المصدر: Getty

المملكة العربية السعودية في أفريقيا: استراتيجية اقتصادية وجيوسياسية سليمة، أم استغلالٌ للموارد؟

بعد التركيز لفترةٍ طويلة على النهج الاستخراجي، قبل تدشين رؤية السعودية 2030، يبدو أن الرياض ستتّجه نحو تبنّي استراتيجية أكثر تخطيطًا وإنصافًا في اتفاقاتها الاستثمارية والتنموية مع كلٍّ من السودان وإثيوبيا وإريتريا.

 هشام الغنّام
نشرت في ٢٠ ديسمبر ٢٠٢٥

مقدّمة

تماشيًا مع رؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عزّزت المملكة العربية السعودية انخراطها مع دول منطقة القرن الأفريقي الأوسع، وتحديدًا السودان وإثيوبيا وإريتريا. يُمثّل هذا التوجّه الجديد تحوّلًا استراتيجيًا نحو منطقة لطالما كانت خارج أولويات السياسة الخارجية السعودية. وفيما تسعى رؤية 2030 في جوهرها إلى تنويع الاقتصاد السعودي، فإنها ترمي أيضًا إلى توسيع النفوذ الجيوسياسي للمملكة. وتطمح الخطة إلى تحقيق هذَين الهدفَين من خلال الاستفادة من الإمكانات الزراعية الهائلة التي تتمتّع بها منطقة القرن الأفريقي ومن الموقع الاستراتيجي المميّز للبحر الأحمر.

مع ذلك، فإن التنافس القائم بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يدفعهما في بعض الحالات إلى تجاهل المسائل المرتبطة بالسيادة الوطنية والتغاضي عن الحاجات الاقتصادية المحلية في دول القرن الأفريقي الأوسع. ففي السودان مثلًا، سيتفاقم الصراع الدائر في البلاد إذا ازدادت حدّة الخلافات بين الرياض وأبو ظبي، بصفتهما لاعبَين مؤثّريَن في المشهد السوداني وفي ظلّ الافتقار إلى استراتيجية سعودية إماراتية مُشتركة ومُتماسكة إزاء السودان. فالسعودية تسعى للظهور كوسيط في الصراع السوداني، بالرغم من ميلها لدعم الجيش السوداني، بينما تدعم الإمارات قوات الدعم السريع.

 أما على صعيد المنطقة ككُل، فقد يترسّخ الانطباع، حتى لو لم يكن دقيقًا، بأن ما يجري يندرج في إطار الاستغلال الاستعماري الجديد المتمثّل في سيطرة قوى خارجية على الموارد الوطنية في بعض الدول، من دون أن يعود ذلك بفائدة تُذكر على سكّان هذه الدول. لذا، من الضروري الحرص على تطبيق ممارسات مُنصفة ومتوازنة - وإظهار هذه الممارسات - لتقليل هذا الخطر، وضمان التوصّل إلى نتيجةٍ تقترب قدر الإمكان من تحقيق المنفعة للأطراف المعنيّة كافة.

القرن الأفريقي الأوسع من منظور المملكة

شهد انخراط السعودية مع كلٍّ من السودان وإثيوبيا وإريتريا تطوّرًا مطّردًا، إذ تحوّل من مجرّد تفاعلٍ هامشي طوال عقودٍ، إلى ركيزةٍ أساسية من ركائز رؤية 2030 التي أُطلقت في العام 2016. ويستند هذا الانخراط الجديد إلى ثلاثة دوافع رئيسة. أولًا، تحقيق الأمن الغذائي من خلال تقليص اعتماد المملكة على الواردات. وثانيًا، اشتداد التنافس مع دولة الإمارات على النفوذ الجيوسياسي والهيمنة الإقليمية. وثالثًا، مساعي الرياض الرامية إلى إرساء نوعٍ من ثقلٍ موازِن في وجه النفوذ الصيني المتعاظم في القارة الأفريقية.

منذ تأسيس المملكة العربية السعودية في العام 1932 وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين، تمحورت سياستها الخارجية حول دورها القيادي على المستويَين العربي والإسلامي، إضافةً إلى هيمنتها على أسواق الطاقة العالمية، إذ شكّلت عائدات تصدير النفط نحو 90 في المئة من إجمالي عائدات الصادرات السعودية إلى الأسواق الخارجية بحلول العام 2000. واقتصر تعاملها مع منطقة القرن الأفريقي الأوسع في الغالب على أنشطة دينية محدودة، مثل تمويل المساجد في السودان وإثيوبيا، فيما بقي حضورها الاقتصادي متواضعًا. في الواقع، كانت الاستثمارات السعودية في المنطقة ضئيلة، على الرغم من أنها تضمّ حوالى 65 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة غير المزروعة في العالم، ناهيك عن أن البحر الأحمر يُعتبر أحد أهمّ الممرّات المائية للتجارة العالمية، إذ تمرّ عبره نسبة تتراوح بين 12 و15 في المئة من إجمالي التجارة البحرية العالمية. وقد أدّى غياب الانخراط السعودي المستدام في منطقة القرن الأفريقي الأوسع إلى حالة من انعدام الثقة، إذ نظرت الدول الأفريقية عمومًا إلى المملكة باعتبارها طرفًا بعيدًا عن المشهد، يفتقر إلى فهمٍ عميق للديناميّات المحلية.

تغيّر هذا الواقع مع إطلاق رؤية 2030، التي تعتبر منطقةَ القرن الأفريقي الأوسع ميدانًا حيويًا لمعالجة مشكلة ندرة المياه في المملكة، وتقليل اعتمادها على النفط في دفع عجلتها الاقتصادية. كذلك، تسعى رؤية 2030 إلى معالجة تحدّي الأمن الغذائي، نظرًا إلى أن السعودية تستورد ما يصل إلى 80 في المئة من حاجاتها الغذائية. وسعيًا للتغلّب على هذه التحديات، اختارت الرياض تعزيز مساهمة الإنتاج المحلي في تحقيق الأمن الغذائي وضمان الحصول على مصادر غذائية مستقرة ومستدامة عبر زيادة الاستثمار في التقنيات الزراعية الحديثة والأراضي الزراعية في دول أفريقية عدّة. وفي الوقت نفسه تقريبًا، شرعت دولة الإمارات أيضًا في إبداء اهتمامٍ مماثل بهذه المنطقة، ما أضفى على التنافس السعودي الإماراتي بُعدًا جديدًا.

اتّسمت العلاقة بين الرياض وأبو ظبي تاريخيًا بالتنافس على الزعامة الخليجية. وقد اعتمدت المملكة على ثروتها النفطية وسلطتها الدينية، فيما ركّزت الإمارات على تحويل دبي إلى مركز تجاري عالمي. واشتدّ هذا التنافس مع إطلاق رؤية السعودية 2030، وقبلها رؤية الإمارات 2021 (التي تم الإعلان عنها في العام 2010، وتسعى إلى تنويع الاقتصاد الإماراتي وتعزيز قدرته التنافسية العالمية من خلال التشجيع على الابتكار وتحقيق التنمية المستدامة). وهكذا، بدأ هذا التنافس يمتدّ إلى منطقة القرن الأفريقي، حيث يتمحور حول السيطرة على طرق التجارة في البحر الأحمر والاستثمار في المشاريع الزراعية لتأمين الأمن الغذائي المحلي وإحراز التقدّم في مجال التنويع الاقتصادي.

على الصعيد الاقتصادي، دفع اتّساع رقعة التنافس بين السعودية والإمارات الجانبَين إلى تبنّي استراتيجيات استثمارية كبرى. ومن الأمثلة على ذلك توقيع أبو ظبي اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال (المعروف باسم صوماليلاند) بلغت قيمته 442 مليون دولار لتطوير ميناء بربرة وتحويله إلى مركز رئيسٍ للتجارة في منطقة القرن الأفريقي؛ فضلًا عن عزم الرياض استثمار مليارات الدولارات لتطوير ميناء عصب في إريتريا. يُحتمل أن يقوّض هذا السباق التنافسي التنسيق بين دول الخليج، والذي كان من شأنه تعزيز السلام والاستقرار. فعلى سبيل المثال، أدّى اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في العام 2018، والذي توسّطت فيه السعودية والإمارات، إلى تسوية صراعٍ استمرّ عقدَين من الزمن حول الحدود المتنازع عليها وحاجة أديس أبابا إلى منفذٍ على البحر.

ثمّة مبعث قلقٍ آخر للسعودية يتمثّل في تعاظم نفوذ الصين الاقتصادي في أفريقيا، ما يطرح تحديًا لاستثمارات المملكة ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، مثل تأمين الإمدادات الغذائية وتعزيز دورها الجيوسياسي. فمن المُحتمل أن تحدّ الأنشطة التجارية الواسعة للصين، واستثماراتها في مشاريع البنى التحتية، واتفاقيات الموارد في القرن الأفريقي، من قدرة السعودية على توسيع حضورها الاقتصادي والسياسي هناك. لذا، من خلال تقديم استثمارات متنوعة في قطاعات الزراعة والبنية التحتية والطاقة، تحاول المملكة استمالة الدول الأفريقية المتوجّسة من نهج بيجينغ، فتقدّم نفسها كشريكٍ تتماشى استثماراته مع الأولويات المحلية في هذه الدول. من الناحية النظرية، يُفترَض أن تحسّن هذه الاستراتيجية فرص إقامة شراكات عادلة ومتوازنة. لكن كي تتمايز هذه الاستراتيجية عن النموذج الصيني، على السعودية التحلّي بالشفافية بشأن استثماراتها والانخراط مع القوى والمجتمعات المحلية في الدول المعنية.

وعلى الرغم من جميع المكاسب الاقتصادية والجيو-استراتيجية التي يُرجَّح أن تحقّقها الرياض بتوجّهها نحو أفريقيا، فإن التركيز على استخراج الموارد من الدول الأفريقية لخدمة المصالح السعودية قد يفضي إلى اتهام المملكة بتبنّي نهجٍ استعماري جديد. ويزداد هذا الاحتمال مع سعي الرياض إلى تشكيل ثقل موازن في وجه النفوذ الاقتصادي المتعاظم للصين في القرن الأفريقي، وكذلك مع احتدام التنافس بين السعودية والإمارات. فالسياسات الاستخراجية الضيّقة الأفق التي تنتهجها دول الخليج عادةً لا تُولي في الكثير من الأحيان اهتمامًا كافيًا للحاجات المحلية، ما يُثير ردود فعل سلبية في أوساط سكّان الدول المعنيّة. إذًا، كي تنجح المملكة في تنفيذ طموحاتها المتعلّقة بأفريقيا، عليها خوض التحدّي الأكبر المتمثّل في تجنّب معمعة هذه المشاكل، التي قد تُقوّض تطلّعات المنطقة نحو تحقيق النمو المُستدام، وتُضعف في الوقت نفسه الاستقرار المالي للمملكة.

مخاطر النهج غير المُنصف

في أي سياق تقريبًا، من الطبيعي أن تؤدّي المشاريع الاقتصادية التي تطلقها جهة أجنبية، والتي لا تقدّم مكاسب تُذكَر للدولة المُضيفة – وإن كانت تُسهم في إثراء بعض الأطراف أو الأعضاء في السلطة لدى الدول المُضيفة، حتى إن لم تكن الجهة الأجنبية تقصد ذلك – إلى إثارة استياء السكّان، وتأجيج المعارضة، وصولًا حتى إلى تعطيل المشاريع أحيانًا. وعلى نحو متوقّع، هذا ما حدث حين أعطت استثمارات المملكة والخليج في القرن الأفريقي الأولويةَ للمصالح الآنية على حساب مقاربة أطول مدى. فالنهج الاستخراجي الذي لم يسهم بأي شكل في رفاه المجتمعات المحلية، بل ألحق بها الضرر بصورة مباشرة أحيانًا، لا يقتصر تأثيره على إثارة مقاومة السكّان وإحداث الاضطرابات فحسب، بل يكلّف الرياض مئات الملايين من الدولارات على مشاريع متعثّرة، ويشوّه سمعة البلاد. لذا، تجد السعودية نفسها اليوم مضطرّةً إلى الاعتراف بأن النهج قصير المدى مضرٌّ لجميع الأطراف.

في العام 2011، وقعت اشتباكات بين متظاهرين في منطقة غامبيلا الإثيوبية، وغالبيتهم من المزارعين والرعاة الذين تمّ تهجيرهم، وبين قوات الأمن، بسبب تأجير مساحات شاسعة من الأراضي لمستثمرين أجانب. فقد استأجرت شركة النجمة السعودية للتنمية الزراعية، والتي كانت تحظى بدعم يسبق رؤية السعودية 2030، وهي شركة خاصة يملكها الملياردير السعودي-الإثيوبي محمد حسين علي العمودي (في إطار مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الغذائي الرامية إلى تعزيز الأمن الغذائي الوطني في السعودية) مساحة قدرها 10 آلاف هكتار لزراعة الأرز، مع خطط للتوسّع في استئجار ما يصل إلى 500 ألف هكتار أخرى من الأراضي الأثيوبية الصالحة للزراعة. وعلى مدى السنوات التالية، أدّى استمرار التهجير والاتهامات بحدوث انتهاكات لحقوق الإنسان إلى المزيد من الاضطرابات، فيما واجه المشروع صعوبات بسبب قلّة الأمطار وسوء الإدارة، ما أسفر عن انخفاض إنتاج الأرز المتوقّع إلى النصف، من 10 آلاف طن إلى 5 آلاف طن فقط. وبحلول العام 2015، أدّت المعارضة المتواصلة لهذا المشروع في أوساط السكّان المحليين، فضلًا عن المشاكل اللوجستية التي واجهته إلى تقليص نطاقه بشكلٍ كبير، ما عطّل خطط التوسّع فيه. وقد حدث أمرٌ مشابه في ولاية نهر النيل في السودان ومناطق أخرى، حيث اندلعت في العامَين 2016 و2018 احتجاجات ضدّ صفقات تخصيص الأراضي إلى جهات أجنبية.

واليوم، تُنذر الاستثمارات الخليجية المتنافسة بمفاقمة الحرب الأهلية السودانية التي اندلعت في العام 2023، وذلك بسبب تمايز الاصطفافات وتناقضها، ما يسهم في ترسيخ الانقسامات. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ألغت الحكومة السودانية اتفاقًا مع دولة الإمارات قضى بتطوير ميناء أبو عمامة باستثمارات تصل إلى 6 مليارات دولار. وعُزي السبب في ذلك إلى تسليح الإمارات لقوات الدعم السريع، وهي الخصم الأساسي للحكومة التي يقودها الجيش السوداني. وفيما يُنظَر إلى المشاريع الاقتصادية الإماراتية على أنها امتدادٌ للدعم العسكري الإماراتي لقوات الدعم السريع، تُعدّ السعودية مقرّبةً من الجيش السوداني، مع أنها تولّت زمام الوساطة في محادثات السلام بين الجانبَين. قد يؤدّي هذا التباين في الانخراط والتوجّه إلى تصعيد وتيرة الصراع، مع تنافس القوى الخليجية الرئيسة على بسط نفوذها في المناطق السودانية الغنية بالموارد.

تبرز ديناميّةٌ إشكالية أخرى في محاولات السعودية التفوّق على الصين في المنطقة. فبيجينغ تضطلع بنفوذٍ متزايد في الدول الأفريقية من خلال إقراض حكوماتها مبالغ مالية طائلة. وهذا الأمر يثير مخاوف من أن هذه الدول الأفريقية قد تكون في صدد انتهاج سياسات مالية غير سليمة، وأن الصين تكبّدها ديونًا قد لا تستطيع تحمّلها بشكلٍ مستدام. ومن هذا المنطلق، تطرح الرياض نفسها بديلًا أفضل من بيجينغ، عبر تقديم نموذج شراكة قائمٍ على الاستثمارات المباشرة، والمساعدات الإنسانية، والمشاريع التنموية التي تُعرَض على أنها لا تنصب أفخاخ ديون للدول أو تفرض عليها شروطًا استغلالية.

مع ذلك، تقوّض السعودية مساعيها الخاصة من خلال تركيزها في الكثير من الأحيان على كسب ودّ الحكومات وعدم التركيز على نسج علاقات بنّاءة مع سكّان المناطق التي تطمح إلى الاستثمار فيها. واستمرّ هذا النهج حتى بعد إبرام اتفاق مع حكومة هذه الدولة أو تلك. فبدل أن توجّه الرياض قدرًا من اهتمامها نحو حاجات المجتمعات المحلية، تصرّ على التعامل مع المسؤولين الحكوميين البعيدين كلّ البعد عن المناطق الريفية والمتأخرة تنمويًا، مستبعدةً بذلك المجتمعات المحلية من المشاريع الاقتصادية التي تُطلَق في مناطقها، مهما كانت مربحة. هذا النهج قد يفيد بعض الأفراد والمجموعات في هذه الدول، لكنه تسبّب بخسائر للرياض كان بالإمكان تجنّبها.

إلى جانب إثارة المعارضة المحلية التي تؤدّي أحيانًا إلى إفشال الاتفاقات، تهدّد المشاريع الاستثمارية غير المتوازنة بتقويض النفوذ السعودي، ما من شأنه أن يحدّ بشكلٍ كبير من قدرات المملكة الكبيرة على بسط حضورها في مختلف أنحاء القرن الأفريقي الأوسع. ويمكن أن يؤدّي ضعف التنسيق بين دول الخليج، ولا سيما بين السعودية والإمارات، إلى تأثيرٍ مشابه. فعلى سبيل المثال، قد تتسبّب المصالح المتضاربة بين الرياض وأبو ظبي بزعزعة استقرار دول أضعف كالسودان، محوّلةً الاستثمارات إلى مصدر توتّر ونزاع بدل أن تكون حافزًا للتقدّم، ما يولّد استياءً في أوساط الكثير من السودانيين. ومن أجل درء هذا الخطر وضمان نتائج مستدامة، يجب أن تكون العلاقات مبنيّةً على المنفعة المتبادلة واحترام الأولويات المحلية.

تعزيز الانخراط المُنصف في شرق أفريقيا

يُعدّ الإنصاف أساسَ أيّ مشروعٍ استثماري مستدام، ولا سيما حين يُسمح بإشراك السكّان المحليين على نحو فاعل، نظرًا إلى أنهم الأكثر تأثُرًا بالمشروع بحُكم مكان إقامتهم. ومن أجل تحقيق شراكاتٍ قائمة على الإنصاف في منطقة القرن الأفريقي الأوسع، يتعيّن على السعودية تبنّي ثلاث استراتيجيات من شأنها أن تؤدّي مجتمعةً إلى مواءمة طموحات المملكة المُدرجة في رؤية 2030 مع الاحتياجات التنموية المحلية.

تكمن أولى هذه الاستراتيجيات الثلاث المُقترحة في استحداث فرص عمل للسكّان المحليين وتدريبهم لشغل وظائف في إطار المشاريع المموّلة من السعودية. وتحتّل هذه النقطة حيّزًا كبيرًا من الأهمية في القرن الأفريقي، لأن البطالة في أوساط الشباب تسجّل مستوياتٍ عالية. ففي إريتريا مثلًا، حيث تعيق اختلالات البنية التحتية فرص العمل، يمكن لبرامج التدريب في قطاعَي البناء أو الخدمات اللوجستية أن تعزّز قدرات الأفراد والمجتمعات المحلية ككل. إذًا، سيضمن تخصيص حصص للشباب والنساء مشاركتَهم الفعّالة في المشاريع. يُضاف إلى ذلك أن هذه الاستراتيجية تمهّد الطريق لتحقيق نموٍ مستدام، إذ إنها تزوّد السكّان المحليين بمهاراتٍ ستفيدهم مستقبلًا في الوظائف والمشاريع، سواء كانت مرتبطة بالسعودية أم لا.

أما الاستراتيجية الثانية فتتمثّل في تشكيل لجانٍ مشتركة مُخوّلة قانونًا بالإشراف على المشاريع، بالتعاون مع حكومات الدول المُضيفة والبلديات المحلية. وهذه الخطوة تعزّز الشفافية والمساءلة أكثر ممّا تعزّزها المجالس البلدية والمنتديات المجتمعية، حيث يعبّر الناس عن تظلّماتهم لكن هذه الأخيرة قد تبقى من دون حلّ. على المستوى الوطني، إذا أُنشئت لجان إشراف مشتركة تلتزم بمعايير الحوكمة العالمية، فلن يُنظَر إلى المشاريع السعودية على أنها تشكّل انتهاكًا لسيادة الدولة المعنيّة. وبموازاة ذلك، تضمن هذه اللجان أن يكون للسكّان المقيمين في جوار المشاريع الاستثمارية رأيٌ في كيفية تنفيذها. مثلًا، في السودان الذي يمزّقه الصراع وتبلغ فيه مخاطر الفساد مستويات مرتفعة، بإمكان اللجان المحلية مراقبة عملية تخصيص الأموال وتنفيذ المشاريع للحيلولة دون استيلاء أيٍّ من الجانبَين المتحاربَين على الأموال.

وتنطوي الاستراتيجية الثالثة على تخصيص جزءٍ من الأرباح المُحقَّقة من الاستثمارات لتلبية الاحتياجات المحلية الحيوية. فندرة المياه في السودان مثلًا تتجلّى في افتقار 40 في المئة من الأُسر في المناطق الريفية إلى المياه النظيفة، وفي زراعة ما نسبته 20 في المئة فقط من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة. لذا، يُرجَّح أن يؤدّي حفر آبارٍ للمياه وتطوير أنظمة الريّ إلى تحسين الظروف المعيشية وتعزيز الإنتاج الزراعي. وفي إريتريا مثلًا، لا يحصل سوى 10 في المئة من السكّان المقيمين في الأرياف على إمدادات كهرباء موثوقة، ما يعيق جميع أنواع الأنشطة الاقتصادية. وبالتالي، سوف يُسهم توجيه الأرباح نحو تركيب ألواح الطاقة الشمسية وإنشاء شبكات كهربائية صغيرة في تزويد المناطق النائية بالطاقة النظيفة، ما من شأنه دعم الصناعات الصغيرة النطاق. وهذا الإجراء لن يُلبّي فحسب الاحتياجات الملحّة من الطاقة، بل سيسهم أيضًا في تحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل.

اللافت أن هذه الاستراتيجيات الثلاث تتوافق مع البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في أفريقيا وأجندة العام 2063. ويُعدّ البرنامج الشامل للتنمية الزراعية إطارًا سياساتيًا اعتمده الاتحاد الأفريقي في العام 2003 بهدف تسريع وتيرة النمو الزراعي في مختلف أنحاء القارة وضمان الأمن الغذائي وتحسين التغذية، إضافةً إلى دعم الاقتصادات الريفية من خلال زيادة الاستثمارات العامة والخاصة. أما أجندة 2063، وهي خطةٌ أطلقها الاتحاد الأفريقي أيضًا، فتهدف إلى تحقيق التنمية الاجتماعية الاقتصادية الشاملة والتكامل الإقليمي بحلول العام 2063، مع التركيز بصورة أساسية على تعزيز الاستثمارات في قطاعات الطاقة المتجدّدة والتحوّل الأخضر لضمان الاستدامة البيئية. يكتسي ذلك أهمية خاصة للسعودية نظرًا إلى استثماراتها الضخمة في السودان وإثيوبيا وإريتريا. فهذه الترتيبات المُنصفة لن توفّق فحسب بين طموحات الرياض وحاجات هذه الدول، ولا سيما حاجات المجتمعات المحلية المقيمة في المناطق التي تموّل فيها المملكة المشاريع التنموية وأنشطة استخراج الموارد، بل ستحرص أيضًا على مواءمة الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية السعودية مع رؤى الاتحاد الأفريقي تجاه القارّة ككل. وهذه حاجةٌ ملحّة لا تحتمل التأجيل.

خاتمة

لن تتمكّن الرياض من الانتقال من علاقةٍ يُنظر إليها على أنها استغلالية، إلى علاقةٍ قائمة على الشراكة الحقيقية إلّا من خلال تحقيق الانخراط الشامل للجميع وتعزيز قدرات المجتمعات المحلية. وإذا خاضت المملكة غمار هذا التحوّل، فستنجح أيضًا في التوفيق بين طموحاتها السياسية والاقتصادية من جهة، وبين الأهداف التنموية لدولٍ عدّة في القرن الأفريقي الأوسع من جهة أخرى. ونظرًا إلى أن هذه المنطقة تتمتّع بأهمية متزايدة في التجارة والأمن العالميَين، يجب أن يكون ذلك قضية ملحّة في الرياض. وإن أُخذت هذه المسألة على محمل الجدّ، فقد تنتهج السعودية سياسات تسعى إلى تحقيق أهداف رؤية العام 2030 وتعزّز في الوقت نفسه مسار أفريقيا نحو الاستقرار والنمو.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.