المصدر: Getty

التأثير في الخارج: تحوّل القوة الناعمة السعودية بعيدًا عن السلفية

تهدف المملكة العربية السعودية إلى نسج علاقات دولية أكثر وديّةً من خلال الابتعاد عن نهجٍ إيديولوجي ساهم بشكلٍ فعّال في سياستها الخارجية والداخلية؛ وهي تتّخذ إجراءاتٍ عدّة للتخفيف من التبعات التي قد تتكبّدها نتيجة هذا التحوّل.

نشرت في ٥ فبراير ٢٠٢٥

مقدّمة

أطلق وليّ عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان على مدى السنوات الماضية جملةً من الإصلاحات الرامية إلى إضعاف نفوذ التيار السلفي المتطرّف في البلاد وتليين الممارسات الدينية في المجتمع. وكان الهدف من ذلك التصدّي للتداعيات الناجمة عن التفسيرات والأنشطة المرتبطة بالتيار السلفي المتطرّف، والترويج لمقارباتٍ أكثر اعتدالًا للإسلام وأكثر توافقًا مع القيم العالمية والمجتمعية المعاصرة.

ثمّة اعترافٌ أكبر اليوم، سواء في داخل المملكة أو خارجها، بالترابط القائم بين بعض التعاليم السلفية والتطرّف. وقد حاول الأمير، من خلال تقليص مستوى الدعم السعودي للسلفية، تبديدَ الفكرة التي تدّعي أن المملكة تدعم الجماعات المتطرّفة. وهو أدرك أيضًا المخاطر الأمنية التي يمكن أن تطرحها بعض هذه الجماعات، بما في ذلك التهديدات المُحدقة بالمملكة نفسها، ولا سيما بعد الاضطرابات التي شهدتها دول عربية عدّة في العام 2011 وتنامي تأثير الحركات الإسلامية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

لكن ولي العهد يبتعد بذلك عن موقف إيديولوجي أدّى دورًا بارزًا في تعزيز النفوذ السعودي في مختلف أرجاء العالم الإسلامي وخارجه. فدعم الرياض للسلفية أتاح لها بناء قواعد جماهيرية في أوساط المجتمعات المحلية الإسلامية في الكثير من الدول. لكنها تسعى اليوم، من خلال تقليص دعمها لهذا النهج الصارم من الإسلام، إلى نسج علاقات أكثر دفئًا مع الخارج، ولا سيما مع دولٍ مهمّة للمملكة في العالم، سبق أن وجّهت انتقاداتٍ إلى السعودية مُدّعيةً انخراطها في الترويج للإيديولوجيات المتطرّفة. غالب الظن أن هذا التحوّل الكبير في الموقف السعودي ستكون له تبعات، لأن مقاربة المملكة تجاه الإسلام لطالما ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بشرعية سياساتها على المستويَين المحلي والدولي. لذلك، تحتاج القيادة السعودية إلى تحقيق توازنٍ دقيق بين الاستمرارية والتغيير.

الدعم السعودي للسلفية

أقامت الدولة السعودية التي أسّسها آل سعود في العام 1727 تحالفًا مع الداعية الإسلامي محمد بن عبد الوهاب. ونتيجةً لذلك، بدأت تُطلَق على المملكة تسمية تبسيطية وتسطيحية للغاية هي "الدولة الوهابية". وقد وفّر هذا التحالف نوعًا من الشرعية الدينية للحكم السعودي، ومنح رجال الدين نفوذًا بارزًا على الشؤون المدنية. يكمن القاسم المشترك بين السلفية والوهابية في الدعوة للعودة إلى الممارسات المُرتبطة بالمراحل المُبكرة من تاريخ الإسلام، والتي تتميّز في المقام الأول بالاعتماد على القرآن والحديث، أي سنن النبي محمد وأقواله. يُشار مع ذلك إلى أن السلفية والوهابية تختلفان من حيث الأصل والنطاق والتطبيق. فالسلفية هي حركة أوسع نطاقًا تستند إلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح، أي الأجيال الثلاثة الأولى من المسلمين، وتنبذ البدع، وتتراوح من السلفية العلمية إلى السلفية الحركية الناشطة سياسيًا، وهي أكثر تنوعًا في التطبيقات العملية بحسب مدرستها أو التيار الذي تتبعه. أما الوهابية فسِمتُها الأساسية مكافحة ما تعتبره بدعًا وشركًا، وتتّصف بالتشدّد أكثر في رفض التفسيرات التي تبدو كأنها تحريفٌ لأسماء الله وصفاته؛ كما أنها تتّخذ موقفًا صارمًا ضدّ التصوف مع تأثُّر كبير بالمذهب الفقهي الحنبلي.

خلال العقود السابقة، انطوى دعم الرياض للسلفية على عاملَين أساسيَّين. فمثلما شكّلت السلفية مصدرًا للشرعية الدينية في الداخل، تحوّلت أيضًا إلى مصدرٍ للشرعية الإيديولوجية في الخارج، واستُخدمت أيضًا لمحاربة أعداء المملكة. فطوال الفترة الممتدّة بين العامَين 1982 و2005، استثمرت الرياض بقوة في نشر الفكر السلفي حول العالم، وخصوصًا في عهد الملك فهد. وهكذا، تحوّلت السلفية، وتحديدًا المساعي الرامية إلى إنشاء شبكة سلفية عالمية، إلى أداة فعّالة لتعزيز القوة الناعمة السعودية، ولا سيما في أوساط الدول الإسلامية، من خلال تمويل بناء المدارس الدينية والمساجد، وتقديم المنح الدراسية، وحتى طباعة ونشر الكتب والمراجع التي تروّج للسلفية. وقد سمحت المكاسب الكبيرة التي ولّدتها الطفرة النفطية بعد العام 1973 للمملكة بتوسيع نطاق نفوذها ونشر تفسيرها الخاص للإسلام، وبالتالي مواجهة سائر الاتجاهات الإيديولوجية مثل القومية العربية، والتشيّع الإسلامي بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، وحتى بعض مناهج تفسير الإسلام السنّي الأكثر تطرفًا.

على سبيل المثال، أدّت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي تأسّست في العام 1961، دورًا أساسيًا في تعليم الطلاب الأجانب العلوم الإسلامية واللغة العربية. وعاد الكثير من الخرّيجين إلى أوطانهم لنشر النسخة التي تعلّموها من الإسلام هناك. ومن الأمثلة البارزة عن الخرّيجين من جنوب شرق آسيا أنيس متى، نائب رئيس البرلمان الإندونيسي سابقًا وشخصية مهمة في حزب العدالة والرفاهية. صحيحٌ أن هذا الحزب يدعم برنامجًا يتماشى مع التيار الإسلامي السائد، إلّا أن فكره السياسي المحافظ مستمدٌّ من التأثيرات السلفية. ومن الأمثلة الأخرى عن النفوذ السعودي في المجال الديني قيام المملكة بتمويل المدارس الدينية تحت مظلّة جامعة العلوم الإسلامية الماليزية، التي تنشر أيضًا الفكر السلفي المحافظ. وينطبق الأمر نفسه على منظمات مثل الوحدة الإسلامية في إندونيسيا، وهي جمعية سلفية كبرى تنامت على نحوٍ مماثل بفعل الديناميات المحلية والتأثيرات الخارجية، مثل الدعم السعودي. لكن وعلى الرغم من التأثير السعودي، غالبًا ما تمتزج السلفية في جنوب شرق آسيا مع العادات المحلية في تلك الدول، لتشكّل نهجًا سلفيًا لا يتماهى بالضرورة مع النموذج السعودي. وقد أدّى ذلك إلى تنويع الممارسات الإسلامية حتى داخل المجتمعات السلفية.

يُضاف إلى ذلك أن الرياض اكتسبت نفوذًا سياسيًا كبيرًا بفضل الشرعية الإيديولوجية التي اضطلعت بها في الكثير من الدول الإسلامية وشكّلت أداةً لتعزيز قوّتها الناعمة. على سبيل المثال، يبدو التأثير السعودي واضحًا للعيان في باكستان، حيث ساهمت المملكة في نشر التفسيرات السلفية والديوبندية للإسلام – وعلى الرغم من بعض الاختلافات الإيديولوجية بينهما، تظلّ الديوبندية إحدى مدارس الفكر السلفي بمفهومه الواسع - خصوصًا أثناء الحرب السوفياتية في أفغانستان. فخلال الثمانينيات، ساعد التمويل السعودي على إنشاء آلاف المدارس الدينية الديوبندية ومدارس "أهل الحديث" بالقرب من مخيّمات اللاجئين الأفغان في باكستان، وشكّلت هذه المدارس خزّانًا رئيسًا للمجاهدين الذين قاوموا موسكو. كذلك، تبسط السعودية نفوذها على مراكز سلطة مهمّة في باكستان، إذ تتبع نسبة 85 في المئة تقريبًا من المساجد العسكرية في البلاد التعاليم الديوبندية، ما يتيح للمملكة أن تؤثّر بشكلٍ بالغ على المشهد الديني الباكستاني، ولا سيما أن هذا التأثير الإيديولوجي السعودي يمتدّ إلى صفوف الجيش الباكستاني القوي.

من الناحية الجيوسياسية، وفّر الترويج للسلفية إلى المملكة ميزةً في معارضتها لأشكالٍ أخرى من الإسلام، مثل المذهب الشيعي، وقد اكتسبت هذه الميزة أهمية خاصة في سياق التنافس السعودي الإيراني. فالدعم المالي والإيديولوجي السعودي للسلفية ساعد الرياض على إنشاء تحالفات مع أنظمة وقوى غير حكومية تشاركها توجّهاتها، أو تتقبّلها على الأقل، ما صبّ في الكثير من الأحيان في خدمة أهداف السياسة الخارجية السعودية.

على نحوٍ أوسع، أدّت السعودية دورًا مهمًّا في تشكيل معالم ما يمكن اعتباره الإسلام السنّي التقليدي. ومن خلال إسهامها في تحديد هوية إسلامية على الصعيد العالمي، احتلّت المملكة موقعًا قياديًا في العالم الإسلامي. إضافةً إلى ذلك، ساهمت النسخة من الإسلام التي روّجت لها السعودية، والتي تدعو إلى الطاعة للسلطة، في الحفاظ على النظام والاستقرار بشكل أفضل، والحدّ من احتمالات العنف السياسي. هذا الهدف المزدوج المتمثّل في تعزيز القيادة السعودية في أوساط المسلمين وتحقيق السلم الاجتماعي، أكسب الرياض نفوذًا دبلوماسيًا واقتصاديًا وسياسيًا مهمًّا.

علاوةً على ذلك، كثيرًا ما وفّرت السعودية الدعم للسلفية من أجل محاربة خصوم المملكة. فخلال الحرب السورية مثلًا، ساندت السعودية بعض الجماعات السلفية ضدّ النظام السوري والفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران، وعملت في الوقت نفسه أيضًا على تقوية شوكة السلفيين في وجه التنظيمات الأكثر تطرفًا. ومن الأمثلة على هذا التكتيك الدعم السعودي لجيش الإسلام، وهو فصيلٌ معارض تمركز في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، وكان بقيادة زهران علوش، نجل داعية إسلامي سوري اتّخذ من السعودية مقرًّا لإقامته. وقد تمّ تشكيل جيش الإسلام في أيلول/سبتمبر 2013، على إثر عملية تفاوضت عليها وأدارتها الرياض، التي أمِلت استخدام هذا الفصيل لتقويض جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة. وشملت المساعي السعودية تمويل جيش الإسلام وتسليحه وتدريبه، وتوظيف مدرّبين باكستانيين لتعزيز القدرات العسكرية لعناصره.

إضافةً إلى ذلك، قدّمت الرياض دعمًا تكتيكيًا للجماعات السلفية في اليمن كي تشكّل ثقلًا موازنًا في وجه النفوذ الإيراني هناك. وتجلّى ذلك بصورة أساسية من خلال الدعم السعودي لشخصياتٍ مثل الداعية السلفي اليمني مقبل الوادعي، الذي أسّس في العام 1982 دار الحديث في بلدة دماج الواقعة في محافظة صعدة. وقد تولّى دار الحديث نشر التعاليم السلفية لمواجهة أنصار إيران الزيديين. وخلال النزاعات التي توالت فصولًا في اليمن، استُكمل هذا الدعم الإيديولوجي بمساعدات عسكرية وسياسية سعودية للحؤول دون اكتساب طهران ميزة استراتيجية في البلاد.

في ضوء ذلك، دعمت السعودية ألوية العمالقة التي تشكّلت في العام 2015 وانضوت ضمن قوات المقاومة الوطنية اليمنية المُنخرطة في القتال ضدّ حركة أنصار الله، المعروفة بالحوثيين. يُشار إلى أن ألوية العمالقة عبارة عن تشكيلات عسكرية يغلب عليها العنصر السلفي القبَلي، وقد انبثقت من وحدات عسكرية سابقة كانت جزءًا من الجيش اليمني الشمالي الذي خاض معارك خلال الحرب الأهلية اليمنية في العام 1994. تلقّت هذه الألوية التدريب والتمويل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ويعود الفضل في فعاليتها القتالية إلى المساعدة التي وفّرها التحالف العربي، ولا سيما السعودية. ويُعدّ حزب اتحاد الرشاد اليمني من بين الجماعات الأخرى ذات التوجّه السلفي المدعومة من الرياض. وقد تأسّس هذا الحزب في العام 2012، عاكِسًا الاهتمام السعودي في إنشاء كيانٍ سلفي من أجل المساهمة في عملية الحكم في اليمن. ولكن بعد العام 2015، أدّى استيلاء الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء ثم سيطرتهم على أجزاء كبيرة من اليمن إلى تقليص الحيّز العملياتي المُتاح أمام الكيانات السياسية غير المتحالفة معهم، مثل حزب اتحاد الرشاد.

يبيّن استخدام المملكة الاستراتيجي للإيديولوجيا جليًّا قدرتها على الاستفادة من العقيدة الدينية ليس فقط كمبدأ توجيهي، بل أيضًا كأداة في علاقاتها عبر الحدود. لكن هذه الاستراتيجية ترافقت مع جملةٍ من التعقيدات، من ضمنها الانتشار الواسع الذي حقّقته الإيديولوجيا السلفية التي روّجت لها الرياض، وكيف فسّرتها واستخدمتها أطرافٌ خارجة عن سيطرة المملكة.

تأثيرات وتعقيدات التحوّل بعيدًا من السلفية

بدأ محمد بن سلمان بإجراء سلسلةٍ من الإصلاحات المهمة على مستوى السياسة العامة بعد أن عيّنه العاهل السعودي، الملك سلمان، وليًا لولي العهد في نيسان/أبريل 2015. وكان هدفه إحداث تغيير جوهري في المشهد السياسي والاقتصادي السعودي. وتبلورت هذه الإصلاحات بشكلٍ أوضح في رؤية السعودية 2030 التي أطلقها بعد عامٍ، في نيسان/أبريل 2016، وشملت أهدافها تقليل اعتماد المملكة على النفط عبر تنويع الاقتصاد، وتطبيق إصلاحات في القطاع التعليمي والتربوي وحقوق المرأة، وتطوير القطاع الترفيهي.

يندرج تقليص الدعم السعودي للسلفية ضمن إطار عملية إعادة اصطفافٍ أوسع نطاقًا سعت خلالها الرياض إلى تعزيز علاقاتها مع بلدان أو تكتّلات دولية لا تروّج لإيديولوجياتٍ دينية، مثل الدول الغربية، ولا سيما الأوروبية منها، أو تلك التي لديها أسواق مربحة، على غرار الصين. وقد ارتبط هذا التوجّه نحو تعزيز الانخراط الاقتصادي والسياسي، بعيدًا عن الدعاية الدينية، بالتزام المملكة بتقليل اعتمادها على النفط والغاز. فتطوير قطاعات اقتصادية أخرى تَطلَّب استثماراتٍ أجنبية، ما أفضى إلى تخفيف القيود الاجتماعية والتصدّي لتصوّراتٍ كانت تعتبر السعودية دولةً رجعية. يُضاف إلى ذلك أن حوالى 63 في المئة من إجمالي سكان المملكة تقلّ أعمارهم عن 30 عامًا، فضلًا عن وجود نسبة عالية من الشباب الناشطين على المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي. ونتيجةً لذلك، باتوا منفتحين على أنماط حياة أكثر تحرّرًا، تختلف تمامًا عن التفسيرات التقليدية للإسلام، التي يروّج لها الشيوخ السلفيون.

كذلك، كانت لوليّ العهد مصلحة عملية في التخفيف من مخاطر التطرّف المرتبط ببعض تيّارات الفكر السلفي، وبالتالي تعزيز الأمن الداخلي والإقليمي. لكن ذلك لا يعني رفض الإسلام في الحياة السياسية أو الاجتماعية، بل بالأحرى الانخراط في إصلاح الدين وإعادة توجيه أولويات الإنفاق بعيدًا عن المؤسسات السلفية، التي في أحيان كثيرة تصعب السيطرة عليها. وشملت الخطوات العملية التي اتّخذتها الرياض إغلاق أكاديمية الملك فهد في مدينة بون الألمانية في نهاية السنة الدراسية 2016-2017، والموافقة على التخلّي عن إدارة المسجد الكبير في بروكسل، أحد أكبر مساجد بلجيكا، في أوائل العام 2018. وكانت أُوكلت إدارة هذا المسجد إلى السعودية منذ أواخر الستينيات، حين تمّ تحويله من مبنى مَعارض مهجور إلى مسجدٍ للعمّال المغاربة. علاوةً على ذلك، تحدّثت تقارير عدّة عن تراجع الدعم المالي السعودي للمساجد والمؤسسات الدينية السلفية في دول البلقان وأوروبا الغربية. ويُعزى السبب الأساسي لهذه القرارات السعودية إلى اعتبار أن بعض هذه المساجد تحرّض على الإيديولوجيات المتطرفة. وأصبحت المملكة كذلك أكثر حرصًا على تشجيع الإدارة المحلية التي من شأنها تعزيز اندماج المجتمعات الإسلامية في دول أوروبا الغربية والبلقان.1

أدّى قرار تقليص دعم الرياض للسلفية إلى انعكاسات عدّة. فالتوقف عن تمويل المساجد والمؤسسات الدينية في الخارج قلّل من قدرة المملكة على تشكيل الخطاب الإسلامي حول العالم، ولا سيما في الأماكن حيث تتمتّع الجماعات السلفية بتأثيرٍ قوي. ونتيجةً لذلك، تواجه السعودية اليوم احتمال انحسار نفوذها الإيديولوجي على المجتمعات الدينية في دولٍ مثل اليمن وباكستان وأجزاء كبيرة من أفريقيا، ما قد يفسح المجال أمام قوى إقليمية أو إيديولوجيات أخرى مثل إيران أو التنظيمات السنيّة الجهادية لملء الفراغ القائم.

كذلك، قد يثير وقف الدعم السعودي للسلفية ردودَ فعل سلبية من جانب بعض الجماعات السلفية، التي قد ترى في هذا القرار تخليًا عن القيم الدينية، ما قد يفضي، عن غير قصدٍ، إلى دفع بعض الجماعات نحو أشداق التطرف وإعطائها دافعًا للخروج عن فلك المملكة. في غضون ذلك، تستمرّ الرياض في دعم بعض الجماعات السلفية عسكريًا وسياسيًا في دولٍ مثل اليمن، حيث تواصل هذه الجماعات مقاومة الحوثيين. ويوضح هذا الواقع أن المقاربة السعودية تتّسم بالبراغماتية، وأن المملكة قادرة على دعم السلفيين لتعزيز مصالحها الاستراتيجية، من دون تبنّي سياسة خارجية يغلب عليها الطابع الإيديولوجي. ويؤكّد ذلك في الوقت نفسه أن الرياض تدرك جيّدًا المخاطر التي ينطوي عليها تقليص الدعم للسلفيين، إذ قد يؤدّي إلى زعزعة الاستقرار، خصوصًا إذا دفع هذا القرار الجماعات السلفية إلى التحالف مع تنظيماتٍ أكثر تطرفًا، أو مع دولٍ معارضة للسعودية، سعيًا إلى الحفاظ على بقائها واستمرارها.

باختصار، ينطوي تحوّل الرياض بعيدًا عن السلفية على تحديات جمّة، إذ ثمّة الكثير من الأمور على المحك، بدءًا بالنفوذ السعودي ومرورًا بالاستقرار الإقليمي ووصولًا إلى دور المملكة في المشهد الإسلامي العالمي. ولكي تتجنّب السعودية تقويض مصالحها الاستراتيجية في الخارج، عليها أخذ عوامل عدّة في الحسبان وإدارتها بطريقة حذرة، ومن ضمنها التعامل مع التبعات الاقتصادية والدبلوماسية الناجمة عن هذا التحوّل، فضلًا عن احتمال تصاعد موجة التطرف.

 لهذا السبب، ترافقت عملية التحوّل بعيدًا عن السلفية مع اتّباع محمد بن سلمان مقارباتٍ مختلفة لاستبدال هذا النهج وتعزيز النفوذ السعودي في الخارج. فما كان من الرياض إلّا أن وطّدت علاقاتها مع مجموعة واسعة من القوى الدولية، من بينها الدول الغربية والصين وروسيا، وبالتالي أعادت توجيه مساعيها نحو التفاعل العالمي. يُشار إلى أن التحوّل بعيدًا عن السلفية أدّى أيضًا إلى تأثيرات اقتصادية، ولا سيما أن السعودية أنفقت أموالًا طائلة لنشر الفكر السلفي حول العالم. وفي إطار عملية إعادة توجيه هذه الموارد، شملت الاستراتيجيات الجديدة للدبلوماسية الاقتصادية السعودية إطلاق استثمارات كبرى في مجالَي البنية التحتية والتكنولوجيا وحتى القطاع الرياضي في دول أجنبية عدّة، لتعزيز أشكالٍ بديلة من القوة الناعمة. ومن الأمثلة على ذلك إجراء الرياض مباحثات عبر صندوق الاستثمارات العامة السعودي، من أجل تمويل مشروع العاصمة الإندونيسية الجديدة "نوسانتارا"، ما يعكس مساعي المملكة الرامية إلى تنويع محفظتها الاقتصادية وتوسيع نفوذها من خلال تطوير البنية التحتية. كذلك، أعلن صندوق الاستثمارات العامة إتمام صفقة شراء نادي "نيوكاسل يونايتد" الإنكليزي لكرة القدم.

في الوقت نفسه، بذلت المملكة، بصورة أقل علانيةً، جهودًا لتعزيز دعمها للتفسيرات الإسلامية التي تتماشى مع أهداف السياسة الخارجية السعودية، ومن ضمنها الترويج لأبحاثٍ ودراسات غير مشحونة سياسيًا. فقد أنشأت الرياض مؤسسات ترمي إلى تعزيز التفاهم الديني وتسهيل الحوار بين مختلف المجتمعات حول العالم، مثل مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات. صحيحٌ أن المركز لا يتولّى بصورة مباشرة نشر التعاليم الإسلامية، إلا أنه يحقّق ذلك بشكلٍ غير مباشر من خلال المساعدة في توفير مساحةٍ أمام الأشخاص من مختلف الانتماءات الدينية لخوض حواراتٍ بنّاءة، على أمل أن يؤدّي ذلك إلى توطيد أواصر العلاقات الدينية بعيدًا عن الشحن السياسي.

إضافةً إلى ذلك، يسعى محمد بن سلمان إلى التعويض عن أي تراجعٍ مُتصوَّر في نفوذ المملكة يمكن أن يُنسب إلى تعديل سياستها الدينية التقليدية، عبر تركيزه على توطيد العلاقات الجيوسياسية خارجيًا والمضيّ في مسار التحديث محليًا. على سبيل المثال، تخوض السعودية مفاوضات بشأن إبرام اتفاقيات أمنية جديدة مع دولٍ عدة، أبرزها الولايات المتحدة. يتّضح كذلك حرص الرياض على تصدير الثقافة السعودية من خلال الاستثمار في وسائل الإعلام وفي المبادرات التعليمية حول العالم، بهدف تغيير الانطباع السائد عن المملكة بأنها دولة دينية في المقام الأول. وقد استخدمت الرياض أيضًا المشاريع البيئية، مثل إطلاق مبادرتَي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، من أجل الترويج لدورها الريادي في مكافحة تغيّر المناخ وتحويل قطاع الطاقة. مع ذلك، تواجه السعودية أيضًا تحدّيًا في تحقيق التوازن بين تلبية تطلّعاتها الخضراء المراعية للبيئة من جهة وبين اعتمادها على عائدات النفط والغاز من جهة أخرى. إذًا، يجسّد فعل التوازن الدقيق هذا المسار الصعب الذي تشقّه المملكة سعيًا إلى التوفيق بين التزاماتها البيئية العامة والواقع العملي لاقتصادها المعتمد على النفط.

بموازاة هذا النهج المتنوع الذي تتّبعه السعودية للحفاظ على نفوذها، سعت بخطىً حثيثة أيضًا إلى الحدّ من انتشار جماعاتٍ عنيفة شكّلت المبادئ السلفية مصدر إلهامٍ لها. على سبيل المثال، أعلنت الرياض في شهر كانون الأول/ديسمبر من العام 2015 عن تشكيل التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في الدول الإسلامية، والذي ضمّ تحت مظلّته بدايةً 34 دولة، ثم اتّسع نطاقه ليشمل 41 دولة، جميعها من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي. وهكذا، أمِلت المملكة أن تضطلع بدورٍ قيادي في مكافحة الإرهاب في العالم الإسلامي، وأن تشكّل في الوقت نفسه ثقلًا موازنًا في وجه إيران وحلفائها. وعلى الرغم من أن هذا التحالف يحظى بدعم كلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، فضلًا عن قوى دولية أخرى، ثمّة شكوكٌ بشأن فعاليته. وتتمثّل إحدى نقاط ضعف هذا التحالف في أن عملية صنع القرار فيه شديدة البطء والتعقيد كونه يضمّ دولًا كثيرة ذات مشارب وتوجّهات مختلفة ومصالح متباينة للغاية.

خاتمة

عمومًا، يعبّر تعديل الموقف السعودي تجاه السلفية عن تحوّل استراتيجي أوسع نطاقًا في الانخراط الديني والدبلوماسي للمملكة، قد يؤدّي إلى تأثيرات بعيدة المدى في السنوات المقبلة. فالرياض تأمل في التعويض عن قيامها بتصدير السلفية في إطار سياستها الخارجية السابقة، عبر الترويج راهنًا لنسخةٍ من الإسلام أقل تشدّدًا وأقل إثارةً للانقسام، بهدف الحدّ من التطرّف داخل المملكة وخارجها على السواء. وقد تحمل هذه الخطوة أيضًا بشائر تخفيف حدّة الطائفية في العالم الإسلامي، وتوطيد التماسك السنّي، لا بل تقوية اللحمة السنيّة الشيعية، إذا ركّزت السعودية على تبنّي نهجٍ جامع وشامل للجميع في استراتيجيتها الجديدة. وهذا سيسهم بدوره في تعزيز سمعة المملكة وصورتها على الصعيد الدولي، ولا سيما في الغرب، وفي أوساط الدول التي تعتنق أشكالًا أكثر اعتدالاً من الإسلام، وبالتالي زيادة القوة الناعمة السعودية من خلال اعتماد نموذجٍ من الإسلام يتماشى مع قيم التسامح والعيش المشترك.


تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK International Development التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.

هوامش

هوامش

  • 1طُرح هذا الموضوع في مؤتمر شارك فيه المؤلّف في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في آذار/مارس 2018، وعُقِد وفقًا لقواعد تشاتام هاوس. يمكن قراءة النبذة عن المؤتمر على الرابط التالي: https://kfcris.com/ar/eve/view/109.

     

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.