أعلن وزير الخارجية الأميركية جون كيري، خلال زيارته إلى القاهرة في مطلع هذا الشهر، عن تحويل الولايات المتحدة 190 مليون دولار إلى مصر في شكل "أموال لدعم الموازنة"، في خطوة تبدو بمثابة تصويت على الثقة بحكومة "الإخوان المسلمين" التي يقودها الرئيس محمد مرسي. وفيما تتحرّك الولايات المتحدة لدعم الاحتياطي المصري بالعملات الأجنبية، غالب الظن أن الدائنين الأوروبيين والآسيويين الذين يملكون مجتمعين 35 في المئة من الدين الخارجي المصري، سيحذون حذوها، على الرغم من التحدّيات السياسية الهائلة. إلا أنهم ينتظرون الحكومة المصرية كي تُنجز اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض قدره 4.8 مليارات دولار تحتاج إليه مصر من أجل تجاوز أزمة العملة والحدّ من التململ الاجتماعي. عقب الثورة، تسبّب التراجع الشديد في احتياطي العملات الأجنبية، بتقويض قدرة مصر على دعم عملتها الوطنية، أي الجنيه المصري، الأمر الذي أدّى إلى زيادة كلفة استيراد السلع الأساسية وعرّض سياسة دعم المحروقات إلى الخطر، مع العلم بأنها تلقي بعبء ثقيل جداً على كاهل البلاد. لن يُقدّم قرض صندوق النقد الدولي حلاً شاملاً للمشاكل الاقتصادية التي تتخبّط فيها مصر، لكن من شأنه أن يساهم في استقرار احتياطي العملات الأجنبية، وإعادة بناء الثقة بالجنيه المصري، وتحرير مزيد من التمويل من الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، وعدد من الدائنين الآخرين متعدّدي الأطراف.
بحلول نهاية الصيف الماضي، سجّلت قيمة الجنيه المصري تراجعاً شديداً ومؤلماً، مع أنه بدا أن الأسوأ قد ولّى، إذ استقرّ سعر الصرف لبعض الوقت. ارتفع احتياطي العملات الأجنبية قليلاً، وقفز في آب/أغسطس الماضي إلى 15.1 مليار دولار أميركي. ثم أصدر محمد مرسي المرسوم الرئاسي، وانفجر الوضع من جديد، الأمر الذي أدّى إلى نشوب خلاف حول الدستور، لكن تأثيره على الجنيه المصري واحتياطي العملات الأجنبية كان الأكثر حدّة. سرعان ماخفّضت وكالة "ستاندر أند بورز" التصنيف الائتماني لمصر الذي تدنّى إلى المرتبة المخزية نفسها التي يحتلّها كل من اليونان وباكستان، وتراجع الاحتياطي النقدي أكثر فأكثر ليصل إلى المستوى الحرج الذي غالباً ماتكرّرت الإشارة إليه، بحيث أنه لم يعد يكفي سوى لتغطية ثلاثة أشهر من الواردات. وبحلول 24 كانون الأول/ديسمبر 2012، كانت قيمة الجنيه المصري قد تراجعت إلى 6.18 في مقابل الدولار.
ردّ البنك المركزي المصري بإطلاق مبادرتين رئيستين. أولاً، وضع سقفاً للمبلغ الذي يستطيع المصريون تحويله إلى العملة الأجنبية، محدِّداً قيمة المبلغ الذي يمكن للأشخاص الذين يغادرون مصر أن يحملوه معهم، بعشرة آلاف دولار أميركي، وجدّد في الوقت نفسه تأكيد ضمانته لكل الودائع بالعملة الوطنية والعملات الأجنبية، في مايوازي الحماية التي تمنحها "المؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع". ثانياً، أعلن البنك المركزي عن سلسلة من المزادات على العملات الأجنبية، في خطوة أشبه بـ"خفضٍ صغير النطاق لقيمة العملة"، كما وصفها الخبراء الاقتصاديون في ذلك الوقت، وقد سعت إلى تحقيق ثلاثة أهداف: إدارة تراجع قيمة الجنيه المصري، والسماح للسوق - لا المضاربين - بتحديد قيمته بطريقة شفّافة، وإعادة رسملة المصارف المصرية بالدولارات الأميركية. بحلول مطلع شباط/فبراير 2013، كانت نتائج هاتين المبادرتين متفاوتة، وتراجعت قيمة الجنيه المصري بنسبة 9 في المئة. زاد الشلل السياسي الأوضاع سوءاً، وبحلول آذار/مارس الجاري، كان احتياطي العملات الأجنبية قد تراجع إلى 13.5 مليارات دولار.
مع تدهور قيمة الجنيه المصري، سجّلت أكلاف الأعمال في مصر زيادة كبيرة جداً. لم تتراجع القدرة الشرائية وحسب، بل ونظراً إلى أن المقرِضين لم يعودوا يثقون بملاءة مصر، خسرت البلاد خطوطها الائتمانية السابقة. وفي حالات كثيرة، لم تعد مصر قادرة على شراء السلع الأساسية بالهامش، وفي حال تمكّنت من ذلك، تُفرَض عليها شروط أشدّ قسوة. وقد أدّى هذا كلّه إلى ممارسة ضغوط كبيرة على قدرة الحكومة على دعم المحروقات. وحفاظاً على التوازن الاجتماعي في البلاد، تتردّد الحكومة حتى في مناقشة إنهاء الدعم للمحروقات، بيد أن الإبقاء عليه أصبح باهظ الكلفة للغاية. في مطلع كانون الثاني/يناير الماضي، تخوّفت "الهيئة العامة للبترول" التي تديرها الدولة المصرية، من وصول كلفة الدعم للمحروقات إلى 30.9 مليارات جنيه مصري كل ثلاثة أشهر. انطلاقاً من سعر الصرف في ذلك الوقت، حيث كان الدولار يساوي 6.45 جنيهات مصرية، تبلغ كلفة دعم المحروقات في مصر 4.8 مليارات دولار كل ثلاثة أشهر، وهو مبلغ كبير جداً. وقد استمرّت مصر، حيث بلغ احتياطي العملات الأجنبية 13.6 مليارات دولار فقط بحلول نهاية كانون الثاني/يناير، في الحصول على تدفّقات طارئة من العملات الأجنبية، والتي لولاها لما أمكن الاستمرار في سياسة الدعم. وقد تعهّدت قطر في وقت سابق من الشهر الجاري، بمنح مبلغ إضافي لمصر قدره 2.5 مليارات دولار، الأمر الذي ساهم مؤقتاً في تهدئة المخاوف من التخلّف عن تسديد الديون، وتعزيز احتياطي العملات الأجنبية إلى حدّ ما.
وسط كل المشاكل التي تعاني منها مصر دفعةً واحدة، ثمة مشكلة تلقي بثقل كبير على مستقبلها: الانقسام حول المساعدات الخارجية. فقد اجتمع مزيج غريب من الأفرقاء على معارضة القرض من صندوق النقد الدولي، وهؤلاء يتألفون من الماركسيين المعادين لأبعاده الرأسمالية، والأكاديميين الذين يرون فيه تجسيداً للامبريالية الأميركية والأوروبية، والسلفيين الذين يرفضون بشدّة الفوائد ويصفونها بأنها "حرام". ويسارع معارضو المساعدات الخارجية، على غرار حمدين صباحي، وعبد المنعم أبو الفتوح بدرجة أقل، إلى تبرير موقفهم بالقول إن السياسات النيوليبرالية دمّرت الاقتصاد المصري في المقام الأول، ويصرّون على أنه بإمكان مصر أن تصمد وتستمر من دون تمويل خارجي. وفي حين أعلنت "جبهة الإنقاذ الوطني"، أي التحالف الليبرالي الأساسي في مصر، مقاطعتها للانتخابات النيابية، يفضّل الناشطون المناهضون لصندوق النقد الدولي، في تشابه غريب مع الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي الذين يعارضون زيادة سقف الديون الأميركية، رؤية مصر تتخلّف عن تسديد ديونها بدلاً من الوفاء بالتزاماتها عبر توسيع عبء الدين. وفي الحالتَين، أي مقاطعة الانتخابات أو التخلّف عن تسديد الديون السيادية، مصر هي الخاسرة.
تنطوي حجج المعارضة على عناصر من الحقيقة. كان الفساد مستشرياً في عهد مبارك، ولاشك في أنه شكّل عائقاً أمام النمو في مصر. إلا أن العامل الذي أدّى إلى تفاقم الاختلالات في البلاد لم يكن الفساد أو النيوليبرالية في شكل أساسي، بل واقع أن الاستثمارات تجاهلت الناس العاديين في طريقها نحو القطاعات التي تتطلّب مهارات عالية مثل تكنولوجيا المعلومات. لقد ترتّبت كلفة اجتماعية عن محدودية الاستثمارات، لكن كان هناك أيضاً جانب إيجابي على قدر كبير من الأهمية. فليست مصادفة أن الثورة ولدت من رحم شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، وأن منظّميها الأبرز ينتمون أيضاً إلى هذا القطاع.
ما لايدركه معارضو الاتفاق مع صندوق النقد الدولي هو أن احتياطي العملات الأجنبية ليس مقياساً تجريدياً للثروة الوطنية، بل معيار أساسي وحاسم يُتيح للحكومة تأمين السلع والخدمات، ويُمكِّن الناس العاديين من الحفاظ على أرزاقهم ولقمة عيشهم. إذا تخلّفت مصر عن تسديد ديونها، فسوف يزيد ذلك من حدّة الضغوط، الشديدة أصلاً، التي تُمارَس على الواردات وأسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية. يبدو أن أسواق الدين لاتزال تتمتّع بدرجة من الثقة بمصر. فالعائدات على الديون المصرية قصيرة وطويلة الأجل، وهي مؤشّر مهم عن ملاءة البلاد، كان يمكن أن تكون أعلى بكثير، ولاتزال بعيدة جداً عن نسبة الـ48.6 في المئة التي بلغتها السندات العشرية اليونانية في ذروة أزمة الديون في اليونان.
ربما ارتكب صانعو السياسات الاقتصادية في مصر أخطاء، إلا أنهم تصرّفوا (في الغالب) بمسؤولية في ظل ظروف صعبة للغاية. أما صندوق النقد الدولي فعليه أن يتحلّى بالواقعية بشأن مايجدر به أن يتوقّعه في المقابل؛ لم ينجح التقشّف في أوروبا، ومن المستبعد أن ينجح في مصر. وهكذا بدلاً من العمل لإنهاء الدعم الحكومي بصورة عاجلة وفورية، على الصندوق أن يتعاطى مع المسألة بدقّة ورويّة من خلال اعتماد مقاربة تدريجية ومطّردة لإلغاء الدعم على مراحل، بدءاً من الدعم الأقل تعقيداً (مثل البنزين العالي الأوكتان)، وصولاً إلى الأنواع الأخرى من المحروقات. ويجب أن يركّز على المجالات حيث تستطيع الحكومة فعلاً أن تحدث فارقاً، مثل فرض ضريبة معتدلة على أرباح الرساميل، وإنعاش البنى التحتية السياحية في مصر، واعتماد النظام الرقمي في جمع البيانات، وتطبيق برامج تدريبية متخصّصة. الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لايتعارض مع زيادة مصادر الإيرادات الداخلية، والعكس. لكن وحده التوافق السياسي كفيلٌ بأن يضع الأمور في نصابها الصحيح، لكن حتى الآن، يبقى المأزق مخيفاً.
ماكس ريبمان باحث حائز على منحة غايتس، وطالب دكتوراه في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر في بمبروك كولدج في جامعة كامبريدج.