يتعرّض المجتمع الأهلي في مصر لموجة قمع غير مسبوقة. لا تستهدف الحكومة فقط المنظمات غير الحكومية التي أدّت دوراً حيوياً في توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، بل يبدو أن الدولة تحاول أيضاً إسكات المجتمع الأهلي بمختلف أطيافه تقريباً، أو إخضاعه، بما في ذلك النشطاء من مختلف الانتماءات السياسية، والمبادرات الثقافية، ووسائل الإعلام المستقلة، والمنظمات النسوية، والجمعيات النوبية، وحتى فضاءات العمل المشتركة أو المقاهي حيث يلتقي الشباب.
يفرض قانون خاص بالجمعيات الأهلية جرى إعداده سراً وأقرّه مجلس النواب في 15 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، على هذه الجمعيات والمؤسسات العمل "وفقاً لخطة الدولة"، ويمنح الأجهزة الأمنية إشرافاً فعلياً على عمل هذه الجمعيات وتمويلها. كذلك تحظر المادة 14 في القانون مزاولة مجموعة من الأنشطة ذات تعريف واسع "يترتب عليها الإخلال بالوحدة الوطنية أو الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة"، كما يحظر "إجراء الأبحاث الميدانية" أو التنسيق مع أي "جهة أجنبية"، من دون إبلاغ جهاز التنسيق.
يشكّل هذا القانون الجديد التصعيد الأحدث في حملة القمع. في أواخر العام 2011، داهمت القوى الأمنية المسلّحة المكاتب العائدة لأربع منظمات أهلية أميركية ومنظمة ألمانية وعدد من المنظمات المصرية. وصادرت معدّات ومستندات ومئات آلاف الدولارات. وفي حزيران/يونيو 2013، أُدين 43 موظفاً في منظمات غير حكومية، منهم 16 مواطناً أميركياً، بتهمة تشغيل منظمات غير قانونية وقبول تمويل أجنبي غير مشروع، ما تسبّب بأزمة كبيرة في العلاقات الأميركية-المصرية.
منظمة أهلية في المنيا تعرض رقم تسجيلها على لافتتها كي تثبت للرأي العام أنها قانونية وشرعية. تصوير ساره المصري، 3 كانون الثاني/يناير 2017.
بعد هذا الهجوم على المنظمات الدولية، جاء دور المنظمات والجمعيات الأهلية المصرية. تقريباً جميع قادة الجمعيات الحقوقية المصرية فُرِض عليهم حظر سفر، أو جُمِّدت أصولهم، أو جرى استدعاؤهم لاستجوابهم بطريقة غير رسمية وتعرَّض بعضهم للاعتقال. اعتُقِلت عزة سليمان، مديرة مؤسسة قضايا المرأة المصرية، في السابع من كانون الأول/ديسمبر الماضي. قبل الاعتقال، جُمِّدت أصولها عندما حاولت السفر إلى الأردن في تشرين الثاني/نوفمبر. وقد عمدت محكمة جنايات القاهرة، في إطار المحاكمات ضد المنظمات غير الحكومية، إلى تجميد الأصول العائدة لعددٍ من مديري الجمعيات والمنظمات، منهم حسام بهجت من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وجمال عيد من الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وبهي الدين حسن من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومحمد لطفي، مدير المفوضية المصرية للحقوق والحريات. وتطول القائمة. لقد استهدفت السلطات في شكل خاص الشخصيات المرموقة، غير أن عدداً كبيراً من الأعضاء العاديين في المنظمات والجمعيات الحقوقية خسروا وظائفهم، نظراً إلى اضطرارها إلى تقليص حجمها أو الإغلاق بسبب تجميد الأصول. كانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية توظّف، في مرحلة الذروة، نحو ثمانين شخصاً في مختلف أنحاء البلاد، أما الآن فتضم نحو ثلاثين موظفاً بدوام كامل.
تبذل المنظمات الحقوقية الريادية في القاهرة قصارى جهدها كي تُبقي أبوابها مفتوحة. خارج العاصمة الوضع أشد سوءاً بعد. فالفروع التي أنشأها عدد من هذه المنظمات في الإسكندرية وصعيد مصر أُغلِقت كلها تقريباً. لقد عمدت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى إغلاق مكتبها في الأقصر في العام 2014 خوفاً على سلامة موظفيها وبسبب نقص الأموال. وعلّق المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي أسّسه خالد علي الذي هو على الأرجح محامي العمل الأبرز في البلاد، أنشطته في الإسكندرية وأسوان. وأغلق مكتب أسوان التابع لمركز هشام مبارك للقانون أبوابه في مطلع شهر كانون الثاني/يناير الجاري بعد عشرين عاماً من العمل.
يتجلّى التأثير الأكبر للقمع خارج القاهرة حيث جمعيات حقوق الإنسان أصغر حجماً، وبالتالي أكثر هشاشة. في المدن أو البلدات الأصغر، تستطيع السلطات بسهولة أن تستهدف المنظمات الحقوقية، فقد تكون هناك منظمة واحدة في محافظة بكاملها، وعندما تغلق أبوابها، لا يبقى هناك أي منظمة أو جمعية. وكذلك تجد المحافظات الحدودية – مثل أسوان وسيناء ومطروح – نفسها مضطرة إلى التعامل مع طبقة إضافية من البيروقراطية – فضلاً عن البيروقراطية الحكومية المعروفة بعدم كفاءتها التي يصطدم بها المجتمع الأهلي بكامله في مصر. فوفقاً للقانون الجديد، ينبغي على جميع المنظمات والجمعيات الأهلية في هذه المناطق الحصول على تراخيص من وزارة التضامن الاجتماعي وكذلك من المحافظين الذين هم جميعهم تقريباً من العسكر. حتى عندما تنجح المنظمات غير الحكومية في الحصول على جميع التراخيص اللازمة، يمكن أن يرفض المحافظون تحرير الأموال المخصصة لها – والتي يجب أن تمرّ عبر وزارة التضامن الاجتماعي. أصبح أحد المسؤولين في أسوان ذائع الصيت لمنعه تحويل الأموال إلى الجمعيات الأهلية إلى درجة أنه بات يُلقَّب بـ"السد العالي".
لدى بعض المناطق خارج القاهرة، لا سيما صعيد مصر، تركّزات أعلى من الأقليات (تضم المنيا وأسيوط أعداداً كبيرة من المسيحيين الأقباط، وفي أسوان شريحة كبيرة من النوبيين) سيصبح وصولها إلى المساعدة القانونية محدوداً في حال إغلاق الجمعيات الأهلية المحلية. لقد تفاقم التمييز ضد سكّان صعيد مصر مع استفحال أوجه اللامساواة بين المدن والأرياف بسبب التضييق الحكومي. فالقمع الذي تمارسه الدولة على أعلى المستويات يمنح الجرأة حتى للمسؤولين الأدنى رتبةً للتحرّك وسحق المجتمع الأهلي – على الرغم من عدم امتلاكهم تفويضاً للقيام بذلك. لقد روى أعضاء في إحدى المبادرات النسائية في صعيد مصر أن مسؤولاً متدنّي الرتبة في المطار منعهم من السفر من دون أي سبب واضح.
مع تضاؤل أعداد الفروع التابعة للجمعيات والمنظمات الأهلية، تتراجع أيضاً أعداد الأشخاص المتوافرين من أجل التوثيق والاستجابة عند حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان. بحسب البيانات التي جمعها موقع "ويكي ثورة"، تعرّض 41163 شخصاً للاعتقال أو صدرت مذكرات توقيف بحقهم في الأشهر الأحد عشر الأولى بعد عزل محمد مرسي في الثالث من تموز/يوليو 2013. وقد كان فرع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في الأقصر أوّل المبادرين إلى الدفاع عن السجناء والمعتقلين. على الرغم من موجة البروباغندا الحكومية وتشويه سمعة المنظمات الأهلية في وسائل الإعلام، لقيت هذه الخطوة ترحيباً من السكان. قالت صفاء يوسف، مديرة مكتب الأقصر سابقاً: "كانوا يعرفوننا، ونحن ساعدناهم". منذ إغلاق المكتب في أواخر العام 2014، لم يعد هناك منظمات في الأقصر للدفاع عن المعتقلين.
هذا فضلاً عن أن إغلاق هذه المنظمات الحقوقية يؤثّر سلباً في أنواع أخرى من منظمات المجتمع الأهلي. كان المؤتمر الدائم لعمال الإسكندرية، وهو عبارة عن ائتلاف من النقابات المستقلة في الإسكندرية، يعقد اجتماعاته في مقر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي كان يؤمّن له أيضاً الدعم القانوني. أما بعد إغلاق مكتب المركز في الإسكندرية، فقد بات على العمّال إيجاد مكان بديل لعقد اجتماعاتهم. وقد أعلن عدد من المنظمات الأهلية أنه يتجنّب الآن استخدام مصطلحات مثل "ديمقراطية" أو "مشاركة سياسية". وذكرت إحدى المجموعات في المنيا أن مديرية الشؤون الاجتماعية لم تقبل الطلب الذي تقدّمت به لتنفيذ مشروعٍ من أجل نشر التوعية حول المواطنة إلا بعدما قامت بحذف كلمة "مواطنة". حتى المجموعات التي تسعى فقط إلى دعم تطبيق القوانين التي أقرّتها الدولة تواجه صعوبات. فقد عانت مبادرتان نسائيتان تعملان في القرى حول أسيوط لتثقيف السكان عن المشكلات المحيطة بزواج القصر، الذي يحظره القانون المصري، من متاعب جمة مع السلطات إلى درجة أنهما اضطُرّتا إلى وقف نشاطهما.
على الرغم من هذه العداوة غير المسبوقة، يقول عدد كبير من المنظمات الأهلية والنشطاء المحليين الذين أجرينا مقابلات معهم إنهم لا ينوون التراجع والانسحاب. وقد واظب النشطاء النوبيون على وجه الخصوص على تنظيم تظاهرات، في تحدٍّ لقانون التظاهر الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 الذي أدّى إلى إسكات عدد كبير من المجموعات الناشطة الأخرى. وشملت هذه التحركات تنظيم معسكرات احتجاجية، وقوافل "حق العودة" التي توجّهت إلى مواطن الأجداد النوبيين، وإطلاق قناة عبر موقع يوتيوب تحت اسم "نوبا تيوب" لنشر اللغة النوبية. قال أحد المسؤولين لمجموعة من النساء النوبيات إنه لن يسمح لهن بتسجيل منظمتهن الأهلية ما دام مجلس الإدارة يتألف حصراً من النساء، فقمن بكل بساطة بضم أحد أشقائهن إلى عضوية المجلس.
علاوةً على ذلك، رفعت إحدى المنظمات الأهلية في صعيد مصر دعوى قضائية ضد وزارة التضامن الاجتماعي التي يُفترَض بها، بموجب القانون، أن ترد على طلب التسجّل الذي تتقدم به الجمعيات الأهلية في غضون ستين يوماً. بيد أن هذه المنظمات تشتكي من أن الوزارة لا ترد أبداً على طلبات التسجل، ما يتسبّب بتأخير في أنشطتها ويجعلها في حيرة من أمرها حول ما إذا كانت قادرة على العمل بصورة قانونية. لقد أصدرت لجنة فنّية توصيات مؤيّدة لموقف المنظمة الأهلية التي تنتظر الجلسة المقبلة في المحكمة.
لا يزال عدد كبير من المنظمات الأهلية والمبادرات الثقافية المحلية مستمراً في الإسكندرية وصعيد مصر. أُنشئ مركز العهد للمساعدة القانونية، وهو عبارة عن شركة محاماة، في قنا في أيار/مايو 2016. يُعنى المركز بقضايا انتهاكات حقوق الإنسان، منها الدفاع عن أربعة طلاب في جامعة أسيوط نظّموا فعاليات في حرم الجامعة حول قضية جزيرتَي تيران وصنافير. غير أن عدداً كبيراً من المنظمات المحلية يخشى أن أيامه أصبحت ربما معدودة. قال أحد المحامين المتخصصين في حقوق الإنسان في أسوان: "عندما ينتهون من المنظمات الكبيرة، سوف يبدأون بملاحقتنا".
خلال حكم حسني مبارك على امتداد ثلاثين عاماً، عانت منظمات حقوق الإنسان من المضايقات، لكنها تمكّنت من إيجاد مخارج قانونية أتاحت لها القيام بعملها عبر التسجّل بصفة شركات محاماة أو شركات محدودة المسؤولية. غير أن ذلك سيكون مستحيلاً بموجب قانون الجمعيات الأهلية الجديد في حال أقرّه الرئيس عبد الفتاح السيسي وبات ناجزاً. لقد حظي استهداف جمعيات حقوق الإنسان في القاهرة بتغطية واسعة، غير أن تضييق الخناق شيئاً فشيئاً على المجتمع الأهلي خارج العاصمة هو الذي سيؤثّر في العدد الأكبر من المصريين.
أيمي أوستن هولمز أستاذة مساعدة في علم الاجتماع ورئيسة وحدة علوم الاجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة. لمتابعتها عبر تويتر: AmyAustinHolmes@
*يستند هذا المقال إلى نقاشات مع جمعيات أهلية في العديد من المحافظات في صعيد مصر، منها المنيا وأسيوط وقنا وأسوان، فضلاً عن القاهرة والإسكندرية. إنه المقال الأول في سلسلة مقالات عن قمع المجتمع الأهلي في مصر.