المصدر: Getty

"لا شعب، لا مشاكل": الجاذبية المتعاظمة للإدارة السلطوية للنزاعات

نظرت سورية وأذربيجان ومسؤولون في إسرائيل إلى التهجير القسري باعتباره وسيلة لإدارة النزاعات. ولهذا الأمر تداعيات تؤثّر على النموذج الغربي لبناء السلام.

نشرت في ٢١ فبراير ٢٠٢٤

"يُحيلون الأرض قفرًا، داعين فعلتَهم سلامًا". غالبًا ما يُستَشهَد بهذا القول من كتاب "أغريكولا" للمؤرّخ الروماني تاسيتوس، وفي حين أن قلّة من القادة السياسيين قرأت أعمال تاسيتوس، كثيرون منهم طبّقوا المبدأ عينه في سياساتهم. فقد ارتكب قادة في مختلف أرجاء العالم، من سورية وناغورنو-كاراباخ إلى غزة، قدرًا هائلًا من الانتهاكات من أجل فرض السلام. وشملت هذه الانتهاكات إرغام شعوب متمرّدة أو التفكير في إرغامها على الخروج من أراضيها لقمع المقاومة المسلّحة، والقضاء على الحاضنة الاجتماعية التي تدعم حركات التمرّد. في المقابل، يمكن اعتبار مثل هذه الأفعال شكلًا من أشكال إدارة النزاعات، على الرغم من قساوتها وحقيقة أنها قد تنطوي على أعمال ترقى إلى مصاف التطهير العرقي أو الإبادة الجماعية.

ففي سورية، تَسبّب نظام بشار الأسد بنزوح ما يقرب من 200 ألف شخص من المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة سابقًا، بين العامَين 2016 و2018. وفي ما يشابه عمليات النزوح المتعدّدة في سورية، هجّرت أذربيجان قسرًا ما يزيد عن 100 ألف من الأرمن من ناغورنو-كاراباخ، في أيلول/سبتمبر 2023. والمسؤولون الإسرائيليون، الحاليون والسابقون، ضغطوا بدورهم من أجل اعتماد النهج نفسه في غزة، أو شجّعوا عليه، عقب هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بهدف الحؤول دون عودة المقاومة المسلّحة في القطاع.

والواقع أن النتائج المترتّبة عن طرد السكان من أراضي أجدادهم تتعدّى التبعات الإنسانية أو الأخلاقية لمثل هذا السلوك، إذ إنها تتحدّى أيضًا نموذج تحقيق السلام الليبرالي الغربي الذي برز خلال تسعينيات القرن الماضي. هذا النموذج يؤكّد على احترام الحقوق، والتنوّع، والتوافق، والتسوية من خلال الحوار، في حين أن الآليات السلطوية لإدارة النزاعات تشجّع على الأساليب غير الليبرالية، والقمعية في أغلب الأحيان، والعنيفة، لإعادة فرض الهدوء، مُحوّلةً هذه الأساليب فعليًّا إلى آلياتٍ لحلّ الصراعات.

أما العواقب الناجمة عن ذلك فكثيرة. إن عجز الدول الغربية الليبرالية عن ردع الأنظمة السلطوية أو منعها عن إدارة الصراعات بواسطة العنف والقمع لن يؤدّي إلّا إلى تشجيع البلدان على استنساخ هذه الممارسات عندما يناسبها ذلك، ما يجعل استراتيجية "لا شعب، لا تمرُّد" أكثر جاذبية. ومن شأن الضرر الذي يلحق بالقيم الديمقراطية والإنسانية التي تسعى الدول الليبرالية إلى تحويلها إلى أساسٍ للنظام الدولي، أن يقوّض احتمالات إرساء نظام عالمي مُستنِد إلى القواعد ومُترسِّخ في القانون الدولي.

نهج سلطوي مُثبَت

لاقى سلوك كلٍّ من نظام الأسد في سورية، ونظام الرئيس الأذري إلهام علييف في ناغورنو-كاراباخ، والحكومة الإسرائيلية في غزة، رفضَ كثيرين في الغرب الديمقراطي الليبرالي. ولا عجب في ذلك، لأن أساليب هؤلاء المسؤولين تميل إلى اعتبار التخلّص التام من الشعوب أساسًا فعّالًا لحلّ النزاعات. والتهجير القسري للسكان الذي طبّقته هذه الأنظمة الثلاثة، أو تفكّر في تطبيقه، محظورٌ بموجب القانون الإنساني الدولي، ويمكن أن يشكّل جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية.

لا تعتبر الأنظمة السلطوية الأساليب الليبرالية لحلّ النزاعات غير فعّالة فحسب، بل ترى أيضًا أنها تطرح تهديدات أمنية محتملة، إذ إنها قد تهدّد استقرار حكمها. ولهذا السبب تشكّل سورية وأذربيجان مثالًا على دولتَين وضعتا تصوّرًا عن تهجير السكان (من المقاتلين وغير المقاتلين) بوصفه وسيلةً لإدارة الصراع. فقد كان الهدف الأساسي لنظامَيهما التخلّص من المجتمعات التي تثير مقاومةً ضدّ حكمهما، بدلًا من التصالح معها. أما إسرائيل، فمختلفة بعض الشيء، إذ تسجّل درجات أعلى في مؤشّرات الديمقراطية، بيد أن النقاش المفتوح فيها حول تهجير الفلسطينيين من غزة لسحق أشكال المقاومة المسلّحة في القطاع، يشبه المنطقَ السائدَ في سورية وأذربيجان.

سورية: تهجير السكان وإرساء السلام

تَسبّب الصراع السوري بنزوح حوالى 12.1 مليون شخص، بمَن فيهم 200 ألف شخص هجّرهم النظام بشكل منهجي، وبدعمٍ روسي، إلى شمال غرب سورية، وخصوصًا محافظة إدلب، بين العامَين 2016 و2018. وكان ذلك المرحلة الأخيرة في عمليةٍ شملت الحصار، والتجويع، وتسييس المساعدات، وإساءة استخدام آليات إيصال المعونات، وشيطنة مظالم المعارضة ونزع الشرعية عنها.

كان التهجير القسري إلى شمال غرب البلاد واحدًا من "الخيارات" التي عرضها النظام على سكان أكثر من عشرين منطقة محاصرة. أما الخيار الآخر، فتمثّل في العودة إلى "حضن الوطن"، التي استلزمت الخضوع لتسويات أمنية تشرف عليها أجهزة النظام الأمنية سيّئة السمعة. وبينما اختار البعض المجازفة والبقاء، قرّر 200 ألف شخص تقريبًا المغادرة. صحيحٌ أن هذه الإجراءات كانت غير إنسانية، إلا أن عمليات الترحيل القسري أدّت دورًا حاسمًا في إنهاء التمرّد في تلك المناطق، ولا سيما حول دمشق، الأمر الذي عزّز قبضة الأسد على السلطة.

سعى النظام إلى غربلة الثوار وحاضنتهم الاجتماعية وإخراجهما من المجتمع المحلي، قاضيًا بذلك على أيّ احتمالٍ لإحياء المعارضة. والواقع أن ما شكّل هذه الحاضنة الاجتماعية لم يكن محدّدًا بشكلٍ جامدٍ وغير قابل للتغيّر. فقد اعتبر لواءٌ في الفرقة الرابعة المدرّعة أن هذه الحاضنة مُحافِظة وذات توجّهات طائفية، ووصَفَ المنتمين إليها بأنهم أفراد ذوو قناعات خاطئة تجاه النظام، ومع ذلك ظلّوا مقتنعين بصحة معتقداتهم.1 ورأى ثلاثة من كبار الضباط العسكريين التابعين للنظام أن التعايش مع هذه الحاضنة مستحيل، نظرًا إلى أنها تسعى إلى القضاء على النظام.2 كذلك اعتبر مسؤول عسكري آخر أن هذه الفئة من السكان "قنابل موقوتة" قد تعيد إحياء المقاومة في المستقبل.3 وهكذا، لم تُظهِر المناطق التي سيطر عليها النظام بعد تهجير سكانها المحليين أيَّ علامات تمرُّدٍ بعد أكثر من خمس سنوات. لكن في المقابل، تبقى سيطرة الحكومة ضعيفة في درعا، حيث لم يتمكّن الجيش السوري من اقتلاع الثوّار وداعميهم.

لا بدّ من الإشارة إلى أن نجاح الهندسة الديمغرافية التي نفّذها النظام اعتمدت أيضًا على عوامل خارجة عن سيطرته. فالدعم العسكري الروسي منذ العام 2015، إضافةً إلى القبول الغربي والعربي ببقاء الأسد في سُدة الحكم، وفّرا مناخًا جيوسياسيًا باعثًا على تهجير السكان من دون توقّع حصول تداعيات خطيرة. وقد مثّل التحوّل في ميزان القوى ضربةً كبيرةً لمفاوضات السلام في جنيف بقيادة الغرب، إذ عمدت روسيا وتركيا وإيران إلى إطلاق مسار الأستانة في كانون الثاني/يناير 2017، الذي أصبح مع الوقت المسار الرئيس لحلّ الصراع السوري.

ومن العوامل الأخرى التي سمحت للنظام بالانخراط في عمليات التهجير القسري للسكان كان وجود أراضٍ خارجة عن سيطرته يمكنه إرسالهم إليها. فمنطقة شمال غرب سورية، ومحافظة إدلب على وجه الخصوص، كانت خاضعة لسيطرة مجموعات المعارضة، فأصبحت وجهة مناسبة. وأثّرت هذه الخطوة أيضًا على الأجندات المحلية والإقليمية: فبينما كانت المعارضة السورية وحاضنتها الاجتماعية تشكّلان تهديدًا للأسد، أصبحتا رصيدًا سياسيًا وديمغرافيًا وعسكريًا لتركيا، التي بسطت سيطرتها على شمال غرب البلاد.

أرمن ناغورنو-كاراباخ

في منطقة جنوب القوقاز التي تربطها علاقات مهمة مع المشرق، شنّت أذربيجان عملية عسكرية في ناغورنو-كاراباخ في أيلول/سبتمبر 2023، أسفرت عن الإجلاء القسري لمعظم أرمن الإقليم. يُشار إلى أن كاراباخ منطقة ذات غالبية أرمنية انفصلت عن أذربيجان في تسعينيات القرن المنصرم واستولت على أراضٍ أذرية بمساعدة أرمينيا، ما تسبّب بنزوح حوالى 600 ألف شخص. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2020، استعادت أذربيجان السيطرة على معظم هذه الأراضي، بدعمٍ كبير من تركيا وإسرائيل.

وبمجرّد انتهاء تلك الحرب، نشرت روسيا قوات حفظ السلام في الإقليم لحماية ما تبقّى من المنطقة المعزولة. لكن قوة روسيا تضاءلت بعد غزوها لأوكرانيا، بينما عزّزت أذربيجان وجودها حول الإقليم. وبدءًا من كانون الأول/ديسمبر 2022، فرضت باكو حصارًا على الإقليم، وقطعت اتصاله بالعالم الخارجي، ومنعت وصول الإمدادات الأساسية إليه مثل الغاز، والكهرباء، وحليب الأطفال، وعمَدت كذلك إلى تسييس المساعدات. صحيحٌ أن الوضع الإنساني في كاراباخ لم يصل إلى الدرك الذي شهدناه في مدينة مضايا السورية مثلًا، حيث انتشرت المجاعة في أوساط المواطنين البالغ عددهم 40 ألف شخص، وقضى العشرات بسبب الجوع وسوء التغذية، إلا أن التكتيكات المتّبعة هناك كانت شبيهة بالسياسة التي تمّ انتهاجها في سورية وعُرفت بـ"التجويع حتى الاستسلام".

في أعقاب العملية العسكرية التي نفذّتها أذربيجان في أيلول/سبتمبر 2023، عرضت باكو على أرمن الإقليم منحهم العفو، والجنسية، وإعادة دمجهم في "المجتمع الأذري الحر". مع ذلك، بعد أيام قليلة، لم يختر عددٌ يُذكر من الأرمن البقاء في كاراباخ. فعلى غرار الوضع في سورية، لم يشجّعهم أي عاملٍ على البقاء، نظرًا إلى غياب آلية مصالحة قابلة للتطبيق وافتقار أذربيجان إلى نظام قضائي مستقل. بل أعاد ذلك إلى أذهان الناس الحرب الثقافية التي شنّتها باكو طيلة سنوات ضدّ مواقع التراث الأرمني في أذربيجان، وارتكابها انتهاكات مروّعة لحقوق الإنسان ليس بحقّ الأرمن فحسب، بل أيضًا بحقّ ناشطين أذريين، وشخصيات معارضة لنظام علييف الدكتاتوري الوراثي.

وفيما تبقى الديناميات الداخلية لنظام علييف مجهولةً، ثمة مؤشرات على أن سياساته حيال أرمن كاراباخ استندت إلى منطق شبيه بذاك الذي تبنّاه نظام الأسد في سورية. ومن بين هذه المؤشرات رفض باكو تقديم ضمانات أمنية، أو إرساء حكم ذاتي، أو حتى تشكيل حكومة محلية مُنتخبة لأرمن الإقليم. كان هذا مُلفتًا نظرًا إلى أن إقليم ناغورنو-كاراباخ كان يتمتّع بالحكم الذاتي حتى خلال الحقبة السوفياتية.

ويُعدّ توقيت الهجوم الذي شنّته أذربيجان مؤشّرًا مُلفتًا آخر، إذ تزامن مع محادثات السلام بين أذربيجان وأرمينيا التي ترعاها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وحدث على الرغم من استعداد أرمن الإقليم لمناقشة مسألة دمجهم مع باكو. لكن اللجوء إلى الحلّ العسكري، الذي شكّل خطًّا أحمر للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، قوّض المفاوضات و"التطمينات الأذرية المتكررة بالامتناع عن استخدام القوة". إذًا، كان توقيت الهجوم مهمًّا لأنه منح نظام علييف فرصة تاريخية لإنهاء وجود الأرمن في الإقليم، وقضى على احتمال أن يشكّلوا تحدّيًا له في المستقبل.

استفادت أذربيجان، على غرار سورية، من أوضاع جيوسياسية مؤاتية ووجود منطقة يمكن طرد الأرمن إليها. فبعد حرب العام 2020، برزت أذربيجان كدولة غنيّة بالنفط والغاز، تتمتّع بموقع مهمّ عند الممرّ بين آسيا الوسطى وأوروبا، وتحدّها روسيا وإيران ويجمعها تحالف عسكري مع تركيا وإسرائيل، وتربطها علاقات اقتصادية أفضل من السابق مع الاتحاد الأوروبي. علاوةً على ذلك، كانت روسيا، وهي القوة الإقليمية المهيمنة تاريخيًا، منشغلةً في أماكن أخرى. وفيما راحت أرمينيا تتقرّب أكثر فأكثر من الغرب، بدأت موسكو تميل نحو باكو، إذ انتقلت "من راعٍ إلى شريك ضمن نظام غير ليبرالي"، على حدّ تعبير أحد المراقبين. لذلك، حين بدأ هجوم أيلول/سبتمبر2023، لم تتدخّل قوات حفظ السلام الروسية، ولا أرمينيا، ما أكسبها ثناء علييف. بدلًا من ذلك، استقبلت يريفان قوافل الأرمن الفارّين من الإقليم.

إسرائيل وحلم غزة الخالية من الفلسطينيين

فيما توالت فصول الحرب في غزة خلال الأشهر الماضية، دافع الكثير من المسؤولين الإسرائيليين عن فكرة أن ضمان أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقّق إلّا بإخراج الفلسطينيين من القطاع. ونظرًا إلى التركيبة السكانية لكلٍّ من اليهود والفلسطينيين الذين يسكنون في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وتوقُّع أن يصبح الفلسطينيون أغلبية على الأرجح، يُعدّ تهجير الفلسطينيين مسألة تحظى باهتمام مختلف مكوّنات الطيف السياسي الإسرائيلي. وبالفعل، خلال الأسابيع الأولى من الصراع، نقلت مصادر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاول إقناع القادة الأوروبيين بالضغط على مصر للموافقة على استقبال اللاجئين الفلسطينيين من غزة، "على الأقلّ خلال فترة الصراع". ويرى بعض المراقبين أن محاولة إيضاح الفترة الزمنية مخادِعة، لأن إسرائيل لو استطاعت لن تسمح للفلسطينيين بالعودة أبدًا على الأرجح.

من بين أبرز المدافعين عن هذا النهج وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، الذي يؤدّي أيضًا دورًا بارزًا في إدارة الضفة الغربية، ناهيك عن أنه وضع في العام 2017 ما عُرِف بـ"خطة إسرائيل الحاسمة" من أجل "إنهاء الصراع وإحلال السلام الحقيقي". واقترح سموتريتش اتّباع نهج تدريجي على مراحل: التوسّع في بناء المستوطنات لمنع إقامة دولة فلسطينية، وتقديم عرض للفلسطينيين المستعدّين للتخلّي عن تطلّعاتهم الوطنية بدمجهم في الدولة اليهودية، وتسهيل هجرة سائر الفلسطينيين إلى دول أخرى، ومحاربة الذين يريدون مواصلة القتال. وعند اندلاع الحرب في غزة، عبّر عن دعمه "الهجرة الطوعية" لفلسطينيي القطاع إلى دول العالم.

ولم يكن سموتريتش الوحيد الذي تبنّى هذا الموقف. فقد نشر العضوان في الكنيست داني دانون ورام بن باراك، مقالًا في صحيفة وول ستريت جورنال دَعَيا فيه دول العالم إلى استقبال لاجئين من غزة "أبدوا رغبةً" في مغادرة القطاع، من دون الإتيان نهائيًا على ذكر ممارسات إسرائيل الرامية إلى تحويل غزة إلى أرضٍ غير صالحة للعيش. وعلى نحو مماثل، نشرت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبروثيقة سياساتية تضمّنت خيار إجلاء سكان غزة إلى سيناء. وحذّرت الوثيقة من وجود جيلٍ تربّى في ظل إيديولوجيا حماس ويعيش تجربة الاحتلال الإسرائيلي، وبناءً عليه قد يعيد إحياء الحركة ويتسبّب ربما بمزيدٍ من التطرّف.

تشير مصادر إلى أن وزارة الاستخبارات تفتقر إلى صلاحية صنع القرار، فيما نفى نتنياهو أن إسرائيل تسعى إلى تهجير سكان غزة. لكن، بما أن مسألة تهجير الفلسطينيين مرتبطة بشكل أساسي بالأحزاب الدينية والقومية اليمينية في إسرائيل، التي يعتمد عليها نتنياهو للبقاء في السلطة، فقد تجنّب الوقوف في وجههم. علاوةً على ذلك، يشير رفض نتنياهو الانسحاب الإسرائيلي من غزة في العام 2005، ودعواته المتكرّرة إلى ضمّ الضفة الغربية، إلى أنه سيكون راضيًا على الأرجح بتهجير الفلسطينيين من هاتَين المنطقتَين، على الرغم من إنكاره ذلك، لأن هذه الخطوة من شأنها أن تسهم في تعزيز أهدافه السياسية المُعلنة.

يُحاكي النقاش في إسرائيل حول تهجير الفلسطينيين المنطقَ السائد في سورية وفي إقليم ناغورنو-كاراباخ، والمتمثّل في تفريغ الأرض من سكانٍ قد يطلقون شرارة المقاومة. لم يحصل ذلك بعد في غزة، ولا تتوافر لدى الإسرائيليين أرضٌ يمكن أن يرسلوا إليها سكان القطاع، إذ تُعرقل هذا المسعى بصورة أساسية مصر التي تُعارض أي تهجير للفلسطينيين إلى سيناء، والولايات المتحدة التي ترفض تأييد مثل هذه الخطوة.

في ظل استبعاد خيار التهجير، تبنّت إسرائيل استراتيجية بديلة من أجل حرمان حماس من حاضنتها الشعبية، تتمثّل في "إبادة المنازل"، أي التدمير الشامل لمساكن المدنيين بهدف تحويل غزة إلى أرض غير صالحة للعيش. وتُظهر تحليلات بيانات الأقمار الصناعية، التي نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال ومجلّة ذي إيكونوميست، حجمَ الدمار الواسع الذي لحق بغزة، بحيث تضرّر حوالى 70 في المئة من المنازل البالغ عددها 439 ألفًا، ونحو نصف مباني القطاع بحلول كانون الأول/ديسمبر 2023. لن يكون للكثير من سكان غزة منزلٌ يعودون إليه، والأرجح أن تسيطر إسرائيل على الجوانب المالية واللوجستية لعملية إعادة الإعمار وأن تقيّد هذه المساعي. وقد يُرغِم ذلك سكان غزة على مغادرة القطاع تدريجيًا ما إن تسنح الفرصة لذلك، ما سيحرم حماس من الدعم والغطاء اللذَين يوفّرهما المجتمع المتماسك الذي تعمل داخله في غزة.

تحدّي الأساليب الليبرالية لإدارة النزاعات وتبعاته

لا شكّ من أن اقتلاع السكان من أرضهم يشكّل كارثةً إنسانية، بيد أن لهذه العملية بوصفها وسيلة لإدارة النزاعات تداعيات أوسع نطاقًا، ولا سيما أنها تقوّض المقاربات الليبرالية تجاه إحلال السلام المُستنِدة إلى المبادئ الغربية المتعلقة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحوار، والنظام الدولي القائم على القواعد. وتُعدّ هذه المسألة ملحّة جدًّا، نظرًا إلى أن المفاهيم الليبرالية الدولية تواجه مقاومة من دول كبرى، أبرزها الصين وروسيا.

أولًا، يرسّخ انتشار المقاربات غير الليبرالية منحًى اكتسب زخمًا في السنوات العشر الأخيرة. فعلى مرّ التاريخ، ساهم العنف، أكثر من اتفاقات السلام التوافقية، في تحديد نتائج الصراعات. مع ذلك، خلال فترة نادرة في تسعينيات القرن الماضي، تمّ التوصّل إلى تسويات تفاوضية، بدعمٍ دولي في الغالب، في دول مثل البوسنة وجنوب أفريقيا والفلبين والموزمبيق وغيرها. لكن هذا المسار تبدَّل قرابة أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، ما يشير ربما إلى أن البلدان بدأت تفقد ثقتها بمدى فعالية التسويات التفاوضية، وبالتالي سيحاول ربما عددٌ أكبر من الدول حلّ النزاعات من خلال العنف، ما قد يفاقم زعزعة الاستقرار حول العالم.

والتأثير الخطير الثاني للمقاربات غير الليبرالية هو أن التكتيكات السلطوية الناجحة تشكّل نموذجًا يُحتذى. في الواقع، نظرًا إلى أن الأنظمة السلطوية تتعلّم من بعضها البعض، فهي تصبح أكثر قدرةً على إرساء نظام عالمي يقف في وجه النظام القائم على القواعد. على سبيل المثال، نوّه جميل الحسن، مدير إدارة المخابرات الجوية السورية الذائع الصيت، بقمع الصين للاحتجاجات الطلّابية التي شهدتها ساحة تيانانمن في العام 1989، مشيرًا إلى أن سورية كان عليها أن تتصرّف بطريقة مشابهة مع المتظاهرين في العام 2011. وغالب الظن أن ملاحظاته هذه وردت في التقارير التي رفعها إلى القيادة السورية خلال الثورة.

أما المثل الآخر فهو من إسرائيل. ففي سياق الردّ الإسرائيلي على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، أوصى برلمانيون بارزون باتّباع مقاربة غير ليبرالية. وقد أشاد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان بالنجاح الذي حقّقته أذربيجان في كاراباخ، قائلًا: "على الرغم من الضغط الممارَس من بروكسل والاتحاد الأوروبي والغرب، نجحت ]أذربيجان[ في إنهاء ]الصراع[ بطريقة مُلفتة. وآمل أن نتمكّن من فعل ذلك أيضًا". تُظهر الأدبيات المتوافرة حول الآليات السلطوية لإدارة النزاعات أن الأنظمة الديمقراطية تعتمد أحيانًا الأساليب غير الليبرالية أيضًا، وخير دليلٍ على ذلك الدمار الهائل الذي ألحقته إسرائيل بقطاع غزة.

ويتمثّل التأثير الثالث للمقاربات غير الليبرالية في أنها تسلّط الضوء في الكثير من الأحيان على عجز الدول الغربية عن صون مبادئها الليبرالية العالمية، ما يُضعف أكثر فأكثر فعالية واستدامة الآليات الليبرالية لحلّ النزاعات والنظام الدولي المُستنِد إلى القواعد. ففي كلٍّ من سورية وأذربيجان وإسرائيل، لم تنجح استجابات الغرب الخجولة في ردع السياسات السلطوية، ناهيك عن منعها بالكامل. وعزّز ذلك الانطباع السائد بأن التنديد الغربي لا يترافق عادةً مع اتّخاذ تدابير يُعتدّ بها.

استطاعت سورية وتركيا وإيران وروسيا – التي تحكمها كلّها أشكالٌ مختلفة من الأنظمة السلطوية – تقويض المقاربة الليبرالية لإحلال السلام في سورية، واستبدالها بمسار الأستانة. ولجأ علييف إلى الحلّ العسكري في إقليم ناغورنو-كاراباخ في أيلول/سبتمبر 2023، على الرغم من المحادثات بوساطة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبيّنت الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة أن القيم الليبرالية تندرج في عداد الخسائر حين يكون الغرب منقسمًا. فنتيجة الانقسامات الغربية بشأن الردّ الإسرائيلي على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، والدعم الأميركي لمواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، استطاعت إسرائيل تدمير القطاع وحتى التفكير في تطهير الفلسطينيين عرقيًا، من دون أن تتكبّد عواقب تُذكر.

خاتمة

يشير نجاح الممارسات السلطوية لإدارة النزاعات إلى حدوث تحوّل أوسع في النظام العالمي الخاضع لهيمنة الغرب. فالقوى الغربية، ولا سيما دول الاتحاد الأوروبي، تواجه تحدّيًا لنفوذها من قوى ناشئة، من ضمنها دول سلطويةتعمَد راهنًا إلى مضافرة جهودها لتقويض الهيمنة الغربية. وقد نجحت دولتان سلطويتان صغيرتان نسبيًا، هما أذربيجان وسورية، بدعمٍ من دولتَين أخريَين هما تركيا وروسيا، في تحدّي مبادرات السلام التي قادها الغرب. وعلى نحو مماثل، شكّل دور الوساطة الذي أدّته الصين في المصالحة بين إيران والسعودية في آذار/مارس 2023 خروجًا عن الديناميات السابقة.

تواصل دولٌ غربية كبرى الاضطلاع بأدوار مهمة باعتبارها قوى أساسية في المشهد السياسي العالمي. فواشنطن لا تزال صاحبة الترسانة العسكرية الأقوى على المستوى الدولي، فيما تملك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكبر اقتصادَين في العالم. مع ذلك، حفّزت التحديات المتنامية المُحدقة بالنظام العالمي الذي أرساه الغرب على إجراء مراجعة نقدية بشأن مدى فعالية استراتيجياته لحلّ النزاعات، على ضوء السؤال التالي: هل شكّلت حقبة التسعينيات منعطفًا في تاريخ تسوية الصراعات، أم كانت مجرّد وقتٍ مستقطع في مرحلة طويلة كان فيها العنف، وليس التسويات التوافقية، العامل الأساسي في حلّ النزاعات؟ إن المسار المستقبلي رهنٌ بعزيمة دول الغرب ومدى إصرارها على صون مبادئها ومعاييرها العالمية، لا بل فرضها حتى، في مواجهة قوى تسعى إلى تقويض نفوذها الدولي.

هوامش

1مقابلة أجراها باحث مساعد للمؤلّف مع لواء في الفرقة الرابعة المدرّعة كان منخرطًا في الحرب السورية منذ اندلاعها، دمشق، تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

2 مقابلة مع لواء في الفرقة الرابعة المدرّعة، دمشق، تشرين الثاني/نوفمبر 2023؛ ومقابلة أجراها باحث مساعد للمؤلّف مع لواء سوري آخر، دمشق، نيسان/أبريل 2023؛ ومقابلة أجراها باحث مساعد للمؤلّف مع عقيد في الفرقة الرابعة المدرّعة، تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

3 مقابلة أجراها باحث مساعد للمؤلّف مع لواء سوري، دمشق، نيسان/أبريل 2023.