في العام 2010، كانت مصر أكبر مساهم في التلوث البحري الناجم عن النفايات البلاستيكية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي الآونة الأخيرة، أشارت التقديرات إلى أنها تسهم بنسبة 43 في المئة من إجمالي المخلّفات البلاستيكية التي تتدفق إلى البحر الأبيض المتوسط سنويًا. ويفاقم النمو السكاني المتسارع والتوسع الحضري مشكلة التلوث البلاستيكي في البلاد، من خلال زيادة استهلاك المنتجات البلاستيكية ونفاياتها، في ظل بنية تحتية غير ملائمة لإدارة المخلّفات، ما يعيق إمكانية الوصول إلى مرافق إعادة التدوير والأنظمة المناسبة للتخلّص من النفايات.

صحيحٌ أن مصر تدرك على ما يبدو أن التلوث الناجم عن المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد يؤدّي إلى عواقب بعيدة المدى تلقي بظلالها على البيئة والصحة العامة، إلا أن استجابتها للمشكلة تصطدم بظروف السياسة البيئية المعقدة والصعبة. يفترض أن يكون الحدّ من التلوث البلاستيكي سهلًا نسبيًا، إذ ثمة إجماع عام على أن هذا الأمر مفيدٌ للمجتمع، ناهيك عن أن هذه المساعي تحظى بتمويل الجهات المانحة والشركات الدولية. وفيما ركزت سياسات الحدّ من التلوث البلاستيكي على حلول نهاية دورة حياة المنتجات البلاستيكية، مثل إعادة التدوير، بُذلت أيضًا جهود لتقليل انتشار المنتجات البلاستيكية الأحادية الاستخدام في الأسواق. ومن الأمثلة على ذلك حظر المواد البلاستيكية في المراكز السياحية في محافظتَي البحر الأحمر وجنوب سيناء.

ترى بعض الجهات الحكومية على الأقل أن التلوث البلاستيكي يمثّل فرصة لتحقيق مكاسب بيئية سهلة. ويتجلّى ذلك من خلال محاولاتها تنظيم انتشار المواد البلاستيكية في الأسواق على المستوى المحلي، وتطوير اقتصاد دائري على المستوى الوطني، قائم على إعادة إدخال النفايات، مثل المواد البلاستيكية والملابس، في بداية دورة الإنتاج. وقد أتاحت هذه الجهود للأطراف الفاعلة في المجتمع المدني فرصة لبناء القدرات والمشاركة المثمرة والفعالة مع الكثير من أصحاب المصلحة الحكوميين. إضافةً إلى ذلك، أتاحت المفاوضات حول معاهدة عالمية محتملة بشأن البلاستيك بدأها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في العام 2022 فرصة أخرى لمنظمات المجتمع المدني المصرية والمسؤولين الحكوميين لتعزيز انخراطهم بشكل ملموس.

ومن خلال بلورة سياسات شاملة تتناول كامل دورة حياة البلاستيك وإنشاء إطار تنظيمي تمكيني، تستطيع الحكومة المصرية اغتنام الفرصة للاستفادة من موارد مصر الطبيعية، وموقعها في سلاسل التوريد العالمية، ومجتمعها المدني النشط، من أجل قيادة عملية تطوير بدائل مستدامة للبلاستيك.

مشكلة التلوث المتزايدة في مصر

إنّ عواقب التلوث البلاستيكي في مصر بعيدة المدى. فدورة حياة البلاستيك طويلة ومعقدة للغاية، وبالتالي يؤدي دخوله إلى البيئة بشكل عشوائي إلى تأثيرات متعدّدة على التنوع البيولوجي والصحة العامة والاقتصاد.

غالبًا ما تغزو المخلّفات البلاستيكية المسطحات المائية، ومن ضمنها البحر الأحمر ونهر النيل والبحر الأبيض المتوسط، ما يشكل تهديدًا خطيرًا على النظم البيئية البحرية. وتتعرّض الحيوانات البحرية، مثل السلاحف والطيور والدلافين، لخطر الموت بسبب تناول الحطام البلاستيكي أو التشابك فيه. وقد أشار تقرير صادر عن البنك الدولي في العام 2022 إلى أن "واحدة من كل ستة أسماك في البحر الأحمر تناولت جزيئات وقطعًا صغيرة من البلاستيك، ما يعني أن التلوث بالمواد البلاستيكية الدقيقة قد وصل إلى الأنواع التجارية وغير التجارية من الأسماك".

لم يتم بعد فهم التأثير الكلّي للتلوث البلاستيكي على صحة الإنسان بشكل كامل. فقد أشار تقرير صادر في العام 2019 عن مركز القانون البيئي الدولي إلى أن "دخول الجسيمات البلاستيكية الدقيقة إلى جسم الإنسان يمكن أن يتسبّب بمجموعة من المشاكل الصحية، بما في ذلك الالتهابات (المرتبطة بأمراض السرطان والقلب وأمراض الأمعاء الالتهابية والتهاب المفاصل الروماتيزمي وغيرها)، والسمية الجينية (تلف المعلومات الوراثية داخل الخلية، ما يسبّب طفرات قد تؤدي إلى السرطان)، والإجهاد التأكسدي (ما يؤدي إلى أمراض مزمنة مثل السرطان والسكري والتهاب المفاصل الروماتيزمي وأمراض القلب والأوعية الدموية والالتهابات المزمنة والسكتة الدماغية)، والموت المبرمج للخلايا الحية (موت الخلايا المرتبط بـمجموعة واسعة من الأمراض بما في ذلك السرطان)، والنخر (موت الخلايا الالتهابي المرتبط بالسرطان وأمراض المناعة الذاتية والتنكّس العصبي). وقد تتسبّب هذه التأثيرات مع مرور الوقت أيضًا بتلف الأنسجة والتليّف والسرطان".

وللتلوث بالمواد البلاستيكية أيضًا تداعيات اقتصادية. تمثّل الزراعة 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، ويمكن أن تؤثر المواد البلاستيكية الدقيقة الآتية من مصر وجميع أنحاء حوض النيل بشكل كبير على المحاصيل وجودة التربة. ويسهم قطاع السياحة أيضًا بنسبة 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. قد يكون تأثير التلوث البلاستيكي على مكانة مصر كوجهة تاريخية ومقصد سياحي بيئي كبيرًا جدًّا بحيث لا يمكن قياسه، ولكن ثمة تبعات اقتصادية محدّدة لهذا النوع من التلوث على السياحة في دول أخرى. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أُجريت في العام 2019 للوجهات السياحية الساحلية في الولايات المتحدة علاقة واضحة بين المخلّفات البلاستيكية وعدد الزوار، والإيرادات الناتجة من السياحة، وتوليد فرص العمل المحلية. في جميع أنحاء مصر، لا يشكل البلاستيك خطرًا بيئيًا في مناطق الغوص والشواطئ في البحر الأحمر فحسب، بل يقدّم أيضًا مشهدًا قبيحًا في المواقع الثقافية والتراثية.

ومع ذلك، تنظر مصر حكومةً وشعبًا إلى برامج القضاء على التلوث البلاستيكي على أنها ترف لا تستطيع المجتمعات المحلية الفقيرة والبلدان النامية أن تعطيه الأولوية. وبما أن إنتاج البلاستيك أرخص بكثير من البدائل الأخرى، فهو مستمر في التوسع. وبحسب مركز تحديث الصناعة التابع لوزارة التجارة والصناعة المصرية، بلغ عدد المصانع العاملة في قطاع البلاستيك والمسجلة في غرفة الصناعات الكيماوية نحو 4,921 مصنعًا في العام 2019، بينما قدّر خبراء الصناعة عدد المصانع المسجّلة بـ7,500 مصنعًا في العام 2021. وكذلك قدّر المجلس التصديري للصناعات الكيمياوية والأسمدة في العام 2021 أن قيمة استثمارات صناعة البلاستيك في مصر تصل إلى نحو 7.2 مليار دولار، موضّحًا أن قيمة الإنتاج السنوي تبلغ نحو 16.6 مليار دولار. من الصعب الحصول على بيانات حول منتجي البلاستيك غير الرسميين في مصر، لكن غياب الرقابة الحكومية يمنع المساءلة عن التلوث أثناء عملية التصنيع، ويسمح لمنتجات سامة ودون المستوى المطلوب بدخول السوق.

من تنظيف الشوارع إلى العمل الجماعي

على الصعيد العالمي، عادةً ما تبدأ الجهود المبذولة للحدّ من التلوث البلاستيكي في نهاية دورة حياة البلاستيك، من خلال إعادة تدوير النفايات. فإدارة النفايات هي الطريقة التي يتفاعل من خلالها معظم الناس مع المشكلة. تحظى إعادة التدوير بدعم كبير من منتجي البلاستيك ومنتجي السلع الاستهلاكية السريعة التداول، ويعود ذلك في جزءٍ منه إلى أن إلقاء عبء التخفيف على الأفراد والحكومات يساعد في تقليل الضغط الممارَس عليهم لوقف إنتاج البلاستيك غير الضروري.

ولا يختلف هذا الواقع في مصر. فمن السهل تنظيم حملات التنظيف وإعادة التدوير التي تبادر إليها منظمات المجتمع المدني المصرية لأنها تحظى بدعم شعبي واسع، بما في ذلك الدعم المالي من القطاع الخاص والجهات المانحة الدولية. علاوةً على ذلك، من خلال التنظيم المشترك لعمليات التنظيف الناجحة، تستفيد وزارة البيئة المصرية من الظهور والترويج لنفسها من دون تكبّد تكاليف. أما منظمات المجتمع المدني فتستفيد من خلال رفع مكانتها العامة ومصداقيتها، ما يفسح لها المجال أمام المزيد من الانخراط القوي مع المواطنين والمسؤولين الحكوميين على السواء. مع ذلك، شكّل نقص التمويل، وضعف البنية التحتية اللازمة لإدارة النفايات الصلبة، والافتقار إلى الوضوح حيال السلطات التنظيمية والتنفيذية، والتطبيق غير المتكافئ، عوامل حالت مرارًا دون إحراز تقدّم طويل الأمد في حملات التنظيف، وأعاقت قدرة وزارة البيئة على معالجة هذه القضية بشكل فعال.

استخدمت ثلاث من المنظمات البيئية الأكثر شهرة على مستوى القاعدة الشعبية في مصر، وهي جرينش (Greenish) وفيري نايل (VeryNile ) وبانلاستيك (Banlastic التي تأسست جميعها في 2017 و2018، حملات التنظيف بدايةً في إطار مجهود شعبي يهدف إلى إطلاق مبادرات واستراتيجيات أكبر للحدّ من تلوث البلاستيك. وأدى تزايد الوعي العام حيال التلوث البلاستيكي إلى قيام المزيد من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية المستدامة (وهي شركات ربحية تعطي الأولوية للأهداف الاجتماعية والبيئية في نماذج أعمالها) بتنظيم حملات تنظيف في أنحاء مصر، لكن الحكومة استمرت في عدم توفير التمويل الكافي لإدارة النفايات. ففي فترة 2018-2019، لم تخصّص مصر سوى 4 مليارات جنيه مصري لإدارة المخلّفات الصلبة (على مختلف مستويات الحكومة) مقارنةً، مثلاً ، مع الموازنة العامة البالغة 1,424 مليار جنيه مصري (أي بنسبة 1 إلى 356). وعلى سبيل المقارنة، أنفقت مدينة نيويورك الأميركية 1.73 مليار دولار على إدارة النفايات الصلبة من أصل موازنة عامة بلغت في العام 2018 89.2 مليار دولار (أي بنسبة 1 إلى 52).يسلّط هذا الضوء على نقص تمويل إدارة النفايات في مصر، ما يعني بدوره ضعف البنية التحتية لإدارة النفايات الصلبة.

حدا الافتقار إلى بنية تحتية قوية لإدارة النفايات الصلبة والحاجة إلى تنظيف المواقع نفسها بشكل متكرر، بمنظمات المجتمع المدني المصرية إلى الضغط من أجل تقليل استخدام البلاستيك غير الضروري. وفي العام 2017، دخلت وزارة البيئة في شراكة مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة لإطلاق مبادرة وطنية من أجل الحدّ من الأكياس البلاستيكية الأحادية الاستخدام. وقد دفع الالتزام بهذه الأهداف الوزارة إلى الانخراط على نحو نشط مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني من جميع أنحاء مصر لتطوير استراتيجية للحدّ من استخدام المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد. بدأت صياغة استراتيجية وطنية لتقليص استخدام البلاستيك في آذار/مارس 2021، بعد صدور قانون تنظيم إدارة المخلّفات رقم 202 لسنة 2020.

خلال هذه الفترة، اجتمع عددٌ من منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية المصرية لحثّ الحكومات المحلية على وضع حدٍّ للمنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد مثل الأكياس والأطباق وأدوات المائدة. وأدّت هذه الجهود إلى قيام محافظتَي البحر الأحمر وجنوب سيناء بحظر بعض المواد البلاستيكية الأحادية الاستخدام في العام 2019. ومع دخول هذا الحظر حيّز التنفيذ، سعت هذه المنظمات الداعية للحظر‎ نفسها إلى ضمان التقيّد به. وعلى الرغم من هذه المساعي، ما زالت مشكلة البلاستيك في مصر تتفاقم.

الفجوات التنظيمية والتنفيذية

مع ذلك، تعرقلت المبادرات التي اتخذتها المحافظات ووزارة البيئة بسبب عدم الوضوح حول السلطات التنظيمية والتنفيذية، ما أعاق فعالية استراتيجيات الاستغناء عن البلاستيك. وتم تطبيق الحظر بشكل غير متساوٍ حتى داخل المدن نفسها. وقد أثّر وباء كوفيد-19 سلبًا على تعبئة منظمات المجتمع المدني والشركات المتحالفة معها في حظر المنتجات البلاستيكية، ما أدى إلى تراجع المكاسب السابقة في الحدّ من المنتجات البلاستيكية غير الأساسية والأحادية الاستخدام.

ويكمن جزء من المشكلة في أن مصر لديها سلطات تنظيمية معقدة ومتشابكة تشرف على مراحل دورة المواد البلاستيكية بدءًا من الإنتاج وحتى إدارة النفايات. وتضطلع وزارات كثيرة بمهمة تنظيم البلاستيك، بما في ذلك وزارة البيئة ووزارة التجارة والصناعة ووزارات التنمية المحلية والسياحة والمالية والصحة والتموين والتجارة الداخلية. إذًا، من الصعب للغاية تحقيق المساءلة عن التلوث البلاستيكي بسبب الافتقار إلى الشفافية وتعقيد الوضع نتيجة السلطات المشتركة.

ونتيجةً لذلك، لم تبدأ الخطوات المتّخذة حتى الآن بمعالجة نطاق المشكلة وتعقيدها. لاحظت وزارة البيئة أن تنفيذ حظر الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد عملية صعبة على المستوى الوطني، مع الأخذ في الاعتبار المخاوف بشأن التبعات الاقتصادية المترتّبة على آلاف منتجي البلاستيك. لذا، لم يتم تنفيذ الحظر الشامل. ويُعدّ قانون تنظيم إدارة المخلّفات، الذي يعالج بعض جوانب مشكلة التلوث البلاستيكي، مثالًا آخر على بداية واعدة انحرفت عن مسارها. فالقانون حدّد استراتيجية المسؤولية الممتدّة للمنتِج، التي يقع بمقتضاها على عاتق المنتجين مسؤولية تكاليف الجمع وإعادة التدوير. وينظّم كذلك عمليات البيع والتداول والتخزين والتوزيع والتخلّص من الأكياس البلاستيكية الأحادية الاستخدام. لكن استراتيجية المسؤولية الممتدّة للمنتِج تفتقر إلى خطة تنفيذ واضحة، ولم يتم تطبيقها في الواقع.

تأثير مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ

كان مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP27 )، الذي عُقد في شرم الشيخ في العام 2022، أكبر حدث أثّر على الحركة البيئية في مصر منذ تفشّي وباء كوفيد-19. وقد وُجِّهت الكثير من الانتقادات للمؤتمر، لكن تأثيره السلبي الأبرز على البيئة المحلية تمثّل في استضافة أكثر من 30,000 مشارك، من دون تحديد مبادئ توجيهية واضحة حول كيفية تنظيم مؤتمر صديق للبيئة.

واقع الحال هو أن ملايين الدولارات التي أُنفقت قبل المؤتمر وخلاله لم تحوّل شرم الشيخ إلى مدينة أكثر رفقًا بالبيئة. بل وقد أدان النشطاء البيئيون التداعيات البيئية السلبية الهائلة لأعمال البناء اللازمة من أجل إعداد المدينة لاستضافة أحد أكبر المؤتمرات المعنية بتغير المناخ في التاريخ. وقد أنتج هذا الحدث أيضًا كميات هائلة من البلاستيك في مجتمع شاطئي معزول ذي بنية تحتية ضعيفة لإدارة النفايات. وكان الافتقار إلى الوضوح والمساءلة بمثابة دعوة إلى ممارسة ما يُسمّى بالتبييض الأخضر (greenwashing ). فعلى سبيل المثال، قامت شركة كوكا كولا، وهي أسوأ ملوّث بلاستيكي في العالم، برعاية هذا المؤتمر.

وكان للمؤتمر أيضًا تأثير غير مقصود تمثّل في إعادة توجيه التمويل المتاح في مصر بعيدًا عن الأولويات الأخرى التي كانت ستخدم المجتمعات الأشد حاجة للتمويل. وأعاد الكثير من السياسيين والمنظمات والشركات تركيز عملهم ليشمل البيئة، حتى يتمكنوا من الاستفادة من التمويل والتغطية من المؤتمر. ولاحظت منظمات المجتمع المدني البيئية المحلية بشكل خاص أن هذا الأمر أدى إلى مزاحمة المنظمات والمؤسسات الاجتماعية التي كانت تعمل في القطاع البيئي منذ سنوات، ما دفع الكثير منها إلى عدم المشاركة في المؤتمر على الإطلاق. وبالنسبة إلى منظمات المجتمع المدني الأخرى، احتلّت برامج الحدّ من البلاستيك مقعدًا خلفيًا لصالح العمل الموجّه نحو المؤتمر.

حتى البرامج الحكومية أُعيد توجيهها نحو الفرص الاقتصادية حول المؤتمر. ففي مطلع العام 2022، بدأت وزارة البيئة مناقشات حول إنشاء جناح مخصّص للتلوث البلاستيكي مع بعض منظمات المجتمع المدني، بما في ذلك أعضاء مبادرة "إيكو-دهب"، لكن الجناح لم يرَ النور. ونُظِّمت كذلك حملات تنظيف في المحميات الطبيعية المحيطة بشرم الشيخ، ولكن لم تُطبَّق بالكامل أي سياسة طويلة الأمد للحدّ من استعمال المنتجات البلاستيكية الأحادية الاستخدام. صحيحٌ أن بعض المنظمات المصرية والمجموعات الدولية نظّمت فعاليات جانبية في مؤتمر شرم الشيخ، ركزت على الحدّ من النفايات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، إلا أنها كانت في الغالب مرتجَلة واكتفت بالدعم اللفظي لهذه القضية بدلًا من الانخراط الفعال.

ومع ذلك، تمثّل الجانب المشرق للمؤتمر في أن منظمات المجتمع المدني المصرية والمؤسسات الاجتماعية التي تعاونت في مشاريع الحدّ من البلاستيك في السنوات السابقة استطاعت الاندماج والتعامل مع حقل الألغام السياسي الذي أفرزه المؤتمر. فقد اجتمعت 32 منظمة/مبادرة لتقديم توصيات مشتركة إلى رئيس المؤتمر والرئيس المصري بشأن القضايا المتعلقة بالزراعة والتنوع البيولوجي البحري ومسائل أخرى، وبَنَت أيضًا الكشك الوحيد المصنوع بالكامل من المواد المُستصلحة والمُعاد تدويرها. ودعمت ورش عمل وفعاليات يومية أجرتها منظمات محلية صغيرة التي لولا ذلك لم تكن لتتمكن من المشاركة في المؤتمر بسبب التكلفة. ومن خلال التعاون وتضافر الجهود سعيًا إلى تحقيق أهداف مشتركة، أُنشئت حركة عمل جماعي تنخرط في الوقت الراهن مع الشركاء الإقليميين والدوليين بشأن معاهدة التلوث البلاستيكي العالمية.

معاهدة التلوث البلاستيكي العالمية

في آذار/مارس 2022، أصدرت جمعية الأمم المتحدة للبيئة قرارًا يهدف إلى إبرام معاهدة شاملة بشأن التلوث البلاستيكي بحلول العام 2024. ونصّ القرار على إنشاء لجنة التفاوض بين الحكومات المكلّفة بصياغة اتفاق دولي ملزِم قانونًا. ووصفته المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إنغر أندرسن، بأنه "أهم صفقة بيئية متعدّدة الأطراف" منذ إبرام الدول اتفاق باريس للمناخ في العام 2015. وقد شكّلت مجموعة من الدول الأعضاء في الجمعية التحالف العالمي عالي الطموح لإنهاء التلوث البلاستيكي.

وقد تشاركت رواندا والنرويج رئاسة هذا التحالف خلال الدورتَين الأولى والثانية للجنة التفاوض بين الحكومات، بحيث دعتا إلى تطوير آلية فعالة وقابلة للتنفيذ. وقد ركزت المفاوضات على مسارَين: النص الذي يحدّد أهداف المعاهدة، والهيئة المنظِّمة التي ستتولى تنفيذها. ويسعى التحالف عالي الطموح إلى صياغة معاهدة قوية ستنهي التلوث البلاستيكي بحلول العام 2040 بدلًا من مجرد تقليله. وسيستلزم ذلك خفضًا كبيرًا في إنتاج المواد البلاستيكية، على أن يقتصر استخدامها على المنتجات الأساسية فقط. في موازاة ذلك، سيتطلب الأمر أيضًا الاستثمار في تطوير بدائل بلاستيكية مستدامة وإنشاء اقتصاد دائري حقيقي للمنتجات البلاستيكية.

أما على صعيد التنفيذ، فيقترح التحالف عالي الطموح نهجًا من أعلى إلى أسفل باستطاعته وضع أهداف ملزِمة قانونًا لجميع الموقعين على المعاهدة. لكن الولايات المتحدة والسعودية وبعض الدول الأخرى تدعم التزامات طوعية مماثلة لاتفاق باريس، تحدّد كل دولة بموجبها أهدافها الخاصة. وهذا على الرغم من أن بنية اتفاق باريس لم تكن كافية لتحقيق الهدف العام المتمثّل في الحؤول دون ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية بمقدار 1.5 درجة مئوية فوق مستوى ما قبل الثورة الصناعية.

يكشف الملف الذي قدّمته مصر في الدورة الثانية للجنة التفاوض بين الحكومات عن الحاجة إلى استراتيجية مصرية أوضح للحدّ من التلوث البلاستيكي. وركّز الملف على إعادة التدوير واعتماد منحى دائري في استخدام البلاستيك بدلًا من التخلص التدريجي من إنتاجه، وهذه النقطة تتماشى مع قطاعَي النفط وإنتاج المواد البلاستيكية في البلاد. لكنه أوصى أيضًا بتنفيذ النص الملزِم قانونًا بشأن التلوث البلاستيكي قيد التفاوض في الدورة الثانية للجنة التفاوض بين الحكومات بعد "التنفيذ الناجح للاتفاقات البيئية المتعدّدة الأطراف الأخرى، وبخاصة بروتوكول مونتريال". وقد سعى بروتوكول مونتريال للعام 1987 - الذي وصفه كوفي عنان، الذي أصبح لاحقًا الأمين العام للأمم المتحدة بأنه "ربما أنجح الاتفاقيات الدولية حتى الآن" - إلى حماية طبقة الأوزون عن طريق التخلص التدريجي من إنتاج المواد المُستنفدة لها. وتأكيدًا على الجوانب المتضاربة في الملف المُقدّم، أوصى أيضًا باتّباع مثال أُطر أقل فعالية من بروتوكول مونتريال، مثل اتفاقية التنوع البيولوجي واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ واتفاق باريس.

مع ذلك، يتيح مسار لجنة التفاوض بين الحكومات الفرصة أمام المجتمع المدني للانخراط بشكل ملموس. فقد واصلت مجموعة منظمات المجتمع المدني المصرية، التي اجتمعت في مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ (COP27 )، العمل مع أصحاب المصلحة الأساسيين المصريين والدوليين بشأن معاهدة التلوث البلاستيكي العالمية. وشارك أعضاء التحالف المصري غير الرسمي للحدّ من البلاستيك إلى جانب منظمات المجتمع المدني الدولية في التحضير للدورة الثانية التي عقدتها لجنة التفاوض بين الحكومات في أوائل العام 2023، إذ قدّموا توصيات سياساتية إلى الوفد المصري وحضروا المفاوضات.

تحويل الأزمة إلى فرصة

لدى مصر فرصة لقيادة التوجّه العالمي نحو الاستغناء عن البلاستيك. فهي تمتلك الوسائل اللازمة لتطوير البنية التحتية لإعادة الاستخدام، ولتصبح مصدّرًا للبدائل البلاستيكية بفضل غناها بالموارد الطبيعية، بما في ذلك الزجاج والقطن والنفايات الناتجة عن قصب السكر وقشور الأرز، وموقعها الاستراتيجي على طرق الإمداد العالمية. على سبيل المثال، تمكنت مصر من جمع وإعادة تدوير أكثر من مليوني طن من قشّ الأرز بنجاح في العام 2020، ويمكنها أن تفعل ذلك أيضًا مع ما يُقدَّر بنحو 3 ملايين طن من مخلّفات قصب السكر. وقد فازت المهندسة المصرية إيرين سامي فهيم غابرييل بجائزة دولية في العام 2020 لابتكارها أدوات مائدة مصنوعة من قصب السكر.

ولدى مصر أيضًا حافزٌ للاستغناء عن البلاستيك. فستصبح المواد البلاستيكية غير الأساسية تدريجيًا مُهملة بسبب انخفاض الطلب عليها، وتشديد اللوائح التنظيمية في البلدان المتقدّمة، والشهادات الأكثر صرامة، والضغط من أجل تقليل انبعاثات الكربون. إن الاستثمارات التي تدعم التوسع في الصناعات القائمة على الوقود الأحفوري، وخاصة في البوليمرات البلاستيكية الأولية، لن تجني عوائد طويلة الأجل. لذلك، على الحكومة المصرية مساعدة الاقتصاد في الاستعداد للتحوّل العالمي من النفط نحو الموارد الطبيعية المستدامة. لكن ثمة حاجة إلى حوافز كبيرة من قبل الحكومة المصرية والمجتمع الدولي لتطوير بدائل بلاستيكية إذا أرادت مصر تطوير صناعة التعبئة والتغليف المستدامة القادرة على إمداد الأسواق الدولية. ومن الخطوات المهمة في هذا الصدد دعم المصنّعين والصناعات لتبني ممارسات مستدامة، مثل الاستغناء عن العبوات البلاستيكية وإلغاء محفزات إنتاج البلاستيك.

من المؤسف أن الإطار التنظيمي الحالي في مصر لا يفضي إلى الابتكار. تحتاج الحكومة إلى ضمان التنفيذ الفعال لقانون تنظيم إدارة المخلّفات، بما في ذلك فرض حظر على الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد وتطبيق استراتيجية المسؤولية الممتدّة للمنتِج بشكل يفيد إعادة التدوير والاستثمار في البدائل البلاستيكية. إضافةً إلى ذلك، ينبغي على مصر وضع إطار قانوني وتنظيمي يدعم البحث والتطوير، وكذلك إنتاج وتصدير البدائل البلاستيكية. من شأن سنّ سياسات وتنظيمات شاملة لحظر أو تقييد استخدام المواد البلاستيكية غير الضرورية وتعزيز الممارسات المستدامة، أن يوفر الإطار القانوني والحوافز اللازمة لتطوير صناعة بديلة موجّهة نحو الابتكار.

التنمية الشاملة

لن تقتصر الفوائد الاقتصادية في مصر على حفنة قليلة من الجهات الفاعلة التي تُعدّ في طليعة تطوير بدائل عن البلاستيك للسوق المحلية. ففيما يبدأ العالم بالحدّ من المواد البلاستيكية غير الضرورية والأحادية الاستخدام، من شأن مصر تحقيق مكاسب اقتصادية ضخمة وواسعة النطاق بفضل غناها بالمواد الخام التي يمكن استخدامها من أجل إنتاج بدائل بلاستيكية مستدامة. مع ذلك، لن تستطيع المؤسسات الاجتماعية المستدامة التنافس مع منتجي البلاستيك، أو الابتكار لتطوير قطاع يمكنه التنافس في الأسواق العالمية، ما لم تحظَ بدعم قوي من الحكومة المصرية.

إضافةً إلى ذلك، تتطلّب معالجة مشكلة التلوث البلاستيكي في مصر اتّباع نهج متعدّد الجوانب يشمل مختلف أصحاب المصلحة. لا شك من أن الانخراط القوي مع منظمات المجتمع المدني بشأن استراتيجيات الحدّ من البلاستيك ستعود بالفائدة، ولكنها لن تكون كافية. بل ينبغي أن تتضمن الاستراتيجيات مسارات لوقف إنتاج البلاستيك بدلًا من التركيز حصرًا على إعادة التدوير والحدّ من تسرّب البلاستيك. غالبًا ما تكون القضايا البيئية في البداية عبارة عن مخاوف خاصة بالطبقة المتوسطة العليا، لكن تجربة جامعي النفايات غير الرسميين توضح أن التخلّص من البلاستيك يستلزم اتّباع نهج شامل. ومن شأن معاهدة عالمية شاملة تُعنى بالتلوث البلاستيكي وتشمل أحكامًا تتعلق بالاستغناء عن البلاستيك على نحو عادل، أن تضمن عدم تخلّف أي مصري عن الركب.

الارتقاء بمصر لتصبح دولة رائدة عالميًا في مجال الهيدروجين الأخضر

في ظل تسارع وتيرة التحوّل العالمي في مجال الطاقة، برز الهيدروجين الأخضر كحلٍّ واعد، ومثير للجدل في بعض الأحيان، لتخفيف تداعيات تغير المناخ وتنويع مصادر الطاقة. وضعت مصر نصب أعينها أن تصبح لاعبًا عالميًا رئيسًا في هذا المجال بفضل موقعها الاستراتيجي، وسوقها المحلية الكبيرة، ووفرة الطاقة الشمسية فيها. وتشمل الدوافع المهمة لإنشاء قطاع هيدروجين مزدهر ضمان أمن الطاقة والحماية من تقلّبات الأسعار، مثل تلك الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية. ويَعِد الهيدروجين أيضًا بتوليد فرص العمل، وتعزيز الصادرات، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتعزيز الإبداع التكنولوجي محليًا.

وعلى النقيض من الحكومات المصرية السابقة، التي لم يكن دعمها لإنتاج الطاقة المتجدّدة كافيًا، تبنّت إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي استراتيجية طموحة متعدّدة الأوجه للوفاء بالتزامات البلاد المناخية وتعزيز النمو الاقتصادي. وحدّدت استراتيجية الهيدروجين الأخضر، التي تم كشف النقاب عنها خلال مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ للعام 2022 (COP27) في شرم الشيخ، المصادر الرئيسة للطلب المُستقبلي على الهيدروجين، بما في ذلك منتجات الأسمدة، والأمونيا، والميثانول للوقود البحري وصادرات الطاقة، ووقود الطائرات، والنقل البري، والسكك الحديدية. وتم تخصيص أرض واسعة بالقرب من نهر النيل لتوليد طاقة الرياح والطاقة الشمسية، مع خطوط نقل مخصّصة لتسهيل نقل الطاقة المتجدّدة إلى مشروع الهيدروجين المخطّط له بقيمة 5.5 مليارات دولار في ميناء العين السخنة. وقد نالت هذه الرؤية إعجاب البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، فقرّر إقراض مصر 80 مليون دولار لتمويل صناعة الهيدروجين الأخضر الناشئة، وهذا أول قرض من نوعه يقدّمه البنك.

مع ذلك، تعتمد رحلة مصر لتصبح لاعبًا بارزًا في مجال الطاقة المتجدّدة على تنفيذها الناجح لمجموعة من السياسات الاستراتيجية القادرة على إطلاق العنان لإمكاناتها الهائلة. وتشكّل الاستثمارات الموجّهة، وآليات الدعم الإداري، وترشيد التوسّع الحضري غير المخطّط له، والتقدّم التكنولوجي عوامل ضرورية لضمان توافق البنية التحتية، وتعزيز ممارسات الإدارة المستدامة للمياه، وتسهيل توسيع نطاق قدرات الطاقة المتجدّدة. ومن شأن توسيع نطاق هذه القدرات وتعزيز التعاون في مجال البحث والتطوير أن يعزّزا مكانة مصر في مجال الهيدروجين الأخضر. لكن، يتعيّن على مصر التغلّب على تحدياتها السياسية والاقتصادية والبيئية الملحّة حتى تتمكن من تحقيق انتقال شامل وناجح نحو مستقبل مستدام.

عانت مصر، خلال معظم تاريخها الحديث، من مشاكل الديون السيادية وارتفاع معدلات التضخم والتدهور البيئي الشديد، مع تحقيق مكاسب اقتصادية قصيرة المدى أدت إلى الاستغلال غير المستدام لطبقات المياه الجوفية غير المتجدّدة والأراضي الرطبة والسواحل. علاوةً على ذلك، ركزت الحكومة على التصنيع الجامح، إلى جانب تدابير التقشف الاقتصادي، ما قد يضر بجهود إعادة التأهيل البيئي في المستقبل، ويؤدي إلى تفاقم الضغوط البيئية، وفي نهاية المطاف إلى زيادة معدلات الفقر وتأجيج الاضطرابات الاجتماعية. وفي هذا السياق، فإن إنشاء قطاع الهيدروجين الأخضر بالكامل سيتطلب نظرة متوازنة ورصينة. ويتعيّن على جميع المعنيين أن يأخذوا في الاعتبار الحقائق الاجتماعية والسياسية الاقتصادية الراسخة والمُعرقلة لمسار دولة نامية مثل مصر.

ويجب أن تضع مصر في صُلب أولوياتها اتّباع نهج شامل وعملي إذا أرادت إحراز تقدّم ثابت ومستدام نحو تحقيق قطاع طاقة خالٍ من الكربون وتعزيز صناعة الهيدروجين الأخضر وتصديره.

إمكانات مصر التحويلية

تسهم المزايا النسبية التي تتمتع بها مصر في قطاع الطاقة المتجدّدة في تسهيل مسار البلاد نحو الاضطلاع بدور بارز في قطاع الهيدروجين الأخضر، نظرًا إلى أنه يُنتَج من خلال مصادر الطاقة المتجدّدة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ولدى مصر بنية تحتية واسعة النطاق للطاقة، وإمكانات كبيرة للطاقة المتجدّدة، ومرافق تخزين واسعة، ناهيك عن أن قدرتها على الاستفادة من مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح يمكن أن تؤدّي دورًا حيويًا في إنتاج الهيدروجين المستدام والخالي من الكربون.

وفيما تسعى مصر إلى تلبية المتطلبات الأساسية لإنتاج الهيدروجين، من المرجح أن يؤدي دمج الهيدروجين الأخضر في مزيج الطاقة لديها إلى تحقيق فوائد جانبية كبيرة، بما في ذلك الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة والابتعاد عن الوقود الهيدروكربوني التقليدي الكثيف الكربون، وجذب الاستثمارات التي تشجّع على نمو الاقتصاد المتعدّد القطاعات. وعلى الرغم من الفوائد المحتملة لإنتاج الهيدروجين الأخضر، تحتاج مصر إلى معالجة مسائل بيئية مهمة للاستفادة الكاملة من إمكاناتها البيئية. يمكن أن يطرح استخدام الأراضي والمنافسة على موارد الطاقة المتجدّدة تحديات عدة، إلى جانب زيادة الضغط على معدلات الطلب على المياه في بلد يواجه أساسًا ندرة حادّة في المياه. يتطلّب دمج عنصر الهيدروجين الأخضر في استراتيجية تنمية الاقتصاد الكلّي في مصر اتّباع نهج شامل ومخطّط له جيّدًا لتحقيق التوازن الفعّال بين العوامل البيئية الخارجية ذات الصلة وضمان النمو المستدام والمسؤول في قطاع الهيدروجين.

كذلك، قد يفضي دمج الهيدروجين في إطار الطاقة في مصر إلي التحفيز على إنجاز تحولات جوهرية في قطاعات عدة. على سبيل المثال، إن اعتماد مركبات تعمل بخلايا الوقود الهيدروجيني وإنشاء البنية التحتية للتزوّد بالوقود الهيدروجيني يمكن أن يولّدا تغييرات إيجابية كبيرة في قطاع النقل. ومن شأن هذا التحوّل أن يحسّن بشكل ملحوظ حركة التنقّل، ويقلّل من تلوث الهواء (أكسيد النيتروجين والجسيمات) والضوضاء، ويحدّ من انبعاثات الكربون، ويخفّف من العواقب البيئية المترتّبة على زيادة استخراج النفط اللازم لقطاع النقل. ومن الممكن أن يؤدّي التحرك نحو النقل المستدام أيضًا إلى تحفيز الاستثمارات في مختلف القطاعات، وأبرزها صناعة السيارات. ومن شأن إنتاج الهيدروجين الأخضر أن يوفّر الوقود بشكل مباشر لقطاع صناعة مركبات تعمل بخلايا الوقود الهيدروجيني الناشئ في مصر، ما يشجّع نمو الصناعة، ويؤدّي أيضًا إلى إحراز تقدّم على مستوى تكنولوجيات خلايا الوقود، وإعداد القوى العاملة الماهرة.

ومن خلال الدعم المناسب على مستوى السياسات وزيادة الاستثمار، يمكن لصناعة الهيدروجين المتطورة أن تعزّز الأسواق المحلية وأسواق التصدير لهذه المركبات. لدى مصر بالفعل صناعة سيارات ناشئة (تتكوّن من حوالى خمسة عشر مصنعًا لصناعة السيارات). ومنذ العام 2022، وقّعت أيضًا اتفاقيات استثمارية كبيرة مع عددٍ من شركات تصنيع السيارات العالمية، وأعلنت عن نيتها التعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة في الإنتاج المحلي. لكن، نظرًا إلى أن مصر واجهت تاريخيًا صعوبة في تحقيق أهدافها الصناعية، يعتمد نجاحها في إنشاء قطاع قادر على تصدير سيارات تعمل بالهيدروجين على تجاوز العقبات القائمة وتهيئة العوامل اللازمة لذلك. فمن دون معالجة هذه التحديات، قد لا يتحقق حلم مصر في أن تصبح لاعبًا بارزًا في صناعة السيارات التي تعمل بالهيدروجين.

تعتمد النتيجة الإجمالية لجهود مصر في قطاع الهيدروجين على قرارات الحكومة بشأن تخصيص الهيدروجين الأخضر للاستخدام المحلي أو التصدير. ويُعدّ التغلّب على العوائق المالية والتنظيمية والإدارية الكبيرة ضروريًا لنجاح هذا القطاع. إذا قرّرت الحكومة إعطاء الأولوية للسوق المحلية، فإن استبدال المواد الهيدروكربونية التقليدية بالهيدروجين الأخضر يمكن أن يقلّل بشكل كبير من انبعاثات الغازات الدفيئة. وقد يحسّن ذلك وضع الانبعاثات الصناعية في مصر ويعزّز قدرتها التنافسية في الأسواق ذات معايير الانبعاثات الصارمة وأهداف إزالة الكربون العالمية. ومع ذلك، فإن طبيعة قطاع الهيدروجين الذي يتطلّب رساميل كثيفة، على غرار الصناعات الأخرى المرتبطة بالطاقة، تطرح عددًا من التحديات. ولتحقيق فرص عمل في مجال الهيدروجين، وخاصة في القطاعات الثانوية والثالثية مثل تصنيع المعدات وتطوير البنية التحتية للهيدروجين، تحتاج الحكومة إلى إزالة العقبات المالية وتعزيز بيئة أعمال مؤاتية.

ويمكن أن يؤدي دمج الهيدروجين في قطاع توليد الطاقة أيضًا إلى تعزيز استخدام مصادر الطاقة المتجدّدة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح من خلال استخدامه لتخزين الطاقة للتعويض عن إنتاجهما المتقطّع. وسيتم دعم ذلك بشكل أكبر من خلال بناء محطات مختلفة للطاقة المتجدّدة إلى جانب مرافق الهيدروجين الأخضر، ما يتيح إمكانية تخزين الطاقة الزائدة على شكل هيدروجين لاستخدامها لاحقًا في توليد الطاقة بشكل عام.

لكن، لجعل التحوّل من الوقود الأحفوري إلى الهيدروجين ومصادر الطاقة المتجدّدة قابلًا للتطبيق في مصر، يجب تحديث شبكتها الكهربائية. فمن شأن تحسين كفاءة عملية التحويل من الكهرباء (المولّدة من الطاقة المتجدّدة) إلى الهيدروجين ثم العودة إلى الكهرباء، والتي تتراوح حاليًا بين 18 في المئة و46 في المئة، أن يعزّز الفائدة المجنيّة. ولن تسهم الكفاءة الأعلى لعملية التحويل هذه في استقرار الشبكة فحسب، بل ستزيد أيضًا من كفاءة استخدام الطاقة بشكل عام، ما يتيح توزيع إنتاج الطاقة المتجدّدة على نحو أكثر فعالية.

ويتماشى هذا التحوّل المخطّط له مع أهداف مصر في مجال الطاقة المتجدّدة، إذ يمكنه المساهمة بشكل كبير في تحقيق هدفها الأوسع المتمثّل في إزالة الكربون من إمدادها الكهربائي، مع تحصين البلاد ضد الصدمات المحتملة في أسعار الطاقة العالمية. ويُمكن لتقليل الاعتماد على إنتاج المواد الهيدروكربونية أن يضمن أيضًا إرساء قطاع طاقة أكثر مراعاةً للبيئة وأكثر استدامة من الناحية البيئية، ما يقلّص انبعاثات الغازات الدفيئة، ويعزّز مؤهلات مصر البيئية، ويفي بتعهداتها المقدّمة في إطار اتفاق باريس. لكن، كما هو موضح أدناه، يجب أن يتم الإشراف على المؤهلات البيئية للهيدروجين الأخضر من خلال فهم التعقيدات البيئية المرتبطة بإنتاجه.

التحديات

على الرغم من الآفاق الواعدة في مصر للانتقال إلى اقتصاد قائم على الهيدروجين المنخفض الكربون، ينطوي هذا المسار على الكثير من المهام. وهي تشمل ضمان إمدادات كافية من الطاقة المتجدّدة، وتحقيق التوازن بين إنتاج الهيدروجين واحتياجات الطاقة في القطاعات الأخرى (مثل التمسك بمبدأ "إضافة الطاقة المتجدّدة")، وفهم تعقيدات إنتاج الهيدروجين الأخضر والأزرق والفيروزي، والإحاطة بتفاصيل نقل الهيدروجين وتخزينه، ومعالجة ندرة المياه وإدارة الموارد، وتعزيز قدرات البحث والتطوير، وتأمين الموارد المالية، وإنشاء أُطر تنظيمية متينة وعمليات إصدار الشهادات. وتتطلب كل مهمة اتخاذ إجراءات حازمة ومبتكرة لضمان التطوير الناجح لاقتصاد هيدروجين مزدهر في مصر.

الهيدروجين الأزرق والفيروزي

صحيحٌ أن مصر ركزت في المقام الأول على تطوير صناعة الهيدروجين الأخضر، إلا أنها أجرت أيضًا دراسات جدوى فنية حول مشاريع الهيدروجين الأزرق والفيروزي مع أصحاب المصلحة الخارجيين (انظر الشكل 1). ما يتم إغفاله غالبًا هو أن إنتاج الهيدروجين الأزرق والفيروزي يمكن أن يكون في الكثير من الأحيان مجديًا أكثر على المستوى الاقتصادي من الهيدروجين الأخضر، وأن يلبّي في الوقت نفسه الأهداف المناخية. يتم تصنيع الهيدروجين الأزرق باستخدام الحرارة العالية والبخار لتحليل الغاز الطبيعي إلى هيدروجين، ويتم التقاط ثاني أكسيد الكربون الناتج من هذه العملية وتخزينه تحت الأرض، ما يجعله خيارًا أكثر رفقًا بالبيئة. ويتم استخلاص الهيدروجين الفيروزي عن طريق التحليل الحراري للميثان، ما يُنتج الكربون الصلب بدلًا من انبعاثات الكربون. تتطلب عمليات إنتاج كلا النوعين من الهيدروجين طاقة أقل لكل كيلوغرام من إنتاج الهيدروجين الأخضر، وبالتالي فهي أكثر كفاءة في استخدام الطاقة بشكل عام. يُضاف إلى ذلك أنها تستخدم المواد الخام الموجودة من الغاز الطبيعي والميثان، والتي لا تتطلب استثمارات ضخمة في الطاقة المتجدّدة كتلك التي يتطلبها الهيدروجين الأخضر. كذلك، يمكن استخدام جزءٍ من الهيدروجين الناتج من الطريقتَين لتشغيل عمليات الإنتاج، ما قد يؤدي إلى إنشاء دورة إنتاج منخفضة الكربون أو خالية من الكربون.

مع ذلك، تشكّل إقامة مرافق احتجاز الكربون وتخزينه أو مرافق احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، تحديًا آخر لإنتاج الهيدروجين الأزرق. من المحتمل أن تكون حقول الهيدروكربون المُستنفدة في مصر بمثابة مواقع تخزين، ولكن ثمة مخاوف بشأن التفاعل المحتمل للهيدروجين مع المواد المتبقية في الحقول واحتمال إطلاق كبريتيد الهيدروجين، وهو غاز سام. إضافةً إلى ذلك، سيؤدي استخدام حقول الهيدروكربون المُستنفدة لتخزين الهيدروجين إلى ارتفاع تكاليف إنتاج الهيدروجين الأزرق. معظم حقول الهيدروكربون مُصمّمة لاستخراج النفط والغاز، وليس لتخزين الهيدروجين. ونتيجةً لذلك، قد يتطلّب تكييف هذه الحقول لتخزين الهيدروجين تعديلات كبيرة على البنية التحتية الحالية أو تطوير مرافق جديدة، ما يؤدي إلى تكاليف إضافية. وثمة أيضًا نفقات مرتبطة بمراقبة الحقول وصيانتها للتأكد من سلامة مواقع التخزين ومنع التسربات، فضلًا عن تكاليف النقل المحتملة إذا لم تكن الحقول واقعة بالقرب من مواقع إنتاج الهيدروجين. تواجه جميع عمليات إنتاج الهيدروجين تحديات يجب أخذها في الاعتبار عند تحليل التكلفة والعائد.

النقل والتخزين واستخدام الأراضي

التحدي الكبير الآخر هو نقل الهيدروجين، خاصةً مقارنةً مع قابلية التبادل بين النفط والغاز الطبيعي المسال. وعلى عكس الوقود التقليدي، لا يمكن نقل الهيدروجين أو تخزينه بسهولة بسبب قيود البنية التحتية وخصائصه الكامنة، مثل انخفاض كثافة الطاقة الحجمية، والانتشارية العالية، وقابلية الاشتعال، وانخفاض نقطة الغليان.

لذا، سيتعيّن على مصر إنشاء بنية تحتية منفصلة لنقل الهيدروجين حتى تتمكن من دعم إنتاجه على نطاق واسع ونقله بشكل آمن وفعّال. وفي حين أن الاستفادة من شبكة الغاز الطبيعي الحالية وإعادة توظيفها أمر ممكن وقابل للتطبيق في بعض الحالات، يجب أخذ اعتبارات مهمة في الحسبان. في الواقع، تواجه البلاد بالفعل مشاكل متعلقة بالكثافة السكانية، وتُعدّ المساحة المتاحة لتطوير البنية التحتية محدودة. وفي ظل تنافس متطلبات استخدام الأراضي، قد يكون من الصعب العثور على مواقع مناسبة لبنية تحتية منفصلة وموجّهة للهيدروجين.

يمكن أن تسفر مرافق إنتاج الهيدروجين المنفصلة أيضًا عن أعباء بيئية. فقد يتطلب إنشاء المرافق وتشغيلها إحداث تغييرات في استخدام الأراضي من شأنها تعطيل الموائل الطبيعية، ما يؤثر بدوره على التنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي. إضافةً إلى ذلك، يجب إدارة توسيع البنية التحتية بعناية لتجنّب مفاقمة مشاكل الطلب على المياه أو التسبّب بضغط لا داعي له على الموارد المائية.

علاوةً على ذلك، قد تفضي الزيادات السنوية في درجات الحرارة غير المنضبطة في المنطقة، والتي من المحتمل أن تتجاوز 5 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية بحلول العام 2100، إلى إجهاد السلامة المادية للبنية التحتية للهيدروجين في مصر، بما في ذلك خطوط الأنابيب ومرافق التخزين. وقد يتسبّب التوسع الناجم عن الحرارة بمشاكل هيكلية ويزيد من خطر حدوث تسربات أو مواطن خلل تشغيلية أخرى. ويمكن أن تؤثر الحرارة الشديدة أيضًا على كفاءة الطاقة في طرق إنتاج الهيدروجين، ما قد يؤدي إلى زيادة استهلاك الطاقة لأنظمة التبريد. وقد يُثقل هذا الطلب المتزايد على الطاقة العبء الذي تتحمّله شبكة الطاقة، وخصوصًا خلال فترات ذروة استخدام الكهرباء، عندما يرتفع الطلب على التبريد وتكييف الهواء.

وأخيرًا، قد يصطدم تطوير مثل هذه البنية التحتية ونشرها بعقبات مالية كبيرة. وبالتالي، يجب النظر بعناية في موقع وقدرة شبكات خطوط الأنابيب المخصّصة لضمان توزيع الهيدروجين بشكل أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة. أحد الحلول المحتملة هو تحويل الهيدروجين إلى أمونيا خضراء أو ميثانول أخضر، لأن التعامل معهما وتخزينهما ونقلهما أسهل بكثير وأقل تكلفة. لكن قد لا يكون هذا مناسبًا للاستخدام المكثّف للهيدروجين كوقود مباشر في توليد الطاقة. ويُعزى ذلك إلى كفاءة تحويل الطاقة، إذ يتضمّن تحويل الهيدروجين إلى أمونيا خضراء أو ميثانول أخضر ثم استخدام هاتَين المادّتَين لتوليد الطاقة، خطوات تحويل إضافية مقارنةً مع استخدام الهيدروجين مباشرة. فقد تؤدي كل خطوة إلى فقدان قدرٍ من الطاقة، ما يقلّل من الكفاءة الإجمالية.

ندرة المياه

كما ذكرنا سابقًا، تشكل ندرة المياه تحديًا هائلًا لمصر، وما يزيد من المخاوف هو اعتمادها على نهر النيل للحصول على المياه العذبة. في العام 2022، أعلنت الحكومة أن مصر دخلت رسميًا مرحلة "الفقر المائي"، لأنها تفتقر إلى ما يكفي من المياه لمواطنيها. وقد تَسارع هذا الانخفاض في توافر المياه بسبب عوامل مختلفة، بما في ذلك بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير الذي أدى إلى انخفاض تدفّق المياه إلى مصر، فضلًا عن النمو السكاني والتوسع الحضري السريع، وارتفاع درجات الحرارة. وقد أدّى الاستخدام غير المستدام للمياه في المشاريع الزراعية الواسعة النطاق وبناء محطات الطاقة الكهرومائية عند منبع نهر النيل، إلى مزيدٍ من الضغط على الموارد المائية. ومنذ العام 2022، تعاني مصر من عجز سنوي في المياه يصل إلى 54 مليار متر مكعب.

يصل هذا الوضع إلى مستويات حرجة. وثمة مؤشرات مثيرة للقلق بشكل متزايد على أن ندرة المياه تسهم في التوترات الاجتماعية في مصر، التي تعاني بالفعل من ضغوطات اجتماعية وسياسية كثيرة. لذلك، فإن معالجة ندرة المياه أمرٌ بالغ الأهمية ليس فقط لإرساء التوازن البيئي ولكن أيضًا لتحقيق رفاهية سكان مصر والاستقرار الاجتماعي. تُعدّ التدابير الاستباقية، وممارسات الإدارة المستدامة للمياه، والاستثمارات في تقنيات إنتاج الهيدروجين الموفّرة للمياه، ضروريةً للتخفيف من حدة التأثيرات المتتالية لندرة المياه على مختلف القطاعات.

لقد تم طرح التحليل الكهربائي لمياه البحر كحلٍّ محتمل لندرة المياه العذبة، ولكن هذه التكنولوجيا لم تحقّق بعد وفورات الحجم المطلوبة، وقد تطلق مزيدًا من العمليات ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة والكربون. ومن الممكن أن يتنافس بناء المرافق اللازمة مع الحاجة إلى توفير السكن المناسب وبأسعار معقولة لعدد سكان مصر المتزايد. وقد تعيق هذه القضايا بدورها إمكانية اعتمادها على نطاق واسع وتؤدي إلى زيادة تكاليف الإنتاج، ما من شأنه أن يؤثّر على طموح البلاد في أن تصبح منتجًا للهيدروجين المنخفض التكلفة. سيكون من الضروري إرساء التوازن بين الطلبات المتنافسة على المياه، وتنفيذ استراتيجيات الحفظ، واستكشاف مصادر مياه بديلة من أجل إنتاج الهيدروجين الأخضر، للتغلّب على مشكلة ندرة المياه ومعالجة تداعياتها البعيدة المدى على مصر في إطار سعيها إلى دفع عجلة النمو على مستوى الاقتصاد الكلّي.

البحث والتطوير

يُعدّ الاستثمار في البحث والتطوير أمرًا حيويًا أيضًا لتعزيز التقدّم التكنولوجي والابتكار في قطاع الهيدروجين. فمن دون بذل جهود كافية في مجال البحث والتطوير، لن تكون مصر مستعدة لمواجهة التحديات الفنية والتشغيلية الصعبة، ما سيعوّق في نهاية المطاف إمكانية توسيع مشاريع الهيدروجين الخاصة بها وتحقيق استدامتها. ومن شأن عوامل مثل الافتقار إلى قاعدة معرفية ومهارات فنية يُعتدّ بها، إلى جانب غياب التكنولوجيا اللازمة، أن تحدّ من قدرة مصر على تحسين أداء المحلّل الكهربائي، وتعزيز تكنولوجيات تخزين الهيدروجين، وتطوير شبكات توزيع فعّالة، ودمج الهيدروجين في أنظمة الطاقة الحالية.

صحيحٌ أن مصر كانت (ولا تزال إلى حدٍّ ما) القوة التعليمية في العالم العربي وأنتجت فنّيين ومهندسين ماهرين، إلا أنها لا تزال بحاجة إلى التغلّب على بعض العقبات على صعيد البحث والتطوير. لقد اعتمدت جهود البحث والتطوير تاريخيًا على المبادرات التي تقودها الدولة بدلًا من إشراك قطاع الأعمال بشكل فعّال. ولا يزال الإنفاق على البحث والتطوير في البلاد متخلّفًا عن نظيره في دول أخرى، مثل تلك الواقعة في الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن مصر تهدف إلى زيادة الإنفاق على البحث والتطوير ليصل إلى 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، فإن تعزيز قدرات البحث والتطوير سيتطلب أيضًا إصلاحات منهجية لترقية ثقافة الابتكار وتعزيز تبادل المعرفة والتعاون بين الأوساط الأكاديمية والصناعية والحكومية. فمن دون هذه الإصلاحات، ستبقى فرص اكتساب التكنولوجيات والخبرات المتقدّمة وتطويرها محدودة.

التمويل

تشكل الاعتبارات المالية هاجسًا كبيرًا في سياق النهوض بقطاع الهيدروجين الأخضر. ثمة حاجة إلى تمويل كبير لمواصلة دعم جهود البحث والتطوير، والتنفيذ الفعّال لمشاريع الهيدروجين الأخضر. ونظرًا إلى التكاليف الرأسمالية المرتفعة المرتبطة بالبنية التحتية للهيدروجين الأخضر، وخاصة المحلّلات الكهربائية، تشتدّ الحاجة إلى استثمارات كبيرة للتغلّب على العوائق الأولية وضمان النمو الناجح لمبادرات الهيدروجين الأخضر وقابلية التوسع. مع ذلك، ستمثّل هذه الاستثمارات مهمة صعبة لمصر، لأنها مُثقلة بالقيود المالية وأولويات الاستثمار المتنافسة.

تتراوح تكلفة المحلّل الكهربائي للمياه القلوية من 500 دولار إلى 1,000 دولار لكل كيلوواط، فيما تتراوح تكلفة المحلّل الكهربائي بغشاء إلكتروليت البوليمر من 700 دولار إلى 1,400 دولار لكل كيلوواط. ونظرًا إلى هدف استبدال إنتاج الهيدروجين الرمادي الحالي (المُنتج من الميثان أو الفحم) بالهيدروجين الأخضر في مصر، ستطرأ الحاجة إلى قدرة تحليل كهربائي إجمالية تبلغ 21 جيغاواط. ويعني ذلك متطلبات استثمارية ضخمة تتراوح بين 11 مليار دولار و29 مليار دولار، باستثناء تكاليف تطوير قدرة مخصّصة للطاقة المتجدّدة لتشغيل المحلّلات الكهربائية. وحتى لو تم استبدال نصف إنتاج الهيدروجين الرمادي في مصر بالهيدروجين الأخضر، سيظل العبء المالي كبيرًا.

ويمكن لمصر أن تستكشف إمكانات الشراكة بين القطاعَين العام والخاص لمعالجة حاجز التكلفة الرأسمالية. في الواقع، تتمتع البلاد بتاريخ من مشاريع الشراكة الناجحة بين القطاعَين العام والخاص، مع أكثر من خمسين مشروعًا نشطًا بقيمة إجمالية تبلغ 10 مليارات دولار. لكن نموذج التمويل هذا لن يؤمّن سوى جزء صغير من التمويل الكبير اللازم لتطوير قدرة الهيدروجين الأخضر على نطاق واسع. تحتاج مصر إلى إشراك الكثير من الشركاء المحليين والدوليين بشكل مستمر. وقد يكون من الضروري إقامة علاقات تعاون استراتيجي وآليات تمويل مبتكرة واستثمارات مرحلية طويلة الأجل تمتدّ لفترة عشر سنوات أو أكثر.

بيئة السياسات

ينبغي على مصر أيضًا معالجة مسألة غياب اللوائح المحلية وهيئات إصدار الشهادات القادرة على التحقق من أصل الهيدروجين الأخضر وجودته. يثير غياب عمليات إصدار الشهادات الموحدة مخاوف بشأن موثوقية وأصالة منتجات الهيدروجين الأخضر. ومن دون آليات يُعتدّ بها لإصدار الشهادات، يصبح ضمان المصداقية وقبول السوق للهيدروجين الأخضر مهمة شاقة. فسوف تعيق حالة انعدام اليقين بشأن إصدار الشهادات نمو هذه الصناعة وتحدّ من إمكاناتها التصديرية.

لذلك، يتّسم إنشاء إطار قانوني وتنظيمي شامل بأهمية قصوى لإرساء بيئة تمكينية تغرس روحية الثقة لدى المستثمرين المحليين والدوليين. وينبغي لهذه اللوائح أن توفّر الوضوح والتوجيه للجهات الفاعلة في هذا القطاع، فضلًا عن تسهيل تنفيذ عمليات إصدار الشهادات الصارمة التي تضمن موثوقية إنتاج الهيدروجين الأخضر واستدامته.

خارطة طريق سياساتية من أجل صناعة هيدروجين أكثر تنافسية وإفادة

يجب على مصر اتخاذ تدابير سياساتية شاملة لترسيخ مكانتها في مشهد الهيدروجين العالمي. وفيما وضعت الحكومة الخطوط العريضة لاستراتيجية وطنية للهيدروجين، من الضروري إجراء المزيد من التحسينات لتوضيح رؤيتها وتحديد أهداف معينة وإنشاء إطار سياساتي متماسك. وينبغي أن يعالج هذا الإطار بشكل فعّال مجموعة متنوعة من التحديات الإدارية والفنية والاقتصادية وتلك الخاصة بالبنية التحتية، والتي يمكن أن تعيق نمو صناعة الهيدروجين في مصر. مع ذلك، ووسط التفاؤل المحيط بإمكانيات الهيدروجين، من الضروري الاعتراف بالواقع السياسي والاقتصادي للبلاد.

فعلى الرغم من حصول مصر على مساعدات وقروض كبيرة، لا تزال تواجه احتمال التخلّف عن سداد ديونها السيادية. ومثل الكثير من الدول الصناعية الأخرى، لدى مصر تاريخٌ في الإعلان عن مشاريع طموحة وواسعة النطاق فشل تنفيذها بسبب سوء الإدارة الاقتصادية والفساد ومواطن الضعف الإدارية.

وبينما تتصارع مصر مع مشاكل اقتصادية كبرى، يتعيّن عليها أيضًا أن تدقّق بعناية في سعيها إلى التصنيع بأي ثمن، إذ قد تؤدي هذه الاستراتيجية إلى تدهور بيئي هائل. صحيحٌ أن الهيدروجين الأخضر يحمل وعدًا كبيرًا في الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة وتلوث الهواء، إلا أن إنتاجه يثير مخاوف بيئية مهمة. وسيكون إعطاء الأولوية للإدارة المستدامة للمياه أمرًا بالغ الأهمية، لأن إنتاج الهيدروجين الأخضر يمكن أن يفاقم الطلب على المياه ويفرض ضغطًا إضافيًا على موارد المياه الشحيحة بالفعل. وستكون الإدارة الحكيمة لموارد الطاقة المتجدّدة أثناء عملية الإنتاج ضرورية لتجنّب التزاحم المُحتمل مع قطاعات حيوية أخرى.

علاوةً على ذلك، يجب على مصر أن تدرس بعناية تحديد موقع البنية التحتية للهيدروجين. فالمساحة المحلية الصالحة للسكن محدودة في مصر، حيث يتركز غالبية سكانها في جزء صغير من مساحة أراضي البلاد (حوالى 4 في المئة) على طول نهر النيل. لذا، يُعدّ تحقيق التوازن بين توسيع المرافق المرتبطة بالهيدروجين والحفاظ على المساحة الصالحة للعيش أمرًا بالغ الأهمية لضمان الاستدامة البيئية على المدى الطويل. وبينما تخوض مصر غمار هذه التعقيدات، عليها أن تتبنّى نهجًا مدروسًا لتعظيم فوائد الهيدروجين الأخضر مع تخفيف العواقب البيئية الوخيمة.

توصيات سياساتية

للاستفادة من الإمكانات الهائلة لصناعة الهيدروجين في مصر ورفع مكانتها في هذا القطاع الناشئ، يجب على الحكومة إجراء إصلاحات سياساتية استراتيجية. وينبغي أن تساعد هذه الإصلاحات البلاد على تعزيز الشراكات بين القطاعَين العام والخاص، وزيادة التمويل في مجال البحث والتطوير، وتنفيذ استراتيجيات فعالة لإدارة موارد المياه، واختيار المواقع المناسبة بعناية للبنية التحتية الخاصة بالهيدروجين، وإطلاق عملية إصدار شهادات للهيدروجين الأخضر، وإعداد برامج تدريبية شاملة، والدعوة إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية الهيدروجينية. ويُعتبر كل هدف محوريًا لإطلاق الإمكانات الوفيرة لقطاع الهيدروجين في مصر ومساعدتها في أن تصبح دولة رائدة في هذا المجال الناشئ.

وسيكون تعزيز الشراكات بين القطاعَين العام والخاص مفيدًا بشكل خاص للاستفادة من خبرات هيئات القطاع الخاص ومواردها وقدرتها على الوصول إلى الأسواق. وينبغي أن تساعد هذه الشراكات في الدفع نحو تطوير البنية التحتية والمشروعات وسلاسل القيمة الخاصة بالهيدروجين. ومن الممكن أن تعمل المبادرات التعاونية التي تشمل الحكومة والقطاع الخاص والشركاء الدوليين، على تسهيل نقل المعرفة وتقاسم التكنولوجيا وتوسيع السوق. مع ذلك، سيكون من المهم هيكلة الشراكة بين القطاعَين العام والخاص بطريقة تحمي مصالح مصر الاقتصادية، وتضمن التوزيع العادل للمنافع، وتمنع الاعتماد المفرط على الهيئات الأجنبية. صحيحٌ أن هذا النهج لا يتماشى مع نية الحكومة تمويل الهيدروجين الأخضر باستخدام مصادر خارجية في المقام الأول، لكن من المنطقي ضمان السيادة الاقتصادية للبلاد. واقع الحال أن الفشل في إقامة شراكات فعالة وجذب الاستثمارات اللازمة قد يعيق نمو صناعة الهيدروجين ويحدّ من مكانة مصر في السوق العالمية.

وتُعتبر الاستثمارات البحث والتطوير ضرورية أيضًا لدفع عجلة التقدم التكنولوجي والابتكار في قطاع الهيدروجين. يمكن للشراكات التعاونية بين القطاع الصناعي والمؤسسات البحثية والجامعات تسهيل عملية تبادل المعرفة وتسريع تطوير حلول مخصّصة للهيدروجين، وبالتالي تعزيز القدرة التنافسية لصناعة الهيدروجين المصرية. وما لم تعطِ مصر الأولوية لتعزيز قدرات البحث والتطوير وتوفير التمويل الكافي، فسوف تكافح من أجل اللحاق بركب التقدم العالمي في هذا القطاع، ما سيعيق قدرتها على الاستفادة من الفرص الناشئة.

وعلى المدى الطويل، يجب على مصر أن تتبنّى نهجًا شاملًا واستباقيًا لإدارة ندرة المياه ومعالجتها. وقد أعلنت مصر بالفعل أن الوصول الشامل للمياه هو أولوية قصوى. في هذا الصدد، يمكن لتقنيات تحلية المياه أن تساعد البلاد على استخدام مياه البحر لإنتاج الهيدروجين وتلبية الطلب العام على استهلاك المياه، ما يخفّف الضغط على إمدادات المياه العذبة المحدودة. وفي الوقت نفسه، سيؤدي استحداث أنظمة متقدّمة لمعالجة المياه وإعادة التدوير إلى زيادة كفاءة استخدام المياه وتقليل الهدر.

ويُعدّ تطوير ممارسات الري الذكية في المشاريع الزراعية جانبًا رئيسًا آخر لإدارة الموارد المائية. فمن خلال تحسين استخدام المياه في الزراعة، يمكن لمصر ضمان ألّا يتم تحويل المياه بعيدًا عن إنتاج الهيدروجين. ومن شأن التعاون مع الخبراء والمؤسسات البحثية لرصد وتقييم استخدام المياه في مختلف الصناعات أن يسمح باتخاذ القرارات المُستندة إلى البيانات، وأن يساعد في توجيه الجهود الرامية إلى الحفاظ على المياه. وسيؤدي رفع مستوى الوعي العام من خلال الحملات التثقيفية إلي غرس ثقافة الحفاظ على المياه. فتشجيع عادات توفير المياه على المستويَين الفردي والصناعي سوف يسهم في تحقيق استدامة الموارد المائية بشكل عام، ما يخفّف الضغط على الإمدادات المحدودة.

وعلى غرار إدارة الموارد المائية، يتطلّب تحديد المواقع المناسبة للمرافق المرتبطة بالهيدروجين أيضًا اتّباع نهج شامل. وينبغي على خبراء التخطيط المدني والخبراء البيئيين والمجتمعات المحلية أن يتعاونوا في التقييمات وإيجاد المواقع المحتملة التي ستساعد في مواجهة تحديات إدارة الأراضي. إن إعطاء الأولوية للمناطق التي سيكون للبناء والإنتاج فيها تأثير ضئيل على النظم البيئية الحساسة والأراضي الزراعية والمناطق السكنية، سيساعد في الحفاظ على الأراضي النادرة الصالحة للسكن في مصر للأغراض الأساسية.

وبينما تسعى مصر إلى الاضطلاع بدور رائد في سوق تصدير الهيدروجين الأخضر، سيكون اعتماد شهادة الهيدروجين الأخضر وامتثال البلاد للمعايير المعترف بها دوليًا في غاية الأهمية. ومن خلال ضمان الشفافية وإمكانية التتبّع والمصداقية في جميع عمليات إنتاج الهيدروجين الأخضر، ستتمكّن مصر من تنمية الثقة في أوساط المشترين الدوليين وبناء ثقة السوق وضمان تميّز الهيدروجين الخاص بها على الساحة العالمية. وقد يؤدي إهمال استيفاء متطلبات الشهادات والمعايير إلى إعاقة قدرة مصر التنافسية وتقييد وصولها إلى الأسواق الرائدة. وعلى نطاق أوسع، قد يؤول ذلك أيضًا إلى تقويض أهمية الاستدامة وضمان الجودة في قطاع الهيدروجين.

وفي سياق متصل، سيكون إنشاء برامج تدريبية ومبادرات تعليمية بالتعاون مع المؤسسات المهنية والجامعات والجمعيات الصناعية، أمرًا ضروريًا لإعداد القوى العاملة الماهرة. وينبغي على مصر أن تعوّل على نظامها الجامعي الواسع، وأن تنشئ دورات وشهادات متخصّصة تركّز على تقنيات الهيدروجين وبروتوكولات السلامة وصيانة النظام.

وإضافةً إلى رأس المال البشري، ستكون الاستثمارات المالية في البنية التحتية للهيدروجين، بما في ذلك مرافق الإنتاج وأنظمة التخزين وشبكات التوزيع، أساسية لتلبية الطلب المحلي وفرص التصدير الدولية. ولزيادة استخدام الهيدروجين في السوق المحلية وتلبية الزيادة المتوقعة في الطلب المحلي، يجب على الحكومة إعطاء الأولوية لإنشاء محطات التزود بالوقود الهيدروجيني وتسريع هذه العملية. وستعزّز هذه الخطوة أيضًا احتمال تقبّل المستهلكين على نطاق واسع للمركبات التي تعمل بالهيدروجين. كذلك، سيضمن التخطيط الاستراتيجي والاستثمار في تقنيات وسِعات التخزين توفير إمدادات هيدروجين فعّالة وموثوقة، ما يؤمّن استقرار هذه الصناعة ونموها.

وسيكون التشجيع على استخدام الموادّ والعمالة والتصنيع المحلية (المعروفة بلوائح المحتوى المحلي) في صناعة الهيدروجين أمرًا ضروريًا لتعزيز الاقتصاد المحلي. إن إعطاء الأولوية للمزايا النسبية التي تتمتع بها مصر من شأنه أن يتيح فرصًا موسّعة للشركات والعمّال المحليين. ولا يؤدي هذا النهج إلى استحداث فرص عمل فحسب، بل يضيف أيضًا قيمةً إلى الاقتصاد المحلي، ما يسهم في تحقيق النمو الاقتصادي الشامل وتنمية المجتمع. وإذا لم تقم الحكومة المصرية بتحفيز الشركات المحلية، فقد ينجم عن ذلك ضياع الفرص والاعتماد على التقنيات المستوردة المتعلقة بالهيدروجين والتي يمكن أن تعيق تطوير الروابط الخلفية والأمامية في جميع أجزاء الاقتصاد الوطني، فضلًا عن تطوير قطاعات ثانوية وثالثية يُعتدّ بها.

خاتمة

من شأن تنفيذ السياسات والاستراتيجيات الموصى بها أن يساعد مصر على إنشاء صناعة هيدروجين مزدهرة تتوافق مع أهداف الاقتصاد الكلّي واستحداث فرص العمل، وتطلّعات السياسات المناخية والحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة. إذا استفادت مصر من مزاياها الاستراتيجية وتبنّت نهجًا متكاملًا ومتماسكًا يشمل جميع أصحاب المصلحة، فسوف تطلق العنان لإمكاناتها الهائلة في مجال الهيدروجين، وتصبح دولة رائدة عالميًا، وتوفّر فرصًا اقتصادية أفضل لمواطنيها. لكن، إذا لم تنتهج مصر مسار الإصلاحات السياسية ولم تعالج التحديات المذكورة أعلاه، فقد تتراجع مكانتها إلى موقع ثانوي في سوق الهيدروجين العالمي المزدهر، ما قد يحدّ من إمكانات نموها الاقتصادي ويفاقم العوامل الخارجية البيئية السلبية.

هوامش

1في قطاع الطاقة، يتم استخدام رموز ملونة أو ألقاب مختلفة للتمييز بين أنواع مختلفة من الهيدروجين، بما في ذلك الهيدروجين الأخضر والأزرق والبني والأصفر والفيروزي والوردي. تعتمد هذه التسميات على طرق الإنتاج المحدّدة المُستخدمة. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذه المصطلحات ليست موحدة، وقد تختلف التعريفات في البلدان المختلفة وتتطور مع مرور الوقت.

لماذا يجب أن تكون معالجة ندرة المياه في مصر أولوية

أصبحت مصر، على الرغم من كونها موطنًا لنهر النيل، من بين أكثر الدول التي تعاني من الجفاف في العالم. هذا الوضع من صنع الإنسان جزئيًا، بسبب الممارسات الزراعية غير المستدامة والتوسع الحضري. ومن المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا بعد بناء محطات الطاقة الكهرومائية مثل سدّ النهضة الإثيوبي الكبير. وعلى جانب آخر، سيفاقم تغير المناخ الأزمة، إذ إن ارتفاع منسوب مياه البحر لا يهدّد فقط بغمر المناطق المنخفضة في دلتا النيل، حيث يتركّز جزء كبير من السكان والنشاط الزراعي في البلاد، ولكنه يهدّد أيضًا بزيادة تسرّب المياه المالحة إلى طبقات المياه الجوفية العذبة ورفع مستوى الملوحة في التربة، ما يقلّل محتواها من المواد العضوية وقدرتها الإنتاجية. وبعيدًا عن الشواطئ، يؤدي ارتفاع متوسط درجات الحرارة إلى زيادة سريعة في معدلات التبخر في نهر النيل، وتفضي الممارسات البشرية عالميًا مثل الزراعة غير المستدامة إلى تعطيل الدورة الهيدرولوجية، وبالتالي تغيير أنماط هطول الأمطار وشدّتها، وتقليل كمية الجريان السطحي، والتأثير على مدى توافر المياه والمحاصيل الزراعية. وقدّرت دراسة مشتركة أجرتها الحكومة المصرية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن البلاد ستعاني من انخفاض في إجمالي الإنتاج الزراعي يتراوح بين 8 و47 فيالمئة بحلول العام 2006.

هذا التحول جارٍ على قدم وساق منذ عقود. فقد تجاوزت معدلات استهلاك المياه حجم المتاح منها في أواخر سبعينيات القرن الماضي بسبب النمو السكاني والتوسع في قطاعَي الزراعة والصناعة كثيفَي الاستهلاك للمياه. ونتيجةً لذلك، لم يعد نهر النيل، الذي يوفر ما يقرب من نصف إجمالي احتياجات البلاد من المياه، قادرًا على تلبية متطلبات التوسع الحضري السريع، وعدد السكان الذي يتجاوز حاليًا 110 ملايين نسمة، والنمو في قطاعَي الصناعة والسياحة. تواجه مصر حاليًا عجزًا صافيًا قدره 28.4 مليار متر مكعب سنويًا (وفقًا لحسابات المؤلّفة). وتدهور نصيب الفرد السنوي من إمدادات المياه من 2,000 متر مكعب في العام 1959 إلى 560 مترًا مكعبًا في العام 2021، وهذا الرقم أقل بكثير من مستوى عتبة ندرة المياه الذي تقدّره الأمم المتحدة عند الـ1,000 متر مكعب للفرد ، وأقرب إلى "الندرة المطلقة" التي تشير إلى انخفاض نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 500 متر مكعب سنويًا.

لمواجهة هذا التحدي، لجأت الحكومة المصرية إلى الحلول التكنولوجية للحفاظ على الموارد المائية الحالية وتعظيم استخدامها وتطوير موارد جديدة. ووفقًا للهيئة العامة للاستعلامات، تشمل جهود مصر على سبيل المثال: بناء أو تحسين البنية التحتية لنقل المياه والري ومعالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها، والزراعة الذكية والحدّ من هدر الغذاء، واستغلال المياه الجوفية وتحلية مياه البحر، والاعتماد على المياه الافتراضية. لكن لا تستند المبادرات الرسمية في الغالبإلى دراسات جدوى واقعية، ولا تخضع للتدقيق أو المسائلة من جانب الخبراء والمجتمع المدني، الذين يُحرمون عمومًا من الحصول على معلومات حول المشاريع المماثلة. ونتيجةً لذلك، فالحلول التي تم تصوّرها على عجل لم تكن غير قابلة للتنفيذ فحسب، بل فاقمت أيضًا ندرة المياه. بناء العاصمة الإدارية الجديدةنموذج واضحعلى الواقع الصارخ للإجهاد المائي والاستخدام غير الفعال للتمويل الشحيح في بلد يعاني أساسًا من أزمات اقتصادية ومالية حادّة. علاوةً على ذلك، تستنزف مشروعات المياه الضخمة التي يتم بناؤها في جميع أنحاء البلاد العملة الصعبة النادرة التي تمتلكها هذه الدولة الواقعة في شمال أفريقيا، ولكنها تُوجَّه في النهاية لخدمة نسبة ضئيلة من سكان مصر، مع عدم وجود مكاسب متوقعة تقريبًا لغالبية المصريين.

البنية التحتية للمياه لها أولوية

في العام 2020، بلغ إجمالي الموارد المائية لمصر 81.06 مليار متر مكعب سنويًا، يوفّر منها نهر النيل 55.50 مليار متر مكعب سنويًا. لكن إجمالي الاستهلاك وصل إلى 114 مليار متر مكعب من المياه في العام 2021، ما أحدث فجوة تُعوَّض عبر استيراد منتجات غذائية من الخارج تعادل 28 إلى 34 مليار متر مكعب أو أكثر من المياه سنويًا. وسعت الحكومات المتعاقبة إلى تصحيح الفجوة المتزايدة في إمدادات المياه. ففي العام 2009، صاغت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي استراتيجية للتنمية الزراعية المستدامة تهدف إلى تحسين الكفاءة على مستويَي توصيل مياه الشرب والري، إذ كانت معدلات كفاءتهماأقل من 70 في المئة و50 في المئة على التوالي. وافترضت الخطة، التي تمتدّ حتى العام 2030، أن إصلاح التسربات والتحول من تقنيات الري السطحي إلى الري بالتنقيط من شأنه أن يوفر كميات هائلة من المياه. ومع ذلك، لم يُحرز تقدّم يُذكر حتى العام 2017، عندما جدّدت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي الجهود وحدّثت الاستراتيجية لتتحوّل إلى الخطة القومية للموارد المائية (2017-2037)، بتكلفة 50 مليار دولار. وبعد ثلاث سنوات، أعلن السيسي الإطلاق الفوري لمشروع قومي لتحسين البنية التحتية الزراعية، واختزال الجدول الزمني للانتهاء منه بعامَين فقط بدلًا من عشر سنوات.

مشروع الري الحديث

سعت الحكومة إلى ترشيد استخدام مياه الري من خلال مسارَين رئيسَين. الأول كان تقديم قروض منخفضة الفائدة للمزارعين من البنك الزراعي المصري المملوك للدولة، بهدف إحلالأنظمة الري القديمة مثل الري بالغمر، بأنظمة أكثر كفاءة مثل الري بالتنقيط والري بالرش. لم تحظَ المبادرة بإقبال كبير. فقد كان صغار المزارعين الذين لا تتجاوز حيازتهم فدانًا واحدًا، ويشكّلون أكثر من 48 في المئة من إجمالي حيازات الأراضي، متردّدين حيال الاستثمار في الأنظمة الحديثة لري أراضيهم الصغيرة، خاصةمع تراجع ربحيّتهم في ظل ارتفاع النفقات المعيشية ومدخلات الإنتاج، والتقلبات الموسمية في أسعار السلع الأساسية، فضلًا عن الخسائر الدورية بسبب تغير المناخ، وانتشار المبيدات والأسمدة المغشوشة .واعترف وزير الموارد المائية والري هاني سويلم بأن أنظمة الري الحديثة التي تروّج لها الوزارة تشوبها عيوب على المديَين المتوسط والطويل، خاصة في شمال دلتا النيل، إذ تؤدي زيادة الملوحة إلى تدهور الأراضي الزراعية وإرغام المزارعين على استخدام الري بالغمر لشطف التربة. ونتيجةً لذلك، اقتصر انتشار طرق الري الحديثة إلى حدٍّ كبير على الأراضي الصحراوية المستصلحة حديثًا. ولضمان تحقيق الهدف المنشود وهو ترشيد استهلاك المياه وتشجيع المزارعين على الإقبال على نظم الري الحديثة، يتطلب ذلك الإشراف والتدقيق والتأكد من فعاليتها على أرض الواقع، نظرًا إلى أن غالبيةالدراسات التي تثبت فوائد الري بالتنقيط يتم إجراؤها في المختبرات، بدلًا من الحقول المفتوحة، وعلى أيدي العلماء، بدلًا من المزارعين، وبالتالي تكون السيطرة أكبر بكثير على الظروف المحددة التي يمكن في ظلها تحقيقتوفير المياه، من دون استكشاف كيف يمكن أن تختلف النتائج عند تطبيقها في الحقول المفتوحة وعلى نطاق واسع. ويكتسب هذا الأمر أهمية أكبر في مصر، نظرًا إلى غياب الرقابة على الزراعة والري.

المشروع القومي لتبطين الترع

يسعى المسار الثاني في خطة الحكومة إلى معالجة الخسارة السنوية لدلتا النيل البالغة نحو 7 مليارات متر مكعب من المياه بسبب التسرب من الترع والأنابيب، إلى جانب 2.5 مليار متر مكعب أخرى بسبب التبخر. وعلى الرغم من أن الخطة حققت بعض المكاسب، فإن النهج الحكومي كان غير متسق، وطرأت أيضًا عواقب سلبية.

في العام 2020، أصدرت وزارة الموارد المائية والري خطة لتجديد وتحديث 7,000 كيلومتر (4,350 ميلًا) من الترع في جميع أنحاء البلاد، بتكلفة 18 مليار جنيه مصري (582 مليون دولار). ووسّعت الحكومة الأهداف بعد عام لتشمل 20,000 كيلومتر (12,427 ميلًا) من الترع، بتكلفة متزايدة قدرها 68 مليار جنيه مصري (أكثر من 2 مليار دولار). وأشار السيسي لاحقًا إلى ارتفاع تكلفة المشروعإلى 80 مليار جنيه مصري، ثم رفعها مرة أخرى إلى 90 مليار جنيه مصري في نيسان/أبريل 2022. لكن وقبل فترة قصيرة من اكتمال المرحلة الأولى من المشروع، انتقدسويلم علنًا مشروع تبطين الترع الذي تم البدء بتنفيذه قبل تولّيه المنصب، مشيرًا إلى غياب دراسات تقييم الأثر البيئي، وإزالة الأشجار التي نمت على ضفاف الترع منذ عقود خلال تجديدها، والتي ساهمت سابقًا في مكافحة التغير المناخي والحدّ من التبخر.

استمر المشروع منذ ذلك الحين، وإن بوتيرة أبطأ، ووصل إجمالي طول الترع المبطنة إلى 6,905 كيلومترًا (4,291 ميلًا) بحلول نيسان/أبريل 2023. وقال سويلم إنه يتم حاليًا "بشكل علمي"، معتبرًا أن تبطين الترع من دون دراسة كل حالة على حدة يُعدّ بمثابة هدر للمال العام.إجمالًا، تحسنت بالفعل إمكانية الحصول على المياه في عددٍ من المحافظات، ويسّرت الترع الخرسانية التدفق السريع للمياه وضمنت وصولهاإلىالأراضيالتيتقبع في نهاية الترع.

لكن كانت للمشروع تأثيرات جانبية سلبية. ففي جزء كبير من منطقة شمال الدلتا، ساعد تسرّب المياه العذبة من ترع الري إلى التربة المحيطة تاريخيًافي مقاومة الملوحة، التي كانت تتزايد بسبب استخدام الأسمدة الصناعية والمبيدات الحشرية، إضافةً إلى الزحف المتنامي للمياه المالحة نتيجة الارتفاع التدريجي في مستوى المياه في البحر الأبيض المتوسط. إلى جانب إيقاف التأثير الإيجابي لتسرب المياه، أدّى تبطين الترع بالخرسانة مقرونًا بدرجات الحرارة المرتفعة إلى زيادة معدلات التبخر، ما أسهم بشكل أكبر في ارتفاع ملوحة التربة والمياه الجوفية.

بحث مصر عن حلول جديدة

إلى جانب المسارَين الرئيسَين، سعت الحكومات المصرية المتعاقبة إلى تقليل اعتماد البلاد على مياه نهر النيل من خلال تطوير موارد جديدة. لطالمااستحوذت الزراعة على حصة الأسد من استهلاك المياه في مصر، وفي العام 2020 استحوذت الزراعة على61.63 مترًامكعبًا.لذا، كان من الطبيعي أن تركز جهود الحكومة على القطاع الزراعي. وشملت هذه الجهود إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، والزراعة الذكية، واستخراج المياه الجوفية، وتجارة المياه الافتراضية، وتحلية المياه، وإدارة النفايات الغذائية.

إعادة تدوير مياه الصرف الصحي

تسعى الحكومة إلى تعزيز استخدام مياه الصرف الصحي للأغراض الزراعية والتصنيعية. وتهدف الخطط الحالية الخاصة بمعالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها إلى استعادة ما يُقدَّر بنحو 3 مليارات متر مكعب سنويًا من مياه الصرف الزراعي، منها حوالى 2 مليار متر مكعب يمكن استخدامها للزراعة أو التصنيع. تمتلك مصر الآن حوالى 480 محطة ثنائية وثلاثية لمعالجة مياه الصرف الصحي، بطاقة استيعابية تبلغ 16.2 مليون متر مكعب يوميًا، ومن ضمنها محطة معالجةمياه بحر البقر في محافظة بورسعيد، وهي الأكبر من نوعها في العالم، وجارٍ تنفيذ 211 محطة معالجة أخرى. مع ذلك، تتطلب استعادة مياه الصرف الصحي على هذا النطاق شبكة واسعة من الأنابيب والبنية التحتية الأخرى، ما يأتي بتكلفة كبيرة. علاوةً على ذلك، يطرح استخدام مياه الصرف الصحي المُعاد تدويرها مخاوف من مخاطر محتملة على الصحة العامة والبيئة كما أنه يفاقم ملوحة التربة.

الزراعة الذكية

دفعت هذه المتطلبات لمخاوف المزارعين في بعض مناطق دلتا النيل إلى اللجوء إلى طريقة الزراعة على المصاطب، والتي يمكن أن تقلّل من استهلاك المياه بنحو 15 في المئة. لكن المصاطب يجب أن تكون مصحوبة بأساليب زراعية تجديدية معقدة أخرى من أجل الاحتفاظ بالمياه في التربة (وإعادة ملءخزانات المياه الجوفية). قد تشمل هذه الطرق استرجاع البذور القديمة التي تكيّفت مع التربة المصرية، والتي يتم استخدامها بعد ذلك للمساعدة في تجديد التربة. حقّق العلماء المصريون بعض النجاح في تطوير أصناف بذور تتكيّف بشكل أفضل مع الجفاف والملوحة. لكن هذه العملية بطيئة وتتطلب استثمارًا طويل الأجل، وهو أمر غير مضمون على الإطلاق، نظرًا إلى ضآلة المبالغ المخصّصة لمركز البحوث الزراعية في الميزانيات الحكومية الأخيرة. ومع ذلك، فهذا أفضل من استيراد أنواع مختلفة من البذور المعدّلة، لأن هذا الخيار من شأنه أن يزيد الزراعة المُعتمدة على المدخلات في بلد يعاني من ضائقة مالية وتثقل كاهله الديون.

استخراج المياه الجوفية

نظرًا إلى انخفاض متوسط هطول الأمطار، تُعدّ موارد المياه البديلة في مصر محدودة، ولكن يُنظر إلى المياه الجوفية على أنها إحدى طرق زيادة إمدادات المياه. تقع البلاد فوق ست خزانات مياه جوفية، بما في ذلك ما يقرب من 38 في المئة من خزان الحجر الرملي النوبي للمياه الجوفية، الذي تتقاسمه مصر مع الدول المجاورة السودان وليبيا وتشاد. بدأ استخدام المياه الجوفية لاستصلاح الأراضي لأغراض الزراعة في ثمانينيات القرن الماضي، وخصوصًا على أطراف دلتا النيل. يراقب مركز بحوث الصحراء عملية استخراج المياه الجوفية والتأكد من أن حفر الآبار يتوافق مع المتطلبات المتعلقة بالموقع، ومستويات المياه الجوفية المحلية، وأنواع التربة، ومساحة الأرض، وأنواع المحاصيل المسموح بها، وطرق الريوحجم الاستهلاك.

ولكن على أرض الواقع، نادرًا ما تتم عملية الرقابة هذه. وسواء كان ذلك بسبب الفساد أو عدم التدقيق، ثمة الآن آلاف الآبار التي لا تعلم عنها الحكومة. والأسوأ من ذلك أن العشرات من شركات استصلاح الأراضي الجديدة الخاصة تحفر آبارًا غير مسجلة للزراعة ومن دون موافقة الدولة أو مراقبتها، وتزرعمحاصيل التصدير مثل البرسيم الحجازي، الذي يتطلب استخدامًا كثيفًا للمياه.هذه الممارسات ليست غير قانونية فحسب، بل ترقى أيضًا إلى تصدير موارد مائية غير متجدّدة من بلد يندفع بالفعل نحو ندرة المياه المطلقة. وقد حظّرت دول خليجية عدة زراعة هذا المحصول العلفي حفاظًا على مواردها المائية، ثم استثمرت في زراعته في مصر ودول أخرى للاستهلاك في الخليج. وسواء بتشجيع من المستثمرين المصريين أو الأجانب، فقد أدى الاستهلاك المتزايد والاستخراج غير المنضبط للمياه الجوفية الصحراوية إلى انخفاض كبير في منسوب المياه في مناطق مختلفة، ومن ضمنها واحةسيوة والواحات البحرية في الصحراء الغربية، وفاقم كذلك ملوحة التربة.

تجارة المياه الافتراضية

استفادت مصر من المياه الافتراضية، أو المياه غير المباشرة المُستخدمة عبر سلسلة القيمة لإنتاج سلع أخرى، من خلال تصدير المنتجات الزراعية. علاوةً على ذلك، تستورد مصر ما يصل إلى 40 مليار متر مكعب من المياه الافتراضية عبر شراء المواد الغذائية الأساسية لتلبية احتياجات مواطنيها. من الناحية النظرية، ستسمح الإدارة الذكية بزيادة الموارد المائية الطبيعية المتاحة والأراضي الصالحة للزراعة من خلال تحقيق توازن محكم بين تصدير المحاصيل العالية القيمة والموفِّرة للمياه (الفواكه والخضروات) واستيراد المحاصيل المنخفضة القيمة التي تستهلك كميات كبيرة من المياه كالحبوب، من دون المساس بأمن البلاد الغذائي. لكن، قد يكون تحقيق هذا التوازن صعبًا للغاية.

تُعتبر الحبوب أولوية قصوى لكلٍّ من الشعب المصري والحكومة. وهذا هو السبب وراء زراعة الكثير من الأراضي المستصلحة حديثًا بالحبوب، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليل اعتماد البلاد الكبير على استيرادها. مع ذلك،إن إعطاء الأولوية لزراعة الحبوب على حساب الفواكه والخضروات ستكون نتيجته ثبات صادرات مصر الزراعية، والتي تُمثل جزءًا كبيرًا من إجمالي صادراتها السلعية التي تستخدم عائداتها من العملة الصعبة لتلبية احتياجاتها المتنامية من العملات الأجنبية، وهو ما يعني تفويت فرص لتوليد العملة الصعبة من زيادة تلك الصادرات. وإذا استمرت الحكومة في اتّباع هذه الاستراتيجية، ستكون النتيجة النهائية دخلًا مستقرًا من الصادرات الزراعية مقابل انخفاض واردات الحبوب.

من ناحية أخرى، إذا أرادت مصر بدلًا من ذلك تعزيز إنتاجها من المحاصيل الموجّهة نحو التصدير، فسيتعيّن عليها تلبية المعايير الأجنبية، بما في ذلك استخدام بذور وأسمدة ومبيدات حشرية مستوردة لتعزيز فرص قبول تلك الصادرات من أجل توليد المزيد من الدخل بالعملة الأجنبية لتحسين الوضع الاقتصادي المتعثر. وهذا من شأنه أن يحدّ فعليًا من قدرة البلاد على ضبط ميزانها التجاري، فيما يحرمها أيضًا من فرصة تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، ويُبقي اعتمادها على واردات الحبوب. وهو ما سيجعل مصر أكثر عرضةً لظروف السوق العالمية وتقلبات الأسعار، وهو الوضع الذي عانت منه مصر خلال صدمة الأسعار العالمية في أعقاب الحرب في أوكرانيا، التي كشفت عن مدى هشاشة الأمن الغذائي المصري، إذ اضطرت الحكومة إلى تخصيص واقتراض مليارات الجنيهات الإضافية لواردات القمح، بما في ذلك توقيع اتفاقية مع الإمارات العربية المتحدة، حصلت مصر بموجبها على قرض لاستيراد القمح بشرط الشراء من شركة إماراتية. وتعاقدتبموجب هذا القرض مع شركة الظاهرة الإماراتية لشراء قمح مزروع في أراض مصرية، وآخر ومن الخارج.

مع ذلك، من الممكن التوصل إلى مثل هذا التوازن بين الواردات والإنتاج المحلي وضمان استمرار الموارد المائية في مصر من دون تهديد أمنها الغذائي. وقد تجلّى ذلك بالفعل في العام 2016 وما بعده، عندما بدأت مصر بتخصيص مناطق لزراعة الأرز وحظر زراعته في مناطق أخرى. وهذا يعني أن هذا المحصول الشره للمياه لن يُزرع إلا في المناطق التي تتمتع بإمكانية الوصول إلى كميات كبيرة من المياه وتُعدّ ملوحة التربة فيها مرتفعة. ومن خلال استخدام الري بالغمر لزراعة الأرز في هذه المناطق، تُسهم المياه في تقليل ملوحة التربة. وعلى الرغم من ضرورة قرار تقليص مساحات الأرز، لم يراعِ القرار العدالة بين صغار المزارعين الذين حُرم معظمهم من زراعة محصول الأرز ذي العائد الجيّد مقارنة مع محاصيل صيفية أخرى، في مقابل السماح للشركات الكبرى بزراعة محاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه من دون أي رقابة تُذكر على معدلات استهلاكها.

تحلية مياه البحر

تتمتع مصر بإمكانات كبيرة في مجال تحلية المياه، نظرًا إلى الشريط الساحلي الذي يمتدّ على طول 2,400 كيلومتر (1,491 ميلًا) على البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. تتصوّر الخطة الوطنية للموارد المائية 2020-2050 مضاعفة قدرة تحلية المياه بمقدار أربعة أضعاف في غضون خمس سنوات لتصل إلى 2.8 مليو نمتر مكعب يوميًا. ثمة حاليًا 81 محطة لتحلية المياه في مصر، بينما ما زالت 11 محطة أخرى قيد الإنشاء.وعلى الرغم من تكلفة الإنشاء المرتفعة،تُعدّ تحلية مياه البحر وسيلة لتزويد المناطق النائية بمياه الشرب بدلًا من نقل المياه العذبة من أماكن أخرى بعيدة،كما أنها ستقلّل الاعتماد على نهر النيل لأغراض الزراعة. لكن لن يصبح استخدام المياه المحلّاة في الزراعة مستدامًا إلا إذا غدت القيمة الاقتصادية للمياه عالية بما يكفي لتفوق تكاليف عملية التحلية، وهو ما يُمكن تحقيقه من خلال الشراكات بين القطاعَين العام والخاص، وتعزيز استخدام وتحسين تقنيات تحلية المياه وتطوير مصادر نظيفة للطاقة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتشغيل هذه العملية. إن الاعتمادعلىالطاقةالجديدةوالمتجدّدة يزداد أهميةً نظرًا إلى متطلبات الطاقة العالية لمحطات تحلية المياه، في ظل معاناة مصر حاليًا من أزمة طاقة تتسبب في انقطاع التيار الكهربائي يوميًا في جميع أنحاء البلاد، وهذه مشكلة من المرجّح أن تستمر في المستقبل، حتى لو خفّت حدتها خلال أشهر الشتاء. علاوةً على ذلك، يجب التشديد علىإجراء دراسات حول البصمة البيئية للمخلّفات الناجمة عن عملية تحلية مياه البحر وتأثيرها على النظم البيئية البحرية في كل منطقة على حدة. وينبغي تقييم كفاءة أنظمة التخلص من المياه المالحة في مصر بعناية، نظرًا إلى الشعاب المرجانية الفريدة في البحر الأحمر والنظم البيئية البحرية المميزة، والتي تأثرت بالفعل بالمنتجات الثانوية السامة من محطات تحلية المياه السعودية.

الهدر الزراعي

على الرغم من الجهود المبذولة للحدّ من هدر المياه الزراعية، لم تهتم الحكومة المصرية حتى الآن بشكل جدّي بالهدر غير المباشر للمياه من خلال هدر المواد الغذائية. في الواقع، تم إهدار نحو 16 في المئة من السلع الغذائية سنويًا بين العامَين 2015 و2019، وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وتُعدّ معالجة هدر المواد الغذائية أمرًا صعبًا، لأن هذه المشكلة تحدث على طول سلسلة الإنتاج من الحقل إلى الرف. وتشمل العوامل المساهمة كالآلات الزراعية وطرق الحصاد غير الفعالة، إلى جانب تفتّت الحيازات الزراعية إلى مساحات صغيرة، ما يصعّب إنشاء أنظمة تعاونية للحصاد والشحن والتخزين والبيع. والنتيجة هي إهدار نحو 5 ملايين طن من الحبوب سنويًا، وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فيما قدّرت دراسة أخرى فقدان نحو 4.4 مليون طن في فترة 2017-2018، أو أقل بقليل من 21 في المئة من إجمالي العرض (بما في ذلك الإنتاج المحلي والواردات). وقدّرت الدراسة نفسها أن هذا الهدر يعادل ما يقرب من 5 مليارات متر مكعب من المياه، أو 4.4 في المئة من استهلاك مصر السنوي من المياه في العام 2021. حسّن بناء الحكومة للصوامع الحديثة عملية تخزين الحبوب بشكل كبير، ولكن نظرًا إلى أن السعة الإجمالية للصوامع لا تزال أقل من 3 ملايين طن، فما زال المزيد من الهدر واردًا.

الحاجة إلى تغيير في المنطق

من الواضح أن حلول أزمة المياه مُكلفة، وغالبًا ما تنطوي على مقايضات. وقد تبنّت الحكومة في بعض الأحيان نهجًا تجديديًا، على سبيل المثال، من خلال الانتهاء من مبادرة تطوير بحيرة البردويل في سيناء التي توصف بأنها "مشروع واسع النطاق قائم على الطبيعة... [ويتبنّى] نهجًا كلّيًا وشاملًا". ولكن في الكثير من الأحيان، فاقمت خطوات التطوير الوضع، مثل إطلاق مشروعات ضخمة للبناء واستصلاح الأراضي تستهلك كميات كبيرة من المياه وتتطلب إنفاق مليارات الدولارات على استخراج المياه والبنية التحتية للنقل. ومن الأمثلة البارزة على ذلك إعادة توجيه موارد المياه الشحيحة من أحياء القاهرة وغيرها من المدن التابعة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي يتم بناؤها شرق القاهرة بتكلفة فورية لمرة واحدة تبلغ مليار جنيه مصري (32 مليون دولار) إضافةً إلى تكلفة الكهرباء والوقود اللازم للنقل. وتم كذلك مدّ ثلاثة خطوط أنابيب يبلغ طولها الإجمالي 149 كيلومترًا (93 ميلًا)، للسماح بسحب المياه مباشرةً من نهر النيل، ما يضيف إلى التكلفة الأساسية 10 مليارات جنيه مصري أخرى (323 مليون دولار)؛ وتقع أقرب محطة لتحلية المياه على خليج السويس على بعد 99 كيلومترًا (62 ميلًا)، ما يجعل مصدر المياه البديل مكلفًا أيضًا. تُعدّ العاصمة الجديدة الأكبر من بين 22 مدينة جديدة تم بناؤها حتى الآن، ويتم التخطيط لبناء نحو عشرين مدينة أخرى.

تستثمر الحكومة أيضًا في مشاريع استصلاح الأراضي بمساحة 5 ملايين فدان. وعلى الرغم من أن استصلاح الأراضي مُبرَّر من منطلق الحفاظ على الأمن الغذائي، فإن معدلات استخدام المياه في هذه الأراضي مرتفعة نظرًا إلى أن تربتها أقل خصوبة مقارنةً مع الأراضي القديمة،فضلًا عن أن معظم مساحتها تُستخدم لمحاصيل التصدير ذات الاستخدام الكثيف للمياه، ما يهدّد بتصدير المزيد من المياه الافتراضية.

إنّ النهج الحكومي القائم على الكفاءة والحلول التكنولوجية لمعالجة أزمة المياه الحادة في مصر تشوبه عيوب أساسية. ويعود ذلك جزئيًا إلى أن استراتيجيات الحكومة لا تسعى إلى تغيير شكل الزراعة والإنتاج الزراعي من أجل إعادة تصميم مستجمعات المياه، الأمر الذي يتطلب إعادة تخصيص الموارد المالية الشحيحة. علاوةً على ذلك، تعطي استثمارات الدولة الأولوية لخطط التوسع الحضري والبنية التحتية المرتبطة بها، والموجّهة إلى عملاء أثرياء يمثّلون نسبة ضئيلة من سكان البلاد. لتحقيق النجاح المنشود، يجب على الحكومة مواءمة نهجها بشكل أفضل مع التركيبة الاجتماعية والاقتصادية الفعلية لمصر، وينبغي أن تأخذ في الحسبان حقيقة أن حوالى 30 فيالمئة من المصريين كانوا يُعتبرون فقراء في العام 2020، حتى قبل خفض قيمة العملة مرات عدة وقبل معدلات التضخم غير المسبوقة. ومن ناحية أخرى، على الحكومة أن تحرص على أن تتضمّن مبادراتها أو قراراتها ما لا يقل عن 5 ملايين مزارع وملايين من العمّال في هذه الحقول. فالفشل في تحقيق ذلك يعني المزيد من التدهور البيئي، بما في ذلك إهدار الموارد المائية الثمينة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.