النهج السعودي المزدوج حيال السلفيين

تكشف حالة الجماعات السلفية عن المسار المعقّد لعملية تبادل الأفكار الدينية عبر الحدود، ومدى قدرة القوى الخارجية على بناء نفوذٍ لها داخل مجتمعات الدول الأخرى.

نشرت من قبل
PERIPHERAL VISION
 on ١٣ سبتمبر ٢٠٢٢

أفضت سياسات تحديث المملكة العربية السعودية التي يشرف عليها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى عدد من التحولات في هيكلية مؤسسات الدولة والمجتمع السعودي. وكان المجال الديني أحد أبرز المجالات التي شهدت تغييرًا ملموسًا. من المعروف أن النظام السياسي الديني في المملكة، في أحد ركائز نشأته، قائم على تحالف بين عائلة آل سعود الحاكمة والسلفية الوهابية، لكن يبدو أن الأمير محمد ينحو بعيدًا عن هذا النهج، إذ يسعى إلى حشد الدعم في صفوف الشباب من خلال تخفيف القيود الدينية والاجتماعية التي هيمنت على نسق الفضاء العام في المملكة لفترة طويلة.

تثير هذه التحولات سؤالًا مهمًا حول مستقبل الروابط التي تجمع السعودية بالسلفية، وهي فرع من فروع الجماعات السنية، تتبنّى فكرة أن الإسلام هو ما ورد في القرآن والسنة من أقوال النبي محمد وأفعاله التي رسّختها الأجيال الثلاثة الأولى من أتباعه. وقد ساعدتها السعودية في نشر أفكارها على مدى العقود الماضية. وشكّل تقديم الدعم للسلفية إحدى أدوات القوة الناعمة التي استخدمتها المملكة لتوسيع نفوذها في المجتمعات المسلمة، كما حدث في اليمن. ففي العام 1982، أسّس العلّامة السلفي الذي كان يقيم في السعودية مقبل الوادعي دار الحديث في محافظة صعدة الحدودية مع السعودية، واعتُبر ذلك بمثابة نقطة انطلاقٍ للحركة السلفية في البلاد. دعمت السعودية الوادعي لتشكّل ثقلًا موازنًا في وجه المذهب الشيعي الزيدي في صعدة، الذي أبدى أعضاء بارزون فيه دعمهم للثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979.

لقد استفادت السعودية من التوسع السلفي في اليمن. فقد صوّر الخطاب السلفي المملكة على أنها الحامي الأول للإسلام، واستندت التعاليم السلفية بالدرجة الأولى إلى أفكار علماء سلفيين سعوديين، على غرار عبد العزيز بن باز ومحمد بن العثيمين ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهم. وفي مرحلة لاحقة، بات الانقسام الديني في اليمن مدفوعًا بأفكار عابرة للحدود الوطنية، إذ أثّر السعوديون على السلفيين بينما أثّر الإيرانيون على الزيديين، ما أسهم لاحقًا في إشعال فتيل الحرب الأهلية اليمنية التي ما زالت تتوالى فصولًا حتى اليوم.

وعلى الرغم من تراجع مكانة السلفية على ما يبدو داخل السعودية، عكفت المملكة على تعزيز تحالفها مع السلفيين في اليمن، لا بل وسّعت تعاونها معهم في بعض المناطق على وقع احتدام وتيرة الصراع. ونظرًا إلى الاختلافات الإيديولوجية بين الجماعات السلفية والحوثيين المدعومين من إيران، أصبحت هذه الجماعات تشكّل قوة كبيرة مدعومة من التحالف العربي الذي تقوده السعودية. فقد تمكنت ألوية عسكرية عدة يغلب عليها العنصر السلفي من تغيير ميزان القوى على جبهات عسكرية أساسية، مثل ألوية العمالقة السلفية، المدعومة من السعودية والإمارات العربية المتحدة، والتي كانت رأس الحربة في عمليات السيطرة على المناطق الواقعة على الشريط الساحلي في غرب البلاد في العامَين 2017 و2018. ثم حققت مكاسب كبيرة منذ فترة ليست ببعيدة في معركة شبوة وسط اليمن.

لقد ترافقت العلاقة المتغيّرة بين الدولة السعودية والسلفيين في المملكة مع التحولات التي شهدتها البيئة السلفية في اليمن، إذ ينقسم السلفيون اليمنيون تاريخيًا إلى ثلاث فئات: أولًا، السلفيون الجهاديون؛ وثانيًا، السلفيون السياسيون الذين لديهم جذور سلفية لكنهم يسيرون على نهج الإسلام الحركي من خلال الانخراط في السياسة، مثل حزب اتحاد الرشاد وحزب السلم والتنمية؛ وثالثًا، السلفيون التقليديون الذين ينضوي تحت رايتهم معظم السلفيين اليمنيين. وفي حين تكافح الفئة الأولى وتتجاهل الثانية، تجد السعودية في السلفيين التقليديين ضالتها. تاريخيًا، امتنعت التيارات السلفية التقليدية عن الانخراط في السياسة ودَعت إلى طاعة ولي الأمر، لكن هذا المبدأ تزعزع بعد استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء في العام 2014، حين وجد السلفيون أن الحوثيين الزيديين الذين عارضوهم قد أصبحوا ولاة الأمر الجدد باعتبارهم القوة العسكرية المهيمنة في عدد كبير من مناطق اليمن.

دفع هذا التبدّل في المشهد السياسي عددّا كبيرًا من أتباع السلفية التقليدية إلى الانخراط في مقاومة الحوثيين إلى جوار التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، ووجدوا أنفسهم في قلب الجبهات يتولّون قيادة الكثير من المجموعات المسلحة. كانت تحولات الأحداث في اليمن غير متصلة بالتغييرات التي أجراها محمد بن سلمان داخل المملكة، الأمر الذي أفرز مسار علاقة مختلفًا بين سلفيي اليمن والسعودية، حلت فيه الأخيرة في موضع ولي الأمر للسلفيين بينما تحول السلفيون إلى قوتها الصلبة في القتال. وبات السلفي المحارب المنخرط في المعارك هو نموذج السفلي المفضل للسعودية الجديدة.

لدى السعودية ثلاثة دوافع أساسية لتوطيد علاقتها مع الجماعات السلفية اليمنية. يتمثّل الدافع الأول في العداوة اللدودة بين السلفيين من جهة، والحوثيين الذين تحاربهم السعودية من جهة أخرى. ولا يقتصر الخلاف بين السلفيين والحوثيين على العقيدة وحسب، بل ينطوي أيضًا على بُعد عسكري. ففي العام 2014، استولى الحوثيون على مركز دمّاج في محافظة صعدة، وأرغموا السلفيين على مغادرة المنطقة. وتأجّج من جديد شعور السلفيين بالمظلومية حين توغّل الحوثيون في مناطق أخرى يتواجد فيها سلفيون. وحين أطلق التحالف بقيادة السعودية عملياته العسكرية في آذار/مارس من العام 2015، ظهر السلفيون على أنهم شركاء يُعتدّ بهم في العمليات البرية التي نفّذها التحالف.

الدافع الثاني هو أن السلفيين لا يمتلكون أجندة سياسية محددة يمكن أن تشكل عبئًا على السعودية أو الإمارات، إذ يرتكز هدفهم الأساسي على محاربة الحوثيين من منطلق ديني، ولا سيما بعد استيلاء الحوثيين على مركز دمّاج وطرد السلفيين من صعدة. وقد منح هذا الواقع السلفيين مكانة مميزة بين المجموعات اليمنية الأخرى التي تناصر أو تقاتل إلى جانب التحالف، ومن ضمنها حزب الإصلاح وبعض الانفصاليين الجنوبيين أو الأحزاب اليسارية الذين لديهم أجندات سياسية تتعارض في بعض الأحيان مع أهداف التحالف بقيادة السعودية.

أما الدافع الثالث فيتمثّل في الحفاظ على النفوذ الديني السعودي في اليمن، الذي ساعد الجماعات السلفية على إدامته خلال العقود الأربعة الماضية، والحيلولة دون دخول السلفيين في أي تسويات غير مرغوب بها مع الحوثيين. ويرى السعوديون أن الاتفاقات التي أبرمها بعض القادة السلفيين مع الحوثيين في مناطق شمال اليمن في العام 2014 مثيرة للقلق، إذ أدت إلى انصهار السلفيين في هذه المناطق وهيمنة الحوثيين على مراكزهم. هدفت تلك الاتفاقات إلى وضع حدّ للخطاب العدائي، والتواصل المباشر بين الطرفَين لمعالجة أي مسألة قد تطرأ، على الرغم من أن هذه الاتفاقات تشوبها الهشاشة لعدم التزام الحوثيين بها بشكل مستمر. يُشار إلى أن المملكة تقدّم الدعم العسكري والمالي للسلفيين، وتواصل في الوقت نفسه تمويل مراكزهم الدينية. ومع أن الصراع اليمني ألحق الضرر بالمؤسسات التعليمية في البلاد، لا تزال المدارس السلفية تواصل عملها، حتى إنها تتوسع في مناطق عدة من البلاد، من بينها عدن والضالع والمهرة.

من زاوية أخرى، يرى السلفيون أن وجود داعمين إقليميين لهم، كالسعودية والإمارات، أمر مهم، ليس فقط بسبب الدعم المالي، بل أيضًا لأن السلفيين يحاولون اكتساب نوعٍ من الشرعية في قتالهم ضدّ الحوثيين، ولا سيما بعد ظهور مخاوف من احتمال نشوء علاقة تجمع بين بعض السلفيين التقليديين ومجموعات مرتبطة بتنظيم القاعدة. لقد ساهم القتال في صفّ التحالف الذي تقوده السعودية في تخفيف حدة هذه المخاوف، لأسباب عدّة أبرزها انضمام السلفيين إلى الحكومة اليمنية. فمجلس القيادة الرئاسي المؤلف من ثمانية أعضاء، وهو الهيئة التنفيذية للحكومة المعترف بها دوليًا، يضمّ الزعيم السلفي، قائد ألوية العمالقة أبو زرعة المحرمي.

نظرًا إلى المشهد السياسي والعسكري السائد في اليمن، ستبقى العلاقة بين السعودية والسلفيين وطيدة هناك، على الرغم من التغيرات التي يشهدها المجال الديني داخل المملكة. وفيما تواصل السعودية معركتها في اليمن، سيبقى السلفيون شركاءها المفضّلين وجزءًا أساسيًا من شبكة نفوذها في البلاد. لقد طرأ تبدّل على دور الجماعات السلفية المدعومة من السعودية في اليمن على مدى السنوات الماضية. فبعد أن كانت السلفية لغاية العقد الماضي قوة ناعمة تنتشر من خلال التعليم الديني، أصبحت اليوم جزءًا من القوة الصلبة للسعودية، إذ بات طلابها مقاتلين في ساحات الحرب. ولا يقتصر هذا الواقع على اليمن وحسب، بل ينطبق أيضًا على مناطق أخرى مثل ليبيا، حيث شهدت الجماعات السلفية المدخلية المدعومة من السعودية تحولًا مماثلًا. وتكشف حالة الجماعات السلفية عن المسار المعقّد لعملية تبادل الأفكار الدينية عبر الحدود، ومدى قدرة القوى الخارجية على بناء نفوذٍ لها داخل مجتمعات الدول الأخرى.

نشر هذا المقال أساساً في بيرفيريل فيجون (Peripheral Vision).

تم إصدار هذه الدراسة بدعمٍ من برنامج X-Border Local Research Network (شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية) الذي يحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. إن الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن السياسات الرسمية للحكومة البريطانية.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.