أخذت الحكومة السعودية على عاتقها مسؤولية إعادة إرساء التوازن في أسواق النفط العالمية ودفع أسعار النفط الخام نحو الارتفاع من جديد. منذ 30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، عندما توصّلت منظمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبيك) إلى اتفاق مع المنتجين غير المنتمين إلى المنظمة – بينهم روسيا وسلطنة عمان والمكسيك – لخفض الإنتاج، لم تمارس هذه الاستراتيجية حتى تاريخه أي تاثير مهم على أسعار النفط العالمية. والأسوأ في حالة السعودية أنها لا تملك خطة دعم لسياستها الحالية في مجال الطاقة في حال لم ترتفع الأسعار من جديد وكان مصير الاتفاق الفشل. من شأن غياب سياسة ملموسة وطويلة الأمد في قطاع الطاقة أن يكون له تأثير حاد على المبيع المتوقّع لأسهم أرامكو (الشركة الوطنية لإنتاج النفط)، في وقت لاحق هذا العام، وكذلك على الاستقرار المالي والاجتماعي للمملكة ودورها الجيوسياسي في المنطقة.
على امتداد أكثر من عشرين عاماً، تبّنى وزير البترول والثروة المعدنية السابق علي النعيمي سياسة تقوم على النأي بالنفس في أسواق النفط العالمية، بعد استخلاص العِبَر من إخفاق السعودية في الدفاع عن الأسعار التي حدّدتها أوبيك في ثمانينيات القرن الماضي. لكن جرى التخلي عن هذه السياسة مع اكتساب ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان سيطرة أكبر على السياسة الاقتصادية والنفطية في البلاد في مطلع العام 2016. فمع تعيين خالد الفالح وزيراً للبترول والثروة المعدنية في أيار/مايو 2016، تحوّلت السعودية نحو تشجيع الدول الأعضاء في منظمة أوبيك والأفرقاء غير المنتمين إلى أوبيك على السواء، على خفض الإنتاج النفطي العالمي عن طريق سلسلة من القمم والاجتماعات. تضطلع السعودية، مع تسلّم الفالح وزارة البترول، بدور قيادي وتتحمّل الوزر الأكبر في الخفوضات الإنتاجية، وهي بذلك تراهن إلى حد كبير على أن أسواق النفط ستستعيد التوازن من تلقاء نفسها، مع تراجع العرض ليتناسب مع الطلب ما يؤدّي بالتالي إلى زيادة في الأسعار لتحقق توازناً جديداً عند مستوى أعلى.
عندما تراجعت أسعار النفط في العام 2015، حمّل الخبراء السعودية مسؤولية التسبب بهذا الهبوط، متّهمين إياها بإغراق الأسواق الدولية بفائض من الإنتاج الخام. كان منتجو النفط الصخري في الولايات المتحدة على يقين من أن السعودية تسعى إلى القضاء على صناعة النفط الصخري والغاز الأميركية، التي كانت بحاجة في البداية إلى أسعار نفط مرتفعة ليكون التنقيب والتطوير ذا جدوى من الناحية المادّية. واعتبرت موسكو أن السعوديين يستخدمون أسعار النفط المنخفضة لممارسة ضغوط على روسيا على خلفية مشاركتها في الحرب السورية ودعمها لنظام الأسد. ورأى الإيرانيون في سياسة النفط السعودية تكتيكاً تشنّ المملكة من خلاله حرباً بالوكالة ضد إيران، عدوتها الأيديولوجية والجيوسياسية في الشرق الأوسط.
لكن واقع الحال هو أن السعودية كانت تؤدّي دور النأي بالنفس لا أكثر، وتلتزم بالسياسة التي لطالما انتهجتها والمتمثلة بعدم التدخل في أسواق النفط – وقد تلقّفت الهبوط في الأسعار شأنها شأن الباقين. كان فائض النفط الشديد في الأسواق واضحاً من الأرقام. فوسط الركود في الطلب العالمي على النفط، حافظت روسيا على معدلات إنتاج مرتفعة تتخطى عشرة ملايين برميل في اليوم، في حين كانت الولايات المتحدة تنتج كميات قياسية من النفط الخام والمنتجات البترولية على السواء، مع تسجيل زيادة بمعدل 13.3 في المئة في السنة في كمية البراميل المنتَجة بين العامَين 2012 و2015. لم تكن لدى السعودية سياسة كبرى أو مخطط كبير للحفاظ على الإنتاج خلال هذه المرحلة من الفائض. لم تعمد السعودية آنذاك إلى خفض الإنتاج لأنها لم ترد المجازفة بأن يُنظَر إليها بأنها تتلاعب بالسوق أو تتحكّم به. كانت مهمة النعيمي أن يجعل الملك يبدو بصورة جيدة على الساحة الدولية، وكانت سياسته النفطية تستند إلى تفادي ظهور المملكة في صورة الجهة العدوانية والمناوئة والمسيطِرة في أسواق النفط.1
على النقيض من النعيمي، يعتبر الفالح أن بإمكانه فرض النظام في أسواق النفط العالمية ورفع الأسعار من جديد. حاول الفالح خلال قمم عالمية – مثل مؤتمر CERAWeek عن الطاقة الذي نُظِّم بين السادس والعاشر من آذار/مارس 2017، أو الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في دافوس بين 17 و20 كانون الثاني/يناير 2017 – إقناع معظم الأفرقاء المعنيين في أسواق الطاقة بأنه لدى السعودية سياسة راسخة في قطاع الطاقة تسترشد بها في قيادتها لأسواق النفط. تقتضي المهمة الملقاة على عاتقه بالعمل من أجل تحقيق زيادة في الأسعار لتتمكّن السعودية من التخفيف من وطأة مشقّاتها الاقتصادية، وزيادة إيرادات الدولة لتمويل المساعي الجيوسياسية الإقليمية مثل حرب اليمن، وتخمين أسهم شركة أرامكو بسعر أعلى عند طرحها قريباً في التداول في البورصات العالمية، ما يتيح تأمين التمويل لبرنامج التحول الوطني 2020 الذي وضعته الحكومة السعودية في إطار رزمة الإصلاحات الاقتصادية التي تندرج ضمن رؤية 2030. خلال الاجتماع السنوي في دافوس في كانون الثاني/يناير الماضي، لدى سؤال الفالح حول ما إذا كانت السعودية قد وضعت خطة بديلة في حال انهيار اتفاق خفض الإنتاج أو فشله في تحقيق أي نتائج، أجاب أن السعودية ستُظهر حكماً في هذه الحالة، مرونة ومطواعية وقابلية للتكيف.2
ما هو أشد خطورةً من غياب الخطة الملموسة النظرة السعودية المغلوطة بأن المملكة هي منتِجة مرجِّحة تستطيع إملاء السلوك في الأسواق والنزعات الكبرى في الأسعار. ينطوي ذلك على مجازفة ليس فقط بالنسبة إلى الفالح، الذي يرهن مسيرته المهنية بتحقيق زيادة في الأسعار، إنما أيضاً للمملكة ككل. في المستقبل المنظور، تعتمد السعودية إلى حد كبير على الصناعة النفطية لدعم اقتصادها برمته، والذي يُتوقَّع ألا تتعدى نسبة نموه 0.4 في المئة في العام 2017، بحسب صندوق النقد الدولي. يبدو أن صنّاع السياسات السعوديين غير مدركين بأنهم لا يسيطرون على أسعار النفط، وبأنه ليس بمقدورهم السيطرة عليها. خلافاً لما يظنّه الفالح، الآلية التي يتم من خلالها تحديد أسعار النفط اليومية معقّدة للغاية ولا يمكن تفسيرها بواسطة الخفوضات في الإنتاج، حتى من قبل لاعبين كبار في هذا المجال مثل السعودية. وحدها وكالات رصد أسعار النفط، على غرار "بلاتس"، وحفنة قليلة جداً من شركات الاستيراد والتصدير والمبيع التي تشارك في آليات رصد الأسعار المتّبعة من تلك الوكالات، تُحدّد مؤشرَي "برنت" و"وسترن تكساس إنترميديت" (دبليو تي آي)، وبالتالي السعر العالمي اليومي للنفط الخام.
حاول الفالح وأعضاء آخرون في منظمة أوبيك، في مسعى يائس لزيادة أسعار النفط، إقناع المنتجين المستقلين للنفط الصخري في الولايات المتحدة بخفض الإنتاج النفطي، إنما من دون جدوى. لكن ليست السعودية وشركة أرامكو، العملاق السعودي في إنتاج النفط، في موقع يخوّلهما التنافس مع منتجي النفط الصخري الأميركيين الأصغر حجماً والأكثر مرونة. صحيح أن السعودية تُفيد من تدنّي الأكلاف عند المستوى التشغيلي ما يتيح لها تحقيق توازن في النفقات والإيرادات، إلا أنها تعوّل، في التمويل العام والتزاماتها المالية واستقرارها الاجتماعي، على أسعار ثابتة مرتفعة. في غضون ذلك، تمكّنت الشركات المنتجة للنفط الصخري من خفض أكلافها التشغيلية في الأعوام الثلاثة الماضية، ما يُتيح لها تحقيق أرباح عند مستويات الأسعار المتدنية الحالية، وتوسيع عملياتها في حال ارتفاع الأسعار. ليست لدى منتجي النفط الصخري المستقلين التزامات على مستوى التمويل العام، ويُفيدون تاريخياً من أسعار فوائد متدنّية على الإقراض ومن قدر كبير من الاستثمارات الخارجية، وتتميز موازناتهم بتحوّط جيد من خلال الاستثمارات في المشتقات المالية التي تساهم في تثبيت الأسعار التي تستطيع الشركة اعتمادها في المبيع.
تدرس السعودية تمديد الخفوضات الإنتاجية إلى ما بعد اجتماع أوبيك المقبل في أيار/مايو 2017 في مسعى عقيم لزيادة أسعار النفط. الهدف الأساسي وراء اتفاق خفض الإنتاج هو الحد من وفرة النفط العالمية، بما ينسجم مع اعتقاد الفالح غير الدقيق بأن مخزونات النفط العالمية في حالة تراجع. واقع الحال هو أن مخزونات النفط الخام أعلى من معدلاتها التاريخية، لا بل أكثر من ذلك، مخزونات المنتجات النفطية المكرّرة في تزايد أيضاً، ما يلقي بمزيد من الضغوط على أسعار النفط الخام وعلى مصانع التكرير – وهذا قطاع فرعي آخر تستثمر فيه شركة أرامكو بقوة. حتى إن المملكة قد تخسر مزيداً من المداخيل بسبب تراجع حصتها في الأسواق والضغوط المستمرة لخفض أسعار التصدير من أجل التصدّي للمنافسة الإقليمية والعالمية على السواء. من شأن الرياض أن تُفيد إلى حد كبير من اعتماد سياسة جديدة واضحة لا تُغشي بصيرتَها المصالحُ القصيرة الأمد، وتتضمن في الحد الأدنى ما هو أبعد من خطة باء.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
هادي فتح الله خبير اقتصادي ومستشار في السياسات في مجموعة NAMEA Group يركّز على الطاقة والأمن الغذائي والمخاطر السياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. زميل في معهد كورنيل للشؤون العامة، وعضو في هيئة المشكِّلين العالميين (Global Shapers Community)، إحدى مبادرات المنتدى الاقتصادي العالمي. يمكنكم متابعته عبر تويتر: @Hadi_FAO.
1. علي النعيمي، "خارج الصحراء: رحلتي من بدو رحّل إلى قلب النفط العالمي" (Out of the Desert: My Journey from Nomadic Bedouin to the Heart of Global Oil) (لندن: بنغوين، 2016).
2. المنتدى الاقتصادي العالمي، جلسة الأسئلة والأجوبة حول آفاق الطاقة العالمية، 19 كانون الثاني/يناير 2017.