بعد مرور عامَين على الثورة المصرية، لاتزال التكهّنات حول دور المؤسسة العسكرية في العملية السياسية تطغى على الخطاب العام في مصر. على الرغم من أنه كان من المتوقع أن يؤدّي تسلّم شخصية مدنية مقاليد الرئاسة إلى وضع حد لهذه التكهّنات، إلا أن انتماء الرئيس محمد مرسي إلى جماعة "الإخوان المسلمين" زاد من حدّتها. فمع أن انطلاقة مرسي كانت قوية في اعادة تعريف العلاقات المدنيةـالعسكرية بارسائه سابقة كأول رئيس مدني منتخب يقوم بتعيين وزير الدفاع، الا ان العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية تدهورت بشدة، واصبح الصراع بين المؤسستين لا يمكن اغفاله.
وليست الشائعات التي أُثيرَت مؤخراً عن أن الرئيس مرسي يفكّر في إقالة وزير الدفاع، الفريق أول عبد الفتاح سعيد حسين خليل السيسي، سوى الحلقة الأحدث في مسلسل العلاقة الخلافية والمضطربة بين الرئاسة والجيش. فقد وُجِّهَت أصابع الاتهام على الفور إلى "الإخوان المسلمين" بالوقوف خلف هذه الشائعة، نظراً إلى نظرتهم المتوجسة للقوات المسلحة. واعتُبِرت الشائعة بأنها الوسيلة التي يستخدمها الإخوان للتصدّي لنفوذ الجيش المتصاعد في موازاة الرئاسة. وقد اصبح الخلاف علنياً واضحاً خلال الصدامات الدموية التي اندلعت في مدن قناة السويس عند إحياء الذكرى الثانية للثورة المصرية في 25 كانون الثاني/يناير 2013، والتي لاتزال وتيرتها تتصاعد بعد صدور الجولة الأولى من الأحكام في قضية مباراة كرة القدم في بور سعيد. فعندما نشر مرسي قوات الجيش وأعلن حظر التجوال في ثلاث مدن في قناة السويس لإعادة فرض الأمن والنظام، سخر المصريون من قراراته. ولم يتردد الجيش في تنفيذ حظر التجوال فحسب، بل اظهر سعادة واضحة لكسر المواطنين له: فانتشرت على الإنترنت صورٌ يظهر فيها جنود مبتسمون يُحيطون بالمحتجّين الذين يتحدّون قرار حظر التجوال. وفي أحد أشرطة الفيديو، يظهر ضباط في الجيش وهم يلعبون كرة القدم مع المحتجين. وتأكيداً على انفصال الجيش عن مؤسسة الرئاسة ، حذّر الفريق أول السيسي من أن الخلافات المستمرة بين القوى السياسية المتعدّدة (بما في ذلك الرئيس) قد تؤدّي إلى "انهيار الدولة". ووردت هذه التحذيرات أيضاً على لسان الفريق صبحي صدقي، رئيس هيئة الأركان في الجيش المصري، إذ شدّد في مقابلة متلفزة خلال مشاركته في معرض عسكري في أبو ظبي، على أن "الجيش لايتدخّل في السياسة، إلا أنه يراقب دائماً التطوّرات التي تحدث داخل الدولة المصرية. وفي حال احتاج الشعب المصري إليه، فسيكون في الشارع في أقل من ثانية واحدة".
و ربما رأى الرئيس أن الوقت قد حان لتوجيه إنذار إلى الجيش. فظهرت شائعة اقالة الفريق السيسي كرد على ما اظهرته المؤسسة العسكرية من استقلالية عن الرئيس، بل وفي بعض الاحيان تفوّق عليها. وبغض النظر عن الأسباب أو الجهات التي تقف خلف هذه الشائعة، كانت ردود الافعال قوية، وكشفت عن مستوى التشنّج و التوتر بينالقوات المسلحة و الرئيس. فقد أصدر الجيش، وليس الرئاسة، بياناً رسمياً نفى فيه إقالة وزير الدفاع. وظهرت تقارير عن تصاعد القلق في صفوف ضباط الجيش واعتبرت "مصادر عسكرية" في مقابلات صحافية أن مرسي لايملك القدرة على إقالة السيسي، واصفين الأمر بأنه "انتحار سياسي" للنظام السياسي.
وبعد نحو سبع ساعات على صدور بيان الجيش، أصدرت مؤسسة الرئاسة بياناً أكدت فيه على “اعتزازها وثقتها في الدور الوطني والقيادي الذي يقوم به الفريق أول عبد الفتاح السيسي” مضيفة ان وزير الدفاع يحظي “بثقة رئيس الجمهورية والشعب المصري بأكمله”. وفي اليوم التالي (19 شباط/فبراير)، نشر المتحدّث الرسمي باسم القوات المسلحة العقيد اركان حرب أحمد على، على صفحته الرسمية على موقع “الفيسبوك” رسالة موجّهة من الرئيس مرسي إلى الفريق أول السيسي لشكره على الجهود "المميزة" التي بذلها الجيش تحت قيادته خلال تأمين القمة الثانية عشر لمنظمة التعاون الاسلامي بالقاهرة والتي كانت قد انعقدت في القاهرة قبل أسبوعَين من تاريخ ارسال الخطاب. فقد كان واضحاً أن مرسي يُقدّم "اعتذاراً علنياً" لجنرالات الجيش؛ فهذه لم تكن مجرد بادرة لاسترضائهم، بل كانت أيضاً تعبيراً عن الندم. فمؤسسة الرئاسة لا تستطيع الدخول في مواجهة مع الجيش، ولاسيما في وقتٍ تدعو فيه عدّة مدن، خصوصاً في منطقة قناة السويس، إلى العصيان المدني. كما يبدو أن القوى السياسية قاطبةً تقريباً، بما في ذلك السلفيون المحافظون المتشدّدون، تنقلب على "الإخوان المسلمين". فضلاً عن ذلك، فإن الدعم الدولي للإخوان المسلمين يتضاءل، بما فيه دعم الولايات المتحدة، حيث تمارس العديد من مراكز الدراسات والبحوث والصحف ضغوطاً على الرئيس أوباما كي يتّخذ إجراءات أكثر حزماً تجاه الرئيس مرسي و"الإخوان المسلمين".
لكن، وعلى الرغم من الرسالة التي وجّهها مرسي إلى الفريق أول السيسي، زاد الجيش المصري من حدّة المواجهة، فقد ذكر مصدر عسكري لموقع "الأهرام أونلاين" أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يجتمع من دون الرئيس مرسي لمناقشة "المستجدات الداخلية على ضوء المخاوف التي تثيرها الأزمة السياسية المستمرة في مصر". وهكذا، ففي حين ذكّر مرسي الجيش بسلطته عبر إقالة المشير محمد حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، ردّ الجيش بدوره بتذكير مرسي بإطاحة مبارك. ومن المعلوم أن أولى مؤشرات سقوط مبارك كانت اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة من دونه.
وفي هذا الإطار، فان اختيارُ موقع "الأهرام أونلاين" لتسريب الخبر لافتاً للنظر. فبما أن "الأهرام" صحيفة قومية مملوكة للدولة ، تصبح المعلومة ذات وزن خاص، ممايجعل من الصعب تصنيفها في خانة الشائعات. ومع أن تسريب المعلومة وجّه بالتأكيد رسالة قوية إلى "الإخوان المسلمين"، إلا أن نشرها باللغة الإنكليزية وعدم إيرادها في الصحف الناطقة باللغة العربية، يجعلان تأثيرها على الصعيد الداخلي أكثر تواضعاً.
و من الجدير بالذكر ان "الإخوان المسلمون" تدرك تماماً الخطر الذي يشكّله الجيش على بقائها في السلطة، إلا أن الاستراتيجية التي يتّبعونها لاحتواء هذا الخطر تبقى عشوائية، وقصيرة النظر، وتتسبّب بالأضرار. فيبدو أن الإخوان يحصرون الصراع السياسي بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية فقط، متجاهلين الرأي العام المصري والقوى السياسية المتعدّدة. فعندما قرّر مرسي الدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية وسط تصاعد الغضب من الاضطرابات المستمرة، لم يجتمع بأعضاء من المعارضة، ولم يُصغِ إلى المحتجّين في الشوارع الذين طالبوا بإقالة الحكومة العاجزة وإصلاح وزارة الداخلية وتوزيع أكبر للسلطات، بل التقى بوزير الدفاع خلف الأبواب المغلقة، مشدّداً للمرة الثالثة في أقل من أسبوع على ثقته بالفريق أول السيسي والقوات المسلحة.
صحيح ان فوز "الإخوان المسلمين" في الانتخابات النيابية يشكّل فرصتهم الوحيدة لإعادة ترسيخ بعض من سلطة الرئيس مرسي. وصحيح أيضاً أن دور الجيش في فرض الأمن خلال الانتخابات - نظراً إلى عجز قوات الشرطة – أساسي لنجاحها، حتى ولو في الشكل. الا أن مرسي يبدو انه يتناسي أن المؤسسة العسكرية لاتسعى خلف دور قيادي في المنظومة السياسية، فوجود "الإخوان المسلمين" على رأس السلطة التنفيذية كان كافياً لتمكينها من استعادة سلطتها وسمعتها، مكرِّرةً بذلك الاستراتيجية التي لطالما اتّبعتها وسمحت لها بأن تحكم من دون أن تكون فعلياً في السلطة. فبعد تعرّض الجيش إلى الانتقادات طيلة عام ونصف العام لعجزها عن إدارة المرحلة الانتقالية، يبدو أن كل ما يهم الجيش حالياً هو الحفاظ على تماسكه واستقلاليته عن النظام السياسي. و مع ذلك فمن الصعب ان تستطيع القوات المسلحة عزل نفسها بالكامل عن الدولة، الأمر الذي أكّد عليه عدد من القادة العسكريين في مصر، ومنهم وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش.
و قد جل ذلك واضحاً عندما تمكنت قوات الجيش، وليس الشرطة، في الحفاظ على الأمن والاستقرار في مدينة بورسعيد، خاصة عندما ثبّتت محكمة مصرية الأسبوع الماضي (9 آذار/مارس) حكم الإعدام بحق 21 متهماً في قضية مباراة كرة القدم في المدينة. فقد أضربت الشرطة في ثلث المحافظات المصرية تقريباً. ودعا عناصر الشرطة المضربون في بور سعيد إلى تسليحهم بشكل أفضل، كما طالبوا الرئيس مرسي بعدم استعمالهم (أي القوى الأمنية) لقمع المحتجّين الذين يتظاهرون ضدّه وضد "الإخوان المسلمين". وقد شدّد اللواء أحمد وصفي، قائد الجيش الثاني الميداني (المتمركز في بور سعيد)، على أن الجيش ليس "مؤسسة أمنية، بل مؤسسة قتالية"، معبِّراً عن القلق الذي يسود داخل الجيش من اضطراره إلى تأدية مهام الشرطة، الأمر الذي قد يؤثّر على فعاليته بصفته قوّة قتالية. بيد أن غياب الاستقرار السياسي وانعدام الأمن يؤدّيان أيضاً إلى إضعاف القوات المسلّحة.
لذلك، ولكي يتمكّن مرسي من تجاوز "تدخّل عسكري" ضدّه، عليه توجيه رسائل واضحة للمصريين بأنه مستعد لتقديم تنازلات والعمل مع كل القوى السياسية في المجتمع، بعيداً عن احتكار الدولة المريضة. فالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية على الرغم من الاضطرابات السياسة، وتوجيه رسائل إلى الجنرالات لتأكيد الثقة بهم،يصبان في الاتجاه الخطأ ويَنُمّان عن قصر نظر بل وربما افلاس سياسي. فاسترضاء "الإخوان المسلمين" الجيشَ بهدف تنظيم الانتخابات التشريعية من دون إجراء إصلاحات فعلية أو تقديم ضمانات حقيقية، لايؤدّي سوى إلى تقويض موقع الرئاسة والقوى المدنية فيما يدفع الشعب المصري الثمن.
منى القويضي باحثة مصرية قدّمت مؤخراً أطروحة الدكتوراه في كلية الدراسات الحربية في كينغز كولدج في لندن. وهي عضو في هيئة التدريس في كلية العلوم السياسية في جامعة القاهرة،وباحثة في كلية الدفاع التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في روما. الآراء الواردة هنا تعبّر عن وجهة نظرها الشخصية، ولاتعكس رأي كلية الدفاع التابعة للناتو أو منظمة الناتو.
*تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.