بينما تتسع دائرة حرب إسرائيل في الشرق الاوسط لتشمل دولاَ جديدة كلبنان وإيران، ينظر المجتمع الدولي الفرص إلى السياسية الضائعة التي أتيحت له لإنهاء الأزمة التي اندلعت في 7 اكتوبر 2023، ولتحقيق شيء من السلام والاستقرار. ففي نوفمبر 2023، تم التوصل لوقف مؤقت لإطلاق النار صاحبه إطلاق سراح اكثر من 100 رهينة إسرائيلية، وفي يناير 2024، أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بتغيير استراتيجيتها العسكرية تغييراً جذرياً وإيقاف ممارسات الإبادة الجماعية التي تمارسها، وفي مطلع سبتمبر / أيلول الماضي انطلقت في اسرائيل مظاهرات حاشدة شهدها ما يزيد عن نصف مليون مواطن معلنين بدء إضراب عام، تضامنا مع ذوي الأسرى المحتجزين في غزة، ورفضا لعرقلة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لإبرام صفقة لإطلاق سراحهم، في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي جو بايدن يتقدم بمقترح اتفاق لوقف نهائي لإطلاق النار في غزة إلى أطراف الصراع.
الواقع هو أن حكومة الولايات المتحدة فشلت في استغلال امكانات الضغط التي أتيحت له والتي كان من الممكن أن تؤدي لتحقيق ممارسات أمنية مستدامه تم اختبارها من قبل وأثبتت جدواها في مواقف مشابهة. يحتاج تحقيق الأمن المستدام إلى توفر عدة عوامل أهمها اختيار القيادات ذات المصداقية وبناء الثقة مع المجتمعات المنخرطة في الصراعات والحرص على أنسنة البشر المتأثرين بالعنف الناجم عن الحروب وفي نفس الوقت اتخاذ القرارات والمخاطرات الاستراتيجية بدون إراقة الدماء البريئة، فضلاً عن السعي لمعرفة الأسباب الجذرية الحقيقية للصراع ومحاولة معالجتها. ويمكن لجميع هذه العوامل أن تتحقق من خلال واحدة من الممارسات المدنية التي أثبتت جدواها بالفعل وهي "الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين" أو ((UCP/A.
قد يتساءل البعض ، هل يمكن أن تنجح هذه الممارسة في منطقة تعاني بالفعل من الحرب؟ هل هناك أي دليل على قدرتها على إحداث تأثير؟
الواقع أن "الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين" هي ممارسة فعالة أنقذت الكثير من الأرواح في مناطق الحروب الكبرى، مثل أوكرانيا وجنوب السودان، والعراق، وكولومبيا، والفلبين. وتقدم أكثر من 60 منظمة في أكثر من 30 منطقة حول العالم، من بينها فلسطين وإسرائيل، هذه الممارسة الأمنية المتميزة والتي أثبتت الكثير من الأبحاث - مثل البحث المعنون: "استخدام اللاعنف في خضم العنف " أو Wielding Nonviolence In The Midst of Violence” “- تأثيرها الفعال في حماية المدنيين. وحتى في فلسطين تمكنت هذه الممارسة السلمية من حماية المدنيين عن طريق تقليل عنف الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، و إضفاء الطابع الإنساني على المجتمعات المعرضة للعدوان وخلق مساحة للمقاومة السلمية.
قد يجادل البعض بأن الوضع الحالي في إسرائيل وفلسطين قد تعقد لدرجة يصعب معها توقع أن تسهم ممارسة سلمية كهذه في تغيير ديناميكيات الصراع، وقد يرى البعض أن موازين القوى تتفاضل لدرجة يصعب معها تحقيق تأثير يذكر خاصة وأن الجيش الإسرائيلي يتفوق عدةً وعتاداّ على الجماعات المسلحة التي تقاوم في فلسطين والتي يصعب أن تجد لنفسها مكاناً على طاولة المفاوضات بدون أن تقدم قائداً لديه مصداقية كافية تؤهله للتوصل لحلول مع القادة الاسرائيليين.
ويظل السؤال التالي بلا إجابة، من سيكون على استعداد لتحمل مسئولية هذه اللحظة؟ من سيكون لديه مصداقية كافية لدى الحكومة الإسرائيلية أو المستوطنين الإسرائيليين؟
عموما، لا يمكن تجاهل الأمثلة لما حققته سياسة "الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين" من نجاح في فلسطين في الوقت الحاضر، ومن المؤكد أن بذل المزيد من الجهد والتركيز في تنسيق الموارد يمكن أن يزيد من هذا النجاح. وبالنظر إلى المنظمات والمجموعات التي تمارس هذه السياسة السلمية مثل منظمة "تعايش"، ومجموعة "ننظر إلى الاحتلال في عينه"، ومركز اللاعنف اليهودي، ومجموعة "التواجد في الأوقات الصعبة"، و"نقف معا"، و"فرق صانعي السلام المجتمعيين"، و"فريق ميتا للسلام"، يمكننا أن نرى النتائج الإيجابية الهامة التي حققتها هذه السياسة والتي دعمها توجه موجات من الوفود الدينية من كافة أنحاء العالم لمرافقة المدنيين المعرضين للخطر في فلسطين.
لقد انضممتُ إلى وفد "مسيحيون أميركيون من أجل وقف إطلاق النار" الذي زار غزة في الفترة من 13 إلى 19 آب/أغسطس، وتمكن نتيجة لوجوده الوقائي من درء موجة هجمات شنها مستوطنون إسرائيليون ضد أحد المجتمعات البدوية. وبشكل عام، وفرت مجموعات الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين وجودا وقائيا ودعما للحماية الذاتية في منازل الفلسطينيين، وعند نقاط التفتيش، ورفقة المزارعين والرعاة والمنظمين السلميين، وما إلى ذلك. كما منعت المستوطنين الإسرائيليين من تعطيل وإيقاف وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.
ولكن ماذا لو كان لدينا المئات من الحماة المحترفين والمدربين تدريبا جيدا؟ ما الذي يمكن لممارسات الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين تحقيقه في الضفة الغربية، وكذلك في المناطق الداخلية والمجاورة لغزة؟
الإجابة هي أن هناك العديد من الجهود التي يمكن تقديمها مثل حماية كفاءة تقديم المساعدة الإنسانية والرعاية الطبية، ومرافقة الأشخاص المعرضين للخطر وتوفير الحماية المباشرة للمدنيين، ومراقبة وقف إطلاق النار ورصد تنفيذ مقتضيات القانون الدولي والإبلاغ عن أي خروقات. ويمكن أيضاً إدارة المخاطر من خلال التخفيف من تأثير الشائعات على أرض الواقع وإنشاء آليات للإنذار والاستجابة المبكرة. ويمكن لفرق الحماية أيضا مرافقة القادة المحليين في المفاوضات المجتمعية، وخلق مساحة للتخفيف من الصدمات، وإعادة إضفاء الطابع الإنساني على الحياة في مناطق يتعرض سكانها بشكل ممنهج للتجريد من الإنسانية. كل هذه الجهود يمكن أن تساهم في معادلة موازين القوى في سياق الصراع الجاري.
وقد يكون من الضروري أيضاً إنشاء وتعزيز خطوط اتصال مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين كاستراتيجية أخرى لإدارة المخاطر. ويمكن للحكومة الأميركية والمدافعين عن سياسات المجتمع المدني المساعدة في هذه الجهود التي من شأنها أن تخدم المصالح الوطنية الحيوية من أجل سلام عادل في المنطقة، فضلا عن المساهمة في تغيير ديناميكيات القوة. من الواضح أن النهج السابق والحالي لحكومة الولايات المتحدة تسبب في الكثير من الصدمات والدمار والنتائج العكسية المفجعة خاصة في ظل ما تقوم به الإدارة الأمريكية من تمكين اسرائيل لارتكاب الفظائع الجماعية تحت ذريعة "الدفاع" والأمن .
يمكننا، بوصفنا فاعلين في المجتمع الدولي وناشطين في المجتمع المدني، بل ويجب علينا، أن نفعل ما هو أفضل من خلال تبني آليات الحماية والمرافقة غير المسلحة للمدنيين والتي لا شك في قدرتها على تحقيق أمن أكثر استدامة. وقد آن الأوان لنفعل.