صدرت صحيفة "الاهرام" المصرية في 12 شباط/فبراير2011 وهي تحمل عنوانها العريض فوق شعار الاهرام، في سابقة لم تعهدها من قبل الصحافة العربية: "الشعب أسقط النظام". كتبت العبارة بخط أحمر عريض فوق "الاهرام" بشيء من الرمزية التي توحي برضوخ وسيلة الاعلام الرسمية الاكثر انتشاراً بين المصريين إلى رغبة الشعب وقراره. لابل اكثر: تبنيها لهذه الرغبة وذاك القرار.
كانت هذه هي الاهرام نفسها التي نشرت صورة "معدلة" قبل أشهر قليلة من ثورة 25 كانون الثاني/يناير، غيّرت فيها موقع الرئيس حسني مبارك في الصورة التي ضمته مع بنيامين نتنياهو وباراك اوباما ومحمود عباس والملك عبدالله خلال زيارتهم الى البيت الابيض، وجعلته في مقدمتها. في ذلك الوقت، نُشرت الصورة الاصلية في عدد من الصحف ووسائل الاعلام وأحرجت الأهرام، فجاء الدفاع بأنه كان من الضروري الايحاء بأن رئيس مصر يقود ولايتبع، في رمزية من نوع آخر هذه المرة.
اللافت أكثر، أن نقاشات كثيرة دارت بين صحافيين عرب حول ما يجب اعتباره "فضيحة مهنية" لم يبذل مقترفوها جهداً ذكياً في تضليلها. لكنهم (أي الصحافيون) لم يجمعوا حتى على التنديد بها أو اعتبارها خطأ فادحاً لا يمكن القبول به. كثيرون برروها ورأوا فيها حسن نية من المحررين تجاه المصريين الذين لن يرضي غرورهم مشاهدة رئيسهم يقف ليس فقط على يمين نتنياهو وإنما أيضاً في ذيل الزعماء. هو إذا ارضاء لـ "الايغو" الوطني العام وليس خضوعاً إلى النظام أو مزايدة في التعبير عن الولاء له. لكنه في الواقع، يكشف الكثير عن سلوك مهني وثقافة إعلامية يغيب عنها التفكير النقدي أو الشعور بالقدرة على المساءلة، في مجال يفترض إن تلك الخصال هي من أساسيات ممارسته.
أيا يكن الأمر، يبقى أن الشعب اسقط النظام، واضطرت الصحيفة الرسمية وليس فقط اي صحيفة خاصة او معارضة، الى الاعتراف بذلك. وإذ تبدى لاحقاً أن جرأة الاهرام في رفع المانشيت فوق رمز الأهرام هي أقرب ما تكون إلى "اللحظة الثورية" منها انقلاباً فعلياً على الموروث المهني القديم، يبقى إن الخضات التي شهدها الاعلام المصري والاستقالات الجماعية والاقالات أيضاً في الاعلام الرسمي وكشف "فلول" الاعلاميين الذين لفقوا مقابلات لم تجر اصلاً أو لقموا مشاركين أقوالهم، وغيرها من الحوادث، فتحت باباً لم يعد بالمستطاع إغلاقه مهما طال أمده. إذ صحيح أنَّ لتلك اللحظة ذروة رمزية، لكن نتائجها واقعية.
أما الذروة الاخرى المستمرة والمتصاعدة، فهي تلك المرتبطة بالثورة السورية وما طرحته على وسائل الاعلام من تحديات واخفاقات. صحيح أن الحالة المصرية وقبلها التونسية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً باستخدام الشباب والمتظاهرين لمواقع التواصل الاجتماعي، لكن ذلك الاستخدام لم يفتح سباقاً فعلياً مع وسائل الاعلام التقليدية من قنوات فضائية أو صحف غير محلية. فبقي الخبر الرئيس يصدر عن مراسل معتمد وعن غرفة تحرير ممسكة بفريق عملها وبزمام قرارها. وبهذا المعنى، صار الخبر "الفايسبوكي"، إذا جاز التعبير، عنصر دعم للمعلومة الصحافية، ومصدراً من مصادرها من دون أن يكون الاول او الوحيد. وخلال الثورة المصرية، تمتعت هيئات التحرير بهامش تحرك واسع وبعض الترف في اعتماد هذا المصدر أو عدم اللجوء اليه أصلا من دون ان يتضرر متن التغطية للخبر المصري. فحتى الناشطون العنكبوتيون والمتظاهرون كانوا مستعدين للقاء الصحافيين وإجراء المقابلات بشكل تقليدي وابداء الرأي علناً لدرجة أَخذ عليهم حبهم للشهرة والاضواء وتعلقهم بالمنابر الاعلامية.
أما في الحالة السورية، ومع غياب قدرة الصحافيين المهنيين على مواكبة الاحداث، بات من المستحيل تغطية الخبر السوري من دون الاعتماد على "عيال الفايسبوك" و"اليوتيوب". وبسبب التهديد المستمر لمصدر أي معلومة ترشح من سورية، أصبح المراسلون أنفسهم واكثر من اي وقت مضى، رهائن النظام يحاسبهم على ما تنشره مؤسساتهم الاعلامية حتى ولو لم يحمل تواقيعهم أو يصدر عنهم مباشرة. وبذلك بات عمل غرف الاخبار محكوماً بدوره بالخوف الامني على فريق عملها في الداخل السوري، الأمر الذي أشاع ممارسة جديدة في نسب المصدر الى بلد غير سورية.
على سبيل المثال، عمدت وكالات أنباء عالمية مثل رويترز وأ ف ب إلى جعل مصدر الخبر السوري باريس أو لندن. وهو أيضاً ماتقوم به اليوم صحف عربية دولية مثل الشرق الاوسط والحياة. وبالعودة إلى السباق المحموم الذي فرضته الثورة السورية على وسائل الاعلام كافة، والقنوات الفضائية خاصة، يظهر جلياً أن اعتماد "يوتيوب" صار أمراً شائعاً ومقبولاً كأنه أي وكالة أنباء معترف بها. ومع بداية الاحداث وقعت محطات التلفزة في مطبات كثيرة لعدم قدرتها على التحقق من مصادر تلك الاشرطة من جهة، واضطرارها إلى الرضوخ إليها وبثها من جهة أخرى بسبب تدفق الاحداث ووطأة الوقت ورفض تغييب خبر قد يتبين لاحقاً أنه ضروري وأساسي. ولذا، ارتفع هامش المخاطرة في خضم الرغبة بمواكبة الاحداث قدر المستطاع. ومع مرور الوقت، تبين ان بعض المعلومات التي بثت والارقام التي اعتمدت سواء من ضحايا او اضرار أو متظاهرين لم تكن دقيقة بشكل كامل. هذا بالاضافة الى تدني نوعية الصورة والصوت وقبول المحطات بمعايير تقنية ما كانت لتقبلها من مراسليها الفعليين حتى في أصعب ظروف الحرب.
غير أن وقت المحاسبة المهنية لم يزف بعد، نظراً إلى ارتفاع وتيرة القتل وتحوّل الثورة السورية عن مسارها الاول. فكلما بلغت الثورة ذروة، عادت وتفوقت على نفسها في بلوغ ذروة أخرى، فيما الاعلام يلهث خلفها ويحاول اللحاق بها قدر المستطاع. وفي المقابل، طورت وسائل الاعلام بدورها قدرة على غربلة مصادر معلوماتها، وبنت روابط الثقة مع ناشطين على الشبكة العنكبوتية، فجعلتهم أشبه بمراسلين معتمدين لديها. وبالتالي صار شائعاً أن نرى على الشاشة متحدثاً عبر "سكايب" وقد غطى وجهه واعتمد اسما حركياً لينقل الينا كمشاهدين، أخبار أدلب أو حمص أو غيرهما. في الحالات الطبيعية، كان في طليعة شروط العمل الصحافي، المرئي خصوصاً، ظهور وجه المراسل بوضوح ومعرفة مكانه الجغرافي وعدم اعتماده اسماً مستعاراً، واعلانه عن اسم مؤسسته. تلك هي الخاتمة الطبيعية والبديهية لأي تقرير تلفزيوني. لكن هذه الحصيلة نسفت من جذورها في الحالة السورية.
والحال أن التحديات المهنية للثورة السورية لم تقتصر على الاعلام المرئي فقط، إذ أن الصحافة المكتوبة، بدورها، اعادت النظر في مسلمات كثيرة وخضعت إليها، وكان أولها نشر أسماء مستعارة لكتاب التقارير والمقالات واعتماد مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر اساسي للخبر، وهو ما لم تضطر الى قبوله في الثورة المصرية (وطبعاً التونسية التي كانت أقصر عمراً بكثير) مع أن النشاط الالكتروني المرافق لها كان كثيفا.
فضلاً عن ذلك، أحد المخاوف الرئيسية التي تحيط بالثورة السورية اليوم هي احتمال وقوعها في فخ "العادية" وتحول اعداد القتلى إلى مجرد إحصاء مرتبط بحرب اهلية ومنعزل عن مسببه الاول أي رغبة شعب بتغيير نظامه. وفيما بدأت وسائل إعلام كثيرة تتساءل إن كان الخبر السوري يستحق أن يبقى عنواناً أو لا، أو أنه أصبح كالخبر الفلسطيني مكرراً وطويلاً، يبدو أن هذا القرار التحريري مرتبط الى حد كبير بقرار سياسي بتبني أو عدم تبني الثورة السورية، وليس بشرط مهني بحت. فالخبر اليمني على سبيل المثال، تراجع إعلامياً قبل أن يخف وهج الثورة على الارض، ناهيك عن الخبر البحريني أو العراقي.
لاشك أن الثورات العربية المخضبة بدماء غزيرة، فرضت شروطها على وسائل الاعلام التقليدية واجبرتها على تغيير نهجها. فليس مثال "الاهرام" سوى مؤشر على الرغبة باللحاق بنبض الشارع واعتماده كجمهور أول عوضاً عن جمهور الرسميين. ولاشك أيضاً أن باب التغيير فُتِح في المؤسسات الاعلامية لجهة التعامل مع الاخبار ومصادرها، لكنه لايزال يغلق بين الحين والآخر. فصناع القرار في الصحف والقنوات الاخبارية سواء في القطاع الرسمي أو الخاص ليسوا هم جيل الصحافيين المتتبعين للفايسبوك ويوتيوب وتويتر.. فمدراء ورؤساء التحرير ينتمون الى حقبة إعلامية تختلف جذرياً عن الحقبة التي ينتمي اليها عناصر فريق عملهم. وفي الوقت الذي ينكب فيه الأخيرون على معاينة مواقع التواصل الاجتماعي قبل مواقع الوكالات الرسمية، لايزال مدراؤهم مترددين ومشككين في تلك الوسائط. ولعل من فضائل الثورات على المؤسسات الاعلامية السماح لموظفيها بفتح فايسبوك ويوتيوب خلال دوامات العمل وهو ما كان ممنوعاً قبل ثورة تونس، لاعتقاد راسخ أن تلك المواقع هي ملهاة ومضيعة للوقت.
ثمة هوة أجيال كبيرة لا تزال تتسع بين "صحافيي المصدر الرسمي" او الصحافيين التقليديين وبين صحافيي الميدان بشقيه الواقعي والالكتروني، مع فارق أن للجيل الاول سلطات إدارية وصلاحيات اتخاذ قرارات تحريرية لايملكها الثاني.
قد يستجيب هؤلاء مرة لثورة تصنع خبراً، لكن ليس ما يشير حتى اليوم أنهم سيعيدون النظر جذرياً في بنية المؤسسة التلقيدية أياً كانت، سياسية أو اجتماعية أو اعلامية.
بيسان الشيخ صحافية وكاتبة في جريدة "الحياة" اللندنية، مكتب بيروت الاقليمي.