"أسامة بن لادن ينبذ الإرهاب: فتوى جديدة تحّرم مهاجمة الغرب". قد يبدو هذا الخبر الوهمي مستحيلاً في المستقبل، بيد أن سلسلة من التطورات الميدانية – اِصْطُلح على تسميتها بـ"الديراديكالية" – ربما توحي بغير ذلك. فـ"الديراديكالية"، أو عكس "الراديكالية"، هي عملية تغيّر نسبي تعكس خلالها جماعة سياسية تستخدم العنف سلوكها أو إديولوجيتها أو الاثنين معاً لتتوقف عن ممارسة العنف السياسي سلوكياً، وتحرّم هذا السلوك إديولوجياً. وقد أثبتت التطورات المعاصرة أن الإسلاميين المسلّحين يمرّون بمرحلة "الديراديكالية" كما يمر بها غيرهم من التيارات السياسية الأخرى، كاليساريين والقوميين والإثنوقوميين. فمنذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت جماعات وفصائل وقيادات جهادية وأفراد عدة باتجاه وقف العنف السياسي – في سلسلة تطورات فريدة من نوعها. وأدت عمليات الديراديكالية هذه إلى تحوّل الآلاف من الجهاديين السابقيين أو المتعاطفين معهم ليس فقط عن تأييد القاعدة، بل إلى انتقاد سلوكها وإديولوجيتها كذلك. كما أدت إلى إقناع الكثير من المؤيّدين والمتعاطفين بمساوئ الانضمام إلى التيار الجهادي ومنظّماته. لقد حدثت عمليات الديراديكالية وإنهاء العنف السياسي على مستوى منظّمات جهادية في مصر والجزائر وليبيا، وعلى مستوى فصائل وأفراد في السعودية، واليمن، والأردن، والعراق، وأفغانستان، وماليزيا، وسنغافورة، وإندونيسيا، ودول أخرى.
ففي مصر، أعلنت الجماعة الإسلامية وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد في تموز/يوليو 1997. وتحوّل هذا الإعلان إلى عملية ديراديكلية متكاملة في العام 2002، لتشمل مراجعة فكر الجماعة وسلوكها وبناءها التنظيمي. معروف أن الجماعة الإسلامية هي حليف سابق لتنظيم القاعدة، وقد شارك بعض أفرادها في عملية اغتيال الرئيس المصري الراحل أنور السادات في العام 1981. وعلى أقل تقدير، خططت الجماعة أيضاً لخمسة عمليات لاغتيال الرئيس المصري الحالي حسني مبارك، وقادت حركة تمرّد مسلّح في صعيد مصر مابين عاميّ 1992 و1997، وهي الجماعة نفسها التي أُدين مفتيها وبعض أنصارها في عملية تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك العام 1993. وبحلول العام 2007، بات واضحاً أن عملية التحوّل الديراديكالي قد نجحت. فقد أنتجت قيادة الجماعة حوالي 25 مؤلفاً دعمت فيهم التوجّه السلمي الجديد للتنطيم بأدلة فقهية وعقلانية. وتضمّن اثنان من هذه المؤلفات نقداً صريحاً للقاعدة، واحتوى ثالث على نقد لنظرية "صراع الحضارات" وتأييد لحوار الثقافات. ثم أن عملية الديراديكالية – أو "المبادرة" كما يسميها أعضاء الجماعة – أزالت نحو 15000 عضو من الجماعة من معسكر مؤيّديي القاعدة وحلفائها.
أمّا تنظيم الجهاد – وهو الحركة التي خرج منها د. أيمن الظواهري والقادة الحاليون لفروع القاعدة في العراق وأفغانستان (يوسف الدرديري ومصطفى أبو اليزيد) – فقد بدأت بعض قيادته عملية ديراديكلية داخل التنظيم. وقاد هذه العملية الأمير السابق للتنظيم د. سيد إمام الشريف – المعروف بالدكتور فضل - وعبد القادر بن عبد العزيز. وألّف الشريف كتابين لمراجعة أفكار الجهاديين، هما "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم الإسلامي" و"التعرية". أحدث الكتابان رد فعل من قِبَلْ قيادة القاعدة المركزية، فردّ الظواهري بكتاب "التبرئة" وببيانات أخرى عدة. وعلى رغم حالة التعبئة العامة لمناصرة عملية الديراديكلية داخل تنظيم الجهاد في مصر، إلا أن النجاح كان جزئياً فقط – بعكس حالة الجماعة - إذ أن ثلاثة فصائل، على أقل تقدير، لا تزال ترفض المراجعات الفكرية وبالتالي، ليس النجاح كليّاً بعد.
أما في الجزائر، فالحالة مشابهة لكنها ليست متطابقة. فعلى غرار الجماعة الإسلامية المصرية، أعلن الجيش الإسلامي للإنقاذ - وهو يسمّي نفسه الجناح المسلّح للجبهة الإسلامية للإنقاذ - عن وقف لإطلاق النار في تشرين الأول/أكتوبر 1997. وتحوّل هذا الإعلان إلى عملية نزع سلاح وإنزال للمقاتلين الإسلاميين من الجبال لدمجهم في المجتمع الجزائري من جديد. لقد انضمت إلى تلك العملية فصائل من الجماعة الإسلامية المسلّحة والجماعة السلفية للدعوة والقتال – وهي الجماعة التي أصبح الفصيل الأكبر المنشق عنها يسمّي نفسه "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي". وبعكس الحالة المصرية، لم تقدم الجماعات الجزائرية على إنتاج فكري يؤدي لسحب بساط الشرعية من تحت أقدام العمل المسلّح. لكن، على رغم ذلك، أعلن مدني مزراق، الأمير السابق للجيش الإسلامي للإنقاذ، عن عزمه إقامة مؤتمر إسلامي يهدف إلى "اجتثاث العمل الإسلامي المسلّح من الجزائر". كذلك، يُعتبر حسان حطاب – مؤسس الجماعة السلفية - من مؤيّدي وقف العنف السياسي في الجزائر.
وفي ليبيا، بدأت الجماعة الإسلامية المقاتلة – وهي أيضاً حليف سابق للقاعدة – في عملية الديراديكالية في 2006-2007. وقد عارضت بعض القيادات المقاتلة الحوار مع النظام الليبي وكذلك فكرة إنهاء المعارضة المسلّحة. وكان أبو ليث الليبي أشهر هذه القيادات. لكن، بمقتل الأخير في العام 2008، تمّت إعادة تفعيل عملية الديراديكالية. لقد أدت هذه العملية مؤخراً إلى إعلان عبد الحكيم بلحاج (أبو عبد الله الصادق) – وهو أمير المقاتلة – عن الحوار مع النظام الليبي، وذكر الأسباب التي عطّلت المفاوضات في 2007 و2008. وفي تموز/يوليو 2009، تم الإعلان عن إصدار كتاب يقع في 417 صفحة، تؤدلج فيه الجماعة لمنهجها الجديد. وقد دعمت هذا الكتاب، الذي سيُنشر خلال الأشهر القليلة المقبلة، نخبة من علماء الدين المسلمين، أشهرهم د. يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة.
وفي السعودية، استطاع القائمون على برنامج "المناصحة" اقناع العشرات ممن ارتبطوا أو تعاطفوا مع القاعدة وغيرها من الجماعات التي تمارس الإرهاب، بنبذ العنف السياسي والفكر الجهادي. وعلى الرغم من أن البرنامج السعودي، على غرار نظرائه من برامج الديراديكالية في المملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والعراق، واليمن، وأفغانستان، وماليزيا، وإندونيسيا، وسنغافورة، وتايلاند، يستهدف الأفراد وأحياناً فصائل صغيرة، إلا أنه لا يستهدف منظّمات كاملة. وفي حال نجاح هذه البرامج، ينبذ الأفراد المستهدفين بالبرنامج العنف السياسي – بعكس النبذ الجماعي أو المنظماتي، كما هو الوضع في مصر والجزائر مثلاًَ.
أمّا في العراق وأفغانستان، فلاتزال عمليات وبرامج نبذ العنف السياسي والديراديكالية قائمة، وإن كانت نتائجها لا تزال قيد التدقيق، فيما صوت العنف والراديكالية أعلى وأقوى حتى الساعة. لكن، على رغم ذلك، تمكّن الحزب الإسلامي العراقي (وهو الجناح الأساسي للإخوان المسلمين في العراق)، وبعض الفصائل من كتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي، وبعض الأفراد والقيادات السابقة في طالبان الأفغانية، من نبذ العنف السياسي وقبول المشاركة في العملية الانتخابية.
في ظل هذه المعطيات، تُطرح أسئلة كثيرة: ما أسباب هذه المراجعات؟ وما النتائج والسياسات المترتّبة عليها؟
الأبحاث السابقة المتعلّقة بموضوع عمليات الديراديكالية ونبذ العنف السياسي، خلصت إلى أن مزيجاً من القيادة الكاريزمية، وقمع الدولة، والحوار مع غير الجهاديين، كما داخل التنظيم المعني الواحد والمحفّزات الاختيارية من الدولة والمجتمع المدني والدولي، هي العوامل الرئيسة المؤدية إلى طريق الديراديكالية. وثمة نمط في التداخل مابين هذه العوامل الأربعة. فقمع الدولة والحوار مع "الآخر" (والآخر هنا هو المخالف للفكر الجهادي من إسلاميين آخرين وديمقراطيين وتقدميين وقوميين وغيرهم)، غالباً مايؤثّر على أفكار وسلوك القيادة، التي تعيد بدورها التفكير استراتيجياً وتتعلم وتنضج سياسياً وتجدّد نظرتها إلى العالم. ثم بعد ذلك، تتخذ القيادة قراراً بوقف العنف – بصورة أو بأخرى – ويُدعَّم ذلك القرار بمحفّزات من الدولة وبالحوار داخل التنظيم لإقناع القيادات المتوسطة والأفراد. كما أن الجماعات التي تمر بمرحلة الديراديكالية وتنجح فيها، غالباً ماتتحاور مع الجماعات الراديكالية العنيفة المشابهة لها في طورها السابق لإقناعها بوقف العنف. وأحياناً تنجح الفئة الأولى في التأثير على الفئة الثانية، كما هو واضح في حالة الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد في مصر، وحالة جيش الإنقاذ والفصائل الإسلامية المسلّحة الأخرى في الجزائر، وكذلك في بعض حالات الأفراد في السعودية واليمن وإندونيسيا.
إن مستقبل عمليات وبرامج الديراديكالية ومدى تأثيرها على القاعدة وطالبان وأخواتهما، يعتمد على عوامل عدة، ليس أقلها نوعية النظام الذي يتعامل مع الجماعات. ففي الديكتاتوريات والأنظمة السلطوية، تُعتبر هذه العمليات والبرامج بمثابة جزء كبير من حل قصير إلى متوسط المدى لمعضلة العنف السياسي. بيد أن نجاح هذه العمليات والبرامج لايعني أن الجذور المسبّبة للإرهاب والراديكالية قد حُلّت واستؤصلت. فالإخوان المسلمون، مثلاً، نبذوا العنف السياسي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، لتظهر الجماعة الإسلامية والجهاد على الساحة في العقد نفسه. وسلكت المنظّمتان طرقاً أكثر تطرفاً في مسألتي العنف السياسي والإرهاب الدولي - لم تخطر ربما على بال قادة النظام الخاص للإخوان (الجناح المسلّح للجماعة في منتصف القرن الماضي). أما الآن، وعلى الرغم من أن الجماعة الإسلامية نبذت العنف السياسي، إلا أن قمع الديكتاتوريات، والضغوط الاجتماعية - الاقتصادية الهائلة، والأفكار والعقائد المُقصية "للآخر"، كفيلة بإنتاج منظّمات عنيفة مشابهة لما سبق – إن لم تكن أكثر عنفاً وشراسة. والحال كذلك، ربما تكون الدمقرطة والإصلاح الديني هما المفتاحين لحلٍ طويل المدى.
عمر عاشور أستاذ محاضر في جامعة إكستر في المملكة المتحدة، ومؤلف كتاب "ديراديكالية الجهاديين: تحوّلات الجماعات الإسلامية المسلّحة".