يعد الحديث عن تدهور أحوال التعليم في المنطقة العربية فيما يتعلق بتردي نوعية التعليم وتدني مستوى التحصيل المعرفي والبعد عن تحقيق التنمية أحد أهم نقاط الهجوم التي تشنها الدول الغربية في تشخيصها للواقع التربوي العربي. ويشير التركيز الأساسي لمبادرات الإصلاح الخارجية إلى ما يعانيه التعليم العربي من افتقاد لأبسط المهارات الفنية التي تعتمد على إعمال العقل والفكر ومن ضعف القدرات التحليلية والابتكارية إضافة إلى عدم قدرة على مواكبة الثورة التكنولوجية المعرفية،مما يؤدي إلى خلق عقليات جامدة متقولبة ترفض الحوار والنقاش وتسعى لفرض قيمها وارثها الثقافي على الآخرين.

 

وعلى الرغم من أن الموقف المعلن والمصرح به من قبل النظم السياسية الخليجية يرفض فكرة الإصلاح المفروض من الخارج إلا أن هذا يقابله استجابة سريعة لقبول تلك الإصلاحات في أكثر المجالات حساسية وخطورة وهو مجال "التعليم" فما تم الشروع فيه فعليا وما يتم التحضير له من تعديلات في مضامين المناهج التعليمية في منطقة الخليج العربي يرسم الصورة المستقبلية لما يجب أن تكون عليه ذهنية الجيل القادم.

ويعد التحول إلى اعتماد اللغة الإنجليزية كمدخل للإصلاح في مرحلة التعليم العالي أحد الموضوعات المطروحة بدرجات متفاوتة من القوة في دول الخليج. وعلى الرغم من مطلقاته التي قد يكون بعضها إيجابياً، يحمل التحول إلى استخدام اللغة الإنجليزية - في تدريس التخصصات الاجتماعية وأيضا الإنسانية لطلاب وطالبات لا يجيدون هذه اللغة بالدرجة المطلوبة - مضامين تعليمية عميقة، خاصة في ما يتعلق بالأبعاد الإشكالية المصاحبة للتطبيق الفعلي.

 

أولاها، من الصعب أن يتحمس الطلبة للفكرة القائلة إنه يتعين عليهم دراسة عدد كبير من المساقات الجامعية باللغة الإنجليزية، بينما يدركون وفقا لتقييمهم الذاتي والموضوعي أن قدرات ومهارات القراءة والكتابة والمحادثة والاستيعاب التي يمتلكونها في هذه اللغة الأجنبية لا تساعدهم على مواجهة متطلبات فهم المواد الاجتماعية وكذلك الإنسانية، التي تعتمد بدورها على الشرح المستفيض والنصوص المطولة والتراكيب التعبيرية المتقدمة من أجل عرض المفاهيم والنظريات والمعلومات والجدليات التي تشكل المعارف المقدمة للطلبة.


ثانيتها، سوف يظل التساؤل حول جدوى الدراسة بلغة أجنبية يراود أذهان الطلبة، وبشكل دائم وملحّ، وذلك في كل مرة يواجهون أثناءها عقبات أو صعوبات دراسية أو تعليمية تعود أسبابها إلى ضعف الاستعداد اللغوي لديهم أساسا وليس إلى مقدار الذكاء أو قوة الدافع أو كمية الاجتهاد الذي يبذلونه في التحصيل الدراسي.


فحين يكتشف الطلبة أن إخفاقهم في مواكبة القراءة للمواد بالسرعة المطلوبة، أو حصولهم على تقييم غير مرضٍ في الاختبارات، أو عدم تمكنهم من إنجاز تقرير أو ورقة بحثية رصينة تعود كلها إلى عدم إجادتهم اللغة الأجنبية فإن نسبة مهمة منهم سوف تزداد نفوراً من الدراسة وقد تقرر إنهاء مسيرتها التعليمية، مما يشكل خسارة مجتمعية مؤسفة.


ثالثتها، إن تلك الفئة من الطلبة التي سوف تصر على التسلح بالصبر والمثابرة في استكمال الدراسة، والتي لم تتطور قدراتها ومهاراتها في اللغة الإنجليزية من خلال برامج اللغة العلاجية إلا قليلاً، سوف تستمر في إبداء أداء دراسي غير متميز وغير متفوق، ويمكن أن يستقر بها المطاف إلى القناعة بالحصول على أي تقدير نجاح مهما كان متدنياً، ويصير هذا النجاح بالنسبة لها مجرد تذكرة للإفلات من كل مادة دراسية تدرسها باللغة الأجنبية.


نعم قد تتمكن هذه الفئة من الطلبة من "تخطي" المواد الدراسية، ولكنها ستظل تشكل مجرد شريحة من الطلبة العاديين ذوي المستوى المتوسط أو دون المتوسط.


وبطبيعة الحال، ليست هذه هي نوعية الطلبة التي تهدف السياسات العامة في دول الخليج الى إنتاجها ودعمها، وهي كذلك ليست بالنوعية التي تتطلب جهود التنمية التي لا ترضى إلا بالنوعية المتفوقة. ولكن ليس هناك مخرج مادام عائق اللغة يحول دون تمكن هؤلاء الطلبة من إبداء مستوياتهم الدراسية الحقيقية، التي يمكن أن تكون متفوقة أصلا لو كانت لغة الدراسة هي لغة عقولهم ووجدانهم.

 

إن التحول في مضامين المناهج التعليمية في دول الخليج لا يمكن فصله في تجلياته الأخيرة عن الفعل الثقافي/السياسي الذي يراد للمنطقة أن تكون عليه، ولا يمكن فصله أيضا عن نوعية وعمق التدخل الخارجي المفروض عليها. فالاتجاه الذي تسير فيه مسألة التغيير في نظم التعليم لا يخدم على المدى الطويل إلا مصالح خارجية أكثر مما يخدم مجتمعات الخليج أو حتى النظم السياسية القائمة فيها، فكلما كان النظام التعليمي متسقا في تكوينه ومضامينه مع السياسات العامة والنظام الاجتماعي العام كان المعطى أو الناتج الأخير أكثر انضباطا واتساقا مع متطلبات واقعة.

 

والحقيقة أن إلحاح القوى الخارجية على تغيير فلسفة "التعليم" في منطقة الخليج العربي يدخل ضمن سيناريو الضبط لتلك الشريحة من الشباب والسيطرة عليها بحيث تتسق ردود أفعالها وقراءتها للواقع مستقبلا وما يخدم مصالح تلك القوى أكثر مما يخدم مصالح أية أطراف أخرى.

 

كما إن تحييد دور مؤسسات التعليم العالي يعني تحييد "فعل الشباب" من جيل الجامعات وتقليص دورهم كمحركين أساسيين للكثير من القضايا في المجتمع وعزلهم عن أن يكونوا قوة ضغط فاعلة في التغيير، والمعروف أنه كلما تم تعزيز العلاقة التفاعلية بين السياق الاجتماعي والسياسي والجامعات مثل ذلك أداة تغيير على المستويين الداخلي والخارجي. ويمكن قراءة ذلك الدور الفاعل لقطاع "الطلبة" في الكثير من التجارب العربية والعالمية.

 

إن صياغة استراتيجية لنظم التعليم تستهدف على المدى البعيد تحقيق مزيد من المكتسبات الوطنية تعني تحقيق مزيد من الالتحام بين الأجيال القادمة وقضايا أمتهم، كما تعني إنجاز مساحة أوسع لفكرة المشاركة الشعبية في المجال السياسي والفعل الاجتماعي/الثقافي.

 

إبتسام الكتبي أستاذ علوم سياسية بجامعة الإمارات