المصدر: MOHAMMED HUWAIS/AFP via Getty Images

مقال

صنعاء: أزمة في التسميات وتخطيط عمراني غائب

تعكس فوضى تسمية الشوارع في صنعاء ضعف الدولة اليمنية وفشلها في فرض هوية عمرانية موحّدة، ما دفع السكان للاعتماد على نظام عرفي شفهي متجذر في الذاكرة الجماعية، وهذه الفوضى ليست إشكالية تنظيمية فقط، بل صراع رمزي بين سلطة الدولة وهوية المجتمع المحلي.

 سارة الخباط
نشرت في ٢٩ يوليو ٢٠٢٥

رغم أن صنعاء من أقدم المدن المأهولة في العالم، إذ يعود تاريخها إلى أكثر من ألفي عام إلا أنها مقارنة بعواصم عربية كالقاهرة وبيروت، تبدو وكأنها مدينة فقدت قدراتها الحضرية والعمرانية وسط تعاقب العنف السياسي وتآكل مؤسسات الدولة، فبينما شهدت عواصم عربية كبرى محاولات قيمة لتطوير الفضاء العمراني وتحديث نظام العنونة والتخطيط المنظم للشوارع، ظلت صنعاء عالقة في سياسات عمرانية فوضوية يسيرها النزاع لا قواعد التخطيط.

لقد أثقلت الحرب، المستمرة منذ سنوات والانقسامات السلطوية، كاهل صنعاء، فتوقفت مشاريع التنظيم الحضري وغابت المعايير العمرانية الموحدة والدقيقة، وتقهقر دور الدولة في الإشراف على المناخ العام، وبالرغم من هذا التدهور حافظ الجزء القديم من صنعاء على قليل من هويته المعمارية التي تتجلى في المباني الطينية المزخرفة والأسواق الشعبية والأحياء المتداخلة.

مع قيام النظام الجمهوري عام 1962 شهدت المدينة طفرة توسّع عمراني متسارع بسبب موجات الهجرة الداخلية من الأرياف بحثًا عن فرص أفضل، فأصبحت نموذجًا مصغّرًا لتنوع المجتمع اليمني الكبير، إلا أن هذا التوسع جاء على حساب جودة التخطيط والخدمات ما أدى إلى هشاشة في البنية التحتية والإدارة الحضرية.

الفوضى في تسمية الشوارع تُعد من أهم مظاهر هذا الخلل، ففي مدينة تتشابه أحياؤها وأزقتها وتفتقر إلى الترقيم يصبح العثور على عنوان ما مهمة شاقة جدا، فهنالك أسماء رسمية غير مستخدمة وأخرى شعبية لا تحظى باعتراف رسمي، ولافتات غائبة في معظم المناطق فيها.

هذا الارتباك لا يعبّر فقط عن خلل إداري ظرفي بل يكشف عن أزمة كبيرة تكمن في العلاقة بين الدولة وبين المجتمع، فغياب نظام عنونة واضح إنما يعكس عجز الدولة في فرض حضورها الرمزي وكذلك التنظيمي، ويُظهر صراعًا خفيًا يدور بين سلطة المركز وذاكرة الجماعة المحلية.

و بالرغم من الاتساع المستمر للعاصمة صنعاء إلا ان معظم أحيائها مازالت بلا ترقيم أو حتى عنونة موحدة، مما يُصعب حركة التنقل والتوصيل، ويجعل سكانها يعتمدون على الوصف الشفهي والمعالم العرفية كبديل، وهكذا تبدو صنعاء مدينة تنمو عمرانيًا لكنها تتكدس في اللانظام الذي يجسد العجز المزمن الذي رافق الدولة اليمنية في تنظيم الفضاء العام في ظل أزمات سياسية ودورات عنف مستمرة.

يبحث المقال إلى أي مدى تعكس فوضى تسميات الشوارع في صنعاء ضعف السلطة المركزية، وماذا تقول التسميات العرفية عن الوعي الجمعي والتوجهات الثقافية للمجتمع، وهل يمكن قراءة هذا الازدواج كصراع رمزي بين مشروع الدولة ومشروع الجماعة أو المدينة؟

إشكاليات التسمية المكانية في صنعاء

في حوار مع عبد الله محمد وهو مواطن يمني في الأربعينات من عمره،1 يقول فيه أنه كان يبحث عن صالة أعراس في صنعاء لحضور مناسبة عائلية، فلجأ إلى الإنترنت للحصول على رقم هاتف الصالة، مدركًا أن العنوان وحده لن يسعفه في الوصول إليها، وعندما اتصل بصاحب الصالة، أخبره الأخير بأنها "قريبة من الكلية الحربية".

توجه محمد إلى الموقع المذكور لكنه فوجئ بأن لا أحد من المارة أو حتى أصحاب المحلات يعرف اسم الصالة أو مكانها، فأخذ يدور في محيط الكلية الحربية بلا جدوى قبل أن يعاود الاتصال بصاحب الصالة الذي بدأ يرسم له خارطة الوصول بكلمات مقتضبة عبر الهاتف: "سِرْ مباشرة، سترى سوبرماركت كبيراً... خذ الشارع الذي خلفه، ثم يوجد طريق فرعي، وبعده مبنى لونه أحمر... هناك ستجد القاعة".

يروي محمد تجربته بحسرة قائلاً: "لا سبيل للوصول إلى أي مكان في صنعاء إلا بهذه الطريقة، أوصاف شفوية ومعالم متعارف عليها بين الناس".

تجسد هذه الحكاية معاناة الآلاف في العاصمة اليمنية، حيث يظل غياب نظام التسمية والترقيم أحد أبرز مظاهر الفوضى الحضرية التي تُعقّد الحياة اليومية، ولا تقتصر المشكلة على الأفراد، بل تمتد لتشمل الخدمات الأساسية، فسائقو الأجرة في صنعاء مثلا يعتمدون بشكل كبير على معرفتهم الشخصية بالمدينة وبأحيائها، وعلى وصف الزبائن للمواقع التي يريدون الذهاب إليها.

وفي حوار سآخر مع أحد السائقين في المدينة، يدعى عمرو إذ يقول:2 "أحياناً أرفض طلبات التوصيل إلى أحياء معينة، خاصة في الليل لأنني أعلم أنني سأقضي وقتاً طويلاً في البحث عن العنوان، وقد لا أجده أبداً، فالأمر مرهق ومضيعة للوقت والوقود والأخطر من ذلك هو تأثير هذه الفوضى على خدمات الطوارئ كالإسعاف والدفاع المدني، حيث يمكن أن يؤدي التأخير في الوصول إلى العنوان الصحيح إلى عواقب مباشرة خاصة في الحالات التي تتطلب استجابة سريعة، و يضيف عمرو: "اعتدت على وصف الأماكن عند التوصيل بأوصاف غريبة كأن يقولوا لي أنا عند الشجرة الكبيرة قرب البقالة التي بجانبها مسجد صغير، أو بجانب العمارة الحمراء وأنا عند الجولة الذي به سيارة قديمة واقفة وهكذا".

هذه القصص مألوفة لدى سكان صنعاء، حتى أنها لا تسترعي اهتمامهم كمشكلة، ولن تبدو غريبة ومؤسفة إلا في نظر الأشخاص الذين اختبروا خارج اليمن مستويات عالية من التحضر والتنظيم والتحديد المركزي لمعالم المكان.

غياب التنظيم الحكومي للمدينة

ليست تسميات الشوارع مجرّد علامات تعريفية للمكان فقط، بل هي تجلٍ لرؤية الدولة، وتعبير عن القيم الثقافية وكذلك القيم التاريخية للمدينة، وتكشف عن ديناميات السلطة والتفاعل المجتمعي معها، فالدولة الحديثة بصفتها الكيان المنظّم للفضاء المديني تسعى إلى فرض معايير موحّدة لضبط الفضاء العام من تخطيط الشوارع إلى التحكم في شكل المعمار والألوان والهوية البصرية للمدن.

يتحدث عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو عما يسميه "سلطان التسمية"،3 وهو موضوع صراع بين الأفراد وبعضهم البعض وبينهم وبين الدولة، فالدولة تمتلك الحق في التسمية في حيز مركزي تجمع فيه الموارد الرمزية رأس المال الرمزي وفي كتابه الشهير "أن تنظر كأنك دولة"، يرى المفكر الأميركي جيمس سكوت أن تسمية الشوارع هو فعل سياسي تنظيمي يهدف إلى جعل الفضاء قابلاً للقراءة من قِبل الدولة لا من قِبل الناس.

في المقابل، تأتي التسميات العرفية من تجربة الناس المباشرة، وتعكس تاريخهم المحلي واحتياجاتهم اليومية، ويكتب سكوت: "آلية التسمية تعمل بكفاءة، فهي تشفّر المعرفة المحلية، وتضمّن في الإسم المعلومة الأهم التي يحتاج المرء لمعرفتها عن هذا الطريق".

طبقا لسكوت، تسعى تسميات الدولة إلى خلق مدينة "مقروءة من الأعلى" بمعايير موحدة وأسماء مصنّفة، بينما تتيح التسميات الشعبية تكرار الأسماء وتنوعها، ما يجعلها فعالة محلياً لكنها غير قابلة للإدارة البيروقراطية ويشرح سكوت أن الدولة ما قبل الحديثة كانت "عمياء" عن تفاصيل المجتمعات التي تحكمها لافتقارها للمعلومات الموحدة والمعايير القياسية، وقد شكّل هذا الغموض وسيلة مقاومة غير مباشرة للسلطة المركزية.

ومن هنا، يستطرد سكوت في شرح أن مشروع الدولة الحديثة تمثل في تحويل هذا "اللا وضوح" إلى وضوح قابل للرصد والتحكم من خلال التعداد السكاني، وتوحيد الأسماء، وإعداد الكشوفات العقارية، وتوظيف وسطاء محليين لاختراق البنى الاجتماعية المغلقة.

صنعاء بوصفها نموذجًا مضادًا للدولة المقروءة

إذا استخدمنا هذا الإطار النظري، نستطيع القول أن صنعاء تمثّل نقيضًا للدولة "القارئة" التي يصورها سكوت، فهي مدينة غير مقروءة إحصائيًا بما يكفي، وغير منظمة حضريًا بما يكفي، وتعاني من العشوائية في التوسع، وفوضى التسميات، وعمى العناوين، وتعدد المؤثرات العمرانية.

تتيح لنا دراسة هذه التسميات فهم طبيعة الحياة الاجتماعية في صنعاء، وتاريخها، والعلاقة بين السكان والدولة، فهي تسميات لا تخلو من دلالات رمزية عميقة تعكس في جزء منها الصراع بين ما هو مفروض من الأعلى وما هو مُتداول في الشارع.

الاكتمال الحضري المؤجل

تعاني صنعاء كحال معظم المدن اليمنية من ازدواج في تسميات شوارعها، حيث تتقاطع التسميات الرسمية الصادرة عن الجهات الحكومية مع تلك العرفية التي تنشأ من الاستخدام الشعبي اليومي، وتتجاوز هذه الازدواجية كونها مجرد إرباك إداري لتتحول إلى مؤشّر على هشاشة الدولة، وتعقيد الهوية الحضرية، وصراع رمزي على الفضاء والذاكرة.

تاريخيًا لم تكن صنعاء في ستينات القرن الماضي سوى نواة صغيرة داخل أسوارها القديمة يقطنها ما بين 50 إلى 60 ألف نسمة، أما اليوم فقد أصبحت صنعاء مدينة مترامية المساحة (390 كم²)، حيث تحتضن أكثر من ثلاثة ملايين نسمة من مختلف مناطق اليمن.

وجاء هذا التحول الكبير في البنية السكانية والعمرانية نتيجة عدة عوامل لعل أبرزها هو التحول السياسي في عام 1962 الذي أطلق موجة حضرية جديدة، وهجرة ريفية جماعية كبيرة إلى المدينة.

لكن هذا الانتقال لم يصحبه تخطيط حضري منظم، ولهذا انتشرت الأحياء العشوائية، ونشأ فراغ في التسمية وكذلك التخطيط، وفي ظل غياب نظام واضح ظلت محاولات أمانة العاصمة لتنظيم التسميات تواجه عراقيل كثيرة جداً، ففي عام 2002 أُطلق مشروع للترقيم والتسمية لكنه تعثر سريعًا للأسف وتكرر الأمر أيضا في 2010 من دون أي نتائج ملموسة، وهذا التعثر يرجع إلى ضعف التنسيق بين الجهات، وكذلك انعدام الرؤية الموحدة وشح الموارد.

في مقال بعنوان "اليمن نحو الانتقال الحضري" يلفت الباحث رومان ستادنيكي إلى مفارقة لافتة وهي أن اليمن هو البلد الأكثر كثافة سكانية في الجزيرة العربية حيث يبلع عدد سكانه 25 مليون نسمة لكنه الأدنى من حيث التحضر، فواحد فقط من بين كل ثلاثة يمنيين يعيش في المدينة مقابل واحد من أربعة في عام 1994، وبحسب رومان يمر اليمن منذ سبعينات القرن الماضي بمرحلة "دفقة حضرية" نتيجة للنمو السكاني والنزوح من الأرياف.

هذه المرحلة الانتقالية من الريف إلى المدينة تتطلب تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، غير أن ما نشهده في صنعاء هو انتقال غير مكتمل يتجلّى في التوسع العشوائي، وتفكك البنية الحضرية، وفوضى التسمية، ويعكس التنازع بين التسميات العرفية (الشعبية) والتسميات النظامية (الرسمية) مدى قوة الدولة في فرض هويتها على الفضاء العمراني، وكذلك مدى استمرار تأثير العادات والتقاليد في تشكيل هوية المكان، فبرغم محاولات الدولة فرض تسميات جديدة تتناسب مع التوجهات الوطنية والتنموية، لا تزال التسميات العرفية أكثر رسوخًا، مما أدى إلى حالة من الفوضى التنظيمية انعكست على طبيعة الحياة الحضرية في صنعاء.

تُظهر أسماء الشوارع في صنعاء تاريخ المدينة وارتباطها بالذاكرة الشعبية أكثر من الأسماء الرسمية التي تحاول الدولة فرضها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك شارع "هايل" الذي استمر السكان في تسميته بهذا الإسم رغم محاولات تغييره رسميًا إلى "شارع الرياض".

هذه الظاهرة توضح كيف تبقى التسميات الشعبية سائدة لدى للناس لأنها مرتبطة بهويتهم وذاكرتهم الجماعية، وتبرز أسماء أحياء قديمة مثل "الحصبة" و"حدّة" و"بيت بوس" كأمثلة على استمرار التسميات التاريخية رغم التحولات العمرانية، وتُعرف الكثير من الجولات في مدينة صنعاء بأسماء عائلات أو شخصيات بارزة مثل جولة الضبيبي، جولة الرويشان، وجولة الحباري، وهي ليست أسماء رسمية لكنها تعكس المكانة الإجتماعية لتلك الأسر التي تملك نفوذًا عقاريًا في هذه المناطق ما يجعل أسماءها مرتبطة مباشرة بالمكان في الوعي العام.

كما أن بعض التسميات تشير إلى أصول السكان مثل تسمية شارع تعز أو مأرب وهي كذلك تعبير عن ارتباط الناس بمناطقهم وقراهم الأصلية على الرغم من انتقالهم للعيش في العاصمة، وفي المقابل تبنّت الدولة منذ إعلان الجمهورية نمطًا نظاميًا في التسمية يرتبط بالمؤسسات الرسمية كشارع الزراعة، وشارع العدل، وشارع القيادة، وهي محاولة لفرض منطق الدولة على النسيج المدني.

كما ظهرت أيضًا تسميات مستندة إلى معالم تجارية مثل شارع شيراتون وهذا يعكس تأثير المشهد الاقتصادي الحديث في تشكيل ذاكرة المدينة، وبعد ثورة 26 سبتمبر 1962 تم إطلاق أسماءاً لرموز وطنية على بعض الشوارع مثل شارع الزبيري، و التحرير، وجمال عبد الناصر، وعلي عبد المغني في محاولة لصياغة هوية جمهورية مدنية.

ومع ذلك ظل حضور الدولة ضعيفًا في فرض بعض الأسماء الرسمية حتى أن الرئيس السابق علي عبد الله صالح لم يُطلق اسمه على أي شارع رغم حضوره السياسي الطويل، وفي حالات أخرى بقيت أسماء معالم طبيعية مثل بير العزب وبير السلام حاضرة كموروث تاريخي يعبّرعن البنية البيئية والاجتماعية القديمة للمدينة.

وفي السنوات الأخيرة بدأت أمانة العاصمة محاولات لإعادة تسمية بعض الشوارع بهدف تخليد رموز وطنية كما في استبدال اسم شارع الخمسين بـ "الرسول الأعظم"، والستين الجنوبي بـ "الشهيد إبراهيم الحمدي"، والدائري الغربي بـ "الشاعر عبد الله البردوني"، ولكن هذه المحاولات تعثرت بسبب عدم شرعية سلطة الأمر الواقع الممسكة بزمام الأمور في صنعاء منذ عام 2015، وقلة الموارد وتداعيات الحرب، ما جعل كثيراً من تلك التسميات حبراً على ورق بينما ظل المواطنون أوفياء للأسماء التي تعكس هويتهم وثقافتهم وذاكرتهم اليومية.

تُظهر دراسة تسميات الشوارع في مدينة صنعاء أن تسمية المكان ليست مجرد إجراءاً إدارياً شكلياً فحسب، بل فعل اجتماعي وثقافي يعكس علاقة السكان بالحيز، وكذلك يكشف عن التفاعلات بين الدولة والمجتمع في إنتاج المعنى، فمن جهة تشير فوضى التسميات وتعددها إلى ضعف السلطة المركزية وعدم قدرتها على فرض النظام الرمزي في الفضاء العام بما يعكس تآكل نفوذها في أحد أبسط تجليات السيادة الحضرية، ومن جهة أخرى تكشف التسميات العرفية عن حيوية الوعي الجمعي، حيث تتجسد الذاكرة الجمعية والهوية الاجتماعية من خلال أسماء ترتبط بالعائلات أو المنشأ أو الشخصيات العامة أو حتى الأنشطة اليومية.

هذا التداخل والازدواج بين الرسمي والشعبي لا يمكن فهمه إلا كـصراع رمزي على الفضاء والمعنى تتنافس فيه الدولة والمجتمع على من يُعرّف المكان ويمنحه رمزيته، فبينما تحاول الدولة ترسيخ مشروعها من خلال التسميات الرسمية فإن الجماعة أو المدينة تحاول ٌعادة إنتاج معانيها الخاصة عبر التسميات المتداولة عرفيًا.

تجدر الإشارة إلى أن عددًا من الشوارع الرئيسية في صنعاء ومدن يمنية أخرى تحمل أسماء دول ومدن عربية مثل الجزائر و بيروت وعمّان و تونس و مقديشو و نواكشوط و الرباط و وبينون، وغيرها من الأسماء وقد جاءت هذه التسميات في فترات زمنية محددة كمظهر من مظاهر المجاملة السياسية أو التضامن الدبلوماسي مع تلك الدول في سياقات كان يظهر فيها البُعد القومي في الخطاب الرسمي للدولة، ومع أن هذه الأسماء قد تم إدراجها ضمن المخططات الرسمية، إلا أنها قد افتقرت إلى الارتباط بالبيئة المحلية فلم تحظَ بتفاعل شعبي واسع، مما جعل بعضها يغيب تدريجيًا عن التداول الشفهي وذلك في ظل هيمنة التسميات العرفية ذات الجذور الاجتماعية والثقافية الأقرب إلى سكان الأحياء.

الخاتمة

على الرغم من صغر حجمها مقارنة بعواصم ومدن كثيرة حول العالم، إلا أن الشوارع في مدينة صنعاء أشبه بمتاهة عصيّة على القراءة والوصف خصوصاً على الزائر أو الدخيل.

هذا الوضع لا يعود فقط إلى الطبيعة الجغرافية غير المنتظمة للمدينة، بل يرتبط بالدرجة الأولى بالفوضى التي تحكم تخطيط المدينة وتسميات شوارعها، وليست الفوضى سوى التعبير المديني عن حالات ضعف السلطة العامة للدولة، واليوم في ظل غياب سلطة مركزية يمنية واحدة وتحت تأثير النزاع المستمر أصبحت مسألة تنظيم وتوحيد تسميات الشوارع مهمة مؤجلة وغير ذات أولوية لدى الجهات الفاعلة على الأرض مما يزيد من تعقيد المشهد العام ويفاقمه مع توسع الضواحي وظهور شوارع جديدة بلا نظام.

لقد صرفت الحرب انتباه السلطات المتعددة عن مشاريع التنمية المدينية التي تتطلب في الأصل استقراراً وانتظاماً طويل الأمد، وأنهت محاولات التخطيط المدني المتواضعة التي كانت في بداياتها، فكل جهة تسيطر اليوم على منطقة معينة تتبنى سياسات تسمية خاصة بها أو تترك الأمر للمبادرات العرفية.

معالجة هذه المشكلة تقتضي ما هو أكثر من مجرد قرارات إدارية أو إصلاح سياسي جزئي لارتباطها بمجمل القضية اليمنية الراهنة، ويكمن الحل في توحيد السلطة المركزية واستعادة دورها الناظم والمهيمن على الحياة المدنية بما في ذلك التخطيط العمراني وتسمية الشوارع إلى جانب تطوير سياسة رمزية جديدة لمستقبل المدينة تتجاوز الانقسامات الراهنة وتتبنّى نهجًا مميزاً يدمج ذاكرة المكان وتاريخه الحي مع رؤية تنظيمية حديثة تشرك المجتمع المحلي والخبراء في عملية التسمية لضمان القبول والتوافق، إضافة إلى إطلاق مشاريع تنمية مدينية تُعيد الاعتبار للتخطيط الحضري كأداة لصياغة هوية المدينة وتعزيز الإنتماء إليها.

هوامش

  • 1مقابلة مع عبد الله محمد، أُجريت يوم الثلاثاء الموافق 24 يونيو 2025، الساعة 3:00 عصرًا، صنعاء، اليمن.

  • 2مقابلة مع عمرو، أُجريت يوم الثلاثاء الموافق 24 يونيو 2025، الساعة 8:00 مساءًا، صنعاء، اليمن.

  • 3بورديو، بيار. (2012). عن الدولة: دروس في الكوليج دو فرانس (1989–1992) (ترجمة نصير مروة). الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. (ص. 125 وما بعدها).

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.