المصدر: Getty

رؤية دول الخليج للأمن القومي تتجاوز حدودها البرية

ترى دول خليجية مثل السعودية والإمارات أن الحفاظ على أمنها القومي لم يعد يقتصر على تأمين الحدود البرية فحسب، بل يقتضي أيضًا حماية مجالها الجوي، ومياهها الإقليمية، وحتى الطرق التجارية البحرية.

نشرت في ١٤ أغسطس ٢٠٢٤

مقدّمة

لقد أعادت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر وما تلاها، بدءًا من الهجوم المباغت الذي نفّذته حركة حماس على إسرائيل، ووصولًا إلى الحرب التي تشنّها إسرائيل منذ أشهر على قطاع غزة، تعريفَ الاعتبارات الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي على نحو جذري. هذا ووجّهت الضربات الإيرانية غير المسبوقة على العمق الإسرائيلي، والتي شملت إطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة ردًّا على قصف إسرائيل مجمّع السفارة الإيرانية في دمشق، رسالةً واضحة إلى الدول الإقليمية بشأن النفوذ العسكري الذي تتمتّع به طهران. فقد أثار الهجوم الإيراني على إسرائيل قلقَ دول الخليج، على الرغم من التقارب الناجح نسبيًا بينها وبين إيران عَقِب اتفاق المصالحة السعودي الإيراني الذي أُبرم في آذار/مارس 2023 برعاية صينية. ومع أن طهران كشفت، بحسب بعض التقارير، عن نطاق عمليتها لدول الخليج المجاورة قبل تنفيذها، دفع حجم الهجوم وطبيعته هذه الدول إلى إعادة تقييم أولوياتها الأمنية.

باتت دول الخليج تدرك أن تأمين الحدود البرية لم يعد كافيًا لحماية الدولة من التهديدات المُحتملة، فالأمن القومي يتطلّب اتّخاذ تدابير إضافية، على رأسها حماية المجال الجوي والمناطق البحرية، وإقامة ترتيبات دفاعية عابرة للحدود، والاستثمار في تطوير التقنيات المرتبطة بالطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة. 

لكن هذه الجهود قد تكشف عن محدوديّتها وقصورها، ولا سيما عند اندلاع أعمال عدائية. فانطلاق جولة جديدة من القتال بين إيران وإسرائيل سيضع دول مجلس التعاون الخليجي أمام تحديات كبيرة، ولا سيما إذا انخرطت الولايات المتحدة في الصراع. إذًا، ستواجه هذه الدول صعوبة في التعامل مع التحديات الأمنية المتغيّرة التي تهدّد حدودها وسيادتها، إذ عليها التوفيق بين تقاربها الدبلوماسي الأخير مع إيران، ومساعيها الرامية إلى تشكيل تحالف أمني إقليمي فضفاض يضمّ إسرائيل والولايات المتحدة، وتوجّهها الجديد نحو تعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الصين، وروسيا بدرجةٍ أقل.

نصف عقد من المخاوف الأمنية المتنامية

تندرج المواجهة بين إسرائيل وإيران في العام 2024 ضمن سلسلةٍ من الأحداث التي أقلقت دول الخليج على مدى السنوات الأخيرة، ودفعتها إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الجيوسياسية، ولا سيما في ما يتعلق بحماية حدودها. فنظرًا إلى وقف الدعم الأميركي للحرب التي تقودها السعودية ضدّ حركة أنصار الله (المعروفة بالحوثيين) في اليمن، والتهديد المستمر والمتعدّد الأوجه الذي تطرحه هذه الميليشيا اليمنية المدعومة من إيران، ساد انطباعٌ في دول مجلس التعاون الخليجي بتراجع المظلّة الأمنية الأميركية في المنطقة. يُشار إلى أن الانسحاب الفوضوي للقوات الأميركية من أفغانستان الأبعد جغرافيًا أثار أيضًا قلق دول الخليج. نتيجةً لذلك، أدركت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر أن عليها التكيُّف مع وضعٍ جديد، بعد أن كانت تنظر إلى الولايات المتحدة منذ فترة طويلة باعتبارها جهة ضامِنة أساسية لأمنها. 

كذلك، أدّت بعض التطوّرات المتعلقة باليمن إلى إدراك مهمّ. فقد شنّ الحوثيون هجومًا بالطائرات المسيّرة استهدف معمل بقيق لتكرير النفط وحقل خريص النفطي في السعودية في العام 2019، ردًّا على انخراط التحالف الذي تقوده السعودية إلى جانب خصومهم في الحرب الأهلية اليمنية، وكان لافتًا الردّ الأميركي الفاتر على هذه الواقعة. وفي العام 2022، نفّذ الحوثيون عملية مشابهة عبر تفجير صهاريج نفط في أبو ظبي. ولم تلمَس السعودية والإمارات دعمًا أميركيًا قويًا لهما في أعقاب الهجمات التي طالتهما خلال العامَين 2019 و2022 على التوالي، ما دفعهما إلى إعادة تقييم اعتمادهما على الحلفاء الخارجيين لضمان أمنهما.

أما التطوّر الأبرز فتمثَّل في التغيير الذي طرأ على سياسة الإدارة الأميركية تجاه الحرب التي يشنّها التحالف بقيادة السعودية ضدّ الحوثيين. ففي شباط/فبراير 2021، أنهت الولايات المتحدة دعمها للعمليات الهجومية التي ينفّذها السعوديون وحلفاؤهم. وكان هذا القرار بمثابة إعادة توجيه للسياسة الأميركية بعيدًا عن الدعم غير المشروط لحملة التحالف العسكرية، التي تعرّضت إلى انتقادات متزايدة لتسبُّبها بسقوط ضحايا من المدنيين ووقوع أزمة إنسانية. وقد فرض وقف الدعم الأميركي ضغوطًا على السعودية لتغيير نهجها المتّبَع في هذا الصراع والسعي إلى حلّ تفاوضي. وكانت الإمارات قد غيّرت مسارها في العام 2019، لتكتفي إلى حدٍّ بعيد بتشكيل مجموعات سياسية وميليشيات تابعة لها في جنوب اليمن. واليوم، في المناطق اليمنية غير الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تركّز السعودية والإمارات بشكلٍ أكبر على استخدام وكلائهما اليمنيين لإحباط مخطّطات بعضهما البعض بدلاً من توحيد قواهما لمواجهة خصمهما المشترك.

لكن أفعال الحوثيين لا تزال تثير قلق السعودية والإمارات، إذ عمَدوا منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي إلى شنّ هجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر، سعيًا إلى ثني الدول عن مواصلة تعاملاتها الاقتصادية مع إسرائيل وهي تُمعن في تدمير قطاع غزة. والجدير بالذكر أن معظم هذه العمليات تركَّزت في مضيق باب المندب، الذي يُعدّ ممرًا بحريًا استراتيجيًا والمدخل الجنوبي لقناة السويس. وعلى الرغم من أن الحوثيين يصرّون على أنهم يستهدفون السفن المرتبطة بإسرائيل، فضلًا عن السفن الحربية الأميركية والبريطانية، يُشار إلى أنهم هاجموا سفنًا أخرى أيضًا، مُلحِقين الضرر بمصالح خمسٍ وستين دولة على الأقل. وأرغم هذا الوضعُ السفنَ على تحويل مسارها باتّجاه رأس الرجاء الصالح، ليزداد بذلك زمن رحلاتها مدّةً تصل إلى أسبوعَين إضافيَّين. ومن شأن استمرار تعطيل التدفّق الحر للموارد الهيدروكربونية عبر البحر الأحمر على المدى الطويل أن يخلّف عواقب وخيمة على أسواق الطاقة العالمية، ما قد يُلحق الضرر باقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على عائدات النفط والغاز. ونظرًا إلى انخراط دول الخليج المتزايد في مشروعات إقليمية كبرى تهدف إلى إنشاء ممرّاتٍ اقتصادية تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على الشحن بالسفن، أصبحت شديدة الحرص على ضمان أمن ممرّاتها المائية. إذًا، يمكن القول نوعًا ما إن السعودية والإمارات أصبحتا تنظران إلى العمليات البحرية التي ينفّذها الحوثيون على أنها تشكّل تهديدًا أكبر لمصالحهما وأمنهما من سيطرة الحوثيين على أجزاء كبيرة من اليمن.

يُضاف إلى ذلك أن التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران سلّط الضوء على أهمية حماية الحدود الجوية لدول الخليج. لم يشكّل الردّ الإيراني الانتقامي على إسرائيل تهديدًا مباشرًا لأيٍّ من دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أنها بدت قلقة من استخدام طهران للمجال الجوي الأردني، ولا سيما نظرًا إلى الحدود المشتركة بين الأردن والسعودية. يُشار إلى أن إسرائيل والأردن، إلى جانب القوات الأميركية والبريطانية المنتشرة في المنطقة، نجحت في اعتراض 99 في المئة من الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقتها إيران. ولم يكن ذلك خافيًا على دول الخليج. فالطائرات المسيّرة باتت عنصرًا أساسيًا في الحروب الحديثة بفضل تعدّد استخداماتها، وفعاليّتها، وقدرتها على توفير مزايا تكتيكية. وخير مثال على ذلك استخدام الطائرات المسيّرة المصنّعة في إسرائيل وإيران وتركيا ودول أخرى في جملةٍ من الصراعات، بما فيها العدوان الإسرائيلي على غزة، والاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ونزاع ناغورنو-كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، إضافةً إلى الحرب الأهلية الليبية، والصراع بين روسيا وأوكرانيا. وقد أثبتت المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران بشكل متزايد أهمية الدور الذي تؤدّيه الطائرات المسيّرة والأنظمة المضادّة لها في استراتيجيات الحفاظ على أمن الحدود في الشرق الأوسط.

وأدّت الأحداث اللاهبة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، إلى توجيه الأنظار مجدّدًا، وإن بشكل غير مباشر، إلى مشكلة انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من عدم اعتراف البلدَين رسميًا بحيازة أسلحة نووية، يُعتقد على نطاق واسع بأن إسرائيل تمتلك ترسانة نووية، فيما أفادت تقارير بأن إيران كانت على بُعد أسابيع فقط من اكتساب القدرة على تطوير سلاح نووي. وقد حذّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من أن بلاده ستطوّر سلاحًا نوويًا إذا تمكّنت إيران من الحصول على قنبلة نووية. واقع الحال أن احتدام سباق التسلّح النووي في الشرق الأوسط قد يكون كارثيًا، إذ سيتسبّب بتداعيات أمنية عالمية خطيرة وبعواقب اقتصادية وخيمة. ومن شأن هذا السيناريو تقويض الجهود التي تبذلها دول الخليج لتقليص اعتمادها على النفط والغاز، إذ قد تتم إعادة توجيه الأموال المخصّصة لمشاريع التنمية المستدامة نحو تطوير التقنيات النووية؛ ومن شأنه أيضًا إبطال التقدّم الذي أُحرِز في الآونة الأخيرة بشأن تخفيف حدّة التوتّرات مع إيران.

على المستوى النظري، قد يتيح توطيد الروابط الأمنية مع إسرائيل والولايات المتحدة لدول الخليج الاستفادة من مظلّة أمنية إقليمية أوسع لمواجهة التهديدات المُتصوَّرة من إيران ووكلائها. وقد وقّعت الإمارات والبحرين اتّفاقَي تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل تأجُّج الأوضاع بين إسرائيل وإيران، ومن المعروف أن السعودية في طور التفاوض بشأن إبرام اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة مقابل الحصول على اعتراف المملكة بإسرائيل. لكن دخول دول مجلس التعاون الخليجي في تحالف علني مع إسرائيل قد يزيد من مخاطر تعرّضها للاستهداف على أيدي إيران والمجموعات الموالية لها في المنطقة. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى امتناع دول الخليج عن الانحياز إلى طرفٍ دون آخر في المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، داعيةً بدلاً من ذلك الجانبَين إلى التحلّي بأقصى درجات ضبط النفس لمنع أي تصعيد إضافي.

كيف تعاملت دول الخليج مع التحديات الأمنية

لا تزال دول الخليج، على الأقلّ في الوقت الراهن، تعوّل على واشنطن لتكون الجهة الضامنة لأمنها. تستضيف معظم دول مجلس التعاون الخليجي قواعد عسكرية أميركية، ولا تزال تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة للحصول على السلاح. ولكن إحجام واشنطن عن الردّ بقوّة على الهجمات التي شنّها الحوثيون على السعودية والإمارات دفع البلدَين إلى اتّخاذ تدابير للتحوّط من تعويلهما التقليدي على المظلّة الأمنية الأميركية، ولا سيما حين يتعلّق الأمر بحماية مجالهما الجوي ومجاريهما المائية. وشمل ذلك توطيد العلاقات مع قوى ناشئة مثل الصين، واستكشاف سُبل زيادة التعاون مع روسيا، وتقوية التحالفات الإقليمية. وكثّفت دول الخليج أيضًا جهودها لتعزيز قدراتها العسكرية وبنيتها التحتية الدفاعية، مثل الاستثمار في الأسلحة المتقدّمة، والتكنولوجيا العسكرية، وتطوير الصناعات الدفاعية المحلية. وستؤدّي المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران إلى تسريع وتيرة هذه العمليات.

تسلّط الرؤية الجديدة التي وضعها مجلس التعاون الخليجي مؤخرًا للتعاون الأمني الإقليمي الضوءَ على الميل المتزايد لدى دول الخليج لتولّي زمام الأمن بأيديها. وتهدف الخطة المُقترحة إلى تمكين جميع الدول الأعضاء الست في المجلس من حماية حدودها وإدارتها بفعالية أكبر. وتشمل المكوّنات الملموسة للرؤية تدريبات عسكرية ومنصّات استخبارية مشتركة، وهيكليات دفاعية متكاملة. ويسعى مجلس التعاون الخليجي، من خلال إعطاء الأولوية للأمن والاستقرار الإقليميَّين، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية، وحماية الموارد الاقتصادية الحيوية وإمدادات الطاقة، إلى الحدّ من الاعتماد على الجهات الفاعلة الخارجية في المجال الأمني. ولكن فعالية هذه المبادرة في تمكين بلدان مجلس التعاون الخليجي من تولّي زمام الأمن بنفسها بشكل كامل ستتوقّف على التكامل التشغيلي لإجراءات الأمن الحدودي، والوحدة السياسية بين الدول الأعضاء، والقدرة على التكيّف بسرعة مع التهديدات الأمنية المتنامية في المنطقة.

فضلًا عن هذه المحاولات المحلية المنشأ لتشكيل منظومة أمنية إقليمية، بدأت دول خليجية عدّة توظيف استثمارات كبيرة في صناعاتها الدفاعية، وغالبًا ما يكون ذلك من خلال إقامة شراكات مع تكتّلات دفاعية كبرى، مثل شركة "بايكار" التركية لتصنيع الطائرات المسيّرة، من أجل تعزيز قدراتها المحلية على تصنيع الأسلحة. فقد وقّعت كلٌّ من السعودية والإمارات وقطر اتفاقات لشراء الطائرات المسيّرة التركية من طراز "بيرقدار"، وتشمل هذه الاتفاقات الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا. إضافةً إلى ذلك، وقّعت شركة أنظمة الاتصالات والإلكترونيات المتقدّمة في السعودية اتفاقًا مع مجموعة تكنولوجيا الإلكترونيات الصينية لتصميم طائرات مسيّرة وتصنيعها بصورة مشتركة في المملكة. ووقّعت الإمارات اتفاقًا مع الشركة الوطنية الصينية لاستيراد وتصدير تكنولوجيا الطيران، لشراء أسطول من الطائرات النفّاثة المتطوّرة المستخدَمة في التدريب من طراز "أل-15". علاوةً على ذلك، اشترت قطر والإمارات مقاتلات "رافال" الفرنسية الصنع، وتدرس السعودية، بحسب التقارير، شراء طائرات من الطراز نفسه. وأنظمة مراقبة الحدود هي أيضًا من مجالات التركيز في هذه البلدان. في هذا الصدد، سيؤدّي اتفاقٌ أُبرِم مؤخرًا بين شركة "آلات" التابعة لصندوق الاستثمارات العامة في السعودية وشركة "داهوا" الصينية للتكنولوجيا إلى تصنيع معدّات المراقبة في المملكة. وبالمثل، استثمرت الإمارات في الطائرات المسيّرة المصنّعة محليًّا والمزوّدة بقدرات المراقبة، فيما تتعاون أيضًا مع إسرائيل في التطوير المشترك لمنظومة متقدّمة تستطيع اعتراض الطائرات المسيّرة وغيرها من التهديدات الجوية.

كان للقرار الذي اتّخذته الولايات المتحدة بوقف دعم العمليات الهجومية التي يشنّها التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن تأثيرٌ كبيرٌ وشبه فوري على كيفية إدارة الرياض للحرب هناك. وعزّز أيضًا الشعور في أبو ظبي بأنها فعلت عين الصواب حين نفّذت عملية "إعادة انتشار استراتيجية" لقواتها في العام 2019، وتضمّنت تسليم بعض المواقع العسكرية إلى السعوديين والانكفاء عن المواجهة المباشرة مع الحوثيين. ولكن الأهم، على الرغم من تقليص السعودية والإمارات انخراطهما في الحرب ضدّ الحوثيين، أن هاتَين الدولتَين، اللتَين غالبًا ما تدخلان في منافسة في ما بينهما وكذلك مع الحوثيين، تواصلان محاولاتهما لفرض سيطرتهما على السواحل اليمنية. فالرياض وأبو ظبي تنظران إلى الطرق التجارية البحرية الإقليمية، بما فيها تلك التي تمتدّ خارج مياههما الإقليمية، بأنها حدودٌ استراتيجية تشمل مناطق نفوذهما المنشودة، وتعتبران أن حمايتها ضرورية للحفاظ على مصالحهما الاقتصادية والجيوسياسية. لهذه الغاية، قامت الإمارات والسعودية بتمويل تطوير البنية التحتية في موانئ يمنية أساسية (بما في ذلك جزيرة سُقطرى وجزيرة ميون/بريم) وعلى طول القرن الأفريقي، والإشراف عليها، من خلال العمل مع الحكومات المعترف بها دوليًّا والميليشيات المحلية. وكلّما ترسّخت نظرة السعودية والإمارات إلى الطرق التجارية البحرية بأنها امتدادٌ لحدودهما الوطنية، ازدادت قناعتهما بأن الإشراف وحتى السيطرة على الموانئ في البحر الأحمر وخليج عدن أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز أمنهما القومي وحماية مصالحهما الاقتصادية.

على الساحة الدولية، تكشف تطوّرات عدّة عن حدوث تبدّلٍ في الديناميات الأمنية. فقد أظهر توقيع اتفاقية التعاون العسكري بين السعودية وروسيا في آب/أغسطس 2021، ثم الزيارة النادرة التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرياض وأبو ظبي في كانون الأول/ديسمبر 2023، أن الدولتَين الخليجيتَين غير متحمّستَين لنبذ روسيا. والحال هو أن مجلس التعاون الخليجي حافظ بشكل واضح على موقف الحياد في النزاع الروسي الأوكراني، مُبديًا رفضه لفرض عقوبات على موسكو. وكذلك، يشير توقيع السعودية اتفاق المصالحة مع إيران بوساطة صينية، مقرونًا بما يُزعَم عن بناء قاعدة عسكرية صينية في الإمارات، إلى توطيد العلاقات الصينية الخليجية.

إضافةً إلى ذلك، أيّدت دول مجلس التعاون الخليجي عودة سورية إلى شغل مقعدها في جامعة الدول العربية في أيار/مايو 2023، سعيًا إلى التقارب مع حكومة الرئيس بشار الأسد، على الرغم من الانتقاد الأميركي لهذه الخطوة. وتطرح إعادة تطبيع العلاقات مع نظامٍ متحالف مع إيران وروسيا تحدّيًا لمساعي واشنطن الرامية إلى صدّ النفوذ الإيراني والروسي، وقد تُبدّل أيضًا الترتيبات الأمنية الإقليمية. هذا ويشير استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في حدّ ذاته إلى تحوّلٍ في سياسات دول الخليج وسط فقدان ثقتها في الضمانات الأمنية الأميركية. تُحدث هذه الخطوة تشنّجًا في نسيج العلاقات التقليدية بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وتزيد من تعقيد المساعي الأميركية الرامية إلى عزل طهران.

مع ذلك، من الضروري عدم المبالغة في تقدير تأثير هذه التطوّرات. فالتحوّل في الديناميات الأمنية في دول الخليج يعبّر عن تعديلٍ طرأ على شراكتها الأمنية مع واشنطن، وليس عن تدهور هذه الشراكة. وعلى الرغم من مساعي المصالحة مع إيران و"محور المقاومة" الذي يضمّ دولًا وقوى غير حكومية تدور في فلك طهران، ومن تقوية أواصر التعاون مع الصين وروسيا، فإن بعض دول الخليج عزّزت أيضًا روابطها مع إسرائيل بدعمٍ أميركي. إضافةً إلى ذلك، وافقت وزارة الخارجية الأميركية على البيع المحتمل لنظام صواريخ "باتريوت" الاعتراضية إلى السعودية ونظام الدفاع الصاروخي للارتفاعات العالية إلى الإمارات، ما يشي بأن الروابط الدفاعية بين واشنطن وكلٍّ من الرياض وأبو ظبي لا تزال متينة. خلاصة القول إن دول الخليج تحدّ من جوانب معيّنة في علاقاتها السياسية والعسكرية مع الولايات المتحدة، فيما تُبقي على جوانب أخرى أو تعزّزها؛ وتزيد من تعاونها مع إسرائيل فيما تتجنّب التحالف معها؛ وتحرص في غضون ذلك أيضًا على تنويع شراكاتها الدولية. إذًا، في ظل توجّه النظام العالمي المتزايد نحو التعدّدية القطبية، عمَدت دول الخليج، بحكم الضرورة، إلى اتّباع نهجٍ أكثر مرونة في عملية اتّخاذ القرارات المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية على السواء.

خاتمة

لم يفضِ التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران إلى تأجيج المخاوف الأمنية في منطقة الخليج فحسب، بل أدّى أيضًا إلى تسريع وتيرة التحوّل الذي طرأ على تصوّر مفهوم الأمن الحدودي في دول الخليج. وقد بدأت مظاهر هذا التغيّر في العام 2019، حين لمَست دول الخليج ردًّا أميركيًا فاترًا على الهجمات التي شنّها الحوثيون على الأراضي السعودية. كذلك، كشفت المواجهة بين إسرائيل وإيران عن الترابط الوثيق بين التهديدات الأمنية عبر الحدود. فبعد استخدام إيران المجال الجوي الأردني لتنفيذ هجماتها الانتقامية ضدّ إسرائيل، وإقدام الحوثيين على تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر، بات جليًّا أن الأمن الحدودي لم يعد يقتصر على تأمين الحدود البرية، بل يشمل أيضًا حماية المجال الجوي، والطرق التجارية البحرية، والشبكة السيبرانية. في غضون ذلك، ترى السعودية والإمارات وقطر أن هذه التطورات تقتضي تنويع السياسات الخارجية والدفاعية: فعلى الرغم من أن التحالفات التقليدية لا تزال مهمّة لدول الخليج، التي تحافظ على اتفاقياتها الأمنية الراسخة مع الولايات المتحدة، يتطلّع بعض هذه الدول إلى الدخول في شراكات أمنية جديدة مع الصين. وكمُكمّلٍ لهذا النهج، تسعى دول الخليج إلى تعزيز آليات الدفاع المشتركة في ما بينها، والاستثمار في الصناعات العسكرية المحلية، بما في ذلك تطوير أنظمة مراقبة الحدود، والطائرات المسيّرة، والأمن السيبراني.

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK International Development التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.