المصدر: Getty
مقال

مستقبل قطاع النفط الكردستاني

تواجه حكومة إقليم كردستان تحدّيات مالية هائلة، بيد أن تدهور السمعة التي اكتسبتها في إدارتها لشؤونها يلحق أضراراً شديدة بمستقبل قطاع الطاقة في البلاد.

نشرت في ٢٩ سبتمبر ٢٠١٥

مستقبل قطاع النفط والغاز الوليد في حكومة إقليم كردستان مهدّد على ضوء التأخيرات في تسديد الدفعات، وقضايا التحكيم التي ترفعها شركات نفط وغاز دولية ضدّ حكومة الإقليم التي تواجه خطر خسارة مااكتسبته من سمعة ارتبطت بكونها تؤمّن مناخاً أكثر مؤاتاةً للأعمال بالمقارنة مع جيرانها.

تسبب استيلاء الدولة الإسلامية على الموصل في حزيران/يونيو 2014 بتداعيات مالية كبيرة جراء بغية مغادرة المستثمرين الأجانب والشركات الدولية من إقليم كردستان لأشهر عدّة،  فتحوّلت حكومة إقليم كردستان نحو بغداد لرأب الخلافات بينهما حول حقوق التصدير الخاصة بالنفط الكردستاني، وتوليد مزيد من المداخيل في نهاية المطاف. تصرّ حكومة إقليم كردستان على أنها تملك سلطة حصرية بموجب المادّتَين 112 و115 من دستور جمهورية العراق، "لإدارة النفط والغاز اللذين يتم استخراجهما في إقليم كردستان من حقول لم تكن مستثمرة قبل العام 2005" - أي تقريباً كل الحقول المستثمرة حالياً. لكن بحسب بغداد، شركة تسويق النفط الحكومية العراقية (سومو) هي الجهة الوحيدة المخوّلة بيع النفط الخام العراقي على الساحة الدولية. بعد ستة أشهر من المفاوضات، أُدرِج بندٌ في الموازنة الاتحادية العامة العراقية للسنة المالية 2015 ينصّ على أنه بإمكان حكومة إقليم كردستان تصدير 250 ألف برميل من النفط الخام كحد أدنى في اليوم عن طريق شركة "سومو" (مع العلم بأنه ليس واضحاً إذا كانت حكومة إقليم كردستان تحتفظ بحق تصدير فائض الإنتاج). في المقابل، تُحوِّل الحكومة العراقية 17 في المئة من الموازنة الوطنية إلى حكومة إقليم كردستان شهرياً. في الماضي، كانت نسبة الـ17 في المئة تشكّل نحو 95 في المئة من إيرادات حكومة إقليم كردستان.

ولكن لم يتقيّد أياً من الطرفَين بالاتفاق بشكل كامل. فحكومة إقليم كردستان لم تسلّم شركة "سومو" الكمّية المتّفق عليها بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 2015 - متوقّعةً تعويض الإنتاج في مرحلة لاحقة من العام الجاري - لكنها طالبت حكومة بغداد بأن تسدّد لها مسبقاً المبلغ كاملاً. كما أن "سومو" لم تتوخَّ الشفافية في الإبلاغ عن مجموع النفط الخام الذي تم تسليمه وبيعه في العراق، والذي يتبدّل من شهر إلى آخر ويؤثّر في الموازنة الشهرية النسبية لحكومة إقليم كردستان. ففي أيار/مايو 2015 مثلاً، لم تحصل حكومة إقليم كردستان سوى على 508 مليارات دينار عراقي (450 مليون دولار أميركي)، أي نصف نسبة الـ17 في المئة التي يُفترَض بحكومة بغداد أن تسدّدها لها. وينطبق الشيء نفسه على المحافظات الأخرى: فبحسب التقديرات، وصل المبلغ الذي تدين به حكومة بغداد لمحافظة كركوك إلى 320 مليون دولار في الفترة الممتدّة من كانون الثاني/يناير إلى أيار/مايو 2014، و750 مليون دولار عن العام 2014، مادفع بمجلس محافظة كركوك إلى تسويق نفطه عن طريق حكومة إقليم كردستان بدلاً من الحكومة الاتحادية. وهذا بدوره دفع بحكومة إقليم كردستان إلى استئناف بيع الجزء الأكبر من نفطها بطريقة مستقلة. في حزيران/يونيو الماضي، باع إقليم كردستان نحو 12 مليون برميل نفط عن طريق ميناء جيهان التركي، ولم يُسلّم شركة "سومو" سوى خمسة ملايين منها، ماسدّد ضربة قوية لمصداقية "سومو" ومكانة العراق كمصدِّر للنفط الخام.

في حين أنه لايُتوقَّع الحصول على عونٍ من بغداد، زادت الحرب مع تنظيم الدولة الإسلامية والتراجع المستمر في أسعار النفط العالمية من وطأة الأعباء المالية لحكومة إقليم كردستان. فقد تسبّب وجود أكثر من 875000 عراقي نازح داخلياً و240000 لاجئ سوري في محافظات دهوك وإربيل والسليمانية الكردية، بارتفاع الطلب المحلي على التيار الكهربائي والماء والتعليم والمواد الغذائية والخدمات الصحية. في هذا الوضع الاقتصادي الهش، يحتاج إقليم كردستان إلى أكثر من نسبة الـ17 في المئة التي تمنحه إياها حكومة بغداد كي يبقى واقفاً على قدمَيه. فهو بحاجة إلى أكثر من ثمانية مليارات دولار في السنة لدفع الرواتب فقط، ناهيك عن كلفة الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتسديد تكاليف أنشطة التنقيب عن النفط والغاز، والإنفاق العام على التنمية. علاوةً على ذلك، تزداد الأعطال في خط الأنابيب المستخدَم في تصدير النفط والغاز إلى ميناء جيهان، مايؤدّي إلى توقّفه عن العمل - مع العلم بأنه شريان الحياة الاقتصادي الوحيد الذي تملكه حكومة الإقليم - وذلك بسبب أعمال التخريب على أيدي حزب العمال الكردستاني.

لقد أثّرت هذه المشكلات إلى حد كبير في قدرة حكومة إقليم كردستان على الدفع لشركات النفط مقابل حصّتها في الإنتاج. تنص اتفاقات تقاسم الإنتاج الكردية على تخصيص حصة قدرها عشرة في المئة من مجموع النفط المنتَج، وعرض 40 في المئة من النفط الذي يتم إنتاجه على بعض المتعاقدين من أجل استرداد التكاليف. في البداية، شكّلت هذه الشروط، إلى جانب الاحتياطي الكردستاني، عامل جذب لشركات النفط والغاز الدولية. بيد أن هذه الأعباء المالية المتزايدة تتسبّب بمأزق لمنتجي النفط الصغار المستقلّين. فقد تكبّدت شركات على غرار "جنرال إنرجي" و"دي إن أو" و"غلف كيستون" تكاليف باهظة لتأسيس أعمالها والتنقيب عن الآبار واستخراج ملايين البراميل من النفط الخام بغرض تصديرها. لكنها لم تحصل سوى على تعويضات ضئيلة جداً مقابل كل هذه الاستثمارات وهذا الإنتاج. فمنذ بدأت حكومة إقليم كردستان التنقيب عن النفط بصورة مستقلة في العام 2013، لم تدفع لهذه الشركات سوى مئة مليون دولار حتى شهر آب/أغسطس 2015، على الرغم من أن المبيعات ولّدت إيرادات بقيمة مليارات الدولارات. وقد أجازت وزارة الموارد الطبيعية تسديد 75 مليون دولار إضافية لهذه الشركات في السابع من أيلول/سبتمبر الجاري، وتعهّدت بالدفع لها على أساس شهري لتغطية نفقاتها التشغيلية، لكن لاتزال هذه المبالغ أقل بكثير من الحصص المستحقّة لهذه الشركات.

تواجه حكومة إقليم كردستان تحدّيات مالية هائلة، لكن سمعتها المتدهورة في إدارتها لشؤونها تلحق ضرراً كبيراً بمستقبل قطاع النفط في الإقليم. ترفع شركة "دانا غاز"، التي تشكّل جزءاً من اتحاد شركات "بيرل" وهي من أوائل الشركات الدولية العاملة في إقليم كردستان، دعوى تحكيم ضد حكومة إقليم كردستان على خلفية حقوق تعاقدية ودفعات مستحقّة لها. تعقد محكمة لندن للتحكيم الدولي جلسات حالياً لتحديد المبلغ المتوجّب على حكومة إقليم كردستان لصالح اتحاد شركات "بيرل"، بعدما أكّدت على الحقوق التعاقدية للاتحاد المذكور في حزيران/يونيو الماضي. وتترقّب شركات التنقيب والتجارة الدولية التي أظهرت حتى الآن تعاوناً وصبراً في التعامل مع تأخّر حكومة إقليم كردستان في الدفع، ردّ الفعل الذي ستُظهره حكومة الإقليم. فمن شأن صدور قرار عن المحكمة يطلب من حكومة إقليم كردستان تسديد كامل الدفعات المستحقّة، أن يدفع بمشغّلين آخرين في المنطقة إلى فتح قضاياهم الخاصة. منذ انطلاقة قضية اتحاد شركات "بيرل"، أوقفت حكومة إقليم كردستان عمليات التوسّع والتنقيب في الحقول حيث تعمل شركة "دانا غاز"، كما أنها أوقفت كل الدفعات لشركاء "بيرل". ومن شأن رفضها المرجَّح للأحكام التي ستصدر عن التحكيم الدولي أن يوجّه إشارات سلبية إلى جميع الأطراف في القطاع النفطي في إقليم كردستان - بما في ذلك شركات التنقيب، وشركات الخدمات، وشركات التجارة النفطية - بالإضافة إلى المستثمرين في قطاعات أخرى الذين يشعرون أيضاً بالتوتّر. ثقة المستثمرين على المحك، ليس فقط ثقتهم بوزارة الموارد الطبيعية، إنما أيضاً بحكومة إقليم كردستان والاقتصاد الكردي في شكل عام.

يقتصر نشاط بعض الشركات الدولية الكبرى، على غرار "إكسون" و"شيفرون" و"توتال"، حتى الآن على التنقيب عن النفط، وبالتالي لم تتأثّر هذه الشركات بآلية الدفع غير الموثوقة التي تعتمدها حكومة إقليم كردستان على أساس تقاسم الإنتاج. بإمكانها تحمُّل التأخيرات في الدفع نظراً إلى وفرة مواردها المالية، في حال كانت تتوقّع من حكومة إقليم كردستان دفع المستحقّات للمشغّلين في نهاية المطاف. لكن مع الهبوط في أسعار النفط، من المستبعد أن تنتقل هذه الشركات إلى الإنتاج إذا لم تكن واثقة من استرداد التكاليف. فالأوضاع السياسية لحكومة إقليم كردستان وعجز الأحزاب الكردية عن الاتفاق على رئيس - فضلاً عن التشنّجات في العلاقة مع بغداد، والتهديد من الدولة الإسلامية، وحالة عدم الاستقرار في جنوب تركيا التي تهدّد الصادرات الكردية عن طريق ميناء جيهان - سوف تدفع قريباً بشركات النفط إلى البحث عن فرص أخرى في الجوار. وقد باعت بعض الشركات الأصغر حجماً نفطها الخام إلى مصافٍ إيرانية تملك قدرات إنتاجية أكبر بالمقارنة مع المشغّلين الأكراد. فمنذ توقيع الاتفاق النووي الإيراني، تتطلع الشركات النفطية الآن إلى إيران وماتحمله من وعود بصفقات مربحة وتنافسية، إلى جانب الطاقات الهائلة لصناعة النفط الإيرانية.

حكومة إقليم كردستان في موقع هش وخطر. عليها أن تستمر في توظيف مواردها لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وتسديد رواتب موظّفي القطاع العام، وتأمين المساعدات للاجئين والنازحين داخلياً ولشعبها أيضاً. لكن لايمكنها أن تستمر في تعريض صادراتها النفطية للخطر في خضم الهبوط في أسعار النفط العالمية، وذلك عبر إبعاد شركات النفط الدولية ودفعها نحو مغادرة البلاد. طوال عقد، كانت الميزة التنافسية لإقليم كردستان تتمثّل في حكومته المستقرة والموالية للغرب التي تقدّم شروطاً مالية جاذبة. إلا أن سوء إدارة الحكومة لالتزاماتها بموجب الاتفاقات التعاقدية، وعدم تعاطيها بالأسلوب المناسب من أجل تسوية الخلافات مع الشركات النفطية سوف يُعرّضان مستقبل القطاع النفطي في إقليم كردستان للخطر - ومعه الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الإقليم.

   

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.