تعتبر إيران واحدة من أكثر دول العالم إنتاجاً للغاز الطبيعي والنفط في العالم، حيث تمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي ورابع أكبر احتياطي من النفط الخام، وعلى الرغم من هذه الإمكانات المتميزة إلا أن الجمهورية الإيرانية تعاني من أزمة وقود حادة تعوق الحياة اليومية لمواطنيها وتعرقل الأنشطة الصناعية للدولة وتتسبب في هشاشة اقتصادها.
والحقيقة أن هذه المفارقة تطرح سؤالاّ حاسماً لا يمكن تجاهله وهو لماذا تعاني دولة بهذا الثراء الطاقي من نقص مستمر في الطاقة؟ وما هي السياسات التي يمكن للدولة إن تبنتها أن تعالج هذه الإشكالية بفعالية ونجاح؟
والإجابة هي أن هذه الأزمة التي تتمثل أهم تداعياتها في الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، ونقص الغاز الطبيعي، واضطراب امدادات الوقود المتاحة للاستهلاك المحلي، هي نتاج مزيج من المشاكل الداخلية وعلى رأسها القصور المؤسسي والسياسات غير الفعالة المتبعة في إدارة الطاقة المحلية، والمشاكل والضغوطات الخارجية وأبرزها العقوبات الدولية المفروضة على البلاد.
يبحث المقال التالي في الأسباب الكامنة وراء مشكلة الوقود في إيران، ويحاول تقييم تداعياتها الجيوسياسية والاقتصادية، ويَعرِض لبعض التطورات والبدائل السياسية المحتملة مستقبلياً.
وتأمل الدراسة في تقديم نتائج هامة قد تسهم في دعم معلومات صانعي السياسات في إيران ومساعدتهم على تجاوز حالة الاضطراب الطاقي في البلاد التي تهدد أمن ورفاه الدولة ومرونتها الاقتصادية فضلاً عن تهديدها للاستقرار الجيوسياسي في الإقليم قاطبة.
أسباب أزمة الوقود في إيران
إن مشكلة نقص الوقود في إيران هو نتاج تركيبة من الاختلالات السياسية والاقتصادية والهيكلية، ويكمن جوهر المشكلة في نظام تسعير الطاقة الذي تدعمه الدولة دعماً هائلاً ومستمراً منذ سنوات طويلة، والحقيقة أن الدعم الحكومي لأسعار الطاقة الذي يضع أسعار الوقود في إيران من بين الأدنى على مستوى العالم يشجع على الاستهلاك المحلي المفرط، ويحفز عمليات تهريب الوقود عبر الحدود.
وقد ساهم خفض الدولة لأسعار البنزين مقارنةً بالأسواق العالمية، وزيادة الدعم على الحصص الشهرية المقننة، في زيادة الطلب بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، وتتسبب عمليات التهريب في مزيد من الاستنزاف لإمدادات البنزين المحلية، حيث تُقدّر كميات البنزين التي يتم تهريبها إلى الدول المجاورة لإعادة بيعها بهامش ربح مرتفع بنسبة ٢٠٪.
وتتراوح كميات البنزين التي تُهَرّب من إيران إلى الدول المجاورة (حيث ترتفع أسعار الوقود وهوامش الربح ارتفاعاً كبيراً) ما بين ١٠ إلى ٢٠ مليون لتر يومياَ، ويمثل هذا الرقم ما يقارب ٢٠٪ من الإنتاج اليومي للمشتقات النفطية في البلاد، وتتسبب هذه الأنشطة غير القانونية في تقليص امدادات البنزين المحلية ونقص وخسائر اقتصادية سنوية تقدر بمليارات الدولارات.
وفي الوقت ذاته تسببت عقود طويلة من ضعف الاستثمارات وسوء الإدارة في تدهور البنية التحتية لأنظمة الطاقة في البلاد، حيث توضح نظرة عابرة على حال المصافي ومحطات الطاقة ومرافق تخزين الغاز ما تعانيه المكونات الرئيسة للبنية التحتية الطاقية من انهيار وتراجع في الكفاءة العملية، ويتسبب قِدَم الشبكات وعدم كفاية الصيانة في هدر ما يقرب من ٤٠٪ من الغاز الطبيعي والكهرباء المخصصة للاستخدام السكني أثناء مرحلتي الإنتاج والنقل، والحقيقة أن قدرة الدولة الإيرانية على تلبية الطلب المحلي المتزايد على الطاقة تتعثر أمام انعدام الكفاءة التقنية والبنيوية خاصة خلال فترات ذروة الاستخدام.
أما السبب الأساسي الآخر لمشكلة الطاقة في إيران فهو استخدام الحكومة لعائدات النفط استخداماً يدعم استراتيجياتها السياسية، والواقع أن تفاني طهران في دعم حلفائها ووكلائها الاقليميين، خاصة في سوريا، قد تسبب في نقص الموارد المالية التي يمكن استخدامها في تحسين البنية التحتية المحلية،.وتشير التقارير إلى أن إيران تزود سوريا بكميات كبيرة من النفط بعقود مؤجلة الدفع وهي تعلم جيداً أن احتمالات تسديد قيمة هذه الإمدادات ضئيلة للغاية، ويقوض الإسراف في الإنفاق على هذه الفرص الجيوسياسية ومثيلاتها الجهود المبذولة لتحديث أنظمة الطاقة ومعالجة قضايا الاستهلاك الداخلي.
تأثير العقوبات الدولية والقيود الاقتصادية
تتضاعف الآثار السلبية لكل ما ذكرناه من ديناميكيات داخلية بسبب ما تتعرض له إيران من ضغوطات خارجية متمثلة في العقوبات الدولية التي تستهدف البرنامج النووي الإيراني، ولطالما أعاقت تلك العقوبات فرص إيران في الحصول على التمويل الأجنبي والتكنولوجيا المتطورة ومعدات قطاع الطاقة المعاصرة، وبالتالي أصبحت فرصة إيران في تنويع مصادر الطاقة المتجددة أو تحديث بنيتها التحتية الحيوية أو زيادة قدرتها على تكرير النفط ضرباً من المستحيل.
وبما أن إيران تعاني من شُحٍٍّ حاد في مواردها المالية، فإن قدرتها على التوسع في الاستثمارات الموجهة نحو تطوير البنية التحتية لقطاع الطاقة كانت دائماً محدودة، وفي عام ٢٠٢٣ بلغ الإنفاق الحكومي على دعم الكهرباء حوالي ٣٠ مليار دولار، بينما تجاوزت المبالغ المخصصة لدعم المشتقات النفطية ٥٢ مليار دولار، ويُعد هذا المستوى من الإنفاق المالي مستوىً غير مستدام في ظل الانخفاض المستمر في إيرادات صادرات النفط، وتفاقم آثار العزلة الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الدولية، وتُبرز هذه المؤشرات وجود اختلال هيكلي بين الأهداف الاستراتيجية المُعلنة للدولة في مجال الطاقة وبين واقعها المالي، مما يدل على أن الأزمة الراهنة هي أزمة منهجية ناجمة عن تراكمات طويلة الأمد.
الاضطرابات الخارجية والثغرات الأمنية
أدّت التدخلات الخارجية، وأبرزها العملية الإسرائيلية السرية التي استهدفت اثنين من أهم خطوط الغاز الإيرانية في شباط/ فبراير ٢٠٢٤ إلى إضعاف الأمن الطاقي الإيراني إضعافاً ملحوظاً، حيث اضطرت السلطات إلى تفعيل احتياطات الطوارئ لتفادي فجوة إمداديه يومية قُدِّرَت بنحو ٣٥٠ مليون متر مكعب من الغاز، وعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي الإيراني أصر على توصيف هذا الحدث كسبب جوهري للأزمة، إلا أن تداعيات الهجوم فضحت هشاشة البنية التحتية لشبكة الغاز الوطنية، وضعف الحوكمة القطاعية، وتراجع الاستثمارات الرأسمالية في قطاع الطاقة، وبالنظر إلى السهولة النسبية التي أُعيد بها تشغيل خطوط الأنابيب المتضررة، يتضح أن الهجوم كان أقرب ما يكون إلى عامل محفز كشف عن اختلالات هيكلية مزمنة أكثر من كونه سبباً مباشراً للأزمة.
الهدر الاستهلاكي وأوجه القصور الهيكلية
تسهم أنماط الاستهلاك السلبية إلى جانب الاختلالات المؤسسية المتجذرة في تفاقم أزمة الطاقة المزمنة في إيران، وعلى الرغم من أن الغاز الطبيعي يمثل أكثر من ٧٠٪ من إجمالي مزيج الطاقة في البلاد، فإن نسبة معتبرة من هذا المورد تُهدر نتيجة لاعتماد البلاد على أسطول نقل بري متهالك وعاجز عن استهلاك الوقود بكفاءة وفعالية ولا يتجاوز متوسط كفاءته التشغيلية ١٧ إلى ٢١ ميلاً لكل غالون، وتزيد الضغوط على منظومة الطاقة بسبب التوزيع غير المتوازن للطلب، ففي ظل ربط حوالي ٩٥٪ من الوحدات السكنية بالشبكة الوطنية يتم توجيه معظم إمدادات الغاز الطبيعي إلى القطاع السكني على حساب الإمدادات المتاحة للقطاع الصناعي، ويأتي هذا التخصيص غالباً مدفوعاً باعتبارات سياسية تؤدي إلى إضعاف الإنتاجية الاقتصادية.
وتتفاقم هذه التحديات بسبب الانتشار غير المقنن لأنشطة تعدين العملات المشفرة والتي تُدار في الغالب من قبل مؤسسات وثيقة الصلة بأجهزة الحكم، وتستهلك عمليات التعدين هذه كميات هائلة من الطاقة الكهربائية تصل أحياناً إلى ما يعادل استهلاك محافظات بأكملها، مما يتسبب في تزايد معدلات انقطاع الكهرباء.
وعلى صعيد آخر تؤدي الثغرات الأمنية على طول حدود الدولة وسوء إدارة القطاع الطاقي إجمالاً إلى تسهيل تهريب كميات كبيرة من البنزين إلى الخارج وهو ما يعوق قدرة الدولة على تنفيذ مخططات استجابة فعالة للأزمات.
الضغوط الجيوسياسية والاقتصادية
من العوامل التي تشعل أزمة الطاقة في إيران هو أنها تأتي في ظل ضغوط اقتصادية وجيوسياسية متزايدة تتعرض لها الدولة الإيرانية، فقد أدى سقوط حكومة بشار الأسد في سوريا إلى خلخلة الوجود الاستراتيجي لطهران في بلاد الشام وتقليص نفوذ طهران الإقليمي.
أما على الصعيد الإيراني الداخلي فإن انهيار الريال الإيراني الذي وصل سعره إلى ٧٧.٠٠٠ ريال إيراني لكل دولار أمريكي يكشف مدى ارتفاع معدلات التضخم في البلاد، ويفسر تردد المستثمرين الأجانب في ضخ استثمارات حيوية في قطاع الطاقة، في الوقت نفسه، فإن تناقص كميات الوقود المتاحة محلياً قد أجبر الدولة على خفض إمدادات الغاز إلى تركيا والعراق، مما عَرّض العلاقات التجارية الحيوية بين إيران وهذه الدول للخطر وزاد من الضغوط المالية الواقعة على عاتق الحكومة، ولا يمكننا في هذا السياق أن نتجاهل ما ترتب على مزيج العزلة الجيوسياسية والضعف الاقتصادي من نتائج سلبية على قدرة إيران في تحقيق الاستقرار في قطاع الطاقة وتأمين التمويل الضروري للشروع في إصلاحات طاقية طويلة المدى.
عواقب أزمة الطاقة في إيران
تؤثر أزمة الطاقة في إيران تأثيراً شديداً على اقتصادها المحلي والتزاماتها الإقليمية، حيث تسبب النقص الكبير والمستمر في إمدادات الغاز والكهرباء في التأثير على البنية التحتية في البلاد عامة، فضلاً عن تأثيره على الأنشطة الصناعية والحياة اليومية، وعلى انخفاض صادرات الطاقة مما أضعف قدرة إيران الاقتصادية وضرب نفوذها الإقليمي في مقتل.
الانهيار الاقتصادي والصناعي
من المتوقع أن تكلف أزمة الطاقة الحالية الاقتصاد الإيراني خسائر اقتصادية هائلة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً، حيث تعمل الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الصلب والتصنيع والبتروكيماويات بأقل من نصف طاقتها، ويؤثر انقطاع التيار الكهربائي يومياً لمدد قد تصل إلى ساعتين أو أكثر تأثيراً شديداً على الإنتاجية في مدن كبيرة مثل العاصمة طهران، كذلك أدى انخفاض قيمة الريال إلى زيادة تكلفة واردات الوقود، مما أدى بدوره إلى تفاقم العواقب الاقتصادية.
وتنفق الحكومة ما يقدر بنحو ١.٣ مليار دولار سنويا على البنزين الذي تشتريه بالعملات الأجنبية، ويعيش ما يقرب من ثلث السكان الآن تحت خط الفقر بسبب التضخم وحالة الركود الاقتصادي التي جعلت الحصول على أبسط الضروريات ضرباً من المستحيل بالنسبة لكثير من الإيرانيين.
الصحة العامة والكارثة البيئية
مع تضاؤل إمدادات الغاز ازداد اعتماد إيران على استخدام زيت المازوت وهو من أكثر أنواع الوقود تلوثاً في محطات توليد الطاقة، وقد أسفر هذا الإجراء الطارئ عن كارثة صحية عامة حيث تجاوزت انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت والجسيمات الدقيقة مستويات الأمان التي حددتها منظمة الصحة العالمية بما يزيد عن ٢٠ ضعفاً مما تسبب في إغلاق المدارس في عدد من المدن الكبرى لمدة ناهزت الشهر بسبب تلوث الهواء.
ووفقا لوزير الصحة السابق محمد رضا ظفرقندي فإن التكلفة الاقتصادية السنوية لتلوث الهواء التي تشمل النفقات الطبية والهدر الإنتاجي تتراوح بين ١٢ و٢٠ مليار دولار، وهو أكثر مما تنفقه الدولة على دعم الوقود، ومن المفارقات أن إيران رغم معاناتها من أزمة بيئية كارثية قد زادت صادراتها من الغاز النفطي المسال منذ عام٢٠٢٠ لتصل إلى ٣٣٧٠٠٠ برميل يوميا في عام ٢٠٢٤، وهو ما يعني أن الدولة فضلت الحصول على المزيد من أرباح العملة الصعبة على حساب الصحة العامة.
الاضطرابات الاجتماعية وتحديات الحوكمة
أدت معاناة المواطنين مع مشكلات نقص البنزين وانقطاع التيار الكهربائي وتدهور مستويات المعيشة إلى إضعاف الثقة الشعبية في المؤسسات الحكومية، والحقيقة أن محاولة الحكومة لتخفيف الضغوط المالية الواقعة عليها عن طريق إصدار قرار بخفض حصص البنزين المخصصة للمواطنين إلى النصف في ديسمبر ٢٠٢٤ قد تسبب في انتشار حالة من الهلع بين المواطنين وأعاد للأذهان ذكرى احتجاجات عام ٢٠١٩ التي راح ضحيتها مئات القتلى بسبب عنف الحكومة في التصدي للمحتجين، واتجهت الحكومة للتدابير القمعية لوأد الاحتجاجات بدلاً من سن إصلاحات هيكلية، مثل تحديث البنية التحتية أو زيادة كفاءة الطاقة، وعلى ما يبدو فإن القيادة الإيرانية اليوم عالقة في مأزق سياسي، فالإبقاء على الدعم يسرّع من وتيرة التدهور الاقتصادي، بينما يؤدي تقليصه إلى احتجاجات واسعة واضطرابات اجتماعية تهدد الاستقرار الداخلي.
الاستجابات السياسية والآفاق المستقبلية
في سعيها لحل أزمة الطاقة المتفاقمة تعمل إيران على التوصل إلى تحقيق التوازن بين الحلول الفورية المباشرة والحلول التحولية طويلة المدى، حيث تركز بعض البرامج الموضوعة لحل الأزمة على تحديث البنية التحتية القديمة والتحكم في مستويات استخدام واستهلاك الوقود، بينما تستهدف برامج أخرى تحقيق الاستقرار في إمدادات الوقود وتوليد الدخل، ومع ذلك، فإن النجاح الفعلي لهذه التدابير يظل رهناً لإشكالات جذرية مثل القصور المؤسسي والمعارضة السياسية والضائقة المالية التي تمر بها البلاد.
إشكالات الحلول السطحية قصيرة المدى
لمنع التضرر من تلوث الهواء حظرت الحكومة الإيرانية استخدام المازوت في محطات الطاقة ونفذت خطة لتقنين الكهرباء في طهران وقم ومناطق شمالية أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠٢٤، وعلى الرغم من أن هذه السياسات قدمت هدنة مؤقتة، إلا أنها فاقمت الأزمة بالنسبة للشركات والأفراد الذين يتخوفون من انعدام الاستقرار الطاقي بسبب فشل الدولة في معالجة السبب الأساسي للمشكلة والمتمثل في النقص المستمر للغاز.
وقد لوحظت إخفاقات مماثلة في محاولات تعزيز أمن الحدود وكبح تجارة تهريب الوقود التي تكلف الدولة ما قيمته ٨ مليارات دولار سنوياً، ويكشف استمرار هذه التجارة غير المشروعة التي يحميها الفساد وتورط جهات رفيعة المستوى عن مواطن الضعف الهيكلية في حوكمة الطاقة في إيران وعدم جدوى الحلول السطحية في مواجهة المشكلات المؤسسية المزمنة.
الطاقة المتجددة: الأمل الذي تُقوضه التناقضات السياسية
تتمتع إيران بإمكانات كبيرة في مجال الطاقة المتجددة يعززها ما حَبَتها به الطبيعة من أجواء مشمسة تقارب ٣٠٠ يوم مشمس سنوياً تساعدها على إنتاج ما يصل إلى ١٢٠٠٠ ميجاوات من الطاقة الشمسية، وقد اتخذت الدولة خطوات إيجابية في هذا الاتجاه تمثلت في إعلان الوزير عباس علي آبادي عن خطة لإضافة ٢٤٠٠ ميجاوات من الطاقة الشمسية بحلول منتصف عام ٢٠٢٥، ولكن هذا البرنامج الطموح يتقاطع مع استثمارات إيران المستمرة في الطاقة النووية، والتي تستحوذ على التركيز السياسي والمالي على حساب مخططات إنتاج الطاقة المتجددة.
وتخصص إيران حالياً أقل من ١٪ من ميزانيتها الوطنية لتطوير الطاقة المتجددة، وهو ما يضعها في مركز متراجع عن نظيراتها الإقليمية مثل الإمارات العربية المتحدة التي تبني الآن أكبر مزرعة للطاقة الشمسية في العالم، ويشير هذا التباين إلى اختلال استراتيجي أكبر يعطي الأولوية للمشاريع الرمزية العملاقة والحلول الجزئية قصيرة الأجل على حساب التحول التدريجي والطويل الأمد نحو منظومة طاقة مستدامة قابلة للتطوير.
خطوات على الطريق: إصلاحات هيكلية أم أزمة متصاعدة
إن تجاوز أزمة الطاقة في إيران يحتاج إلى تغييرات هيكلية جذرية تبدأ بتقليص نفوذ الحرس الثوري الإيراني على البنية التحتية لقطاع الطاقة في البلاد، والامتناع عن تسييس عملية تسعير الطاقة، وكذلك السعي للحصول على التمويل اللازم لتحديث أنظمة الطاقة ومصافي التكرير من خلال استقطاب رأس المال الدولي الذي يستطيع تزويد الدولة بالمليارات التي تحتاجها عملية التغيير تلك.
والحقيقة أن الحرس الثوري الإيراني يحكم قبضته على البنية التحتية للطاقة في البلاد وعلى عمليات توليد الطاقة وتوزيعها وصادرات النفط، وقد أعاقت هذه السيطرة قدرة الدولة على إدارة القطاع النفطي إدارة فعالة، وعطلت التخطيط الاستراتيجي الناجع لهذا القطاع الحيوي، ولأن قادة الحرس الثوري يمتلكون أصولا كبيرة في مجال الطاقة ويحصلون على عقود بالأمر المباشر، فقد أصبح الفساد واختلاس الأموال المخصصة للتوسع والصيانة أمراضاً مستشرية.
ويسيطر الحرس الثوري على ما يقارب نصف صادرات النفط الإيرانية مما يساعده على دفع مبالغ طائلة من المال لوكلاء إيران الإقليميين وتمويل مساعي البلاد العسكرية، وبما أن الحرس الثوري الإيراني يضع المصالح السياسية والعسكرية في مقدمة أولوياته فهذا بالضرورة يعني أن تحديث البنية التحتية للطاقة الإيرانية وتشغيلها بكفاءة سيأخذ مكانة ثانوية مما يزيد من أزمة الطاقة في البلاد وفي الانقطاع المتكرر للكهرباء ونقص الغاز الطبيعي وتفاقم عمليات تهريب الوقود.
وعلى جانب آخر فإن السياسات الخارجية العدائية للنظام الإيراني وشبكات الوكلاء الراسخة التي يدعمها تشكل تحدٍ آخر في وجه محاولات الإصلاح، وفي غياب الحلول الدبلوماسية التي قد تساهم في رفع العقوبات فإن قطاع الطاقة سيستمر في التدهور وستزداد حالات انقطاع التيار الكهربائي والتلوث والخسائر المالية سوءاً.
إن أزمة الطاقة في إيران ماهي إلا عَرَض لمشكلة أكثر خطورة تنخر في جسد الدولة وكلما تفاقم سوء الإدارة وعجز الحكومة عن الاستفادة من مواردها الثمينة في تعزيز البنية التحتية ستتحول الموارد الاقتصادية للدولة إلى مصدر ضعف وانهيار.
كفاءة الطاقة وإدارة الطلب: فرصة ضائعة
بالنظر لما تعانيه صناعة الطاقة في إيران من تدهور وضعف فإن تقنيات الشبكات المتقدمة مثل أنظمة الاستجابة للطلب والعدادات الذكية وتقنيات موازنة الأحمال المدعومة بالذكاء الاصطناعي تعتبر فرصة ذهبية لتغيير الحال لا يمكن تجاهلها خاصة خلال أشهر الشتاء عندما تبلغ متطلبات التدفئة أعلى مستوياتها، إذ تتيح هذه التقنيات التحكم الفوري في استهلاك الطاقة وتقلل من الفاقد وتسهم في موائمة امدادات الكهرباء مع الطلب المتغير بشكل ديناميكي ولحظي.
ومن المؤسف بالفعل أن هذه التقنيات التي تحمل في طياتها الكثير من المنافع لا زالت غير مستغلة بشكل كاف على الرغم من أهميتها لأي استراتيجية طاقية طويلة الأجل إذ يمكن أن يُسهم اعتمادها في تحسين موثوقية الشبكة، وتقليل الاعتماد على مصادر وقود الطوارئ مثل المازوت، وتسهيل دمج مصادر الطاقة المتجددة، وتُعد حلول الإدارة الرقمية للطاقة ضرورية وملائمة في آنٍ معاً لدولة تعاني من بنية تحتية مهترئة.
تهريب الوقود: استنزاف هيكلي للموارد
تشكل عمليات تهريب الوقود عبئاً كبيراً على قطاع الطاقة الإيراني حيث يتم تهريب ما يقرب من ٢٠٪ من إنتاج البنزين والديزل في البلاد أو ما يعادل ١٠ إلى ١٥ مليون لتر يوميا، مما يتسبب في هدر ما يقارب ٣ إلى ٥ مليارات دولار من دخل الدولة سنوياً، ويعتبر السبب الرئيس في انتشار عمليات التهريب هذه هو الفارق الهائل في سعر الوقود بين الأسواق الإقليمية مثل العراق وتركيا حيث تتجاوز الأسعار أحيانا ٧٠ سنتاً للتر مقارنة بالوقود الإيراني عالي الدعم والذي يبلغ متوسط سعر الليتر فيه حوالي ٤ سنتات فقط للتر، وعلى الرغم من أن هذا التفاوت في السعر يشجع على اتساع نطاق عمليات التهريب إلا إن العامل الجوهري في استشراء تلك الكارثة هو فساد المسئولين وانتشار شبكات التهريب المنظمة، وتنخرط المدن الحدودية في هذا الاقتصاد غير القانوني بسبب ارتفاع البطالة والتضخم.
ولعل التعقيدات السياسية لأزمة الطاقة تتفاقم بسبب مشاركة المنظمات التابعة للحرس الثوري الإيراني في عمليات التهريب، مما يجعل إنفاذ القانون أكثر صعوبة، وتؤدي عمليات التهريب أيضاً إلى تفاقم نقص الوقود داخل البلاد، مما يضطر السلطات إلى تطبيق المزيد من إجراءات التقنين وتكرار عمليات قطع التيار الكهربائي، وإلى جانب ذلك فإن جزءاً كبيراً من الدعم الحكومي المخصص للوقود، والذي بلغ ٥٢ مليار دولار في عام ٢٠٢٣، يذهب بشكل غير مباشر إلى تغذية السوق غير المشروعة، مما يحرم الدولة من موارد مالية كان من الممكن توجيهها نحو تحديث البنية التحتية، كما يسهم التهريب في تأجيج التوترات الجيوسياسية لا سيما مع العراق ويؤثر سلباً على أسواق الوقود الإقليمية.
السيناريوهات المحتملة
- أفضل التوقعات: أفضل ما يمكن توقعه هو أن تُرفع العقوبات الدولية عن إيران لتتمكن من جذب استثمارات دولية معتبرة تمهد الطريق لانتفاضة إصلاحية كبرى في مجال صناعة الطاقة على مدار السنوات الخمس أو العشر المقبلة، يفترض هذا السيناريو المتفائل أيضاً أن تتمكن إيران من تحقيق شيء من الاستقرار في انتاجها المحلي من الطاقة وتقليل اعتمادها على وارادات الوقود من خلال الابتعاد عن تسييس أسعار الطاقة ومعالجة أوجه القصور الهيكلية والاستفادة من إمكاناتها الهائلة في مجال الطاقة المتجددة واحتياطاتها الوفيرة من الغاز الطبيعي، وستسهم بعض التغييرات الجوهرية المتمثلة في تحديث المصافي القديمة وتعزيز كفاءة استخدام الطاقة وإلغاء الدعم غير الضروري في تخفيف أزمات نقص الطاقة وتعزيز قدرة إيران التنافسية في أسواق الطاقة الإقليمية والدولية.
- أسوأ التوقعات: في حال استمرت العقوبات الدولية المفروضة على إيران واستمرت حالة العجز السياسي الداخلي بلا معالجة فمن المؤكد أن أزمة الطاقة الإيرانية ستزداد سوءا، وقد يؤدي ذلك إلى تصاعد السخط الشعبي وتفاقم الركود الاقتصادي، وزيادة التضخم الناتج عن انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، ونقص البنزين، وارتفاع الأسعار في ظل هذه الظروف، ومن شأن غياب الاستثمار الأجنبي وتباطؤ الإصلاحات الداخلية أن يؤدي إلى تسارع وتيرة تدهور البنية التحتية، وزيادة الغضب الشعبي، وهو ما سيسهم بدوره في تآكل شرعية الحكومة وتصبح احتمالات زعزعة استقرار الدولة أكثر ترجيحاً خاصة إذا تزامن تراجع الأمن الطاقي مع تدهور مستويات المعيشة وتراجع قدرة الدولة على الاستجابة والتدخل.
- أرجح التوقعات: بين هذين النقيضين يكمن المنظور الأكثر واقعية الذي يعترف بصعوبة حدوث تغييرات جذرية على الساحة الإيرانية في المستقبل القريب، إلا أنه يرى أن إيران قادرة على أن تخطو خطوات صغيرة ومحسوبة من خلال تحالفات مدروسة، خاصة مع الصين وروسيا، بالتزامن مع إدخال تعديلات سياسية محدودة النطاق، وبالرغم من أن هذه المبادرات لن تعالج الأسباب الجوهرية للأزمة إلا أنها قد تخفف من عواقبها الوخيمة المتمثلة في النقص الحاد في إمدادات الطاقة أو الانهيار الكامل للبنية التحتية. ولا يُغفل هذا التصور حقيقة أن التوانِ عن إجراء تغييرات جذرية في الحوكمة والتأخر في إعادة توجيه استراتيجية الطاقة سيُبقي على المعوقات البنيوية العميقة، وعلى التشوهات الناتجة عن دعم الوقود، وعن العزلة الجيوسياسية كعقبات رئيسة أمام تحقيق الاستقرار طويل الأمد، وبالتالي فإن التعافي الدائم سيظل صعب المنال ما لم تُنفذ إصلاحات منهجية واسعة حتى وإن أُحرزت بعض النجاحات المرحلية على المدى القصير.
الخاتمة
استهدفت هذه الورقة البحثية تقديم الإجابة عن سؤال محوري وهو ما هي الحلول الراجحة لأزمة الوقود المتفاقمة في إيران التي تتمتع باحتياطات هائلة من النفط والغاز؟
وخَلُصَت الورقة إلى أن أسباب الأزمة تجتمع في ثلاث مكونات جذرية ألا وهي العقوبات الدولية، والإخفاقات الحكومية المزمنة، والبنية التحتية التي عفا عليها الزمن، وقد أدت هذه المكونات مجتمعة إلى تعقيدات كبيرة في تلبية الاحتياجات المحلية من الطاقة مما تسبب في تكرار الانقطاعات الكهربائية واضطراب القطاعات الصناعية وارتفاع ملحوظ في الإنفاق.
وأوضحت الدراسة أن الحلول المؤقتة مثل زيادة الواردات وإغلاق المصانع وفرض القيود لا تعدو كونها تدابير سطحية قصيرة الأجل وغير مستدامة، أما الحل المستدام فيتطلب تضافر الجهود الخارجية مع الإصلاحات الداخلية لجذب الاستثمارات والتكنولوجيا الحيوية من خلال التخلي عن تسييس أسعار الطاقة وتحديث البنية التحتية للتوزيع والتكرير وإلغاء الهدر المالي في الدعم غير المجدي والعودة إلى الاندماج في الأسواق الدولية.
في نهاية المطاف سيظل المسار المستقبلي لقطاع الطاقة الإيراني مرهوناً بالقرار السياسي للدولة، فإن تمكنت حكومة بيزشكيان من تنفيذ الإصلاحات الهيكلية الداخلية اللازمة وتوصلت إلى تفاهمات بشأن رفع العقوبات الدولية فقد تشهد البلاد استقراراً تدريجياً في المجال الطاقي خلال العشر سنوات القادمة، أما إن فشلت الحكومة في الاضطلاع بهذه المسئولية وإجراء هذه التحولات فستظل الأزمة سحابة سوداء تلقي بظلالها على الحياة في إيران وسيترتب عليها تهديدات كبرى لتعافي الاقتصاد الإيراني ومزيد من انهيار الثقة الشعبية في الحكومة.
إن قضية الطاقة تعتبر قضية كينونة بالنسبة لمستقبل واستقرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي قضية تتجاوز رهاناتها الأبعاد الاقتصادية لتطال جوهر الحياة السياسية والاجتماعية في الدولة.