أثبت الأكراد السوريون نجاحهم في محاربة عدو خارجي في تموز/يوليو الماضي عندما تمكّنوا من طرد المتطرّفين الإسلاميين التابعين لتنظيم القاعدة من بلدة رأس العين الحدودية الصغيرة. لكن قد يتبيّن أن تسوية الخلافات والصراعات الداخلية الكردية أصعب بكثير، مع العلم بأن هذه التسوية ترتدي أهمية حيوية للأكراد، إذ على الرغم من أن النتيجة التي سيسفر عنها النزاع في سورية لاتزال غير واضحة المعالم بعد، ثمة أمر أكيد: أمام الأكراد السوريين فرصة غير مسبوقة لفرض الحكم الذاتي السياسي.
بيد أن الانقسامات الكبرى في صفوف الأكراد السوريين ورعاتهم الإقليميين والسياسيين قد تؤدّي إلى تعطيل هذه الفرصة. فالخصومات بين الفصائل الكردية الأساسية في سورية - الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية، والحزب الديمقراطي التقدمي، وحزب الاتحاد الديمقراطي - عميقة جداً وتقف عائقاً أمام وضع رؤية متماسكة للمستقبل. وتعكس هذه الانقسامات الخصومات داخل الصف الكردي في مختلف أنحاء المنطقة، ولاسيما داخل الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، وحزب العمّال الكردستاني في تركيا. هذا وتساهم أجندات هذه المجموعات في تعميق الانقسامات في الولاءات السياسية للأحزاب الكردية السورية.
يقود الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية، وهو من اللاعبين الأكراد الأساسيين في البلاد، مجهوداً يهدف إلى توحيد الأحزاب السياسية التي تمثّل الأكراد السوريين، ويحصل على الدعم في هذا الإطار من الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني في العراق. فقد وافقت معظم الأحزاب السياسية الكردية، بعد ستّة أشهر من اندلاع الثورة السورية، على إنشاء هيئة شبه موحّدة أطلقوا عليها اسم المجلس الوطني الكردي الذي يضمّ أيضاً الحزب الديمقراطي التقدمي النافذ المدعوم من الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني في العراق. يتألّف المجلس في المجموع من 14 حزباً ومنظمة نسائية ولجان تنسيق شبابية، ويملك مكاتب تمثيلية في المناطق ذات الغالبية الكردية في القامشلي وعفرين وسواهما. يتعهّد بوضع برنامج قوي وموحّد للأكراد في سورية، كما أنه يطالب بتسوية سلمية للنزاع بما يضمن الاستقرار في سورية ويمهّد الطريق أمام الأكراد لتحقيق الحكم الذاتي. إلا أن التشنّجات التقليدية بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، والتي تتجلّى داخل المجلس الوطني الكردي - من خلال الحزب الديمقراطي التقدمي المدعوم من الأول والحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية المدعوم من الثاني - قوّضت فاعلية المجلس في تأدية دور موحِّد للأكراد في سورية. وعلى الرغم من أن الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية يبقى الأكثر نفوذاً داخل المجلس، من شأن الدعم من الاتحاد الوطني الكردستاني أن يساعد في نهاية المطاف الحزب الديمقراطي التقدمي على تأدية دور أكبر في النزاع، ولاسيما إذا ضغط المجتمع الدولي باتّجاه التفاوض مع النظام السوري كبديل عن المواجهة. لكن بعدما نجح الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية في التموضع في موقع حزب "المصالحة"، واستوعب الأحزاب الأصغر حجماً التي انشقّت عنه على مرّ السنين، يبقى الأقوى حالياً بالمقارنة مع الحزب الديمقراطي التقدّمي. بيد أن الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية، وحتى المجلس الوطني الكردي، عاجزان عن مضاهاة التأثير الذي يتمتّع به حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يُعَدّ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وذلك بسبب التناقضات الأيديولوجية التي يعانيان منها.
يُسيطر حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يحظى بالدعم من حزب العمال الكردستاني في العراق - كما أنه كان مدعوماً من الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في الثمانينيات والتسعينيات - على المجموعة القتالية الأفضل تنظيماً وتدريباً في سورية، والتي تُعرَف رسمياً بـ"وحدات الحماية الشعبية" ويُشار إليها بالتسمية الكردية المختصرة YPG. وقد أحكم الحزب سيطرته على بلدات كردية كبرى في سورية فضلاً عن موارد استراتيجية أساسية. عندما انسحب الجيش والقوى الأمنية السورية طوعاً من معظم المناطق الكردية في تموز/يوليو 2012، تسلّم مقاتلون مدرّبون جيداً تابعون لحزب الاتحاد الديمقراطي - وقد كان كثرٌ منهم يقاتلون سابقاً في صفوف حزب العمال الكردستاني - زمام الأمور في تلك المناطق وأصبحوا الحكّام الفعليين لها. والآن، يحتفظ حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الشعبية التابعة له بقاعدة نفوذ خارج نطاق المجلس الوطني الكردي. لكن حزب الاتحاد الديمقراطي، وعلى الرغم من القوة العسكرية التي يتمتّع بها، يجد صعوبة في كسب دعم الأكراد في سورية. فقد حاول تأمين الخدمات للأكراد المستضعفين، عبر توزيع الغاز والمازوت، إلا أن سياساته القمعية تجاه الناشطين المستقلين وأتباع الأحزاب الكردية المنافسة، أحدثت شرخاً بينه وبين السكّان. فعلى الرغم من الشعبية التي يتمتّع بها الحزب في زمن الحرب، لم يُطوِّر حتى الآن البنى التحتية الكافية أو يكسب الدعم الشعبي الكافي لتعزيز حضوره السياسي في مرحلة مابعد النزاع.
وقد عمدت بعض المجموعات في المجلس الوطني الكردي، تحت تأثير الضغوط من أنصارها، إلى إنشاء فرق مسلّحة بهدف منع حزب الاتحاد الديمقراطي من اختطاف مصالحها. إلا أن تأثير هذه الفرق لايزال هامشياً بالمقارنة مع تأثير حزب الاتحاد الديمقراطي في عدد كبير من المناطق الكردية في سورية. في تموز/يوليو 2012، واستباقاً لأي أعمال عنف قد تندلع بين الأكراد، على خلفية الانقسامات بين عشرات الألوية والوحدات المسلّحة وتوزُّع ولاءاتها بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي، ضغطت حكومة إقليم كردستان لإنشاء الهيئة الكردية العليا لتكون بمثابة مظلة جامعة لكل القوى السياسية الكردية في سورية.
لاشك في أن هذا التوحيد طموح، إلا أنه لم يتمكّن من تلبية مطالب الجزء الأكبر من الأكراد السوريين، ولاسيما بسبب العداوة بين حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي التي تستمر في تقويض عمل الهيئة. فقد علّق أحد ممثّلي المجلس الوطني الكردي في حكومة إقليم كردستان قائلاً: "ليست حكومة إقليم كردستان راضية عن سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي داخل الهيئة الكردية العليا، ولذلك منحت سلطات مفرطة لحلفائها داخل المجلس الوطني الكردي من أجل كبح نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي في الهيئة واسترضاء تركيا في الوقت نفسه". واقع الحال هو أن هذا الاختلال في التوازن بين التقاسم المنشود للسلطة السياسية وحقيقة أن حزب الاتحاد الديمقراطي أقوى على الأرض مما تستطيع القوى الإقليمية تقبّله، يُهدّد بتعطيل المساعي الهادفة إلى توحيد الأكراد السوريين.
كما أن الصعود المتجدّد للمجموعات الكردية المستقلّة، وتشمل حزب "يكيتي" (الوحدة)، و"أزادي" (الحرية)، وتيار المستقبل الكردي، والحزب اليساري، يؤدّي إلى تراجع حظوظ التوحّد بين الأكراد. فلطالما دعمت هذه المجموعات بشدّة حصول الأكراد على الحكم الذاتي في سورية. واليوم، تسعى إلى الاحتفاظ بالشعبية، ولاسيما في ظل افتقارها إلى الدعم السياسي والمالي الإقليمي. وقد لجأ بعضها إلى استراتيجية "الاعتماد على الذات"، حيث تعمل انطلاقاً من الإمكانات ومصادر التمويل المحلية. ويطبّق بعضها الآخر سياسة وقائية تقوم على استرضاء الطرفَين السياسيين الأساسيين، أي المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، من أجل ضمان بقائه. إلى جانب هذا النهج، تستمدّ الأحزاب المستقلّة الجزء الأكبر من الدعم من الأكراد السوريين الشباب الذين يحترمون استقلاليتها ودفاعها القوي عن التطلّعات الكردية لتحقيق المساواة والحصول على حق تقرير المصير.
تمثّل قضية الحكم الذاتي عامل الانقسام السياسي الأساسي في صفوف الأحزاب الكردية السورية. فعلى الرغم من أن كل الأفرقاء يؤكّدون أن الاندماج ضمن حكومة سورية مركزية ليس عملياً بالنسبة إلى الأكراد السوريين، لم تكن الأحزاب صريحة ولاموحّدة في تحديد مطالبها السياسية. فالحجّة التي تستخدمها عموماً هي أن اللامركزية - والحكم الذاتي للأكراد - تعزّز الوحدة الوطنية السورية وتؤسّس لمفهوم ملموس عن المواطنة الحقيقية. لكن على الأكراد السوريين أن يقدّموا تفسيراً مبسّطاً للامركزية كآلية تنظيمية، بما يؤدّي إلى تعزيز دور السلطة المحلية، ويمنح مزيداً من السلطات للسكان المحليين من أجل إدارة شؤونهم انطلاقاً من خصائصهم الدينية والإثنية، ويساهم في توزيع الثروات بطريقة عادلة. أما السياسة الخارجية وشؤون الدفاع فتبقى في عهدة حكومة مركزية محدودة في دمشق. مع أن الأكراد في سورية يتشاركون التطلّع نفسه، إلا أنهم يختلفون حول التفاصيل: فحزب الاتحاد الديمقراطي يتصوّر نموذجاً أكثر استقلالية، في حين أن المجلس الوطني الكردي يطالب بمنظومة شبيهة بحكومة إقليم كردستان في العراق.
مما لاشك فيه أن السياسة الكردية في سورية لاتقتصر على البعد المحلي. فالقوى الإقليمية تسعى إلى ترسيخ قواعد نفوذها المحلية داخل المجتمع الكردي السوري الذي يُعَدّ صغير الحجم بالمقارنة مع المجتمعات الكردية المجاورة في تركيا والعراق وإيران. تاريخياً، اعتمد الأكراد السوريون على التجارب الكردية في بلدان أخرى ليستلهموا منها تحرّكاتهم السياسية. فعلى سبيل المثال، كان للانتفاضة الكردية في العراق التي قادها مصطفى البارزاني، مؤسّس الحزب الديمقراطي الكردستاني في العراق، تأثير كبير على الحزب الديمقراطي الكردستاني في سورية الذي أُسِّس في العام 1958، وهو أول حزب سياسي كردي أبصر النور في سورية. وإلى جانب الدعم الأيديولوجي، تعتمد الأحزاب الكردية السورية على المموّلين الإقليميين من أجل بقائها في المدى الطويل. في الماضي، كان هذا الدعم يؤمّن لها الحماية في مواجهة القمع الشديد من النظام، أما في الأزمة الحالية فيتسبّب بتعميق الانقسامات.
سيروان كاجو محلّل سوري في الشركة الاستشارية "كيروس أسوشيتس".
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.