A view of the panels of the solar power station of Ain Beni Mathar near Oujda on May 31, 2011. The station provides 13% of the Moroccan energy needs it is claimed
المصدر: Getty

التوظيف الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية في خدمة الأهداف الجيوسياسية: الأبعاد الجديدة للتنافس المغربي الجزائري

يعمَد كلٌّ من الرباط والجزائر، بشكلٍ متزايد، على استثمار ما تتمتّعان به من مزايا، سواء في مجالَي الطاقة والتجارة مع الجوار، أو في القدرة على الحدّ من تدفّق المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، لخدمة طموحاتهما الإقليمية.

نشرت في ٢٨ أكتوبر ٢٠٢٥

مقدّمة

اكتسب التنافس المستمرّ منذ زمن طويل بين المغرب والجزائر بعدًا إضافيًا في الآونة الأخيرة، إذ باتت الدولتان تستخدمان أدوات اقتصادية بطُرُق استراتيجية، ولا سيما في مجالَي التجارة والطاقة، لإظهار القوة، وبناء تحالفات جديدة، وانتهاج أساليب الضغط القوي على الدول الأوروبية. وعلى وجه التحديد، يلجأ كلٌّ من الجزائر والمغرب إلى التوظيف الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية (economic statecraft) من أجل ترسيخ دورٍ قيادي إقليمي في شمال وغرب أفريقيا. والنتيجة هي بروز ساحات نفوذ متنافسة، وأحيانًا متداخلة.

يُحتمَل أن يؤدّي هذا التطوّر المستمر إلى خطر تأجيج حالة عدم الاستقرار. فمع اشتداد التنافس بين المغرب والجزائر واتّخاذه أبعادًا جديدة، يُرجَّح أن يفضي ذلك إلى نتيجتَين رئيستَين: الأولى هي ازدياد حدّة التوتّرات مع الشركاء الأوروبيين، ولا سيما بين فرنسا والجزائر، نظرًا إلى دعم فرنسا المستجدّ لسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وهو موقف لا يفاقم التشنّجات الراهنة فحسب، بل يُعيد أيضًا إلى الواجهة مظالم الماضي الاستعماري. أمّا النتيجة الثانية فهي تنامي انعدام الاستقرار في منطقة الساحل، حيث يسعى كلٌّ من الجزائر والمغرب إلى ترجيح الكفّة لصالحه في ملفّ الصحراء الغربية، الذي لطالما شكّل موضع خلاف بينهما.

بناء نفوذ سياسي عبر الطاقة والتجارة

تعمَد الجزائر والمغرب إلى استخدام الموارد الطبيعية والتجارة كأداة لتحقيق طموحاتهما الاستراتيجية. فقد رسّخت الجزائر موقعها كلاعب رئيسٍ في أمن الطاقة الأوروبي على المدى الطويل، من خلال تأكيد حضورها في سوق الطاقة المستقبلية، بما يشمل إنتاج الهيدروجين الأخضر وتوريد الوقود الأحفوري. ولإنجاز ذلك، تستخدم الجزائر قطاع الطاقة لتوثيق علاقاتها السياسية والاقتصادية مع إيطاليا وألمانيا، وكسب أوراق للضغط عليهما. كذلك حوّلت الجزائر سياستها التجارية، ومكانتها كأحد أبرز مستوردي المواد الغذائية، ولا سيما الحبوب، إلى أداة ضغط اقتصادي، في رسالةٍ واضحة مفادها أنّ النفاذ إلى السوق الجزائرية سيعتمد أكثر فأكثر على التوافق الجيوسياسي.

أمّا استراتيجية المغرب في مجال الطاقة، فلها هدفان أساسيان، هما: ضمان أمن الطاقة المحلي على المدى الطويل، وتعزيز مكانة المغرب الدولية من خلال تصدير الطاقة النظيفة. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، استثمر المغرب بشكل منهجي في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، ومؤخّرًا في الهيدروجين الأخضر. وبات المغرب اليوم من بين أكبر خمسة منتجين للطاقة المتجدّدة في أفريقيا. وعلى الرغم من أن المغرب ليس من مصدّري الوقود الأحفوري، فإنه يوظّف الطاقة المتجدّدة للمنافسة في سوق الطاقة، مستفيدًا من موقعه الجغرافي الاستراتيجي وحيويّته الاقتصادية لجذب المستثمرين.

المشهد في الجزائر

أتاحت الصدمة التي تعرّضت لها أسواق الطاقة العالمية جرّاء الحرب في أوكرانيا فرصة ذهبية للجزائر لترسيخ مكانتها كأحد أبرز شركاء أوروبا في مجال الطاقة. فقد سدّت الجزائر الفراغ الذي خلّفه غياب الغاز الطبيعي الذي كانت دول الاتحاد الأوروبي تشتريه سابقًا من روسيا، وحوّلت هذه المكاسب الاقتصادية إلى نفوذ سياسي. ونتيجة التغيّرات في خطوط إمداد الغاز الأوروبية، أصبحت الجزائر شريكًا استراتيجيًا لأوروبا في مجال الطاقة، ما أتاح لها تعزيز مصالحها في لحظة مفصليّة.

نتيجةً لانقطاع إمدادات الغاز الروسي في أعقاب حرب أوكرانيا وانهيار إنتاج الطاقة في ليبيا، عمَدَت روما إلى إعادة توجيه سياستها في مجال الطاقة بشكل حاسم نحو الجزائر. ففي عهد رئيسَي الوزراء ماريو دراغي وجورجيا ميلوني، أصبحت إيطاليا الشريك الأوروبي الأهمّ للجزائر. وأدّت إعادة التموضع الاستراتيجية هذه إلى توقيع اتفاق تاريخي بين شركة سوناطراك الجزائرية وشركة "إيني" (ENI) الإيطالية في العام 2022، نصّ على زيادة صادرات الغاز الجزائري إلى إيطاليا من 22 إلى 31 مليار متر مكعّب سنويًا، وملأ خط أنابيب الغاز العابر للمتوسط الذي يمرّ عبر تونس. وفي غضون عامَين فقط (2022-2024)، تجاوزت الجزائر روسيا لتصبح المورّد الأوّل للغاز إلى إيطاليا.

شكّلَت زيارة وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني إلى الجزائر في آذار/مارس 2023 منعطفًا مهمًّا، أعاد التأكيد على أهمية الجزائر في استراتيجية الطاقة الإيطالية. وقد مثّل الإعلان عن مشروع "ممرّ الهيدروجين الجنوبي" (SouthH2Corridor)، وهو مشروع ضخم للهيدروجين الأخضر بقيمة 14.2 مليار دولار يهدف إلى تصدير أربعة ملايين طن من الهيدروجين سنويًا إلى أوروبا بحلول العام 2030، أبرز معالم هذه الزيارة. يصل طول هذا الممرّ إلى 3300 كيلومتر، ومن المقرّر أن يربط الجزائر بكلٍّ من إيطاليا والنمسا وألمانيا عبر تونس، وهو يُعدّ محوريًا لتحقيق طموحات الجزائر في مجال الطاقة على المدى البعيد، وكذلك أهداف أوروبا لخفض انبعاثات الكربون.

يبرز طرفٌ آخر في هذا التحالف، وهو تونس المجاورة، التي تستفيد اقتصاديًا واستراتيجيًا من كونها دولة عبور لخط الأنابيب العابر للمتوسط، وممرًا محتملًا للهيدروجين. ففي العام 2019، وقّعت اتفاقًا لمدة عشر سنوات مع شركة "إيني"، ضَمن لتونس إمدادات غاز مستقرة وأسعارًا تفضيلية، وهو ما ساعد اقتصادها المتعثّر نتيجة الاضطرابات السياسية منذ الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي في العام 2011. أمّا اليوم، ومع تدهور الوضع الاقتصادي في تونس في عهد الرئيس قيس سعيّد، الذي أدّى استيلاؤه على السلطة في تموز/يوليو 2021 إلى إدخال البلاد في ضائقة اقتصادية ومالية حادّة وسط عزلة دولية، باتت تونس تعتمد بشكل متزايد على الدعم السياسي والمالي من الجزائر وإيطاليا.

أسفر ذلك عن نشوء محور ثلاثي الأطراف، هشّ لكنه فعّال إلى حدٍّ كبير، يجمع بين حاجة تونس الماسّة إلى شرايين حياة اقتصادية، وطموحات الجزائر في القيادة الإقليمية، وهواجس روما حول قضايا الهجرة والطاقة. ففي ظلّ سعي إيطاليا إلى ضمان تعاون تونس في الحدّ من الهجرة غير النظامية على طول الطريق المركزي للبحر المتوسط، غضّت روما الطرف عن تفاقم النزعة السلطوية في تونس. أما الجزائر، فتعتبر تونس مجالَ نفوذ حيويًا يمكّنها من التفوّق على المغرب وتعزيز موقعها الإقليمي. وهكذا، تشكّل تدفّقات الطاقة وسياسات الهجرة والانتهازيّة الاستراتيجية أضلاعًا تجمع بين رؤوس هذا المثلّث الشعبوي الجديد المؤلّف من إيطاليا وتونس والجزائر، والذي تمثّل الأخيرة ركيزته الأساسية بشكل متزايد.

إن توظيف الجزائر الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية ينطوي على عنصرَي القوة القسرية والتعاون. فقد برز جليًّا استعداد الجزائر لاستخدام صادراتها من الطاقة كأداة لتحقيق مصالحها عندما تدهورت علاقاتها مع الرباط في العام 2021 بسبب نزاع الصحراء الغربية. ففي ذلك العام، أغلقت الجزائر خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي، الذي كان يصدّر الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر المغرب. وحمَلَ هذا الإجراء بُعدًا عقابيًا واستراتيجيًا في آن واحد، إذ حرم الرباط من جزء من إمدادات الطاقة ومن رسوم عبور كبيرة خلال مرحلة اقتصادية صعبة بسبب جائحة كوفيد-19 والتضخّم العالمي. وقد أظهرت الجزائر بخطوتها تلك عزمها على استخدام السيطرة على البنى التحتية كأداة جيوسياسية، مُرغمةً المغرب على البحث عن بدائل لإمداداته من الطاقة.

اتّبعت الجزائر نهجًا مماثلًا في تجارة الغذاء، ولا سيما استيراد القمح. فعلى سبيل المثال، في العام 2019، استوردت الجزائر ما يصل إلى 5 ملايين طن من القمح الطري من فرنسا، بقيمة بلغت مليار دولار، وهو ما جعل ذلك العام أحد أنجح الأعوام لصادرات القمح الفرنسية. ولكنْ، مع ازدياد الدعم الفرنسي العلني لمخطّطات المغرب بشأن الصحراء الغربية (منح حكم ذاتي محدود بدلًا من إجراء استفتاء على الاستقلال)، بدأت الجزائر في إعادة توجيه استراتيجيتها الشرائية نحو مورّدين من روسيا وأوروبا الشرقية. وفي أعقاب قرار باريس في تموز/يوليو 2024 الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، انخفضت واردات الجزائر من القمح الطري الفرنسي لتبلغ 1.5 مليون طن في ذلك العام. وفي العام 2025، قاطعت الجزائر القمح الفرنسي بالكامل، ما فرض تحديات مباشرة على المنتجين الفرنسيين لتصريف الفائض ومنع اضطراب السوق.

نتيجةً لذلك كلّه، تطوّر توظيف الجزائر الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية وبات أوسع نطاقًا. فقد أعادت الجزائر التموضع في المشهد الجغرافي السياسي الإقليمي والدولي من خلال مواءمة وارداتها الغذائية وصادراتها من الطاقة مع مصالحها الاستراتيجية. وتحديدًا، بنت الجزائر علاقة وثيقة مع إيطاليا، وشكّلت ثقلًا موازنًا في وجه نفوذ المغرب، وعاقبت فرنسا (وإسبانيا) على خياراتهما السياسية الخارجية التي تتعارض مع المصالح الجزائرية، كما وطّدت علاقاتها مع روسيا على الرغم من التنافس بين الطرفَين في سوق الطاقة العالمية. وبالتالي، حوّلت الجزائر ثروتها من الموارد الطبيعية إلى أداة للنفوذ الإقليمي.

المشهد في المغرب

على الرغم من أن المغرب لم يكن تاريخيًا من اللاعبين الرئيسين في سوق الطاقة، أدرك أن التحوّلات الجارية في المشهد الجغرافي السياسي الخاص بالطاقة تمنحه فرصًا جديدة لتعزيز نفوذه في شمال أفريقيا. فسارعت المملكة، من خلال اغتنام ما تعتبره "فرصةً خضراء"، إلى تكثيف استثماراتها في الطاقة المتجدّدة، ليس لتأمين مستقبلها من موارد الطاقة فحسب، بل أيضًا لترسيخ مكانتها كمركز للطاقة الخضراء. وفي الوقت نفسه، سعى المغرب إلى استثمار موقعه الجغرافي المميّز عبر الترويج لمشروع خط أنابيب غاز عابر للقارات يربط نيجيريا بأوروبا عبر الأراضي المغربية، وهو مشروع زاد من حدّة التنافس مع الجزائر.

بفضل موقع المغرب الجغرافي، واتصال شبكته الكهربائية بكلّ من إسبانيا والبرتغال، فهو شريكٌ مثالي للاتحاد الأوروبي. كذلك، يسهّل هذان العاملان مسعاه لكي يصبح مركزًا للطاقة المتجدّدة في الجوار الطاقي الجنوبي للاتحاد الأوروبي. ومن أبرز الأمثلة على هذه الجهود، خارطة طريق الهيدروجين الأخضر التي كشفت عنها الرباط في العام 2021، والتي تهدف لتحويل البلاد إلى مورّدٍ أساسي للهيدروجين إلى القطاعات المحلية، مثل إنتاج الأسمدة، وكذلك إلى الأسواق الدولية. وكانت وزيرة الطاقة، ليلى بنعلي، قد أدرجت هذه المبادرة في إطار الاستدامة، ووصفتها بأنها "فرصة تاريخية" لتعزيز اندماج المغرب في البنية الطاقية الأوروبية.

مع ذلك، يبقى هذا الهدف صعب المنال. فما زال المغرب يعتمد بشدّة على الفحم في إنتاج القسم الأكبر من إمدادات الكهرباء. ومن أجل التحوّل الكامل نحو بدائل متجدّدة، سيتعيّن على المغرب الاستثمار بكثافة في توليد الطاقة، وتخزينها، وتحديث بنيتها التحتية. يُضاف إلى ذلك أن نجاح استراتيجية الهيدروجين الأخضر أو فشلها يعتمد أيضًا على الطلب العالمي، والأسعار التنافسية، واستمرار توافر الإرادة السياسية في العواصم الأوروبية.

لا تقتصر طموحات المغرب في التحوّل إلى مركزٍ للطاقة على المصادر المتجدّدة، بل تسعى المملكة إلى دخول ميدان الجغرافيا السياسية لخطوط أنابيب الغاز، وهو مجال هيمنت عليه تاريخيًا كلٌّ من الجزائر وليبيا في شمال أفريقيا. وقد أتاح تغيّر مشهد الطاقة الأوروبي للمغرب فرصةً لترسيخ موقعه كدولة عبور في جغرافيا أنابيب الغاز، بحيث تربط الغاز الذي تنتجه دول غرب أفريقيا بالسوق الأوروبية. ويُعدّ الهدف الجيوسياسي الأكثر طموحًا في هذا السياق مشروع خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب.

طُرح المشروع في العام 2016، أي قبل عام واحد من إعادة انضمام المغرب إلى الاتحاد الأفريقي بعد انقطاع دام ثلاثة وثلاثين عامًا. ومن المتوقَّع أن ينقل خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب الغاز الطبيعي من نيجيريا على الساحل الغربي لأفريقيا، مرورًا بثلاثة عشر بلدًا قبل وصوله إلى المغرب. وإذا نُفِّذَت الخطّة على النحو المقرَّر، فسيوفّر الخط ما يصل إلى 30 مليار متر مكعّب من الغاز سنويًا لأكثر من 400 مليون نسمة على امتداد مساره البالغ 7 آلاف كيلومتر. وقد حاز المشروع بالفعل على دعم دولي واسع، كما اتّضح من مذكرة التفاهم الموقّعة في العام 2022 بين نيجيريا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا والمغرب، وقرار دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 2025 المساهمة في تمويل المشروع.

فضلًا عن ذلك، يشكّل خط أنابيب الغاز بين نيجيريا والمغرب مشروعًا استراتيجيًا مضادًّا ينافس مشروع الجزائر، أي خط أنابيب الغاز العابر للصحراء، الذي وُقِّع اتفاقٌ لإطلاقه في العام 2002 وكان من المُقرَّر أن ينقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا عبر الجزائر والنيجر. لكن المشروع الجزائري تعثّر، بالرغم من طرحه المبكر، بسبب حالة انعدام الأمن المستمرّة في النيجر وتدهور علاقات الجزائر الدبلوماسية مع الأطراف الإقليمية. يوفّر مشروع المغرب خيارًا أكثر طموحًا، لكنه أكثر تكلفةً وتعقيدًا من الناحية السياسية نظرًا إلى كثرة الدول التي سيمرّ عبرها. ويهدف المشروع إلى توفير مسار عملي لنقل غاز نيجيريا إلى الأسواق الأوروبية، ما سيعزّز موقع المغرب كمركز أساسي للطاقة والعبور، ويرسّخ سيادته على الصحراء الغربية.

لا يقتصر توظيف المغرب الاستراتيجي للإدارة الاقتصادية على قطاع الطاقة. فقد أصبح اتّخاذ المغرب تدابير صارمة بحقّ المهاجرين غير النظاميين المتّجهين إلى أوروبا عبر المغرب، وجذب الاستثمارات الكبرى في مجال البنية التحتية، من أبرز أوراق التفاوض، ولا سيما مع إسبانيا وفرنسا. فبعد سنوات من تمسّك مدريد بضرورة تحديد مستقبل الصحراء الغربية من خلال استفتاء شعبي يُجرى في الإقليم نفسه، بدّلت موقفها في العام 2022 وساندت خطة المغرب التي تقضي بمنح الإقليم حكمًا ذاتيًا محدودًا. ويعود هذا التحوّل إلى رغبة مدريد في ضمان تعاون الرباط في الحدّ من تدفّق المهاجرين غير النظاميين إلى مدينتَي سبتة ومليلية الإسبانيتَين في شمال أفريقيا، وكذلك إلى جزر الكناري، في العاميَن 2020 و2021.

وفي العام 2024، حقّق المغرب تطوّرًا دبلوماسيًا مماثلًا مع باريس. فخلال الزيارة الرسمية التي أجراها الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الرباط في تشرين الأول/أكتوبر من ذلك العام، وقّع المغرب وفرنسا اتفاقات استثمارية بقيمة تقارب 11.6 مليار دولار في مجالات النقل والطاقة المتجدّدة والبنية التحتية. ومع أن السياسة الخارجية الفرنسية تجاه دول شمال أفريقيا لا تعتمد حصرًا على الاعتبارات الاقتصادية، شكّلت هذه الاتفاقات تحولًا مهمًا في العلاقات الفرنسية المغربية، وأظهرت قدرة المغرب على تحويل التعاون الاقتصادي إلى مكاسب دبلوماسية. يُضاف إلى ذلك أن تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، وفشل جهود التقارب مع الجزائر بالرغم من مساعي ماكرون لتخفيف التوتّر، والجاذبية المتزايدة للسوق المغربية أمام الشركات الفرنسية، كلّها عوامل أقنعت باريس بأن دعم خطة المغرب للحكم الذاتي في الصحراء الغربية المتنازع عليها يصبّ في مصلحة فرنسا.

في المحصّلة، عزّز المغرب موقعه الاستراتيجي عبر مزيج من الدبلوماسية الاقتصادية والطموح الطاقي وضبط الهجرة، في إطار سياسة خارجية متماسكة. فقد استثمرت الرباط في التحوّل الطاقي الأوروبي والتحالفات المتبدّلة لتقدّم نفسها كشريك ثابت، وكجهة رائدة في مجال الطاقة المتجدّدة، وكمركز عبور محتمل لغاز غرب أفريقيا. كذلك، سخّرت الرباط تعاونها مع إسبانيا في ملفّ الهجرة، ودبلوماسية العقود والمشتريات، وتموضعها الاستراتيجي الحذق في علاقتها بفرنسا، إلى جانب تنافسها مع الجزائر، لتضطلع بدور قيادي.

اشتداد التنافس في منطقة مُقسّمة

دخل التنافس الطويل الأمد بين الجزائر والمغرب مرحلة جديدة أكثر حدّة وتوتّرًا. فمن ناحية، تجاوز هذا التنافس حدود شمال أفريقيا ليصل إلى مناطق أقلّ استقرارًا في منطقتَي الساحل وغرب أفريقيا، حيث اتّخذ البلَدان خطوات لرسم دوائر نفوذ من خلال مزيج من الدبلوماسية، وتوظيف الإدارة الاقتصادية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، والتحالفات الاستراتيجية. ومن ناحية أخرى، تطوّر هذا التنافس ليصبح لعبةً ذات حصيلة صفرية، يُنظر فيها إلى أيّ مكسب يحقّقه أحد الطرفَين على أنه خسارة للطرف الآخر. وقد سرّع تأييد كلٍّ من فرنسا وإسبانيا موقف المغرب بشأن الصحراء الغربية هذا المنحى، إذ زاد من جرأة الرباط وأثار غضب الجزائر.

تشكّل قضية الصحراء الغربية جوهر التنافس الجزائري المغربي، إذ إنها تحدّد الحسابات الاستراتيجية والسياسات الخارجية لكلٍّ من البلدَين. ففي حالة المغرب، يُعَدّ الحصول على اعتراف دولي بسيادته على الصحراء الغربية الركيزة الأساسية في أجندته الوطنية ودبلوماسيته الإقليمية. أما الجزائر، فترى في دعمها لقضية الانفصاليين الصحراويين مسألة مبدئية ترتبط بالتضامن مع الحركات المناهضة للاستعمار وبتحقيق التوازن الإقليمي. وقد أجّج هذا الخلاف الجوهري مشاعر انعدام الثقة والمنافسة طوال عقود، وحوّل الصحراء الغربية إلى ساحة مواجهة رمزية واستراتيجية في آن واحد. ومع تغيّر المواقف الدولية واستمرار تعثّر عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة، تظلّ هذه القضية مصدرًا للتوتّرات المتصاعدة بين الجارَين.

فضلًا عن ذلك، برزت جبهة تنافس جديدة في منطقة الساحل نتيجة الخلافات المغربية الجزائرية، حيث يسعى كلّ طرف إلى استغلال إخفاقات الآخر. ففيما يشهد نفوذ الجزائر تراجعًا، تُحقّق الرباط مكاسب. لكن اللعبة لم تصل إلى نهايتها بعد، ولا يزال المستقبل ضبابيًا للغاية، خصوصًا في مناطق مثل الساحل حيث المؤسسات ضعيفة، والحدود غير مضبوطة، والتحالفات هشّة، ما يعني أن دوائر النفوذ المتداخلة بين المغرب والجزائر تشكّل عاملًا يزيد من احتمالات نشوب نزاع.

تسعى الجزائر جاهدةً إلى إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية في شمال أفريقيا من خلال الدعوة إلى إنشاء تكتّل مغاربي جديد لا يضمّ المغرب. ولهذا الغرض، عملت الجزائر على تعزيز التنسيق مع كلٍّ من تونس وليبيا، وهو مسعى تُوِّج بعقد اجتماع ثلاثي رفيع المستوى في تونس العاصمة في نيسان/أبريل 2024. ومع أن القمة سُوِّقَت على أنها استجابةٌ لحالة انعدام الاستقرار الإقليمي، شدّدت على أهمية إقامة إطار إقليمي للتعاون في مجالَي الهجرة والأمن. ولكنْ بمعزل عن هذه الأهداف المُعلَنة، عكست المبادرة طموح الجزائر الأوسع نطاقًا في تأكيد قيادتها للمغرب العربي وتهميش المغرب سياسيًا.

أما المغرب، فقد سعى إلى زيادة نفوذه في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل عبر نهج يقوم على الاستثمار الطويل الأمد في عددٍ من دول المنطقة، والدبلوماسية الاقتصادية، والبراغماتية اللبِقة. ويشكّل إعلان الملك محمد السادس في العام 2023 عن المبادرة الأطلسية مثالًا على هذه الاستراتيجية، إذ يهدف المشروع إلى منح دول الساحل غير المُطِلّة على البحر، أي بوركينا فاسو ومالي والنيجر، منفذًا مباشرًا إلى المحيط الأطلسي للتجارة البحرية العالمية. وقد التقى وزراء خارجية تلك الدول بالملك المغربي في الرباط في نيسان/أبريل 2025، وأعربوا عن دعمهم للمبادرة.

لا يخلو نهج المغرب من المخاطر، بالرغم من الزخم الذي يحقّقه. فنجاح "المبادرة الأطلسية" مرهونٌ بتجاوز عقبات لوجستية ومالية وأمنية كبيرة. واقع الحال أن منطقة الساحل تعاني من عدم الاستقرار السياسي ومن العنف الجهادي، وبنيتها التحتية ما زالت ضعيفة. إضافةً إلى ذلك، تتوافر بدائل أقصر وقائمة بالفعل، تتمثّل في الطرق التجارية المُنافِسة التي تمرّ عبر موانئ في السنغال وساحل العاج وبنين وتوغو. وبالتالي، يحتاج المغرب إلى إثبات أن خطته قابلة للتنفيذ اقتصاديًا، لا بل أنها تحمل أيضًا قيمة سياسية بعيدة المدى، وليست مجرّد فصلٍ من فصول منافسته مع الجزائر. وفي حال فشلت الرباط في تحقيق ذلك، فستتراجع مصداقيتها كشريك موثوق على المدى الطويل، كما سيتنامى الانطباع بأن قضية الصحراء الغربية باتت العدسة الرئيسة التي تنظر الرباط من خلالها إلى السياسة الخارجية، حتى إن جاء ذلك أحيانًا على حساب مراعاة مصالح شركائها واحتياجاتهم.

خاتمة

يتّسع نطاق التنافس بين المغرب والجزائر، إذ يُضاعِف الطرَفان جهودهما لتحقيق رؤى متضاربة للقيادة الإقليمية. وقد أحسن المغرب استثمار مكانته المتنامية كمركز للتجارة والطاقة، فتمكّن من تغيير الديناميّات الدولية لصالحه. في هذا السياق، لا يُعَدّ التأييد المتزايد من القوى الغربية الكبرى، بما في ذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، لخطة الحكم الذاتي التي يطرحها المغرب للصحراء الغربية مجرّد انتصار دبلوماسي، بل يمثّل إعادة اصطفاف استراتيجي للمصالح الأوروبية بما يتماشى مع مواقف الرباط. وقد أدّى هذا التحوّل إلى تقويض الموقف المحايد تاريخيًا لأوروبا، وإلى إعادة تعريف معايير الانخراط الدولي في نزاع الصحراء الغربية.

في المقابل، تواجه الجزائر انكماشًا في آفاقها الدبلوماسية. ويعكس توجّهها الإقليمي، ولا سيما سعيها إلى تشكيل إطار مغاربي جديد يضمّ ليبيا وتونس، تحوّلًا نحو العزلة بدلًا من الاندماج في البنى السياسية الاقتصادية القائمة. ومع ذلك، حقّقت هذه الجهود نتائج متباينة. فقد تراجع موقع الجزائر في منطقة الساحل، حيث كانت تملك نفوذًا ملحوظًا. كذلك، ازدادت حدّة التوتّر مع مالي والنيجر، فيما زاد انسحاب فرنسا من الساحل، بعد أن كانت تشكّل سابقًا ثقلًا موازنًا للمغرب، من اضطراب بيئة الجزائر الاستراتيجية. وتبدو فرص خفض التصعيد في المرحلة المقبلة محدودة.

لا تزال قضية الصحراء الغربية سبب الانقسام الأساسي بين المغرب والجزائر، إذ تنعدم هوامش التسوية بالكامل تقريبًا، ويتصاعد الزخم الدولي الداعم لمقترح الرباط بمنح الإقليم حكمًا ذاتيًا محدودًا. وفي الوقت نفسه، من المرجّح أن تؤدّي الطموحات المتنافسة في منطقة الساحل، والتحالفات المتباينة لدول المنطقة مع القوى الخارجية، إلى تصعيد المواجهة بدلًا من أن تعزّز التعاون. ومن منظور الشركاء الدوليين، فإن أيّ خطوة مستقبلية تصبّ في مصلحة أحد طرفَي النزاع المغربي الجزائري قد تزعزع توازن القوى الهشّ بينهما، مع ما يحمله ذلك من تداعيات محتملة تفاقِم عدم الاستقرار في المنطقة. لذا، يتطلّب التعامل مع هذا المشهد الجيوسياسي المتقلّب قدرًا كبيرًا من الحذر الاستراتيجي والدبلوماسية المتأنّية.

 هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية. للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.