لم تمتحن الحرب في سورية قدرة تركيا على استيعاب أكثر من 1.1 مليون لاجئ وحسب، إنما تسبّبت أيضاً بتفاقم التشنّجات التي تعتمل بين العلمانيين واليساريين والأكراد والإسلاميين. وعلى وجه الخصوص، أثار الحضور المتنامي لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في تركيا، الاستقطاب في البلاد، مع اتّهام حكومة أردوغان من قبل خصومها بأن مؤازرتها للمعارضة السورية هي السبب في إزدهار داعش وظهور الدعم الداخلي للإسلام المتشدّد.
تاريخياً، أظهرت الأحزاب السياسية في تركيا نزعة إلى استقطاب ناخبيها ليس على أساس السياسات، إنما على أسس إثنية ودينية وأيديولوجية. يتماهى حزب الشعب الجمهوري - الحزب المعارض الأساسي الآن - مع الناخبين العلمانيين والكماليين [نسبةً إلى كمال أتاتورك] والعلويين [أو مايُعرَف بالعلاهيين في تركيا Alevis]. في المقابل، بدا أن حزب العدالة والتنمية الإسلامي المنتمي إلى يمين الوسط، يُقيم توازناً ناجحاً بين برنامجه الإسلامي المعتدل والقيم الديمقراطية والنجاح الاقتصادي. وساعدت علاقات الحزب المزدهرة مع الحلفاء الغربيين، لاسيما حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، على جعل تركيا النموذج الأبرز للإسلام السياسي خلال السنوات الماضية. لكن التشنّجات في تركيا ظهرت من جديد إلى الواجهة وبحدّة أكبر، لاسيما بين العلمانيين والإسلاميين.
تبنّى حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان موقفاً متشدداً من الأسد، عبر الإصرار على رحيله والدعوة إلى تدخّل المجتمع الدولي العسكري دعماً للمعارضة. وفي سياق هذه السياسة، استضافت تركيا المعارضة السياسية والعسكرية السورية وقدّمت لها التمويل؛ لكنها تعرّضت أيضاً للانتقادات في الداخل والخارج بسبب سياسة الباب المفتوح التي أدّت إلى تدفّق آلاف المقاتلين الجهاديين الأجانب إلى سورية عبر الحدود التركية. وقد حشد تنظيم الدولة الإسلامية دعماً كبيراً داخل تركيا، بحسب ماتُظهره التقارير عن الخلايا الجهادية في البلاد والمستشفيات التي تعالج الجهاديين، والاشتباكات في جامعة اسطنبول بين أنصار داعش ومعارضيه في تركيا، ووجود آلاف المقاتلين الأتراك في سورية. مثلاً في تموز/يوليو الماضي، أثار مقطع فيديو جرى تداوله على نطاق واسع يظهر فيه أنصار لتنظيم داعش يصلّون في متنزه في وسط اسطنبول لمناسبة اختتام شهر رمضان، عاصفةً من الجدل. وقد سأل نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، النائب سيجين تانريكولو، وزير الداخلية إذا كان المكان معسكر تدريب تابعاً للدولة الإسلامية أم إذا كانت المجموعة قد حصلت على إذن من الشرطة وقيادة الدرك للتجمّع في المكان. وفي غضون ذلك، نفى أردوغان بشدّة المزاعم بأن حكومة حزب العدالة والتنمية تدعم داعش واصفاً إياها بأنها حملة افتراء يشنّها خصومه السياسيون بهدف تشويه سمعة الحزب.
لكن وقعت سلسلة من الصدامات العنيفة بين أنصار داعش وخصومهم اليساريين في جامعة اسطنبول في 26 أيلول/سبتمبر الماضي، عندما هاجم إسلاميون يحملون عصياً وسكاكين طلاباً يساريين كانوا يتظاهرون احتجاجاً على همجية تنظيم الدولة الإسلامية. وقد اعتُقِل أكثر من 40 شخصاً، بينهم ثمانية من أنصار داعش، على خلفية اشتباكات مماثلة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كما ورد في تقارير إعلامية محلية. إبان هذه الصدامات، اتهم طلاب آخرون السلطات باستهداف اليساريين وعدم اتخاذ الخطوات الكافية لاحتواء الإسلاميين.
واعتُبِر أن الاشتباكات تذكّر بـ"الأيام السوداء" للتجاذبات الإسلامية-العلمانية في ثمانينيات القرن العشرين. حيث تسبّب انفجار سيارتين مفخختين في بلدة ريحانلي على الحدود السورية بمقتل 53 شخصاً؛ وقد وجّه حزب جبهة التحرير الشعبية التركي أصابع الاتهام إلى داعش والقوميين الإسلاميين المتشددين، مايكشف عن تعاظم التهديد الذي تشكّله الحركات القتالية المحلية المنشأ على طرفَي المشهد السياسي المنقسِم حول الملف السوري.
في حين ظلّ الأتراك حذرين إلى حد بعيد من التدخل في سورية، يتعاطف عدد كبير من السنّة في البلاد مع الثوّار، معبّرين عن تضامنهم إزاء مايعتبرونه قمعاً للأكثرية السنّية على أيدي نظام عسكري علماني. أما اليساريون والعلمانيون، فضلاً عن الأقلية الكردية الأساسية في البلاد والعلويين الذين يشتكون من أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يمارس التمييز بحقّهم، فقد أظهروا نزعة إلى معارضة موقف الحكومة من سورية وانتقدوا مااعتبروه دعماً من الحكومة للإسلاميين المتشدّدين. ومع إثارة السياسة التركية في الملف السوري مزيداً من السجال، عمد القياديون في مختلف الأحزاب إلى تصعيد لهجتهم المؤجّجة للمشاعر والمثيرة للاستقطاب في خطب الحملات، واستخدموا الملف السوري لحشد الدعم من ناخبيهم بالاستناد إلى اعتبارات أيديولوجية أو مذهبية. على سبيل المثال، اتهم أردوغان، خلال الحملة التي قادته إلى الفوز في الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس الماضي، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كليجدار أوغلو، من الطائفة العلاهية [Alevi]، بدعم الأسد بسبب دينه، ماأثار الانتقادات لأنه لم يُميّز بين مذهبين متشابهين إنما مختلفين (العلاهيين Alevis والعلويين Alawites). وكذلك كشفت نتائج الانتخابات التي فاز فيها أردوغان بأكثرية 51.9 في المئة من الأصوات، عن نماذج التصويت الجغرافية المتجذّرة التي تعكس الانقسام بين العلمانيين في المدن والمحافظين في الأرياف.
وظهرت التشنّجات وسط الأقليات في تركيا، من خلال حوادث متقطّعة على طول المنطقة الحدودية التركية منذ المراحل الأولى للانتفاضة السورية، وتحديداً في محافظة هاتاي (التي تضم العدد الأكبر من العلويين الذين يُقدَّر عددهم بمليون نسمة في تركيا)، وغازي عنتاب (حيث يقيم مئات آلاف السوريين)، وفي الجنوب الذي يسيطر عليه الأكراد. وشهدت هاتاي على وجه الخصوص تظاهرات يسارية محدودة النطاق شارك فيها أشخاص على صلة بحزب الشعب الجمهوري، احتجاجاً على التدخل ودعماً للأسد، وترد تقارير باستمرار عن وقوع مناوشات محدودة بين اليساريين والسوريين الذين نزحوا إلى المنطقة. ففي آب/أغسطس مثلاً، تدخّلت الشرطة في غازي عنتاب بعدما هاجمت مجموعة كبيرة من الأتراك شقة يقطن فيها سوريون زعموا أنهم على صلة برجلٍ طعن مالك شقّته التركي الجنسية. وقد حمّل السكان السياسة التي يعتمدها أردوغان في الملف السوري مسؤولية اندلاع أعمال العنف. وقد كان النصر المدوّي الذي حقّقه حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات المحلية في محافظة هاتاي في أيار/مايو الماضي بمثابة عقاب مباشر من السكان لحزب العدالة والتنمية على خلفية سياسته في الملف السوري التي تسبّبت بتدفّق أعداد كبيرة من اللاجئين والمقاتلين، الأمر الذي يؤدّي إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي وتدهور الوضع الأمني في المنطقة.
كما أوسعت أحداث كوباني الشقوق العميقة في المجتمع التركي، فقد لقي أكثر من 37 شخصاً مصرعهم خلال أربعة أيام في أوائل تشرين الأول/أكتوبر الماضي عندما تصدّت القوات المسلحة للاحتجاجات العنيفة والاشتباكات التي شنّها الأكراد، إلى جانب داعميهم من المعسكرات اليسارية وخصوم أردوغان، بسبب التردّد في دعم الأكراد ضد داعش في كوباني. واعلن عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، أنه إذا سقطت كوباني فسوف تلغى كل محادثات السلام بين تركيا والأكراد، وحذر من تمرد عسكري كردي جديد. وأضافت مساهمة جماعات كردية أكثر محافظة دينياً وأكثر راديكالية - مثل حزب "هودا بار" وحزب التحرير الشعبي الثوري - في احتجاجات، مزيدًا من المخاوف حول العودة إلى العنف وتضاعف شعبية الحركات الكردية الانفصالية.
تواجه تركيا مجموعة من التحديات في السياسات فيما تشير كل الخيارات باتجاه التدخل على نطاق أوسع في سورية. سواء عمدت حكومة أردوغان إلى تليين موقفها المتشدّد من الأسد، أو أبدت تعاوناً أكبر مع الولايات المتحدة في السياسات المناهضة لتنظيم الدولة الإسلامية، أو تشدّدت في موقفها عبر رفض التعاون مع الأكراد ومواصلة دعم المعارضة التي تتألف في أكثريتها من السنّة في سورية، قد تحشد بعض شرائح المجتمع حولها فيما تثير أكثر فأكثر نفور شرائح أخرى. لقد تسبّبت الأزمة في سورية برفع الرهانات بالنسبة إلى جميع الأفرقاء المحليين في تركيا، وبالتالي تأجيج الخصومات القديمة، الأمر الذي قد يؤدّي إلى انهيار مرحلة الاستقرار الأكبر في التاريخ التركي الحديث.
لورن ويليامز صحافية مستقلة مقيمة في بيروت واسطنبول. كانت سابقاً المسؤولة عن شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في صحيفة "ديلي ستار" في بيروت.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.