لم يتعاف الريف السوداني من الجفاف والتصحر الذي بدأ في 1985، والذي تسبب في مجاعة هائلة في غرب السودان دفعت آلاف الأشخاص إلى الابتعاد نحو المراكز الحضرية قبل أن تزداد وتيرة النزوح بفعل الحرب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والاضطرابات الأمنية اللاحقة.
ظل سُّكان الريف الذي يقطنه 64 في المئة من السودانيين الذين يعملون في قطاع الزراعة والرعي الذي يستوعب 80 في المئة من القوى العاملة في السودان ويسهم بـ 32.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ظل هؤلاء السكان يكافحون التغير المناخي قبل أن تفاجئهم موجات النزوح من المدن ويلاحقهم الصراع القائم بين الجيش وقوات الدعم السريع والجماعات المتحالفة معهما ليضيفوا عبئًا جديدًا.
تعطلت أنشطة الزراعة عند نصف الأسر الريفية، وفقًا لدراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، وترتفع هذه النسبة إلى 63 في المئة في ولايتي سنار وغرب كردفان وإلى 68 في المئة في ولاية الخرطوم. وهذا ما جعل 59 في المئة من هذه الأسر تواجه انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد.
تقول الدراسة إن النزاع قاد إلى اضطرابات شديدة في التوظيف وسُبل العيش والتي بدورها أدت إلى عدم استقرار اقتصادي واسع النطاق، حيث شهدت 36.9 في المئة من الأسر الريفية تحولًا في الأنشطة المُدرة للدخل مع فقدان 15 في المئة من الأسر العمل، ونتيجة لذلك تكون الأسر التي تواجه صدمات طارئة مثل المرض معرضة للجوع نظرًا لتوجيه مواردها المالية الشحيحة للعلاج. تعيش 73 في المئة من الأسر الريفية في مساكن غير لائقة، فهي إما معرضة للانهيار في فصل الخريف أو الحرق في حال اشتعلت فيها النيران، فيما لا تحصل 32 في المئة من هذه الأسر على الكهرباء ولا تتوفر شبكة مياه عند 30 في المئة، ومعظمها تعتمد على مراحيض عبارة عن حفرة ذات أرضيات ترابية.
يفاقم انهيار العملة المحلية المتسارع والذي يرافقه تدني في القوة الشرائية معاناة سُكان الريف، بعد عدم قدرة الكثير منهم على الزراعة في الموسمين الصيفي والشتوي بسبب تمدد النزاع إلى مناطقهم، ولذلك انخفض إنتاج السودان لموسم 2023/ 2024 بنسبة 46 في المئة مقارنة بالعام الذي سبقه وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للزراعة والأغذية "الفاو". أرجعت الفاو هذا الانخفاض، بشكل أساسي، إلى تأثير الصراع على العمليات الزراعية من خلال انعدام الأمن، إضافة إلى محدودية توفر المدخلات الزراعية وارتفاع أسعارها إلى جانب توزيع الأمطار غير المنتظم وفترات الجفاف الطويلة في جنوب شرق السودان.
لا يستطيع السودان تمويل استيراد الفجوة بين إنتاج المحاصيل الذي بلغ 4.1 مليون طن وبين الاستهلاك السنوي الذي يُقدر بـ 5.5 إلى 6 ملايين طن، نظرًا لتدني إيرادات الدولة لأكثر من 80 في المئة وأولويات الحكومة في توفير العتاد الحربي وتوفيق أوضاع النازحين ودعم القطاع الصحي. على الرغم من انخفاض إنتاج المحاصيل وترك الدولة المواطنين أمام الجوع بعدم قدرتها على تمويل الفجوة والعقبات العديدة التي تضعها أمام وصول المساعدات الإنسانية، إلا قوات الدعم السريع تمنع المزارعين في ولاية الجزيرة من الحصاد وتنهب المحاصيل وآليات أكبر مشروع زراعي مروي.
يؤدي تدمير المحاصيل ونهبها من قبل الدعم السريع ونفوق المواشي من غارات الطيران الحربي، إلى نزوح مزيد من الأسر، لتواجه مصيرًا قاسيًا قد لا تستطيع معه تلبية أدنى احتياجاتها، وهذا يدفع أفرادها للانضمام إلى الجماعات المسلحة بما في ذلك الأطفال، أو يدفعهم للنشاط في مجال النهب المسلح الذي بدأ يتوسع نطاقه ليشمل مناطق جديدة مثل ولاية الجزيرة المجاورة للعاصمة الخرطوم. لاحظت الفاو أن النزاع حَد من تحركات القطعان وقَيد الوصول إلى موارد الرعي، وبما أن الحرب بدأت تنتقل إلى ما يشبه الصراعات القبلية بعد تعدد أطرافها، يتوقع أن يوقف ذلك تنقلات الرعُاة في دارفور وكردفان والجزيرة إلى المراعي الطبيعية مع هطول الأمطار في يونيو/ حزيران المقبل، ما يجعلهم يحتكون مع المزارعين ولا يستبعد أن يتحول هذا الاحتكاك إلى اقتتال عنيف.
لا شك أن توقف تنقلات القطيع وتعطل التحصين يؤدي إلى تفشي الأمراض، ما يجعل نفوق القطعان أمرًا حتميًا. ولهذا كله، فإن تأثيرات النزاع على الريف الذي يقطنه أغلب السودانيين مُهلكة، لأنها تترك ملايين الأشخاص أمام خيار الموت جوعًا، وهذا يشكل بيئة صالحة لتنامي نفوذ الجماعات المسلحة وتزايد النهب تحت تهديد السلاح.