عيّنت إيطاليا منذ فترة وجيزة سفيرًا لها لدى نظام الأسد، منهيةً بذلك مرحلة قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين والتي استمرّت 13 عامًا. وقد اتخذت إيطاليا هذا القرار بمعزل عن السياسة الخارجية الجماعية للاتحاد الأوروبي، وعلى الرغم من العقوبات الشديدة التي تفرضها الدول الغربية على نظام الأسد. فالحكومة الإيطالية، برئاسة جورجيا ميلوني وبدعم من سبع دول أوروبية، تهدف – في مسعى تفاؤلي – إلى إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم والاستجابة لمطالب اليمين والمطالب الشعبوية في إيطاليا، متجاهلةً قيَم حقوق الإنسان. هذا المقال يسلّط الضوء على التجربة الدبلوماسية للدول العربية مع نظام الأسد والمخاطر المحتملة "للتطبيع المجاني".
التطبيع العربي – حدود نهج الخطوة بخطوة
كان الدافع الأساسي للدول العربية ثلاث مسائل أساسية تؤثّر مباشرة في أمنها وتعكس شواغلها الجيوسياسية، وهي: الحد من النفوذ الإيراني في سوريا وإعادة دمج سوريا في الأسرة العربية، ومكافحة المخدرات غير المشروعة التي تُرسَل إلى البلدان العربية، وتهيئة الظروف المواتية للعودة الطوعية للاجئين السوريين.
وهكذا، أرست الدول العربية نهجًا تفاوضيًّا يُعرَف بنهج "الخطوة بخطوة" مع نظام الأسد، ويقوم على بناء الثقة بين الأفرقاء من خلال التنازلات المتبادلة في المسائل الخلافية. ولكن، وبعدما أظهر نظام الأسد حسن نواياه، أُعيد العمل بعضويته في جامعة الدول العربية في مايو/أيار 2023 بهدف تحفيز النظام على إحداث تغيير ملموس وعملي يلبّي المطالب الثلاثة الأساسية للبلدان العربية. ولكن بعد انقضاء أكثر من عام على بدء التطبيع، يمكن تقييم الوضع في سوريا على النحو التالي:
أولًا، بشأن الانتشار الإيراني في سوريا، لم يطرأ أي تغيير ملموس في استجابة الأسد للمطالب العربية. تواصل إيران نشر قواتها وأذرعها في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، حيث يتواجد قادة الحرس الثوري الإسلامي، وحيث تشنّ إسرائيل غارات منتظمة تستهدف مواقع إيرانية حسّاسة، ما يشير إلى أن الانتشار الإيراني في سوريا يبقى كما هو دون تغيير، ولا سيما من حيث العقيدة الإيرانية المعروفة بـ"استراتيجية الدفاع الأمامي".
ثانيًا، ازدادت أنشطة شبكات المخدرات غير المشروعة ثلاثة أضعاف على الأقل منذ التطبيع مع نظام الأسد. ويعكس هذا الأمر مواظبة النظام على استخدام أنشطة المخدرات وسيلةً لممارسة مزيد من الضغوط على البلدان العربية من خلال تصدير الأزمات المرتبطة بالأمن إلى الدول المجاورة بهدف تحقيق مزيد من المكاسب السياسية.
ثالثًا، لم تتحسن ظروف العودة الطوعية للاجئين السوريين في ظل نظام الأسد. فقد أوردت العديد من منظمات حقوق الإنسان أن نظام الأسد اعتقل عددًا كبيرًا من العائدين، ما يشير إلى عدم استعداد النظام للترحيب بعودة السوريين إلى وطنهم.
دروس للاتحاد الأوروبي؟
في الخلاصة، ما هي الدروس التي يمكن أن تستخلصها الدول الأوروبية من التجربة العربية؟ لقد سلّطت جهود التطبيع الفاشلة مع نظام الأسد، التي وصفها الخبير في الشؤون السورية تشارلز ليستر بالكارثة في مجلة "فورين بوليسي"، الضوء على عجز النظام عن الوفاء بالتزاماته المتعلقة بمطالب الأفرقاء الآخرين. لا يمكن التعويل على مفاوضات مع فريق يعجز عن الوفاء بالتزاماته، خصوصًا وأن النظام السوري لا يزال يعاني من العديد من المعضلات الداخلية، مثل عدم التوصل إلى حل حاسم للنزاع السوري الذي لم يُلقِ أوزاره بعد. ومن المعضلات أيضًا خسارة أكثر من 30 في المئة من الأراضي السورية ووقوعها تحت سيطرة الأفرقاء الثلاثة الأساسيين الآخرين في النزاع، مع ما تمارسه إيران وروسيا من نفوذ واسع في هذا الصدد. هذا فضلًا عن انتشار أنشطة الجريمة المنظمة العابرة للدول ولا سيما شبكات المخدرات التي تتقاطع مع نظام الأسد. علاوةً على ذلك، من المهم الإشارة إلى أن تطبيع العلاقات مع نظام الأسد لن يساهم في حل أزمة اللاجئين، وذلك على عكس ما أمِلت به بعض الدول.
لعل النهج الواعد الأفضل للضغط على النظام من أجل تقديم تنازلات يكمن في حفاظ أوروبا وحلفائها الغربيين على سياسة موحّدة ومتماسكة. يقتضي ذلك ممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية منسّقة، وفرض عقوبات استهدافية، ومواصلة عزل نظام الأسد إلى حين إحراز تقدّم كبير في الإصلاحات السياسية أو التحسينات على الصعيد الإنساني. فالنهج الجماعي من شأنه أن يتيح ممارسة تأثير أكبر على النظام مقارنةً بالجهود الثنائية المجزّأة. وقد أظهرت التجربة أنه غالبًا ما يستغل الأسد الانقسامات داخل المجتمع الدولي. يمكن لموقف غربي موحّد أن يساعد أيضًا على الحد من تأثير الجهات الفاعلة الخارجية مثل إيران وروسيا اللتين استغلّتا الانقسام بين الدول الغربية لترسيخ موقعَيهما في سوريا. أما الجهود المجزّأة للتطبيع فلن تؤدّي إلى غير منح زخم لنظام الأسد من دون معالجة الأسباب الجذرية للنزاع.
فضلًا عن ذلك، أرادت إيطاليا في البداية إيجاد حلول لشواغلها الداخلية، مثل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتهدئة المشاعر الشعبوية. ولكن ليس واضحًا إذا كانت هذه الأهداف قد تحققت. فالدلائل الأولى تشير إلى أن وضع اللاجئين لا يزال دون حل إلى حد كبير، وتستمر المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان. لذلك، قد يُنظَر إلى الاستراتيجية الإيطالية بأنها خطوة سياسية غير محسوبة جيدًا، ولا تحقق سوى مكتسبات محدودة في معالجة الضغوط الداخلية.
ولكن يتبيّن، انطلاقًا من جوانب مختلفة في النزاع السوري، أن هذا النزاع لم يبلغ بعد مرحلة "النضج" حيث يمكن المضي بخطوات فعالة نحو إجراء مناقشات سياسية وتطبيع دبلوماسي لإيجاد حلٍّ له، ناهيك عن معالجة قضايا ما بعد النزاع. ولذلك، فإن المفاوضات المباشرة مع نظام الأسد تطرح تحديات كبيرة، وقد يترتب عن ابتعاد إيطاليا عن سياسات الاتحاد الأوروبي المتعددة الأطراف تبعات سياسية خطيرة على النزاع السوري، لا سيما وأن قرار مجلس الأمن الدولي 2254 لم يشقّ طريقه نحو التطبيق الفعّال، ما سيؤدي إلى مزيد من النزاعات العالقة في الشرق الأوسط، ويتسبب في نهاية المطاف بنشوب نزاعات جديدة من جملة تداعيات أخرى بعيدة المدى.