بدا واضحاً لحركة النهضة الإسلامية، في غضون ساعات من إقفال مراكز الاقتراع في الانتخابات التشريعية التي شهدتها تونس يوم الأحد 26 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن أملها بتحقيق نصر ثانٍ في صناديق الاقتراع متفائل أكثر من اللازم. في أحد المكاتب الفرعية في وسط سوسة، اشتكى مندوبو الحركة الذين بدت عليهم علامات الخيبة، من بعض "الانتهاكات"، لكنهم أقرّوا بأن المقترعين لمصلحة الحزب المنافس، نداء تونس، تفوّقوا عددياً على المقترعين لمصلحة النهضة في بعض مراكز الاقتراع بمعدّل الضعف. وقد ألقوا اللوم على وسائل الإعلام المعادية للنهضة معتبرين أنها وجّهت انتقادات بلاهوادة للحركة الإسلامية خلال الأعوام الثلاثة الماضية منذ انتفاضة 2011. وحمّل آخرون المسؤولية للدولة العميقة التي قالوا عنها إنها لاتزال موالية للنظام السابق وإنها عطّلت جهود النهضة خلال وجودها في الحكم.
قد تكون بعض هذه التفسيرات لهزيمة النهضة في الانتخابات صحيحة، لكن السبب الأساسي يكمن في فشل الحركة في معالجة التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي لاتزال تونس تواجهها بعد ثلاثة أعوام على سقوط بن علي. فالوعود الجريئة التي أطلقتها الحركة في الحملة الانتخابية في العام 2011 عبر التعهّد بتحقيق النمو الاقتصادي واستحداث الوظائف، لم تتجسّد على أرض الواقع. تراجعت البطالة قليلاً، لكنها لاتزال عند نسبة 15.2 في المئة، وترتفع أكثر في الداخل وفي أوساط الخرّيجين. وقد كان حجم التململ الشعبي واضحاً في منتصف 2013، وفي نهاية المطاف أرغمت الأحزاب المعارضة حركة النهضة على مغادرة الحكومة عن طريق التفاوض. قال عضو في مجلس شورى النهضة قبل انتخابات الأحد: "لم يكن لدينا وضوح خلال وجودنا في الحكم. ركّزنا على الدستور ولم نفكّر كثيراً في شؤون التنمية. يقولون في هذه المناطق [المناطق الداخلية الفقيرة]: ’بن علي حرمنا، ثم جاءت النهضة وحرمتنا أيضاً‘"1.
في الأشهر التي سبقت الانتخابات، أجرت النهضة استطلاعاتها الداخلية التي كشفت ماكان معلوماً لكثيرين: لم تكن المسائل الأساسية المطروحة في هذه الانتخابات التشدّد الإسلامي في مقابل العلمنة، بل الحالة الاقتصادية المحفوفة بالمخاطر وانعدام الأمن. وقد سعت النهضة إلى معالجة هذه التحديات من خلال التأنّي في اختيار المرشّحين الجدد للمجلس التشريعي؛ والحد من أعداد المرشحين الأكثر تشدّداً، مثل الحبيب اللوز والصادق شورو، الذين أرادوا التركيز على الوعظ بدلاً من السياسة؛ واقتراح وجوه شابّة جديدة بدا أنها تتمتّع برؤية حديثة وخبرة تقنية، من محامين ومهندسين وأطباء وطلاب. عندما شنّ ناشطو النهضة حملتهم الانتخابية على أبواب المنازل، لم يأتوا كثيراً على ذكر الدين، بل كانوا يقولون للناخبين إنهم أمام خيارَين: إما دعم قوى الثورة (ومنها النهضة، في رأيهم)، وإما العودة إلى سياسة النظام القديم التي يجسّدها الحزب المنافس، نداء تونس، على حد قولهم.
في نهاية المطاف، فشلت هذه المقاربة. وقد سارعت النهضة إلى الإقرار بهزيمتها وتهنئة الباجي قائد السبسي، زعيم نداء تونس، الذي فاز حزبه بـ85 مقعداً في مجلس الشعب المؤلف من 217 مقعداً، في مقابل حصول النهضة على 69 مقعداً. لقد نجح نداء تونس في إقناع التونسيين بأنه الوحيد القادر على الوقوف فعلاً في وجه الإسلاميين، وقدّم وعوداً بتحقيق الاستقرار واستقطاب الاستثمارات الخارجية.
لاتزال النهضة تأمل بأن تكون جزءاً من حكومة وحدة وطنية خلال الولاية البرلمانية المقبلة الممتدّة لخمس سنوات، على الرغم من أن الاحتمال الأكثر ترجيحاً الآن هو أن نداء تونس سيدعو إلى الائتلاف الحكومي بعضاً من الأحزاب الأصغر حجماً التي تملك برامج سياسية أقرب إلى برنامجه. سوف يدفع ذلك بالنهضة نحو المعارضة، الأمر الذي قد يعود بالفائدة عليها في الواقع عبر إبعادها عن الإصلاحات التقشّفية الكثيرة التي يحتاج إليها الاقتصاد الذي يقول عنه البنك الدولي إنه لايزال جامداً ومشلولاً على المستوى البنيوي تماماً كما كان في ظل النظام السابق. لقد اختارت النهضة عدم تقديم مرشّح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها الشهر المقبل، لأنها توقّعت الفوز في الانتخابات التشريعية، وتخوّفت من أن تسير الأمور عكس ماتتمنّاه في حال سيطرت على كل المناصب السياسية الأساسية. لايزال مجلس شورى النهضة يناقش اسم الشخصية التي يجدر به دعم ترشحها للانتخابات الرئاسية. قد يبقى الرئيس الحالي منصف مرزوقي المرشّح التوافقي المفضّل بالنسبة إلى النهضة، على الرغم من أن حزبه، المؤتمر من أجل الجمهورية، فاز بأربعة مقاعد فقط في الانتخابات. لكن في هذه المرحلة، غالب الظن أن الباجي قائد السبسي هو الذي سيفوز في الانتخابات الرئاسية، مايعني أن حزبه سيسيطر على الرئاسة ومجلس الشعب الجديد على السواء.
لكن على الرغم من هذه الانتكاسات الانتخابية والتنازلات التي قدّمتها النهضة في الأعوام الثلاثة الماضية - لاسيما عبر الإحجام عن الإصرار على ذكر فرض الشريعة في الدستور، ومعارضة السعي إلى إقصاء رموز النظام السابق من الحياة السياسية، والموافقة على التنحّي من الحكومة في كانون الثاني/يناير الماضي - ظلّت قاعدتها الشعبية موالية لها حتى الآن. ففي الانتخابات التشريعية، فازت النهضة بأكثر من ثلاثين في المئة من الأصوات، وهي نسبة ربما تمثّل فعلياً قاعدة الدعم لها في المجتمع: إنها حركة سياسية كبيرة لكنها ليست مسيطرة على الإطلاق. إلا أنها تشهد انقسامات داخلية، ففي نيسان/أبريل الماضي مثلاً، تحدّى 39 عضواً من كتلة النهضة النيابية زعيم الحركة راشد الغنوشي، وصوّتوا لمصلحة إقصاء رموز النظام السابق من الحياة السياسية، مع العلم بأن المادّة المعنية سقطت في مجلس النواب بفارق ضئيل في التصويت.
غالباً ماأبدى أعضاء النهضة استياءهم من تمييع برنامجها الديني، بيد أن الأحزاب المنشقّة عن الحركة فشلت في استقطاب التونسيين. وقد ظهرت أيضاً في البداية معارضة قوية لموقف الغنوشي المؤيّد لآلية الحوار الوطني التي أدّت إلى خروج النهضة من السلطة هذا العام، إلا أن الغنوشي لايزال على رأس الحركة ولم تتأثّر قيادته لها بهذه المستجدّات. لو ربحت النهضة الانتخابات وشكّلت، كما وعدت، حكومة ائتلافية مع نداء تونس، كان ذلك ليلقي بضغوط إضافية على بنيتها الداخلية. إلا أنه من شأن وجودها في المعارضة لفترة طويلة بعيداً من التنازلات المحتومة التي تفرضها إدارة الحكم أن يتيح لها المجال كي تعيد تنظيم صفوفها وتركّز على توسيع قاعدتها.
العام المقبل، ستعقد النهضة مؤتمراً خاصاً لاتّخاذ قرارات أساسية عن مستقبلها. غالب الظن أنها ستنقسم إلى حركة دينية تركّز على الوعظ، وحزب سياسي يركّز حصراً على العمل السياسي. جرت مناقشة هذه المسألة داخلياً خلال الأعوام الثلاثة الماضية، إلا أنها لم تُبَتّ في المؤتمر الأخير الذي انعقد في العام 2012 وأُرجِئ اتخاذ القرار بعد نقاشات طويلة غير حاسمة. لاتزال هناك مخاوف داخل الحركة من أن الانقسام سيؤدّي إلى إضعاف الجناح السياسي، أو من أن الأنصار الأكثر محافظية سيرفضون مايعتبرونه تخلّياً من جانب النهضة عن عمل الأعوام الثلاثين الماضية، عندما كانت الحركة تصرّ على أن مشروعها الشامل يطال الحياة الخاصة والعامة على السواء. إلا أن هناك تبايناً متزايداً داخل النهضة بين الناشطين الذين يركّزون على الوعظ وينبذون السياسة، وأولئك الذين يؤمنون أن مصالح الحركة تتحقّق بالطريقة الفضلى عبر تأدية دور في بناء المؤسسات الحكومية الديمقراطية الجديدة. على الأرجح أن الهزيمة الانتخابية ستزيد من حدّة هذه الخلافات الداخلية وتؤدّي إلى التعجيل في انقسام النهضة إلى حركة دينية وحزب سياسي.
روري مكارثي طالب دكتوراه في كلية سانت أنطوني في جامعة أكسفورد حيث يعد أطروحة حول الحراك الإسلامي في تونس المعاصرة. مراسل صحيفة "الغارديان" سابقاً في الشرق الأوسط.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
1. مقابلة مع الكاتب. ↩