برز الأردن، خلال الأعوام العشرين الماضية، بمثابة حلقة أساسية في سلسلة التوريد العالمية في قطاع الألبسة الذي يوظّف أكثر من ستين ألف عامل في البلاد. نحو سبعين في المئة من العاملين في قطاع الألبسة في المملكة هم من العاملات الأجنبيات من بلدان جنوب آسيا مثل بنغلاديش وسري لانكا ونيبال. لكن فيما يطبّق الأردن قوانين عمل مؤاتية نسبياً بالمقارنة مع القوانين في المنطقة، لا يزال عدد كبير من هؤلاء العمّال المهاجرين يعاني من الهشاشة قانونياً واقتصادياً.
لقد ساهم برنامج التحرير الاقتصادي الذي وضعه الملك عبدالله الثاني، والذي شهد على توسيع التجارة الدولية وإنشاء مناطق اقتصادية خاصة لتعزيز النمو القائم على الصادرات، في ازدهار صناعة الألبسة التي تبلغ قيمة صادراتها إلى الولايات المتحدة 1.3 مليار دولار، وتشكّل نحو عشرين في المئة من إجمالي الناتج المحلي في البلاد. يُنتِج أكثر من 75 مصنعاً للألبسة موزّعة على 14 منطقة مصنّفة صناعية في مختلف أنحاء الأردن، بضائع لتجّار التجزئة في العالم. تُفيد الملابس التي يتم تصنيعها في الأردن من الإعفاء من الرسوم الجمركية لدى دخولها السوق الأميركية، وهذه ميزةٌ تجارية تنافسية تجعل من الأردن وجهة جاذبة في قطاع تصنيع الألبسة.
لكن على الرغم من معدل البطالة المرتفع في الأردن (بلغ رسمياً 15.8 في المئة في العام 2016، وتشير التقديرات إلى أنه يصل إلى 28 في المئة في صفوف الشباب)، ومن اشتراط أن تكون نسبة ثلاثين في المئة من القوة العاملة في قطاع الألبسة مؤلّفة من الأردنيين، يجد هذا القطاع صعوبة في استقطاب العمّال الأردنيين. فبين العامَين 2011 و2013 مثلاً، كان قطاع الألبسة الأردني بحاجة إلى أكثر من 19000 عامل جديد لتلبية الطلبات الإنتاجية، إلا أنه لم يتلقَّ سوى أربعة آلاف طلب تقريباً، بحسب دراسة صادرة عن المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية. نظراً إلى هذه الثغرة، اعتمد الأردن على العمالة الأجنبية من أجل تأمين استمرارية قطاع الألبسة.
يقدّم الأردن للعمال المهاجرين شروطاً أفضل بالمقارنة مع وجهات دولية أخرى. من الأسباب خلف نجاح المملكة في استقطاب مصنّعي الألبسة اعتمادها معايير أفضل في العمل. لقد أثنى مالكو مصانع وعمّال في مقابلات أجريناها معهم في منطقة الحسن الصناعية في محافظة إربد، على الأردن معتبرين أنه يشكّل نموذجاً يُحتذى في صناعة الألبسة العالمية، كونه يمنح العمال ضمانات قانونية أقوى بالمقارنة مع بنغلاديش أو فيتنام اللتَين تُعتبِران من كبار مصنّعي الألبسة. يُحدّد الأردن السن الأدنى للعمل بـ16 عاماً بموجب قانون العمل، كما يُحدّد ساعات العمل اليومية بست ساعات أو أقل في حالة العمّال الصغار في السن. ويفرض أيضاً حدوداً على عدد مواقع العمل المسموح بها على مقربة من البيئات المحفوفة بالمخاطر، ويعتبر السخرة والعمل القسري جريمة. وكذلك يفرض قانون العمل الأردني إبرام عقد توظيف بالتراضي، ويتيح للعمّال إنهاء التوظيف مع تقاضي أتعابهم في حال اعتدى عليهم صاحب العمل أو عمد إلى تغيير شروط التوظيف أو طبيعته. بموجب القانون الأردني لمنع الاتجار بالبشر، يُحظَر صراحةً توظيف العمال أو استغلالهم عن طريق "التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر"، أو إرغام الموظف على القيام بعمل من خارج نطاق مهامه المعهودة. فضلاً عن ذلك، يُعفى المهاجرون من "الرسوم غير المأذون بها" في التوظيف، وهذه حماية محورية تساهم في كبح الممارسة المنتشرة على نطاق واسع التي تقوم على إثقال كاهل العمّال المهاجرين بالأعباء المادّية في بلدانهم الأم.
تُضاف إلى ذلك الموجبات المترتبة على الأردن انسجاماً مع التزاماته القانونية الدولية. في العام 2009، صادق الأردن على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية التي تتضمن بروتوكولَين لمكافحة الاتجار بالبشر، وتُعتبَر من أبرز الوثائق العالمية لمكافحة تهريب العمال المهاجرين عبر الحدود الدولية. وكذلك صادق الأردن على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الذي تنص مادّته السابعة على حماية "حق الجميع في التمتع بظروف عمل عادلة ومؤاتية". كما تنص المادة السادسة على أنه للعامل الحق في اختيار عمله بحرية، ما يعزز أكثر فأكثر المسؤولية الملقاة على عاتق الأردن بمنع الاتجار بالبشر في آلية توظيف العمال الأجانب. علاوةً على ذلك، يحظر العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية السخرة.
في كانون الأول/ديسمبر 2015، وبمساعدة من منظمة العمل الدولية، نجح عمّال قطاع الألبسة الأردني أيضاً في ممارسة ضغوط من أجل الحصول على عقد عمل موحّد. تلفت ديالى العامري، نائبة المدير التنفيذي لمركز تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان في عمان، إلى أن: "عمّالاً كثراً قالوا إنهم يوقّعون في بلدانهم عقود توظيف تشمل بعض الحقوق مثل الطعام والسكن والرعاية الصحية، وعندما يصلون إلى الأردن، تعمد إدارات المصانع إلى مصادرة هذه العقود ثم ترغمهم على توقيع عقود مختلفة مع أجور أقل من تلك المنصوص عليها في العقود الأولى". لقد فرض العقد الموحّد الجديد معايير واحدة ومتطابقة في القواعد المتعلقة بالتوظيف ومكان العمل، ما يحدّ من إمكانية التباينات في التوظيف بين البلدان المختلفة. بموجب العقد الجديد، بات من الأصعب على أصحاب العمل تبديل العقود أو إبرام عقود بلغات لا يفهمها العمال المهاجرون.
لكن نظراً إلى ما تعاني منه هيكلية العمالة المهاجِرة من هشاشة، فإن تدابير الحماية على الورق لا تُترجَم دائماً ضمانات عملية بالنسبة إلى عدد كبير من العمال. فسرقة رواتب العمال، وترحيلهم قسراً، وعدم تسديد أتعابهم عن ساعات العمل الإضافية، كلها ممارسات تستمر في إطار انتهاكات أوسع لتنظيمات العمل في المصانع، ما يتسبّب بتلطيخ سمعة المملكة. فضلاً عن ذلك، اشتكى نحو نصف العمال المهاجرين من تعرّضهم للإساءة الكلامية في مكان العمل، وفقاً لتقرير صادر عن برنامج "عمل أفضل/الأردن" في العام 2013. وفي العام 2011، تعرّضت شركة الأزياء التقليدية لصناعة الألبسة في الأردن لخضّة على خلفية اتهامات عن حالات اغتصاب، ما دفع بالتجّار الأميركيين إلى إلغاء طلبيات من المصنع وهدّد على الأرجح المكانة التجارية التفضيلية التي تتمتع بها البلاد لدى الولايات المتحدة. على الرغم من أن المصانع تخضع للتقويمات التي يضعها برنامج "عمل أفضل/الأردن"، وهي مبادرة أُطلِقَت في إطار شراكة بين مؤسسة التمويل الدولية ومنظمة العمل الدولية، إلا أن الانتهاكات لتنظيمات العمل قد تستمر إلا إذا هدّد التجّار بإلغاء الطلبيات.
يعاني المهاجرون من الهشاشة على وجه الخصوص في ما يتعلق بوضعهم القانوني في العمل. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن العمّال المهاجرين في الأردن لا يرتبطون رسمياً بكفيل كما هو الحال بموجب نظام الكفالة المثير للجدل في بلدان الخليج، إلا أنهم يبقون معرَّضين للهشاشة قانونياً في حال أقدموا على تعديل شروط توظيفهم أو على إنهاء هذا التوظيف قبل انتهاء مدة عقد العمل، نظراً إلى أن الإقامة وتصاريح العمل متوقّفة على وضعهم الوظيفي. هذا الواقع يمنح المستخدِمين صلاحيات مفرطة على العمّال، بما في ذلك القدرة على تبليغ الشرطة عن العمال "غير القانونيين"، ما قد يجعلهم عرضة للترحيل، بحسب العامري من مركز تمكين.
العدالة صعبة التحقيق أيضاً في حال حجز جوازات السفر. بين العامَين 2013 و2014، تم حجز جوازات السفر العائدة إلى نحو 90 في المئة من العمّال الأجانب في شركة معجزة العصر للألبسة، وهو تصرّف غير قانوني بموجب المادة 18 من القانون الأردني الخاص بجوازات السفر. فحجز الجوازات يحول دون تمكّن العمال من مغادرة البلاد – ما يندرج في إطار الاتجار بالبشر، بحسب معهد العمل العالمي وحقوق الإنسان. تضيف العامري: "عملياً، يفقد العامل حقّه في مزاولة حياة طبيعية عندما لا يكون جواز سفره بحوزته، لأنه لا يستطيع أن يقدّم إثباتاً عن هويته، ما يحرمه من شخصيته القانونية ويجعله يواجه صعوبة في اللجوء إلى التعويض القانوني عند المطالبة بحقوقه".
كما أن التنظيمات المرعية الإجراء في الأردن حول عمل المهاجرين لا تذكر بوضوح كيف يستطيع العمال الانتقال للعمل لدى مستخدِم آخر. تقول العامري: "لا يُسمَح لعمال المناطق المصنّفة صناعية الانتقال للعمل في أي مجال آخر، وصاحب العمل مسؤول عن عودة العمال إلى ديارهم عند انتهاء عقد العمل أو لدى إنهائه بصورة قانونية". في غياب الآلية التي تتيح للعامل أن ينتقل للعمل لدى مستِخدم آخر، تنتهك المصانع الأردنية العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
تعطّل عوائق إضافية عديدة قدرة العامل على الوصول إلى الحمايات القانونية: عدم اطّلاعه على نظم قانونية أجنبية، وعدم التبليغ (أو الاعتماد بدلاً من ذلك على النظم القانونية في بلده الأم حيث سيادة القانون غير محميّة)، والخوف من الترحيل في حال أقدم بنفسه على التبليغ عن عدم امتلاكه جواز سفر أو عقد عمل. وبما أن تسعين في المئة من المهاجرين العاملين في قطاع الألبسة الأردني يرسلون تحويلات مالية إلى ديارهم، يتردّد معظم العمال في خسارة مصدر دخلهم.
هذا فضلاً عن أن عبودية الدَّين في آلية التوظيف تجعل العمّال المهاجرين عرضةً للوقوع ضحية الاتجار بالبشر. بموجب عبودية الدين، يسدّد المهاجرون رسوم التوظيف في بلدانهم الأم من خلال عملهم، وغالباً ما يتم ذلك على امتداد فترة زمنية مطوّلة ومن دون تحديد تاريخ واضح لانتهاء التسديد. يُفرَض على العمال الهنود والسريلانكيين تسديد رسوم توظيف باهظة في بلدانهم الأم. في بعض الحالات، يُضطر العمال إلى بيع أملاكهم، أو دفع كامل مدّخراتهم، أو اقتراض المال أملاً في التعويض عن خسائرهم بعد تقاضي رواتبهم الأولى في الخارج.
على الرغم من أن الأردن أقرّ سياسات لمنع تقاضي رسوم التوظيف، غالباً ما يصل المهاجرون مع ديون كبيرة، وقد يزداد هذا الوضع سوءاً في الأردن في حال لم تدفع لهم مصانع الألبسة رواتبهم في الوقت المحدد، أو تؤمّن لهم التعويضات المناسبة. وهكذا يصبح عدد كبير من العمال المهاجرين أسير العمل بالسخرة، ويبقى مديناً لوكالات التوظيف في البلدان الأم. تفادياً لهذا الوضع، يُطلَب من العمّال والمستخدِمين على السواء في الأردن توقيع مستند يصرّحون فيه أنهم لم يدفعوا أو يتقاضوا رسوماً للحصول على عمل في مصانع الألبسة. في حين أن هذه القاعدة تحدّ إلى درجة كبيرة من تعرّض المهاجرين للعمل بالسخرة، لا يزال العمّال المهاجرون في الأردن يواجهون إمكانية إرغامهم على تسديد رسوم توظيف مرتفعة قبل قدومهم إلى البلاد، إذ يخشى كثرٌ منهم أن يخسروا وظيفتهم في حال اكتشف القيّمون على المصنع انتهاكهم لقاعدة أساسية في التوظيف. لا تطبّق نحو نصف مصانع الألبسة في الأردن السياسات الداخلية الأردنية حول التوظيف العادل والمنصف، كما ورد في تقرير صادر عن برنامج "عمل أفضل/الأردن" للعام 2016.
يشكّل تطبيق هذه القوانين تحدّياً كبيراً بالنسبة إلى الأردن نظراً إلى الطبيعة المعولمة لآلية التوظيف. صحيح أنه للمملكة منظومة قوانين جديرة بالثناء الهدف منها حماية العمّال، إلا أنها عاجزة عن ضبط الممارسات التي تبدأ في البلدان الأم التي يأتي منها العمّال. في الواقع، في غياب الدعم أو الضغوط من البلدان المرسِلة لهؤلاء العمال أو من التجار الدوليين، لن يتمكّن أي بلد مضيف على الأرجح من ضمان حقوق العمال بنفسه. بيد أن عمل الأردن المستمر على تعزيز الإطار القانوني يؤشّر على ما يبدو إلى توافر الإرادة السياسية لمواصلة تحسين ظروف العمل بالنسبة إلى العمّال المهاجرين القادمين من مختلف أنحاء العالم. نتيجةً لذلك، غالب الظن أن الأردن سيبقى وجهةً مفضّلة للمهاجرين من أصقاع العالم، ومصدراً مستمراً للتحويلات التي تصل قيمتها إلى ملايين الدولارات في الاقتصاد العالمي.
سابرينا توبا صحافية وزميلة إعلامية في برنامج "بانوس جنوب آسيا" حول عمالة المهاجرين للعام 2016. لمتابعتها عبر تويتر: SabrinaToppa@