المصدر: Getty
مقال

مقال مصوّر:عالقون في ليبيا في طريقهم إلى أوروبا

المهاجرون الأفارقة الموقوفون في ليبيا عالقون في أزمة إنسانية بسبب قصور المساعدات وتردّي ظروف الاحتجاز.

 طوم وستكوت
نشرت في ٨ سبتمبر ٢٠١٥

لطالما كانت ليبيا محطة انطلاق للمهاجرين اليائسين - وعدد كبير منهم ينتمي إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء التي مزّقتها الحروب - الذين يأملون في الوصول إلى الشواطئ الأوروبية. منذ إطاحة معمر القذافي وغرق ليبيا في الفوضى، سجّلت أعداد المهاجرين زيادة كبيرة في خضم الفراغ الأمني. لقي أكثر من ألفَي مهاجر مصرعهم خلال العام الجاري لدى محاولتهم عبور المتوسط، بحسب تقديرات المنظمة الدولية للهجرة، وذلك بالاستناد فقط إلى المراكب والجثث التي تم العثور عليها. ومن يتم إيقافهم في ليبيا يُرسَلون إلى مراكز الاحتجاز المكتظة أصلاً، ويصبحون جزءاً من الأزمة الإنسانية المتفاقمة في البلاد.

في مركز الاحتجاز في طريق السكة وسط طرابلس، جلس مئات الرجال في موقف للسيارات تحت أشعة الشمس الحارقة في منتصف النهار في 24 أيار/مايو، 2015. يقول كوشين من الصومال:1 "نحن هنا منذ ساعات، نرجوكم أن تساعدونا. يجب أن تروا أين ننام، هذا مريع. ننام واقفين، ثم نُترَك للجلوس تحت أشعة الشمس طوال النهار". يصرّ أحد الحراس على أن الرجال أُخرِجوا للتو من المركز وقُدِّم إليهم طعام الفطور. ويتوجّه حارس آخر نحوهم حاملاً رزمة تحتوي على تسع قنانٍ من مياه الشرب سعة نصف ليتر. يصرخ "من يريد ماء؟" وهو يحمل إحدى القناني في يده. تمتد أيادٍ كثيرة نحوه، فيقذف الحارس القناني التي تلتقطها قلّة محظوظة. أما الباقون فيعودون أدراجهم من دون ماء.

عدد كبير من هؤلاء الرجال كان بين الستمئة الذين أوقفهم جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية قبل بضعة أيام في مبنى في حي أبو سليم في طرابلس. يشرح المتحدث باسم مركز الاحتجاز في طريق السكة، الملازم أبو ناصر عزام، أن المبنى هو بمثابة منزل مؤقت يقيم فيه الأشخاص الذين دفعوا للمهرّبين من أجل حجز أماكن لهم على القوارب المتّجهة إلى أوروبا. وقد حصل تبادل لإطلاق النار بين العناصر الأمنيين والمسلّحين الستّة المولجين حراسة المبنى، والذين حاولوا منع إخراج المهاجرين بالقوة من المكان. قال عزام: "لحسن الحظ، لم نبلغ بعد مرحلة المواجهة مع مجموعات مسلّحة كبيرة". وقد تعرّض العديد من المهاجرين لإصابات في الساقَين والعمود الفقري بعد محاولتهم الهروب عبر القفز من الطوابق العلوية للمبنى، وزعم أحد المعتقلين أن العديد من المهاجرين لقوا مصرعهم خلال عملية الفرار.

يُظهر وجود مثل هذه المساكن درجة التنظيم التي بلغتها عصابات تهريب الأشخاص في ليبيا. قال عزام: "كان المبنى مجهّزاً جيداً لمئات الأشخاص، مع مكان مخصص لإجراء الاتصالات الدولية، وحتى متجر حيث يستطيع المهاجرون شراء المواد الغذائية والسجائر". عندما يدفع الراغبون في الهجرة الرسوم ويُنقَلون إلى تلك المنازل، لايُسمَح لهم بمغادرتها، لذلك يجب تأمين كل مايلزم لهم. من الأغراض التي تمت مصادرتها من المبنى في أبو سليم جهاز كمبيوتر وجهاز لتلقّي إشارة "واي ماكس" (شبكة الإنترنت في ليبيا)، وأجهزة خاصة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، و11 هاتفاً خلوياً متّصلاً بالأقمار الصناعية. (في الأعوام الأخيرة، أصبح "ربابنة" المراكب هم أنفسهم من المهاجرين ومعظمهم لايملكون خبرة بحرية، لكن منصبهم يتيح لهم الحصول على هاتف متّصل بالأقمار الصناعية، ورقم خفر السواحل الإيطالي.)

ومن الأغراض الأخرى أحزمة جلدية أو مطرّزة وقميص منزلي الصنع مع عبارات عربية تعويذية مكتوبة عليه بواسطة القلم الخطّاط (ماركر). يعتقد المهاجرون إلى أوروبا أن هذه التعويذات تؤمّن لهم الحماية خلال الرحلة المحفوفة بالمخاطر - وهو بديل بائس عن سترات النجاة التي تشكّل حاجة ماسّة في هذه الحالات. يقول العقيد محمد أبو بريدا، نائب رئيس جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية: "يعتقدون أن هذه الأشياء تحميهم من الغرق أو تساعدهم إذا غرق المركب". يدرك معظم المهاجرين جيداً المخاطر المترتبة عن الإبحار من ليبيا على متن زوارق منفوخة هوائياً ومكتظة أو قوارب صيد خشبية غير مجهّزة كما يجب. كان باتريك، 27 عاماً، من جمهورية الكونغو الديمقراطية، يقف في غرفة مع أكثر من مئة رجل آخر في مركز الاحتجاز، وقد أرانا قميصه الأبيض وعليه عناوين بريد إلكتروني وأرقام هاتف. يشرح باتريك: "هذه عناوين وأرقام أفراد عائلتي وبعض الأشخاص الذين أعرفهم هنا في ليبيا" مضيفاً: "إذا لقيت حتفي وجُرِفت جثتي إلى شاطئ ما، على الأقل هناك فرصة بأن تعلم عائلتي بما جرى لي".

تُجري دائرة الهجرة تحقيقات مستمرة في التجارة المربحة وغير الشرعية لتهريب الأشخاص في ليبيا، والتي كانت المداهمة في حي أبو سليم جزءاً منها. لكن نجاح هذه التحقيقات يبقى محدوداً، ويعاني جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية من إرهاقه بالمهام والأعباء والنقص في التمويل. لاتزال إحدى مهامه الأساسية توقيف المهاجرين الذين لايملكون الأوراق الثبوتية اللازمة التي تسمح لهم بالتواجد في ليبيا، ثم نقلهم إلى أحد مراكز الاحتجاز المعروفة باكتظاظها الدائم. يقول أبو بريدا: "في وسائل الإعلام، يصوّرون ليبيا بأنها لاتحاول حتى تحريك ساكن للمساعدة، لكننا نبذل قصارى جهدنا، وفي الواقع، هي البلد الأول المتضرّر من الهجرة غير الشرعية". واشتكى من أنه منذ اندلاع الثورة في العام 2011، أطلقت إيطاليا، وأوروبا في شكل عام، "وعوداً فارغة" بالدعم. يضيف أبو بريدا: "لايمكنني أن أجزم بأنه لم يتم تقديم المساعدة، لكنها لم تصل قط إلى هذه الإدارة. لم نتلقَّ أي مساعدة دولية. ليست ليبيا مسؤولة عن حماية الاتحاد الأوروبي من هذه المشكلة، لكن إذا حصلت على الإمكانات اللازمة والمساعدة، يمكنها أن تقدّم مساهمة أكبر بكثير. وهذا الجهاز مستعد للعمل مع أي بلد أو منظمة ترغب في المساعدة".

تستمر مراكز الاحتجاز المكتظة في استقبال مزيد من المهاجرين بصورة شبه يومية. قال حارس في أحد مراكز الاحتجاز إنهم أرغِموا أحياناً على إخلاء سبيل المهاجرين لأن الظروف سيئة جداً والموارد شحيحة - أي إنه "قرار إنساني". وقد ازداد الوضع في مراكز الاحتجاز سوءاً نظراً إلى أن القتال في طرابلس في تموز/يوليو وآب/أغسطس 2014 دفع بمعظم السفارات والمنظمات الدولية غير الحكومية إلى مغادرة ليبيا. يشرح عبد الرحمن الفيتوري، المنسّق الوطني للهيئة الطبية الدولية في ليبيا: "[المنظمتان غير الحكوميتين] الوحيدتان اللتان لاتزالان تعملان هنا هما المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والهيئة الطبية الدولية، لكنهما غير قادرتَين على تلبية القدر الكافي من الاحتياجات"، مضيفاً: "كانت وزارة الصحة تقدّم أيضاً بعض الدعم لكنها لاتملك الآن المال، ولايزال المهاجرون يأتون إلى ليبيا. نفعل ما بوسعنا، نوزّع الفرش والملاءات وأدوات النظافة الشخصية - بما في ذلك باسم المنظمة الدولية للهجرة التي تقدّم الكثير من التبرعات. لكن كل هذا ليس كافياً". يقرّ الفيتوري بأن إمكانات المنظمة الدولية للهجرة محدودة بسبب النقص في الموارد، لاسيما وأن تفويضها يشمل أيضاً مساعدة الليبيين النازحين داخلياً والذين يزيد عددهم الآن عن 434 ألفاً.

مركز الكراريم قرب مصراتة هو واحد من مراكز الاحتجاز الكثيرة حيث يُشتبَه بتعرّض المهاجرين لسوء المعاملة. فقد تعرّض ستة شبان رآهم الصحافيون بصحة جيدة عندما اعتقلهم خفر الشواطئ الليبي في أيار/مايو، لضرب مبرح في غضون أسبوع من وجودهم في المركز. وقبل شهر، التقط أحد الطواقم التلفزيونية الهولندية مشاهد يظهر فيها حارس يضرب المهاجرين بهمجية بواسطة هراوة. 

يقول محمد أحمد البغار، رئيس مركز الكراريم، إنه جرى تأديب الحارس المذكور، لكنه أقرّ بأنه يصعب على فريق عمله المؤلف من 30 إلى 40 شخصاً الحفاظ على النظام، نظراً إلى أن مركز الكراريم يضم أكثر من ألف مهاجر في أي يوم. يتشارك مئات المهاجرين منشآت وحصصاً غذائية محدودة، والتململ شديد.

يضع المهاجرون الموقوفون في مراكز الاحتجاز الرسمية في ليبيا، وعددها 20، تلهّفهم الشديد للوصول إلى أوروبا جانباً في الوقت الحالي، ولايشغلهم سوى همٌّ وحيد: الهروب من مركز الاحتجاز. قلة منهم ترغب في العودة إلى أوطانها الفقيرة التي مزّقتها الحروب في أفريقيا جنوب الصحراء. ويبدي الأشخاص استعداداً لتحمّل أقصى المشقّات ومواجهة خطر الموت فقط من أجل بلوغ الشواطئ الليبية. حتى إن كثراً يعتبرون أن السجن في مراكز الاحتجاز الأوروبية أفضل من العيش في أوطانهم. يقول بو بكر، وهو شاب في الرابعة والعشرين من العمر من إريتريا: "نحن عالقون بين الشيطان والجحيم. نحن بحاجة ماسّة إلى الخروج من هذا السجن لكن لايمكننا العودة إلى ديارنا". ويقول جيفري، 26 عاماً، الذي هرب من نيجيريا إلى ليبيا في آذار/مارس: "قتل تنظيم بوكو حرام سبعة أفراد من عائلتي، بينهم والدي ووالدتي". لكنه لايزال متمسّكاً بأحلامه، حتى وهو جالس على فراش في غرفة مظلمة حيث ينام أكثر من 140 رجلاً جنباً إلى جنب في مركز الاحتجاز. يضيف: "أحمل شهادة في إدارة الأعمال. آمل بأن أتمكّن من بناء مستقبل لي في مكان ما".

طوم وستكوت صحافية وكاتبة بريطانية مقيمة في ليبيا.

* تُرجم هذا المقال من اللغة لإانكليزية


1. بناءً على طلب المهاجرين، جرى تغيير بعض الأسماء من أجل حمايتهم.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.