المصدر: Getty
دراسة

الإخوان المسلمون ومستقبل الإسلام السياسي في مصر

ألقت الاضطرابات الراهنة في مصر ظلالها على إمكانية إعادة إدماج الإسلاميين، وعلى قدرة النظام على تحقيق الاستقرار السياسي في ظل إقصاء الإسلاميين.

نشرت في ٢١ أكتوبر ٢٠١٤

الجزء الثاني من حلقات حول الإسلام السياسي في مصر

ألقت الاضطرابات الراهنة في مصر – من ضمنها الصراع الاجتماعي والاستقطاب والعنف - ظلالها على إمكانية إعادة إدماج الإسلاميين، وعلى قدرة النظام على تحقيق الاستقرار السياسي في ظل إقصاء الإسلاميين. وتشير الديناميكيات الخارجية والداخلية المتغيّرة للحركات الإسلامية في السياق السياسي والاجتماعي المحلي والإقليمي، إلى سيناريوهات خمسة محتملة لمستقبل الإخوان المسلمين، سيكون لمسارها تأثيرات بعيدة المدى على الإسلام السياسي والدمقرطة في مصر.

السيناريوهات المستقبلية المحتملة

  • يبقى النظام ملتزماً بهدف القضاء على الإخوان المسلمين، على الرغم من افتقاره إلى الموارد اللازمة للقيام بذلك على نحو فعّال. ويستمر الإخوان في مواجهة القمع الشديد الذي يمارسه النظام، بما في ذلك الاعتقالات التعسّفية والأصول المجمّدة والمواجهات العنيفة.
     
  • من خلال احتجاجات متواصلة تهزّ النظام وتبدأ بحشد المزيد من الدعم الشعبي، يعود الإخوان إلى الحياة السياسية المصرية عودةً مظفرة.
     
  • يتفاوض الإسلاميون والنظام حول العودة إلى الصيغة السياسية التي كانت قائمة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، أي المشاركة السياسية المحدودة للإخوان المسلمين ضمن خطوط حمر يحدّدها النظام.
     
  • ينقسم الإخوان إلى قسمَين: المعتدلون الذين ينظرون إلى سياسة الإخوان التقليدية على أنها قائمة على الكثير من المواجهة؛ والمتشدّدون الذين يرون أن السياسة الراهنة مخطئة إيديولوجيّاً وقائمة على الكثير من التنازل.
     
  • تعترف الجماعة بفشل احتجاجاتها الراهنة وتنسحب من النشاط السياسي، لتركّز على إعادة صياغة إيديولوجيتها وتنظيماتها.

التداعيات على المجتمع المصري

من غير المؤكّد أيّ من السيناريوهات الخمسة ستكون له اليد العليا في مايتعلّق بمستقبل جماعة الإخوان. الدولة القديمة وجماعة الإخوان على التوالي ملتزمتان حالياً بسيناريو القضاء التام على الجماعة أو بسيناريو عودتها المظفّرة. واحتمال عدم حصول أحد هذين السيناريوهين قد يجبر النظام والإسلاميين على إبداء انفتاح أكبر على خيارات أخرى، ولاسيما المصالحة. لكن على المديَين القريب والمتوسط، يبقى من المستبعد حصول مصالحة أو تفكّك أو تجديد في صفوف الجماعة.

أثبتت الجماعة أنها أكثر قدرةً على الصمود مما افتُرِض في البداية، الأمر الذي جعل الإسلام السياسي قوةً في السياسة المصرية للمستقبل القريب. وتتطلّب عودة السياسة في حقبة مابعد الإخوان – فضلاً عن الديمقراطية – إنهاء السياسات السلطوية للدولة القديمة، وتنمية الاقتصاد، وإجراء إصلاح ديني، إضافة إلى تبلور حركات ديمقراطية جماهيرية إسلامية وغير إسلامية قائمة على المشاركة وقبول التعدّدية. لكن أياً من هذه الخطوات ليس محتملاً في المستقبل المنظور.

لاتبشّر الديناميكيات الحالية بالخير لقيام مصر ديمقراطية في المستقبل. إذ لم ترحّب الدولة القديمة أو الإسلاميين بأي مسار للتغيير السياسي والاجتماعي الديمقراطي. فالطرفان لايزالان غير مستعدّين للانخراط مع أطراف فاعلة أخرى أو اعتماد طريقة تفكير ديمقراطية مجدّدة. وهذا الأمر يجعل الإسلام السياسي، مثله مثل الدولة القديمة في مصر، جزءاً من المشكلة المتواصلة بدلاً من أن يكون جزءاً من الحلّ.

مقدّمة

هل انتهى الإسلام السياسي في مصر؟ العديد من المحللين بدأوا يطرحون هذا السؤال على بساط البحث، غداة التغيّر الدراماتيكي في مقادير الإخوان المسلمين في مصر بدءاً من العام 2013. فعلى أثر إطاحة الرئيس آنذاك محمد مرسي في تموز/يوليو، فقدت الجماعة حظوتها بسرعة وخسرت ليس فقط منصب الرئاسة، بل أيضاً السيطرة على البرلمان والدستور الذي سنّته. ثم تلا ذلك حملة قمع دموية وصلت إلى ذروتها حين وسمت الحكومة المؤقّتة التي خلفت إدارة مرسي جماعة الإخوان بأنها منظمة إرهابية في 25 كانون الأول/ديسمبر.

الحال أن الإخوان يواجهون اليوم تحدياً مثبطاً يتمثّل في القيام بتحولات تُعتبَر ضرورية للتجاوب مع المطالب الشعبية الأصلية الخاصة بإيجاد مناخ سياسي تعدّدي وشامل للجميع، ويستند إلى المساواة السياسية.

طيلة هذه الأحداث، اتسّم نهج الإخوان في العمل بكونه مجرد ردود فعل عَرَضِيّة تفتقد إلى كلٍّ من حسّ المهمة والاستراتيجية المتّسقة. والحال أن الإخوان يواجهون اليوم تحدياً مثبطاً يتمثّل في القيام بتحولات تُعتبَر ضرورية للتجاوب مع المطالب الشعبية الأصلية الخاصة بإيجاد مناخ سياسي تعدّدي وشامل للجميع، ويستند إلى المساواة السياسية. لقد فشل الأخوان في مواجهة هذا التحدي طيلة السنوات الثلاث المنصرمة، ومن غير الواضح ما إذا كان في وسعهم النجاح والمضي قدماً. لكن، وحتى لو أصابت هذه الجماعة، التي لاتزال متماسكة، النجاح، إلا أن قدرتها على الحفاظ على وحدة الهدف وتماسك عناصرها على المدى الطويل وعلى اجتذاب إسلاميين آخرين، والتحكّم باتجاه التيار الإسلامي وأجندته السياسية والفكرية، باتت بشكل متزايد موضع شكوك وتساؤلات.

لاشك أن ماسيحدث للمنظمات الإسلامية المصرية على غرار جماعة الإخوان، سيعتمد على عوامل هيكلية خارج سيطرتها، بما في ذلك سياسات الدولة نحو الإسلاميين، والتماسك الداخلي للنظام، والسياقات الإقليمية. وعلى الرغم من أن الحركات الإسلامية تواجه أزمات تبدو عصية على التذليل، إلا أنها بعيدة كل البعد عن كونها وصلت إلى خواتيمها لكونها لاتزال تمتلك قوة مُعتبرة. هذا علاوة على أن مستقبل الإسلاموية لايعتمد على العوامل الخارجية وحسب، بل أيضاً على طريقة الاستجابة ورد الفعل لدى الإسلاميين، خصوصاً من حيث مدى استعدادهم للانخراط في عملية إعادة نظر ثقافية وإيديولوجية جادة.

بطريقة ما، تشهد مصر خلق حقبة جديدة من الإسلام السياسي الذي قد يكون فضفاضاً وسائلاً إديولوجياً أكثر من ذي قبل. فقد وهنت الحدود بين المراكز والأطراف، وباتت التحولات في جماعة الإخوان تعكس اختلافات مهمة بين الأجيال. وهكذا، إن كانت بعض الأجنحة في الجماعة قد تشرع في الانخراط في عملية مراجعة ذاتية إيديولوجية جادة، إلا أن الكثيرين يتبنّون على نحو متزايد نقداً استقطابياً وشعبوياً وراديكالياً ومتصلّباً على يمين الجماعة. 

والواقع أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، توفِّر حالة دراسية مفيدة لاستطلاع واستشراف الديناميكيات الخارجية والداخلية المتحوّلة داخل المنظمات الإسلامية المصرية، ولاسيما أن الوضعية الراهنة للإخوان ستكون لها مضاعفات على كلٍّ من الإسلاميين، وعلى عملية الدمقرطة في مصر.

جماعة الإخوان منذ إطاحة مرسي

تحت ضغط متصاعد

شنّ النظام المدعوم من العسكر الذي تسنّم السلطة بعد إطاحة مرسي حملة قاسية وعنيفة على الجماعة، فاعتقل أنصارها، ونصب المحاكم لكوادرها، وفرّق تظاهراتها ومسيراتها بالقوة. وفي 14 آب/أغسطس، فضّ عناصر الأمن بعنف اعتصاماً داعماً لمرسي في ميدانَي رابعة العدوية والنهضة في القاهرة، ما أسفر عن مصرع نحو 1000 شخص.1  كانت أحداث رابعة جزءاً من مجابهات عنيفة بشكل متفاقم بين الإسلاميين وبين النظام: مجابهات خلَّفت آلاف القتلى بين الإسلاميين، ومئات القتلى بين عناصر قوات الأمن. كما أنزلت المحاكم حكم الإعدام بالمرشد العام للإخوان والعديد من الأنصار، وقضت بسجن حوالى 20 ألف إسلامي، فيما آلاف الإسلاميين باتوا في عداد الفارّين.

عزّز عنف النظام ضد الإخوان الذي أعقب الانقلاب اعتقادهم بأنهم يخوضون معركة وجودية ضد الدولة القديمة في مصر. ومع اتساع دائرة العنف بشكل كبير، تضاءلت بشكل متزايد فرص رضوخ الإخوان.

كانت عملية صنع القرار لدى الإخوان تأثّرت بعمق بالاعتبارات الإيديولوجية وبالحسابات الانفعالية قصيرة المدى التي تفتقد إلى التحليل الاستراتيجي المستند إلى مبدأ الأكلاف والفوائد. كان الوصول إلى السلطة بمثابة "نهاية التاريخ" للجماعة، ما أدّى إلى تهميش مرونتها ونفعيتها البراغماتية الشهيرة. وبالتالي، عنت الهزيمة السياسية بالنسبة إليها، سواء جاءت من خلال خسارة الانتخابات أو الرفض الشعبي أو الاعتراف بحقائق مابعد الانقلاب، القبول بنهاية مشروعها والعودة إلى الصيغة القديمة المستندة إلى المشاركة المحدودة، في ظل وصاية الدولة القديمة التي عاشتها في عهد الرئيس السابق حسني مبارك.

علاوة على ذلك، تأثّرت سلوكيات الجماعة بالاعتبارات العملانية. فعقب انقلاب 3 تموز/يوليو، كان الإخوان يأملون بتكرار نموذج انتفاضة يناير 2011. بيد أن هذا كان تقديراً مبالغاً فيه بشكل خطير لقدرة الجماعة على التعبئة، وعلى التواصل والتأثير الاجتماعيين.

ثم أن الإخوان اعتقدوا أن خفض التصعيد سيكون ضارّاً بهم استناداً إلى سابقة شباط/فبراير 1954 التي أُطلِق عليها اسم "عقدة ذنب عبد القادر عودة". في ذلك العام، أوقف عودة، الذي كان نائب المرشد العام للجماعة، احتجاجات الاخوان ضد الحكومة فجأة وبطريقة غير متوقّعة. ويعتقد بعض الإخوان أن عودة أضاع فرصة تاريخية لتقويض النظام العسكري الذي أقيم حديثاً وكان لايزال هشاً، خصوصاً أن هذا الأخير شنّ حملة على الجماعة بعدها بأشهر قليلة. وفي سبيل منع بروز نتيجة مماثلة، لم يكن لدى الإخوان من خيار سوى التصعيد، أو على الأقل هذا ما اعتقدوه.

لم تُظهِر وتائر المجابهات التي اندلعت في العامَين 2013 و2014 أي مؤشرات على أنها ستنحسر قريباً. فالعنف الذي تقترفه المجموعات الجهادية في شبه صحراء سيناء تصاعد منذ إطاحة مرسي. وفي حين أن الإخوان لم يتورّطوا مباشرةً في هذه الهجمات، إلا أن البعض رأى في الإيديولوجيات الإسلامية التي تظلّل هذه الهجمات، جنباً إلى جنب مع تسامح مرسي مع المجموعات الراديكالية الإسلامية (بأمل توسيع قاعدته السياسية)، دليلاً على أن للجماعة ضلعاً كبيراً في هذا العنف المتواصل.

استخدم النظام العسكري مثل هذه الاتهامات لتوسيع نطاق حملته على الجماعة. وفي حين أن تصنيف هذه الأخيرة على أنها منظمة إرهابية - وهذه كانت المرة الأولى في تاريخ الجماعة الطويل الذي تُصنَّف فيه على هذا الأساس - مثار جدل قانونياً وعملياً، إلا أنه لايجب الاستهانة بمضاعفاته السياسية. فالنظام تحرَّك لمصادرة العديد من الاستثمارات الاقتصادية للجماعة، منطلقاً من الاعتقاد بأن السيطرة على الموارد المالية للجماعة يمكن أن يشلّ أنشطتها. وعلى الرغم من السماح لبعض الهيئات باستئناف نشاطاتها، فقد عمدت الحكومة المؤقّتة إلى تجميد أرصدة 1055 جمعية خيرية دينية في كانون الأول/ديسمبر 2013، ووضعتها في عهدة إدارة حكومية خاصة. هذا إضافة إلى أن النظام شنّ حملة على عشرات الشركات التي تملكها الجماعة أو تديرها.2  وفي آب/أغسطس 2014، تمّ حظر الحزب السياسي للجماعة بقرار قضائي.

فضلاً عن السيطرة على القواعد السياسية والاقتصادية للإخوان، شنّ النظام حملة للسيطرة أيضاً على أنشطتهم الدينية. فقد قام الأزهر، وهو المؤسسة الدينية الأولى والأبرز، ووزارة الأوقاف، التي تشرف على الشؤون الدينية، بالحدّ إلى درجة كبيرة من المجال الديني العام في البلاد، فعيّنتا الدعاة، وأملَتا شروط الصدقات على المساجد، وأشرفت الوزارة على تحديد مضمون خطب الجمعة ومعاييرها، وهي ممارسة طُبِقَت في حقبة مبارك لكنها دُفِعَت إلى حدودها القصوى الآن. وهذا أدّى إلى صرف آلاف الأئمة والدعاة من أعمالهم. وعلى الرغم من أن المسؤولين ينحون سبب ذلك إلى فقدان هؤلاء للتراخيص المطلوبة، إلا أن العديدين يرون في عملية الصرف هذه عقاباً لروابط هؤلاء مع الإسلاميين. وقد عمدت القيادة الجديدة في الوزارة إلى حلّ مجالس مدراء المساجد التي كانت الوزارة السابقة في عهد مرسي عيّنتها.

سيطرة الدولة على المجال الديني في مصر ليست بالأمر المستجد. بيد أن المدى الشاسع للسياسات الراهنة وهدف النظام الخاص باسئصال جماعة الإخوان، يُعتبَر تطوراً مهماً.

بالطبع، سيطرة الدولة على المجال الديني في مصر ليست بالأمر المستجد. بيد أن المدى الشاسع للسياسات الراهنة وهدف النظام الخاص باسئصال جماعة الإخوان، يُعتبَر تطوراً مهماً. وإذا ماوضعنا في الاعتبار نقص الكوادر المؤهّلة بين الدعاة ووجود مئات آلاف المساجد الصغيرة غير المسجّلة في طول البلاد وعرضها، فسيتعيذن علينا الانتظار لمعرفة ما إذا كان في وسع الأزهر والوزارة أن يطوِّرا العنصر البشري والآليات الضرورية للقيام بمثل هذه الحملة.

فضلاً عن ذلك، لعبت الأطراف الخارجية أدواراً مهمة في حملة النظام. ففي 4 آذار/مارس 2014، ضمّت السعودية جماعة الإخوان إلى لائحتها الخاصة بالمنظمات الإرهابية، وقيَّدت الدعم المحلي السعودي للجماعة، وقمعت التهديدات المحتملة من المقاتلين الجهاديين في سورية والعراق. ويعكس دعم السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة الثابت والقوي للنظام المصري، مدى توجّسهما من الصعود الإيديولوجي والسياسي للإخوان في المنطقة.

تغييرات تنظيمية لدى الإخوان

نتيجة للأحداث الدراماتيكية منذ إطاحة مرسي، شهدت جماعة الإخوان سلسلة من التغيّرات التنظيمية والإيديولوجية،3  بعد أن أجبرها قمع النظام المتواصل على اللجوء إلى اللامركزية. فقد أدّت الاعتقالات في صفوف أكثر القيادات العليا والناشطين في فئات القيادة من الطبقة الأولى إلى الثالثة، بما في ذلك مكتب الإرشاد (صاحب السلطة العليا للقرار في الجماعة)، ومجلس الشورى (برلمان الجماعة)، ورؤساء المكاتب الإدارية، إلى كسر الروابط التراتبية في المنظمة. وهذا منح نفوذاً متزايداً للفئات الدنيا في القيادة على المستوى المحلي، بما في ذلك المسؤولين الشباب في المكاتب الإدارية الذين ينظمون ويقودون الاحتجاجات الآن جنباً إلى جنب مع الشبكات المحلية شبه المستقلة ذاتيّاً.4  لقد أصبحت التنظيمات الصغيرة هي التكتيك المفضَّل في المرحلة الراهنة.

تكرّرت التغييرات البنيوية للجماعة على المستوى الوطني في مستويات المنطقة والشعبة. وتمت الاستعاضة عن الهيكلية التراتبية ببنى عنقودية. ولأسباب أمنية، جرى تقليص الوحدة المحلية الأساسية في الجماعة (الأسرة) من نحو سبعة أعضاء إلى نحو ثلاثة. وبات الاتصال يجري من خلال وسائل خلاقة وأكثر أماناً، مثل الرسائل النصّية المشفرة، ووسائل الإعلام الاجتماعي، والبريد الالكتروني. وعدا عن الأنشطة المتعلقة بتربية ورعاية أطفال الإخوة التي يقوم بها قسم الأشبال في منازل الأعضاء، تُعقَد اجتماعات الأسرة غالباً خلال التجوّل في الشوارع أو بشكل عشوائي في المقاهي بدل المنازل التي تكون عُرضةً إلى المراقبة الأمنية والاعتداءات.

يجري تنظيم التظاهرات بشكل سري لمنع تسلّل المُخبرين الأمنيين لها، وتبث مواعيد مزيّفة للتجمعات على وسائط الإعلام الاجتماعي لتضليل أجهزة الأمن التي تراقب حسابات الجماعة في فايسبوك وتويتر.5 

كما تتم تعبئة النساء والأطفال الذين لهم علاقة بأعضاء الإخوان. وقد انهمكت النسوة على وجه الخصوص في "النضال ضد الانقلاب" على مدى أكبر من ذي قبل، متحدّيات بذلك العديد من المحرّمات الإسلامية المتعلّقة بالنشاط الأنثوي.6  وهكذا، وللمرة الأولى تعاني النساء العضوات في الجماعة من حيّز كبير من قمع النظام، بما في ذلك السجن والتعذيب والإساءات الجسدية.7 

وحيثما كان هذا ممكناً، عيّنت الجماعة أشخاصاً مكان النشطاء المعتقلين لقيادة التظاهرات المنظّمة، ولنقل التعليمات والرسائل، ورفع المعنويات. وردّاً على ذلك، بدأ النظام بتعديل سياساته، فأطلق معتقلين كانوا قد أوقفوا أخيراً، وأعاد تركيز طاقاته على كوادر الجماعة المنخرطة مباشرة في الأنشطة التنظيمية والطلابية. وعلى الرغم من أن الجماعة واصلت إحلال أشخاص مكان ناشطيها بما يساعدها على كسب معركة البقاء، إلا أن الفعالية السياسية لمثل هذه الاستراتيجية ستكون مدار شكوك وتساؤلات على المدى الطويل.

إن التقديرات حول مدى نجاح التحولات لدى الإخوان تتباين بين المناطق المحلية. فالشكاوى المتعلّقة بالمعايير المنخفضة للقادة المحليين وجهودهم المتردّدة حيال حماية المحتجّين من قمع الشرطة، وافرة. لكن يبدو أن الوضع أفضل في نوعية المعايير في العديد من المناطق الأخرى.8 

إضافة إلى هذه الهيئات الفرعية، أقامت الجماعة كيانات غير رسمية متوازية مع الإدارات الراهنة في المنظمة الرسمية. هذه الكيانات تنشر الرسالة السياسية للجماعة، وتقود الاحتجاجات، وتدعو إلى إعادة رئاسة مرسي، وهي تشمل "التحالف الوطني لدعم الشرعية"، و"طلاب ضد الانقلاب"، و"أدباء وكُتَّاب ضد الانقلاب"، و"جامعيون ضد الانقلاب"، و"مهنيون ضد الانقلاب"، و"جبهة علماء ضد الانقلاب". وقد أظهرت قواعد الإخوان علائم تضامن ومثابرة ملفتة – ولاسيما في مناطق مثل حلوان، وكرداسة، والألف مسكن، ومدينة نصر، والعجمي في الاسكندرية، والعديد من مناطق مصر العليا والريف والبلدات في الدلتا – وكذلك في أوساط الطلاب في الجامعات، وبالأخص جامعتَي الأزهر والقاهرة. كما انضمّ إلى القضية عناصر شابة جديدة شعرت بالحنق والغضب من القمع المتواصل، وأثارت مقاومة الإخوان حماستها.

أثبتت عملية اللامركزية، على وجه العموم، فعاليةً في الحفاظ على الأنشطة الدَعَوِية وشبكات الإخوان، وفي حرف أنظار النظام عن عمليات القمع، بيد أن فعاليتها في الاحتجاجات كانت موضع شك.

وذُكِر أنه جرت سرّاً، بعد الانقلاب بأشهر قليلة، انتخابات لمكتب إرشاد مؤقّت، يتولّى شؤون الأعمال اليومية للجماعة. وقد تشاطر المسؤولون المنتخبون العمل مع مَن تبقى من الأعضاء القدامى في مكتب الإرشاد مكان الأعضاء المعتقلين أو الفارّين في هذا المكتب. ويصدر مكتب الإرشاد حالياً توجيهات عامة، فيما تتّخذ المكاتب المحلية الإدارية القرارات الفعلية المتعلقة بالتنفيذ. وهذا نمط لامركزي من العمل يدعمه مكتب الإرشاد المؤقّت.

أثبتت عملية اللامركزية، على وجه العموم، فعاليةً في الحفاظ على الأنشطة الدَعَوِية وشبكات الإخوان، وفي حرف أنظار النظام عن عمليات القمع، بيد أن فعاليتها في الاحتجاجات كانت موضع شك. فنمط هذه العملية يخدم لإرباك قوات الأمن، وامتصاص السياسات شديدة الوطأة التي يمارسها النظام. ويجادل بعض المحللين بأن النمط الراهن من النشاط يمثّل تحولّاً حاداً عن مبدأ القيادة من فوق إلى تحت، وآليات القيادة والسيطرة التي لطالما ميّزت أنشطة الإخوان. لكن الواقع أن ماسهَّل هذا التحوّل هو القاعدة الراهنة لسلوكيات التنظيم التي تبنّتها الجماعة لأسباب أمنية إبّان عهد مبارك. هذه القاعدة تدعو إلى مركزة صنع القرار ولامركزية التنفيذ. علاوة على ذلك، وفّر التركيز على الاحتجاجات المحلية المرونة والقدرة على التعافي السريع.9  بيد أن ذلك يحدّ أيضاً من قدرة الإخوان على تعبئة الموارد على النطاق الوطني، وعلى الحفاظ على التماسك، لأنه لم يَعُد في مقدور الجماعة التنسيق في كل أنحاء مصر. ثم أن اللامركزية تقوّض قدرة التنظيم على ممارسة ضغط يُعتَدّ به من خلال الاحتجاجات المركّزة في المناطق المدينية الرئيس.

تفاوتت جهود الجماعة الخاصة بالانتشار والتواصل الاجتماعي في مدى معدلات نجاحها. فاللجان السياسية فيها، التي نشطت خاصةً في الفترة بين العامَين 2011 و2013، لم تَعُد موجودة تقريباً في 2014، لأن المجتمع (أو على الأقل قطاعات واسعة منه) رفضتها. إضافة إلى ذلك، ثمة ندرة في الكوادر الشابة الملتزمة، لأن العديد من الإسلاميين الشباب باتوا يزدرون السياسات الانتخابية الديمقراطية في جدواها وجوهرها. هذا في حين أن لجان العمل الخيري التابعة للجماعة عاينت تدهوراً في مواردها المالية، لأن الأموال تذهب إلى دعم عائلات الأعضاء المعتقلين. وفي هذه الأثناء، ازداد الاهتمام باللجان التعليمية والدينية في أعقاب إطاحة مرسي، لأن إعادة إنتاج الطابع الإيديولوجي والديني أمر فائق الأهمية للجماعة. والتربية الدينية جزء مركزي في هذه العملية.

تحوّلات إيديولوجية

هذه التغيرات التنظيمية أدّت إلى تحولات إيديولوجية أيضاً، أبرزها عودة أعضاء الإخوان إلى الاعتماد على المبدأ التقليدي كمصدر للهوية.

تقليديّاً، جماعة الإخوان المسلمين هي مجموعة دينية شكّل فيها أنصارها مجرّد أداة سياسية لتحقيق خطط ومهام القيادة في إطار عقيدة شمولية الإسلام. وغداة إطاحة مبارك، كرّس قادة الإخوان جلّ طاقتهم ومواردهم للنشاطات السياسية والخيرية على حساب العمل الدّعَوي. وهذا أمر كان ضرورياً لكسب الأصوات. لكن، في حين أن هذه الخطوة عزّزت القوة الانتخابية للإخوان، إلا أنها أضرّت بالطابع الإيديولوجي للجماعة كمؤسسة.

ثم جاءت التطورات منذ إطاحة مرسي لتعكس هذا المنحى. فالجماعة عادت القهقرى إلى الجوهر المبدئي لتوكيد طابعها، ولمواجهة ماتعتبره تهديداً وجودياً. بيد أن الخطوة التالية غير واضحة: هل ستُحيي الجماعة سعيها التاريخي إلى الحصول على تعاطف المجتمع كنموذج يُحتذى ويقود، أم تعزل نفسها عنه وتعتبره لاإسلاميّاً، وخانعاً، ومنحرفاً لا أمل فيه؟ هل ستواصل الجماعة استخدام نشاطها الاجتماعي سعياً وراء السلطة السياسية، أم يصبح هذا النشاط هدفاً في حدّ ذاته؟ الوجهة التي ستّتجه نحوها خيارات الإخوان ستحدّد مستقبل مسيرتها المستقبلية.

منظمة الإخوان  كانت سريعة في التأقلم التكتيكي، لكنها أبطأ في إعادة تشكيل استراتيجيتها، كما أنها تتخلَّف حين يتعلّق الأمر بإعادة النظر الإيديولوجية والثقافية والفكرية.

صحيح أن إيديولوجية الأخوان تُعزّز بقوة مثابرة الجماعة وفق قواعد دينية، إلا أنها أقل فعالية في تسهيل المبادرات السياسية. المنظمة كانت سريعة في التأقلم التكتيكي، لكنها أبطأ في إعادة تشكيل استراتيجيتها، كما أنها تتخلَّف حين يتعلّق الأمر بإعادة النظر الإيديولوجية والثقافية والفكرية. إضافة إلى ذلك، لم تحافظ الجماعة في الاحتجاجات التي تلت إطاحة مرسي على غموضها الإيديولوجي حيال المسائل الرئيسة المتعلّقة بالعنف والتسامح مع الآخر السياسي والديني وحسب، بل أصبحت أيضاً أكثر غموضاً بشكل يتعّذر تفسيره أو تبريره.10 

ومع ذلك، تُعتبَر الجماعة الآن في موقع أفضل لنفي تهم الانحراف التي لطالما ألصقها بها السلفيون ماقبل انتفاضة 2011 وأثناءها. لقد اعتاد السلفيون (ولاسيما منهم الحركيون والجهاديون) الحطّ من سياسات الإخوان واعتبارها مخطئة شرعياً وزاخرة بالتنازلات المبدئية، وتعرّض القضية الإسلامية إلى الخطر سياسياً. لكن الجماعة تعتقد الآن أن المجابهات المتواصلة مع النظام، وعلى الرغم من أنها من دون جدوى، ستعزّز بشكل حادّ وعيها الإيديولوجي وتجربتها، كي تجعلها أكثر ملاءمة وجهوزية للظروف الجديدة لحقبة مابعد الانقلاب. ووفق تعبير ناشط إخواني: "هذه عملية تعلُّم".11 

أخيراً، يُعتبَر العامل الديني في أنشطة الجماعة مهماً. فالعديد من الإخوان لايقيمون الاحتجاجات من ناحية جدواها وفوائدها، بل بكونها واجباً دينيّاً للنضال ضد الظلم وضد مايعتبرونه "حرباً على الإسلام" بقيادة النظام العسكري وداعميه الدوليين.12 

سيناريوهات مستقبلية

هناك خمسة سيناريوهات محتملة للإخوان المسلمين مستقبلاً:

-    قيام النظام الجديد باجتثاثهم تماماً.
-    عودة مظفّرة.
-    التصالح مع النظام.
-    التشظّي إلى أجنحة متباينة كجزء من حالة السيولة الحركية الإسلامية الراهنة.
-    التجديد المترافق مع عملية مراجعة ذاتية عميقة.   

الاستئصال التام

غداة إطاحة مرسي، برزت دلائل تشير إلى أن النظام الجديد لايجد غضاضةً في ضمّ الإخوان إلى خريطة الطريق خلال مرحلة الانتقال السياسي، طالما أنهم يحترمون القواعد الجديدة للعبة.13  هذه القواعد كانت واضحة: تعترف الجماعة بشرعية النظام الجديد، وتوقف الاحتجاجات والتظاهرات، وتتوقّف عن المطالبة بعودة مرسي إلى كرسي الرئاسة، وتقبل العقوبات القانونية التي تُنزَل بالقادة المنخرطين في أعمال العنف والصراع الأهلي. كما يتعيّن أن تقبل الجماعة أيضاً الخطوط الحمر التي فرضها الجيش حيال القضايا المتعلّقة بالأمن الوطني، والهوية، والحدّ من الأنشطة الطائفية للجماعة، والامتناع عن أي محاولات للهيمنة الانتخابية والسياسية.

هذه الشروط، في جوهرها، كانت ستُخضِع الجماعة وتحوّلها إلى شريك صغير للمؤسسة العسكرية في النظام السياسي الجديد. وقد اعتبر الإخوان أن القبول بمثل هذه الشروط سيكون بمثابة استسلام سياسي كامل سيقوِّض تماسك وتضامن المنظمة، حيث أنها غير مبررة في نظر كلٍّ من المُعبّئين دينياً والقواعد الشعبية الإسلامية. ولذلك، اختارت الإخوان مواصلة المقاومة. وفي وجه عناد وتصلُّب الجماعة، سعى النظام إلى ضرب عنقها وتدميرها إن أمكن.

بيد أن فرص تحقيق ذلك ضئيلة. فقدرة النظام على تجميد الأصول المالية مقيّدة بشدة، بسبب الحجم الكبير للشبكات الاقتصادية المحلية والإقليمية للجماعة، والتي كانت ثمرة عقود من العمل، هذا إضافة إلى قدرتها على التنقّل بسرعة والعمل في الخفاء.14  ثم أن الدولة تفتقد إلى القدرة على التعويض عن أنشطة الجمعيات الخيرية التابعة للإخوان وباقي الإسلاميين، وهي لاتزال غارقة في العجز وعدم الكفاءة، مايجعل من الصعوبة بمكان استئصال منظمة لديها مئات آلاف المشايعين وقواعد الدعم في مناطق همَّشها النظام.

إضافة إلى ذلك، تدمير الإخوان قد يلحق الضرر بالنظام نفسه، لأنه أقام حيّزاً كبيراً من شرعيته على أساس برنامج مُعادٍ للإسلاميين. وهنا، تاريخ الجزائر الحديث - الذي يُعتبَر غالباً نموذجاً للتدمير الناجح لحركة إسلامية - يمكن أن يفيد كإنذار إضافي. ففي التسعينيات، اعتمد نزاع النظام الجزائري مع الإسلاميين المسلحين، على غرار متشدّدي جبهة الإنقاذ الإسلامية والجماعة الإسلامية المقاتلة، على الإٍدماج الانتقائي لأجنحة إسلامية أخرى أكثر اعتدالاً، مثل جماعة الإخوان المسلمين الجزائرية. بيد أن الأداء الضعيف للنظام على المستويات الاقتصادية والسياسية، أدّى لاحقاً إلى تسهيل نمو وازدهار الجماعات الإسلامية المرتبطة بالقاعدة.

لاتزال بعض النخب المناوئة للإسلاميين في مصر تعتبر رجل النظام القوي عبد الفتاح السيسي، الذي انتُخِبَ في حزيران/يونيو رئيساً، بمثابة أتاتورك (باني تركيا الحديثة) آخر، سيكون قادراً على تخليص مصر وإعتاقها من الإسلاموية. وغالباً ماتُعيد هذه النخب إلى الأذهان جهود الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر لاستئصال جماعة الإخوان في الخمسينيات والستينيات. لكن لسوء الحظ لهذه السردية مثالبها. صحيح أن رعاية الدولة لبرامج خدمات اجتماعية ومشاريع تنمية واسعة النطاق، إضافة إلى النجاحات المناهضة للاستعمار، أطلقت يد عبد الناصر في مجال ممارسة السلطوية والسياسات المناوئة للإسلاموية، إلا أن تطبيق مثل هذه الاستراتيجية أصعب بكثير الآن بسبب عدم حيازة الدولة للموراد، ناهيك عن تقلُّص دورها. إضافة إلى ذلك، بعد سنوات قليلة من وفاة ناصر، أعاد الإخوان بناء تنظيمهم. وغداة الهزيمة الماحقة التي أنزلتها إسرائيل بمصر في العام 1967، والتسامح النسبي لأنور السادات (خليفة ناصر) مع الجماعة في السبعينيات والسياقات الإقليمية المؤاتية، نجح الإخوان وحركات إسلامية أخرى في اجتذاب آلاف الشبان الإسلاميين إلى صفوفهم، على الرغم من أنه يُفترض أن هؤلاء الشبان ترعرعوا في مناخ علماني خلال حقبة ناصر قبل عقد. لكن يبدو أن الصعوبات الاقتصادية والافتقاد إلى سياسات تعدّدية تنافسية، أسفرا عن عملية إحياء إسلاموية في مرحلة السبعينيات والثمانينيات.

إذا ماوضعنا في الاعتبار المعطيات الاجتماعية-السياسية والاقتصادية في مصر، ليس مستبعداً عودة الإسلاميين من جديد، على الرغم من أن هذا يبدو احتمالاً بعيداً في ضوء حالة الاستقطاب الراهنة. 

الآن، إذا ماوضعنا في الاعتبار المعطيات الاجتماعية-السياسية والاقتصادية في مصر، ليس مستبعداً عودة الإسلاميين من جديد، على الرغم من أن هذا يبدو احتمالاً بعيداً في ضوء حالة الاستقطاب الراهنة. ففي حين أن البعض يعتقدون خطأً أن الدولة القديمة ستقيم الديمقراطية بعد تحقيق النصر على الإسلاميين، أثبت نظام السيسي أنه سلطوي كما أسلافه. والاقتصاد لن يتحسَّن ما لم يوافق اللاعبون الأساسيون في المجتمع على إصلاحات بنيوية عميقة، لايبدو أن أحداً مستعدّ لتطبيقها على نحو جدّي حنى الآن. ثم أنه من غير المحتمل أن يُملأ الفراغ السياسي الراهن ببدائل إيديولودجية جديدة لها قواعدها الشعبية الواضحة في أي وقت قريب.

والحال أن إطاحة مرسي عُنوة، وحملات القمع المتواصلة لجماعة الإخوان، قد يوفّران للتنظيم في نهاية المطاف التضامن الداخلي والتعاطف المتزايد من خارجه، وهما أمران ضروريان في معركة البقاء.15 

عودة مظفّرة

السيناريو الثاني قد يتضمّن ليس بقاء جماعة الإخوان وحسب، بل أيضاً عودتها المظفرة إلى السياسات المصرية. مثل هذا السيناريو قد يستند إلى مروحة افتراضات: منها أن احتجاجات الإخوان تنجح في هزّ استقرار النظام إلى درجة كافية، وأن تتحوّل المواقف الشعبية لصالح الجماعة بسبب تعثّر النظام اقتصادياً وسياسياً، وكذلك أن يكون للتنظيم استراتيجية متّسقة وقوية للتغلّب على الخلل الجلي في التوازن مع الدولة القديمة. لكن هذه السردية لها مثالبها أيضاً.

فالجماعة اتّخذت خطوات مُتّفَق عليها جماعيّاً بين أعضائها لخلخلة استقرار النظام الراهن عبر حراك احتجاجي واسع النطاق. فهي أنشأت التحالف الوطني لدعم الشرعية ككيان سياسي تعدّدي تُسيطر هي عليه، ويسعى إلى إعادة مرسي بوصفه الرئيس الشرعي، وذلك عبر إطلاق التظاهرات بشكل منتظم، وتسهيل بروز مجتمع مدني مصري أكثر ثورية، وتشجيع انتقاد وحشية النظام وتعثّراته الاقتصادية، والتأثير على الرأي العام العالمي. لقد جرى تقديم الأخطاء السابقة للجماعة على أنها سقطات إجرائية وجزئية ليس أكثر، فيما كانت لغة التحالف الوطني لدعم الشرعية حريصة على الابتعاد عن الإسلاموية لتتمحور بدلاً من ذلك على قضايا العدالة السياسية والديمقراطية. في البداية، كانت الاحتجاجات التي أعقبت الانقلاب ضد مرسي كبيرة بشكل لافت في المحافظات الجنوبية، مثل الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط، إضافة إلى مناطق متعاطفة في القاهرة والجيزة والاسكندرية. لكن في نهاية المطاف، عادت هذه الاحتجاجات إلى الخطاب الإسلامي، بسبب الطريقة اللامركزية التي انتهجتها الجماعة في إدارة الحراك، وأيضاً بسبب الحاجة إلى إرضاء القواعد الشعبية الإسلامية.

بيد أن سلسلةً من العوامل قوّضت الفعالية الكامنة في هذا الحراك. فالتحالف الوطني لدعم الشرعية فشل في بناء الجسور مع مجموعات رئيسة في المجتمع، مثل الطبقة العاملة، والمهنيين، والأطراف الاقتصادية غير الرسمية، والفلاحين، والطبقة الوسطى غير المؤدلجة. وقد فقدت الاحتجاجات فعاليتها إلى حدّ كبير بسبب نجاح حملات النظام الإعلامية، وكذلك بسبب الطابع الطائفي والإسلاموي المتكرّر لخطاب الاحتجاجات. وكل ذلك لم يساعد في جذب التعاطف من المصريين غير الإسلامويين، والذي تشتدّ الحاجة إليه.

السبب العميق لهذا الفشل هو عدم قدرة الإخوان على موضعة تظلّماتهم وحراكهم في إطار أجندة سياسية أوسع، واستخدام خطاب يلقى هوًى من جانب قطاعات المجتمع غير الإسلامية. علاوة على ذلك، ترافقت جهود الجماعة لخلخلة النظام مع أعمال عنف ولا استقرار وإرهاب، وبالتالي اعتُبِرت ملومة على قدم المساواة مع الدولة حيال المتاعب الاقتصادية المصرية. ثم أن مغالاة الجماعة في التشديد على تعثّرات النظام من دون اقتراح بدائل واعدة وموحية بالأمل، لاتفعل شيئاً سوى زيادة مخاوف الناس من نزعة التطرف في الاحتجاجات. والواقع أن الناس قد يفضّلون الوضع الراهن على لاوضوح احتجاجات غامضة لاتُقدِّم بدائل جذابة وذات صدقية.

بعض أعضاء الجماعة يردّون على هذا المنطق بالقول إن الاحتجاجات المتواصلة مفيدة، من حيث أنها تعرقل حالة السوية السياسية والاستقرار التي يتوق النظام إلى فرضها على المجتمع. وبالتالي يتعيّن الحفاظ على الزخم الراهن إلى حين نضوج الفرص لاحتجاجات أكبر.16  ويبدو هؤلاء مقتنعين بأن ثقة غالبية المجتمع بالإخوان قد تعود إذا ماتمت استعادة الحريات السياسية، وإذا مامنحوا الفرصة للتعبير وللتحرك بحرية.17 

لكن، يبدو حتى الآن أن العودة الانتخابية للإخوان غير محتملة. صحيح أنه إذا ماجرت انتخابات ديمقراطية في خريف 2014، قد تكون الجماعة قادرة على الحفاظ على قواعد انتخابية ريفية ومدينية واسعة (لاتزال كبيرة وفق كل المعطيات)، لكن الصحيح أيضاً أنها ستفشل على الأرجح في قطف الأكثرية التي تمتّعت بها في الانتخابات السابقة. إذ أن الأمر سيستغرق ردحاً طويلاً من الزمن لإبطال الانطباعات السلبية عن الإخوان السائدة لدى الأكثرية في المجتمع، والتي تتغذّى من المجابهات الدموية، والصدامات الطائفية، والإرهاب، والكراهية الدينية، والصراعات الأهلية، والملاحقات الإعلامية الضارية لهم. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من أن الإخوان كانوا يأملون العكس، فإن سخط العامة على سياسات النظام الاقتصادية لم يترجم نفسه في شكل دعم شعبي للتنظيم. الإخوان يحبّون أن يعيدوا إلى الأذهان تجربتهم في عهد عبد الناصر لدعم إدعاءاتهم حول عودة وشيكة. بالطبع، يمكن الاعتراف بأن عملية استئصال الإخوان بالقوة لاتنجح، لكن هذا لايعني أن في وسعهم استعادة شعبيتهم كما كانت قبل العام 2013. الأمور تغيّرت، ويتعيّن الاعتراف أيضاً بمدى اتّساع حجم المشاعر المناوئة للأخوان، بسبب تجربتهم الفاشلة في الحكم.  

البديل المحتمل للسياسات الانتخابية هو أن يطوِّر الإخوان حركة الاحتجاج الراهنة كي تصبح حركة سياسية شعبوية ترفع شعارات العدالة الاجتماعية، وتخاطب الطبقات المُفقرة. لتحقيق مثل هذا التحوّل، ثمة ضرورة لوسائل جذرية وموارد فكرية وقاعدية قابلة لتبنّي سياسات إعادة التوزيع، كما هو واضح في تجارب حركات شعبوية إسلامية ناجحة مثل حزب الله في لبنان، وجبهة الانقاذ الإسلامي في الجزائر، وحركة مقتدى الصدر في العراق، ومجاهدي خلق في إيران. بيد أن الجماعة تفتقد إلى الموارد والإيديولوجيا والوسائل.

إن قادة الإخوان غير المعتقلين ينشطون الآن لتطوير استراتيجيات بهدف المضي قدماً إلى الأمام، لكن التنافر العميق بين استراتيجيات هؤلاء يزيد من مخاطر تعريض احتمال عودة الإخوان الناجحة إلى الخطر. هذه الاستراتيجيات المتباينة تندرج في فئتين إثنتين: الأولى، تلك التي طوّرها الإخوان في المنفى، والثانية، تلك التي طوّرها الإخوان الذين لازالوا يعملون في مصر.

الجماعة في المنفى

هناك انقسام متفاقم في الآراء بين نشطاء الإخوان في المنفى في قطر وتركيا والمملكة المتحدة وأماكن أخرى في أوروبا والشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الخطوط بينهم غير واضحة والناس يمكن أن تبدّل مواقعها ومواقفها، إلا أنه يمكن تحديد مجموعتين فرعيتين اثنتين:

الأولى، مجموعة فرعية تصادمية تُصرّ على مواصلة المقاربة العدائية للنظام ومعها الحراك الاحتجاجي بقيادة الإخوان، إلى حين تقويض الانقلاب. هؤلاء الأعضاء كانوا يمارسون نفوذاً عبر فضائية الجزيرة، ويهيمنون على التحالف الوطني، ويحتفظون بنفوذ مُعتبَر في مكتب الإرشاد المؤقّت. وهم يعتبرون تجربة الثورة الإيرانية مثلاً يُحتذى. وفي حين أن هؤلاء يدينون العنف رسمياً، إلا أنهم يعتقدون أنه في الوسع إطلاق غضب القواعد الشعبية في حدود معقولة. كما يعتقدون أيضاً أن صمود الإخوان سيفرض في خاتمة المطاف إنهاء قمع الدولة، لأن هذا القمع يتم في غالبيته على يد مُجنّدين غير معبَّئين، ولأن التدهور المتوقّع في الظروف الاقتصادية سيفيد الإخوان. هذه المجموعة لاتزال تتمسّك بأمل تلقّي الدعم من قوى خارجية.

المجموعة الفرعية الثانية أصغر حجماً وأقل نفوذاً، وهي تعي بشكل متزايد المخاطر المرتبطة بسياسة حافة الهاوية التي تمارسها المجموعة الأولى. قادة هذه الفئة يعربون عن خشيتهم من أن استغلال الخطاب المتشدّد بين الشبان الإسلاميين لتحسين الفعالية في مواجهة الدولة، يهدّد بفقدان السيطرة على هؤلاء الشباب. وهم يعتقدون أن القادة الصداميين في المنفى بعيدون للغاية عن الحقائق على الأرض. علاوة على ذلك، يشعر هؤلاء أن الضغط من القوى الخارجية لصالح الجماعة، أثبت أنه مجرد لغو لفظي في الغالب،18  ويرون أن استهداف المجموعة الأولى للمؤسسة العسكرية والرهان على انقسامات داخلية في صفوفها، هما أمران غير حكيمين. ونتيجة لذلك يجادلون بأن نهج العمل السليم يجب أن يشمل الاعتراف بأن إعادة مرسي مسألة غير واقعية، ووضع المهام الراهنة للإخوان في إطار خطاب أعمّ يشمل المطالب الديمقراطية للمعارضة غير الإسلامية، والحكم المدني، والإصلاح السياسي في إطار احترام مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من أن هؤلاء النشطاء لم يقولوا ذلك صراحة، إلا أن بعضهم، وفي ظلّ ظروف مؤاتية، قد يدرسون التصالح مع النظام ويقبلون الديّة كتعويض عن مصرع أعضاء في الجماعة.19  في المقابل، يتمّ العفو عن معتقلي الإخوان، ويُمنحون حرية العمل في مجال الدعوة والأنشطة الاجتماعية. بعض العناصر في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين يدعمون هذا الرأي.20  ومؤخراً، سرت أحاديث عن كيان جديد هو المجلس الثوري المصري، يردّد بعض دعاوي المجموعة الثانية حول الحاجة إلى توسيع قاعدة الدعم المناوئة للانقلاب. ومع الوقت تسرّبت أنباء عن أن هذا الكيان الجديد قد يحلّ مكان التحالف الوطني الذي بات غير فعّال بشكل متزايد.

الصراعات الداخلية بين هاتين المجموعتين، التي تتجلّى في الشجارات الإدارية وتبدُّل التحالفات في داخل هيئات اتخاذ القرار في الجماعة، لاتزال متواصلة. لقد خطط الإخوان لانتفاضة ضد النظام في 6 تشرين الأول/أوكتوبر 2013، وفي 25 كانون الثاني/يناير 2014، مارفع من سقف التوقّعات بنصٍر وشيك. بيد أن فشل هذه الخطط عمّق الانقسام بين المجموعتين. وقد طفا هذا الشقاق على السطح حين أصدرت المجموعة الثانية - التي تصدّرت مجموعة واسعة من شخصيات معارضة - إعلاناً من بروكسل في نيسان/أبريل 2014. هذا الإعلان كان مثيراً للجدل في نظر العديد من نشطاء الإخوان، لأنه فشل في الإشارة إلى إعادة مرسي للرئاسة كهدف رئيس، وصمت حيال الطابع الإسلامي للمعارضة المعادية للنظام. وقد ردّ قادة الإخوان في مصر بإصدار بيانَين شرحوا فيهما الوضع لأنصارهم المرتبكين، وأكّدوا لهم مجدداً التزامهم بـ"إبطال الانقلاب" وإعادة مرسي.

الجماعة في مصر 

يلتزم عناصر القواعد الشعبية في مصر غالباً بما تقرّره جماعة الإخوان الفاعلة في البلاد التي تميل إلى موقف أكثر تصادمية (على الرغم من أن بعضها يفضّل مقاربة أكثر اعتدالاً).

حتى لو تدبّر قادة الجماعة أمر التوافق مع النظام العسكري، من الصعب تخيُّل أنهم سيكونون قادرين على ضبط الأعضاء الشبان المتشددين، وعلى استعادة السيطرة الكاملة على التنظيم، وعلى مخاطبة الجمهور الإسلامي الأوسع وجذبه. 

غير أن العديد من قادة الجماعة في مصر يتجاهلون القادة في المنفى، ويجهدون بقوة للحفاظ على سيطرتهم على زخم النشاط. لقد دفع شبان الجماعة ثمناً باهظاً من أجل المواجهة مع النظام الحالي، وواجهوا في بعض الحالات قمعاً أقسى من ذلك الذي عانت منه القيادة الراهنة في ظلّ الأنظمة السابقة. وهذا مامكّنهم من الحصول على شرعية أكبر، وبالتالي استقلالاً ذاتياً أوسع حيال استراتيجيات الجماعة21  - الأمر الذي خلق على مايبدو شقوقاً في نظام الإخوان التقليدي المعتمد على الطاعة والمداولات المُسيطَر عليها، وأنتج جزراً منعزلة من التفكير. وفي حين أن المجموعة المتشددّة من القادة المنفيين غير مدركة لمدى كلفة ولاجدوى السياسات التصادمية على الأرض في مصر، تبدو المجموعة المعتدلة بالمثل غير واعية لروح الانتقام السائدة بين القاعدة الشبابية الحانقة والغاضبة في الجماعة.

كان يتعيّن على أي مقاربة فعّالة لنشطاء الجماعة المعتدلين أن تجادل بأن المنحى التصادمي الذي تبنّاه شبان الإخوان مدمِّر ذاتياً، وأن ثمة ضرورة لمقاربات جديدة بناءة تكون عملية في التعامل مع الواقع لكنها أيضا لاتهدر التضحيات السابقة.22  لكن أقلية الآن تتبنّى مثل هذه المقاربة داخل الجماعة، وهي تفتقد إلى الفعالية في العديد من المجالات.

إن فرص بقاء الجماعة مرتفعة، لكن بسبب هذه الانقسامات لايُحتمَل أن تنجح في العودة المظفرة. وحتى لو تدبّر قادة الجماعة أمر التوافق مع النظام العسكري، من الصعب تخيُّل أنهم سيكونون قادرين على ضبط الأعضاء الشبان المتشددين، وعلى استعادة السيطرة الكاملة على التنظيم، وعلى مخاطبة الجمهور الإسلامي الأوسع وجذبه. 

المصالحة مع النظام

السيناريو الثالث قد يتضمّن عودةً إلى الصيغة السياسية في عهد مبارك، حين كان الإدماج السياسي المحدود لجماعة الإخوان المسلمين كأمر واقع مسموحاً به ضمن خطوط حمر معيّنة وضعها النظام.

يمكن أن يشكّل هذا السيناريو وضعاً مربحاً لكلٍّ من الدولة القديمة وجماعة الإخوان على حدّ سواء. فالدولة القديمة سترتاح من عبء الحفاظ على تكتيكاتها القاسية ضدّ جماعة الإخوان، وقد تُحقِّق الاستقرار السياسي والاقتصادي التي هي في أمسّ الحاجة إليه. كما يمكن لهذا السيناريو أن يتيح للنظام تجنّب انتشار الإسلاموية المتطرّفة في مصر. قد يشكّل هذا الأمر عودةً إلى الاعتقاد القائل بأن تشجيع إسلام معتدل ومضبوط من شأنه أن يساهم في احتواء جاذبية الإسلاموية المتطرّفة وغير المضبوطة. وهذا لايتطلّب بالضرورة تغييرات إيديولوجية أو تنظيمية كبيرة من جانب جماعة الإخوان المسلمين، ومن شأنه أيضاً أن يعيد إلى المجموعة حريتها وممتلكاتها، ويضع حدّاً لفيض الدعاية الإعلامية المعادية للإسلاميين، ويتيح للتنظيم تجنّب القمع وإعادة إحياء أنشطته. في المقابل، توقف جماعة الإخوان احتجاجاتها وتعترف بالنظام الحالي. كما قد تصبح المشاركة السياسية المحدودة للإخوان قابلة للتداول.

هذه الحصيلة ممكنة. فحرب الاستنزاف الحالية بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين لايمكن أن تدوم، وأي طرف يُنهَك أولاً سيرضخ إلى شروط الطرف الآخر ويقبل المصالحة.

والحال أن تحرّكاً في هذا الاتجاه حدث فعلاً. ففي آب/أغسطس 2014، أُطلِق سراح قادةٍ من الإخوان من ذوي الرتب المتوسّطة، والمعروفين باعتدالهم واستعدادهم للتوصّل إلى اتفاق. وترك حزبا الوسط والوطن التحالف الوطني لدعم الشرعية في أواخر آب/أغسطس وأوائل أيلول/سبتمبر، وقد تحذو حذوهما مجموعات أخرى موالية لجماعة الإخوان، بما فيها حزب البناء والتنمية. كانت هذه الأحزابُ حريصة على ألّا تنتقد علناً جماعةَ الإخوان ، وفسّرت خطواتها على أنها ضرورية لتوسيع الصراع السياسي وإبعاده عن التحالف الوطني لدعم الشرعية غير المجدي – وبالتالي تحويل الخطاب نحو صراع من أجل الديمقراطية بدلاً من عودة حكم جماعة الإخوان.23  ومع ذلك، قد تشي هذه الخطوات بأن المصالحة بين الأطراف واردة، وقد تفسح في المجال أمام مشاركة هؤلاء الشركاء السابقين لجماعة الإخوان، وربما حتى أعضاء حاليين في الجماعة، في الانتخابات البرلمانية المقبلة (إذا ما أُقيمَت أصلاً). لكن ردود فعل النظام وجماعة الإخوان تجاه خطوات هذه الأحزاب لاتزال غير واضحة. 

في مايتعلّق أيضاً باحتمالات المصالحة، لايزال الجيش في مصر وفيّاً لبراغماتيته الإيديولوجية ولتلاعبه بالسياسات الدينية. فالدولة نفسها التي قمعت جماعة الإخوان، سعت إلى الحصول على دعم أطراف إسلامية فاعلة أخرى، مثل الأزهر وحزب النور السلفي، وبرّرت سياساتها باسم "الإسلام المصري الحقيقي". وتتعايش عدائية الدولة تجاه المجموعات الإسلامية المنظّمة مع التيّار الديني المحافظ بشكلٍ واضح – وحتى بتوجّه طائفي – في مايتعلّق بمسائل الهوية، والعلاقات بين الدولة والدين، وسنّ القوانين. هذا التوجّه الديني المحافط راسخ بعمقٍ في الدساتير المصرية، والقوانين، والجيش، والشرطة، والقضاء، ومؤسسات الدولة الأخرى. وقد استُخدِم الدين تقليدياً من جانب الأنظمة المصرية لتشجيع التبعية للدولة. فعلماء الأزهر وشيوخه وخطباؤه يتحدّثون في الجوامع ووسائل الإعلام لتبرير سياسات الدولة وأفعالها على أنها إسلامية تماماً، ولتعزيز الأخلاق الدينية في المجتمع، وتطهير المجتمع من الهرطقة الدينية وانعدام الأخلاق، وبالتالي تعبئة الأنصار. ونظام السيسي لايشذّ على هذه القاعدة. فالواقع أن السيسي قد تزيّد في استحضار الخطاب الديني لتشريع سلطة الدولة في نظر السكان الورعين، ولتجريد الإخوان والإسلاميين من أي شرعية دينية. السيسي ونظامه هما مَن سيتحدّثان حصراً في المجال العام لصالح "الدين الإسلامي الحقيقي"، بحسب تعبير الدولة. 

لاشك أن صراع الدولة مع المجموعات الإسلامية حول الأمن القومي وتقاسم السلطة أمر بديهي وواضح للعيان. لكن ذلك لايعني أن النظام مناهض للإسلاميين على أساس ايديولوجي، ويبقى دائماً الاحتمال، إذا كان ذلك مناسباً، أن تتلاعب الدولة بالسياسات الدينية وسياسات الهوية بغية تعزيز المصالحة مع جماعة الإخوان. 

بيد أن هذا السيناريو لايزال مستبعداً على المدى القصير لأسباب عدة:

أولاً، استثمر كلا الطرفَين طاقات كبيرة في شيطنة صورة الطرف الآخر، الأمر الذي يجعل احتمالات المصالحة بعيدة. فقادة الجماعة بشكل خاص قد يجدون صعوبةً في إقناع قاعدتهم الشعبية بالتخلّي عن السعي إلى الانتقام للذين قُتِلوا على يد النظام.24  إذ حينها قد ينجذب الشباب الإسلاميون الغاضبون إلى نموذج الدولة الإسلامية في العراق وسورية، الذي يشمل التخلّي عن الديمقراطية الانتخابية والنشاط السياسي السلمي والشامل، ويرفعون بدلاً من ذلك السلاح في صراع عنيف ضدّ دولهم باسم القضية الإسلامية. وهذا بالتحديد نقيض المصالحة. أما بالنسبة إلى النظام، فقد تؤدّي المصالحة إلى فقدان المصداقية في نظر قطاعات واسعة من المجتمع جرت تعبئتها عبر دعاية مناهضة للإسلاميين لم يسبق لها مثيل، إضافة إلى دوائر الشرطة والقضاء المناهضة للإسلاميين بشدّة.

ثانياً، بغية جعل المصالحة جذّابةً في نظر أعضاء الجماعة، قد تقبل هذه الأخيرة بها فقط في حال ضمنت حصةً من البرلمان والحكومة. لكن حينها يمكن للنظام أن يشكّك في مدى فائدة المصالحة لأنها ستمنح الجماعة سبيلاً إلى الولوج إلى النظام، وتفسح المجال أمام تحدّي بنية السلطة مستقبلاً، كما حدث مع حزب العدالة والتنمية في تركيا. فهذا الحزب استطاع أن يُبطل وصاية الجيش على السياسة التركية تدريجياً، من خلال عملية مشاركة تدرّجية في السياسة الانتخابية والمؤسساتية، بُنيَت على عقود من المشاركة السياسية للإسلاميين. بل أن حالة الإخوان في مصر نفسها أثارت مخاوف الجيش، الذي رأى أن الإخوان، عندما أُتيحَت لهم الفرصة، استخدموا نجاحهم الانتخابي بعد انتفاضة العام 2011 لتحدّي هيمنته على الدولة القديمة.

ثالثاً، وجدت النخب من كلا الطرفَين مصالح راسخة لها في الحفاظ على الوضع الراهن. فالمصالحة تتطلّب رحيل قادة أساسيين عن السلطة، بمَن فيهم السيسي، وجنرالات في الجيش، إضافة إلى المرشد الأعلى لجماعة الإخوان، وقادة أساسيين في مكتب الإرشاد. لكن هذه الخطوة غير متصوَّرة حالياً، إذ يبدو أنه لايمكن استبدال القادة من كلا الطرفَين على المدى القصير. وقد أثبتت تجربة مابعد الانقلاب أن استبدال قادة جماعة الإخوان ليس بالأمر اليسير. كما يصعب تصوّر السيسي، الذي يتمتّع بالشعبية والقوة الواسعتَين، خارج السلطة في المستقبل القريب، إلا بعد فشل واضح لتجربته في الحكم.

رابعاً، يُعَدّ السياق الإقليمي مهماً هو الآخر. فإذا مامضت المصالحة قدماً، قد يخسر النظام الدعم الاقتصادي من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المناهضتَين للإسلاميين – وهو دعم يحتاج إليه بشدّة. ومع تواصل الاستقطاب في الشرق الأوسط حول القضايا ذات الصلة بالإسلام السياسي والمواجهة السنّية-الشيعية، ترتبط المصالحة المحتملة في مصر أكثر فأكثر بنتائج هذه السياسات الإقليمية. فمن جهة، عزّز صعود المتشدّدين الإسلاميين في ليبيا والعراق وسورية واليمن، عزيمة المعسكر المناهض للإسلاميين السياسيين بقيادة السعودية. ومن جهة أخرى، قد تؤدّي الفعالية السياسية للإسلاميين المتشدّدين إلى تعاون جماعة الإخوان وداعميها الإقليميين مع تلك المجموعات، من أجل تعزيز قدرتهم على المساومة مع النظام في مصر ومع الأطراف المناهضة للإسلاميين في المنطقة.

شكّلت قوة الإسلاميين في ليبيا على طول الحدود مع مصر، وصمود حماس في مواجهتها مع إسرائيل في غزة في العام 2014، مثالَين على صعود هؤلاء المتشدّدين. وبالتالي، مغامرة السيسي العسكرية المحتملة في ليبيا لمحاربة التهديدات الإسلامية، قد تقوّض أكثر كلّ مجالٍ مُتاحٍ للمصالحة. إلا أن الظروف في اليمن قد تُعيد إحياء جماعة الإخوان هناك للردّ على هيمنة الثوار الحوثيين الشيعة المدعومين من إيران. فضلاً عن ذلك، قد تضغط الولايات المتحدة على السعودية، شريكها في التحالف ضدّ الدولة الإسلامية، من أجل الحثّ على التقارب مع جماعة الإخوان التي يمكن أن تشكّل قوة سنّية معتدلة موازنة لتنظيم الدولة الإسلامية المتطرّفة. تتعدّد الاحتمالات الممكنة لكن من الواضح أن الاستقطاب الإقليمي معقّد، ولايمكن التقليل من أهمية تأثيراته غير الجليّة على احتمالات المصالحة مع الإخوان في مصر.  

إذا ماتغيّرت الظروف وأصبحت مؤاتية أكثر للمصالحة، فثمة عوامل أخرى ستجعل احتمال قيام علاقة بين النظام وبين جماعة الإخوان، على الأقل كالتي كانت قائمة في عهد مبارك، أمراً مستبعداً. فالتطرّف المتواصل بشكل متزايد منذ الانقلاب في صفوف القاعدة الشعبية للجماعة مهمٌّ ويجعل من الصعب عليها الحفاظ على وحدتها على المدى الطويل، ولاسيما أن مشروعها التاريخي، التي تسعى إلى تحقيقه منذ ثلاثينيات القرن الماضي، شُلَّ بالكامل. وسيكون من الصعب أيضاً على النظام، نظراً إلى الأزمات الاجتماعية-الاقتصادية والاضطرابات المطّردة، إعادة إنتاج سلطوية نظام مبارك التي يحتاج إليها لضبط جماعة إخوان موحَّدة من جديد.

إذن، من شأن المصالحة مع جماعة الإخوان، إذا حصلت، أن تخطّ فصلاً جديداً في تاريخ العلاقات بين الدولة والإخوان.

التفكّك إلى فصائل متباينة

يشمل السيناريو الرابع احتمال تفكّك جماعة الإخوان إلى جزئَين رئيسَين: جزء يتألّف من معتدلين ينظرون إلى السياسة التقليدية للجماعة على أنها قائمة على كثير من المواجهة، وجزء آخر يتكوّن من متشدّدين ينظرون إلى السياسة نفسها على أنها قائمة على كثير من التنازل ومخطئة إيديولوجياً. وكلٌّ من المجموعتَين قد يستقطب أعضاء من الجماعة في مصر والمنفى.

يُرجَّح أن يتحقّق هذا السيناريو إذا ماقرّر النظام أن يقدّم مكافأةً للمعتدلين الذين يوافقون على الإدماج الانتقائي للجماعة في النظام السياسي وفقاً لشروط النظام. لكن يُرجَّح أن تكون هذه الشروط أقسى من تلك التي فُرِضَت في عهد مبارك. وإذا قبل الأعضاء المعتدلون في الجماعة مثل هذا الاتفاق، فسيصبحون على الأرجح أقرب إلى ديمقراطيين محافظين مابعد إسلاميين يشاركون في السياسات الوطنية، في حين سيميل المتشدّدون إلى شن تمرّدٍ ضدّ الوضع الراهن على الطراز السوري.

المعتدلون

في مثل هكذا ظروف، يمكن لفصيل جديد قوي أن ينشأ من داخل جماعة الإخوان، وينادي بأسلوب سياسي أكثر اعتدالاً، ويقرّ باستحالة استيلاء الإسلاميين على السلطة. قد يركّز هذا الفصيل على التنمية الاقتصادية، والتمكين الاجتماعي، والخدمة المجتمعية، من أجل إرساء أساس قوي في المجتمع. واعترافاً منه بالحقائق السياسية، قد يتخلّى عن هدف إعادة مرسي إلى سدّة الرئاسة، ويسعى إلى المصالحة بشروط النظام، مركّزاً على الحوكمة الجيدة بدلاً من السياسات القائمة على الهوية. وسيشكّل الإسلام بالنسبة إلى أعضاء هذا الفصيل إطار مبادئ بدلاً من كونه نظاماً قانونياً أو نظاماً شاملاً. كما يمكن أن يفيد هذا الفصيل من الطلب الاجتماعي على لاعبين سياسيين محافظين ثقافياً وذي ميول يمينية وسطية. يمكنه أيضاً أن يساهم في سدّ ثغرة مهمة في المجتمع المدني المصري، وهي غياب الكيانات السياسية المؤسسية القادرة على التعبير عن المطالب والمصالح الاقتصادية-الاجتماعية.

في هذا السياق، اعتُبِرَت الحالة التركية نموذجاً. غير أن احتمال أن يتّبع مؤيّدو الجماعة المعتدلون السبيل نفسه كنظرائهم في تركيا، تقيّده اختلافات في طبيعة أُسُس الدعم الخاصة بالإسلاميين في كل بلد. ففي تركيا، شكّلت الحركات الصوفية والاجتماعية والدينية والتعليمية العمود الفقري لحركة إسلامية أوسع. وغالباً ماكانت هذه الحركات الاجتماعية تنتقل في دعمها بين مختلف الأحزاب الإسلامية وفق ماتراه مناسباً. وهكذا، كانت الأحزاب الإسلامية الجديدة قادرة على ترسيخ نفسها بشكلٍ سهل نسبياً.25  لكن في مصر تكمن قوة الإخوان في التنظيم نفسه. فأعضاء الجماعة الذين يحاولون بناء فصيل أكثر اعتدالاً من الصفر، سيجدون من الصعب نيل الدعم الشعبي والحصول على قاعدة انتخابية بين المتعاطفين مع الإسلاميين. وقد بيّنت الأحداث التي حصلت منذ العام2011 هذه الحقيقة أكثر فأكثر. مع أن قادةً من الجماعة مستقلّي التفكير أسّسوا أحزابهم السياسية المستقلة، إلا أن هذه الأحزاب إما فشلت في ترسيخ وجود قوي لها، أو استُلحِقَت فيما بعد من جانب الإخوان مباشرة. لذلك، يبقى الاحتمال العملي لقيام فصيل معتدل محدوداً.

بحلول العام 2010، كان الفصيل المحافظ قد حقّق بالفعل هيمنة تنظيمية وإيديولوجية في جماعة الإخوان. والفصيل الذي يُفترَض أنه معتدل، يمثّل فقط بضعة أفراد يفتقرون إلى النفوذ التنظيمي الفعلي. هذا وجرى أيضاً الترويج بشكل مبالغ فيه للثغرة الواضحة بين الأجيال – حيث قيل إن الأعضاء الأكبر سنّاً في الجماعة هم الأكثر تشدّداً ومحافظة، في حين أن الإخوان الأصغر سنّاً هم أكثر اعتدالاً، مايعزّز احتمال بروز فصيل أكثر اعتدالاً. لكن في الحقيقة، تتقاطع الاختلافات في وجهات النظر بين مختلف المجموعات العمرية، ويحظى المتشدّدون والمحافظون بداعمين من الأعمار كافة. فضلاً عن ذلك، يخالف العديدُ من هؤلاء الذين يُسمّون بالمعتدلين المتشدّدين الرأيَ في مايتعلّق بمسائل التنظيم والتوقيت ووتيرة العمليات، لا في مايخصّ الإيديولوجيا.

لو لم تكن تجربة جماعة الإخوان في الحكم قصيرة، لكانت بالفعل أدّت إلى نشوء فصائل ضمن الحكومة قائمة على الطبقات أو المصالح، ومرتكزة على وجهات النظر السياسية. إلا أن الانقلاب أتاح للجماعة سرديةً جديدةً ركّزت على الإطاحة الظالمة للجماعة من السلطة. ومذاك الحين توحّد أعضاء الجماعة، ما أبطل تأثير الاختلافات بين المجموعات. هذه العملية تقضي على أي احتمال لإجراء مراجعة نقد ذاتي من شأنها تشجيع انشقاقات على نطاق واسع أو تغييرات سياسية وقيادية رسمية. نتيجة لذلك، وبعد عام على إخراج قادة الجماعة من السلطة، لم يواجه هؤلاء تحديات داخلية خطيرة من المعتدلين المنتظَرين.  

المتشدّدون

إن فشلَ الحقبة التي أمضتها جماعة الإخوان في السلطة، أحبط الكثيرين في أوساط قواعدها الشعبية، إضافة إلى إسلاميين من غير الجماعة، فعادوا إلى عقيدة إخوانية متزمّنة، بما فيها تلك التي يمثّلها المنظّر الإيديولوجي سيد قطب. ويشير مطّلعون من داخل الجماعة إلى أن شباب الحركة ليسوا إيديولوجيين بالتحديد، ويحرّكهم حالياً دافعٌ متّصلٌ أكثر بروح الانتقام. بيد أن الروح الثورية المناهضة للنظام التي يعتنقونها، تدفعهم نحو الانفصال والنرجسية والاستعلاء على المجتمع بسموّ عقيدتهم وصحة مبدئهم – وهذا نتاج الإيديولوجيا القطبية.

تشجب الأعمال الأخيرة في الفكر القطبي مقاربة الإخوان للإصلاح السياسي من داخل النظام. فقطب، وهو مفكّر بارز في جماعة الإخوان المصرية، أعدمه نظام عبد الناصر في العام 1966، رأى أن الإسلام هو رؤية كونية شاملة يجب أن تُعتمَد بالكامل أو تُرفَض بالكامل. وجادل قطب أن الإسلام لايمكن أن يُدمَج في أنظمة إيديولوجية أخرى، لأن ذلك من شأنه أن يقضي على جوهره الحقيقي. كما اعتبر أن الدولة الإسلامية هي حاملة الإيديولوجيا الإسلامية. وقد تأثّر فهمه للدولة إلى حدٍّ كبير، وإن ضمنياً، بالأفكار الأوروبية، مثل النزعة الرومانسية الألمانية، والمفاهيم الماركسية اللينينية حول الثورة بقيادة الطليعة الثورية، والدولة القوية التي تمثّل هوية شعبها وتدفعه إلى تحقيق هذه الهوية. بالنسبة إلى قطب، "الجيل القرآني الفريد" سيكون مجموعة نخبوية يجب أن تكون في عزلة مفروضة ذاتياً عن باقي المجتمع، كي تستعدّ لإطاحة النظام غير الإسلامي القائم.26  وهذا الأمر يتطلّب تنظيماً سياسياً متكتّماً وسرياً، ولن يترك مجالاً للمعارضة الاجتماعية أو التعدّدية المنظّمة أو الاختلافات السياسية.

لكن قادة الجماعة رفضوا الفكر الإقصائي والتكفير على المستوى الإيديولوجي منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وعلى المستوى السياسي منذ العام 1994. 27  فمهمة الجماعة تقوم قبل كل شيء على التغيير السياسي السلمي من الداخل بدلاً من الصراع المسلح المفارق للمجتمع. وقد قال العديد من قادة الجماعة إن التعاليم القطبية لاتمثّل الفكر الرسمي للمجموعة. 

يبد أن بعض القادة الأساسيين كانوا أعضاء في المجموعة السرية التابعة للإخوان، والتي أسّسها قطب في العام 1965. فضلاً عن ذلك، بقيت عناصر أساسية من المقاربة القطبية، مثل السرّية، والولاء للجماعة، والأولوية التنظيمية، والعزلة الذاتية، وربط الإسلام بجماعة الإخوان، في صلب إيديولوجيا الجماعة. وقد يفسّر هذا الأمر سببَ عودة البعض من القاعدة الشعبية الأساسية للجماعة الآن إلى شكلٍ من القطبية أكثر تزمّتاً وتشدّداً. فهؤلاء الأعضاء يعتقدون أن المقاومة ضد قمع الدولة أفضل من قبول اعتداءات النظام من دون مقاومة، كما فعلوا في وجه التكتيكات القاسية التي اعتمدها عبد الناصر في العامين 1954 و1965. لم تدعُ القطبية إلى العنف المسلح، إلا أن أهدافها الأساسية القائمة على إطاحة النظام، والاستيلاء على الدولة عندما يتيسّر ذلك، وتحدّي النظام غير الإسلامي، وضعت أنصارها في مسارٍ تصادميٍّ مع نظامٍ قمعيٍّ على وجه التحديد.

تتأثّر إيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين أيضاً بعوامل أخرى غير القطبية. فإيديولوجيا مؤسٍّس الجماعة، حسن البنّا، يمكن أن تميل، وفقاً إلى بعض التفسيرات، نحو العنف ضد أعداء الجماعة، الذين صُوِّروا على أنهم خصوم المجتمع الإسلامي. ويمكن القول إن العنف يمكن أن يُستخدَم في السعي إلى الهيمنة السياسية، إذا لم يؤدِّ النشاط السلمي إلى أي نتائج – كما كانت الحال في العامَين 1948 و1954.

والواقع أن أعضاء الجماعة الشبان الغاضبين والمعبَّئين على أرضية نيل حقوق شهدائهم، يبقون في التحليل الأخير مرتبطين بمصير المجموعة بأسرها، وسيستمرّون على الأرجح في التأثّر بقرارات قادتها. لكن بعض الأعضاء الشباب يمكن أن ينشقّوا عن الجماعة وينضمّوا إلى أنشطة إسلامية أخرى أو يتخلّوا عن السياسة برمّتها. يُستبعَد أن ينتشر الخطاب التكفيري في صفوف هؤلاء الأعضاء الشباب.28  أما الميول القطبية التي يتمتّع بها هؤلاء الشباب، فتقوم على أسباب نفسية أكثر مما هي نتاج تعريف إيديولوجي مدروس. عموماً، يتقيّد هؤلاء الأعضاء بالمبدأ الرسمي الذي تتّبعه الجماعة والقائل بالاحتجاج السلمي – محدّدين التحرّك السلمي على أنه "كلمة حقّ في وجه حاكم ظالم".29 

كما أن الشباب الإسلاميين من خارج جماعة الإخوان يصبحون هم أيضاً أكثر تطرّفاً. وقد تفاقمت عملية التطرّف هذه عقب تفريق المحتجّين الإسلاميين بشكل وحشي في ميدان رابعة العدوية، ما أثّر بشكل عميق على كلٍّ من الإخوان الشباب والإسلاميين الشباب الذين لاينتمون إلى المجموعة. ويمكن تصنيف الإسلاميين الراديكاليين الذين لاينتمون إلى جماعة الإخوان، بشكل تقريبي، في ثلاث فئات رئيسة: إسلاميو رابعة، والجهاديون والقطبيون، والشباب السلفيون الغاضبون. 

1) إسلاميو رابعة الشباب: أصبحت هذه المجموعة أكبر حجماً ونفوذاً، إذ استفادت من تنامي الشعبوية الإسلامية منذ انتفاضة العام 2011. وفي حين أشار بعض المراقبين إلى هؤلاء الأفراد على أنهم "إسلاميون ثوريون"، أُفضِّل أن أسمّيهم بإسلاميي رابعة للتشديد على كيف أثّرت أحداث رابعة على مواقفهم. وقد نشط العديد من هؤلاء الشباب في احتجاجات الشارع على مرّ السنوات الثلاث الأخيرة. كما أنهم نقّلوا دعمهم بين مختلف المجموعات الإسلامية والثورية، وبالتالي لم يشكّلوا بنية تحرّك جماعي منظّمة خاصة بهم. إلا أنهم نجحوا في دفع مجموعات إسلامية أخرى أكثر رسوخاً إلى اعتماد خطاب وسياسات شعبوية.

على سبيل المثال، غيّر الإخوان والسلفيون، المعروفون بعقيدتهم الإيديولوجية الحركية الثابتة وطريقتهم المتزمّتة في التفكير الديني، خطابَهم بهدف إرضاء إسلاميي رابعة الشباب واجتذابهم. في البداية، كان الحركيون والعلماء المسيّسون من السلفيين قلقين من أن مَن اعتبروهم غير متمتّعين بخلفيات دينية ملائمة هم الذين يؤثّرون على الخطاب الإسلامي، ويُعبّأون في سياق سياسي غير مستقر. بيد أن الطاقم القديم والمحافظ منهم تكيّف للتعامل مع المزاج المتّقد لجمهوره.
جرت تعبئة إسلاميي رابعة الشباب عبر خطابات انتقائية لم تكن إسلامية محضة ولاعلمانية، بل كانت مدفوعةً بمشاعر جيّاشة مبهمة ومناهضة للنظام، وبمشاريع مثالية استُمِدَّت من اليسار واليمين. وقد استند هذا الخطاب الإسلامي غير المنضبط منهجياً إلى مراجع دينية وثقافية متباينة لدعم المطالب الثورية الشعبية، والدفاع عن مصالح الكيانات السياسية الإسلامية.

ومع أن إسلاميي رابعة الشباب هؤلاء لاينظرون إلى مرسي على أنه حاكم إسلامي، إلا أنهم يعتبرون حكمه بدون شك أكثر تسامحاً إزاء الإسلاميين وأقل عدائية تجاه الإسلام من نظام السيسي. كما يعتقدون أن إطاحة مرسي كانت جزءاً من هجوم على الإسلام بقيادة الولايات المتحدة. وقد ازداد هؤلاء راديكاليةً منذ الانقلاب الذي يرون أن الفشلَين الإيديولوجي والسياسي قد سهّلاه: أي التنازلات دفاعية الطابع التي قدّمتها جماعة الإخوان لتمييع المشروع الإسلامي بهدف إرضاء المجتمع العلماني، وإذعان السلفيين غير المقبول دينياً إلى السلطة العسكرية، على حساب الإنصاف والعدالة الإسلاميَّين. وتشكِّل مكامنُ الفشل هذه بالنسبة إلى الإسلاميين الشباب دليلاً على أن المشاركة في السياسة الديمقراطية غير الإسلامية لاتؤدِّ إلى أي مكان، وأن إقامة نظام حكم ومجتمع جديدَين إسلاميَّين بالكامل يجب أن يكون الهدف النهائي لنهضة إسلامية ثورية سياسية واجتماعية وثقافية. 

عوضاً عن إصلاح الدولة من الداخل، يهدف إسلاميو رابعة إلى تفكيك مؤسسات الدولة القديمة. ويُصوَّر الصراع بشكل متزايد لا بعبارات اقتصادية-اجتماعية، بل بعبارات إيديولوجية حصراً، على أنه صراع بين المؤمنين وغير المؤمنين المدعومين من القوى الغربية والإقليمية.30  لاتوجد أي حلول وسط، وتبقى المصالحة بين الإسلاميين والدولة غير مطروحة فعلياً. ولايمكن التفكير في قبول الآخر إلا تحت مظلة الهيمنة الإسلامية المُنتظَرة.

فضلاً عن ذلك، ينظر إسلاميو رابعة الشباب إلى الولاء الوطني المصري على أنه وهمٌ يجب استبداله بوعي إسلامي ثوري عابر للأوطان. وقد قرّر بعض هؤلاء الإسلاميين الشباب ألا يقبلوا استخراج بطاقات الهوية المصرية، في تحدٍّ رمزي للدولة المصرية غير العادلة (وهو أمر قام به أيضاً شباب في الإخوان على الرغم من المضامين التكفيرية لهذه الخطوة). 

كما أن إسلاميي رابعة الثوريين الشباب لاينبذون العنف بشكل حازم، مع أن النشاط الثوري السلمي يبقى استراتيجيتهم الرسمية. فقد انتقلت مفرداتٌ كانت يوماً حكراً على حركات جهادية هامشية، إلى خطاب إسلاميي رابعة المتطرّفين.31  كما أن العديد من الأحكام الإسلامية التقليدية تتداعى، بما فيها تلك المتعلّقة بقواعد السلوك الأخلاقي الصارم.32  وقد أصبح إسلاميو رابعة المتطرفون الشباب يُدخِلون الآن إلى تعريف الاحتجاجات السلمية "كلَّ شيء ماعدا استعمال طلقات الرصاص". والواقع أن اعتصام الإسلاميين في رابعة لمدة سبعة وأربعين يوماً، وماتضمّنه من شعائر دينية وأنشطة إيديولوجية داخل هذه "الكوميونة الإسلامية"، صقَلَ تضامنَ الإسلاميين مابعد الانقلاب، القائم على الوعي ومراجعة الذات. لكنه أثبت أيضاً الغربة الذاتية للإسلاميين وعزلتهم عن باقي المجتمع.33  وقد أثار تفريقُ المعتصمين بشكل دموي هذه المجموعةَ غير محدّدة الملامح من الشباب الإسلاميين بطريقة غير مسبوقة، الأمر الذي أنتج سردية إسلامية مثالية حول الظلم والمعاناة والشهادة والبطولة في وجه الشرّ. 

يشكّك العديد من إسلاميي رابعة في فوائد التنظيمات الإسلامية. ففي حين يؤكّدون على الضرورة العملية للعمل الجماعي المنظّم، يحذّرون من الطابع الإقصائي لهذه المجموعات الساعية وراء مصالحها الشخصية. والأهم هنا أنهم يحذرون من الهويات الحزبية والانقسامات الداخلية والتعصّب التي تبتلي بها الفئات النفعية في الحركة الإسلامية. ويتصوّر هؤلاء الشباب تياراً إسلامياً واسعاً (وهو ما أسماه أحد القادة "التيار الإسلامي العام")، من شأنه أن يشكّل مظلة عابرة للأوطان لمختلف المبادرات والحركات.34  كما أن الإيديولوجيا الجديدة يجب أن تكون أكثر ابتكاراً وأكثر استناداً إلى الإسلام. أما الزخارف الديمقراطية (مثل المواطنة والمساواة والتعدّدية) فهي غير مهمة. يجب أن تكون الاستقامة الدينية والإيديولوجية (الهوية والأصالة الإسلاميّتان، وقضية الجهاد، وتطبيق الشريعة الإسلامية) الأساس الوحيد للقضية الجديدة.35 

لكن إلى أن يتم إرساء ذلك، مامن خيار أمام هؤلاء الشباب سوى دعم الجماعة، فيما هم يضغطون من أجل مزيدٍ من المساءلة، والعمل على إقامة منظمة سريّة ديناميكية، والحصول على كوادر أكثر نشاطاً وقادة أكثر إلهاماً وتمثيلية. قد يدفع هذا الأمر نشاط الإسلاميين الحالي الذي ينطوي على احتجاجات سلمية دفاعية (وهذا أفضل ماتستطيع جماعة الإخوان المسلمين إنجازه في شكلها الحالي) إلى تظاهرات ذات طابع أكثر ثورية.

ينظر إسلاميّو رابعة إلى ثورتهم المعلنة على أنها ردّ على الثورة العلمانية الفاشلة في كانون الثاني/يناير 2011. 36  فوفقاً لإسلاميّي رابعة، لم ينجح النضال الثوري بعد بسبب عدم اكتراث المجتمع بظلم النظام، والدعاية المناهضة للإسلاميين. والخيار الأفضل لهؤلاء الإسلاميين الراديكاليين هو شنّ صراع ثوري عنيف جزئيّاً يستهدف مصالح الدولة وكوادر صنع السياسات، والجيش، والشرطة، والقضاء، وقطاع الأعمال، ووسائل الإعلام. في الوقت الراهن، لايزال هذا الخطاب أبعد مايكون عن الواقع.

مع خريف العام 2014، اقتصرت الأنشطة السياسية لإسلاميي رابعة الشباب على الدعاية الإيديولوجية، والجهود السرّية المناهضة للنظام، ومحاولات تنفيذ عصيان مدني لشلّ اقتصاد مصر وبنيتها التحتية، إضافةً إلى أعمال عنف متفرّقة ضدّ القوات النظامية، والأجهزة الحكومية، وسائر الجهات المتعاونة مع النظام في قمع احتجاجات هؤلاء الإسلاميين. مع ذلك، لاتزال هذه الأنشطة – وتلك التي قد تكون أشدّ عنفاً في المستقبل – موضع خلاف وجدل. وعلى سبيل المثال، مبرّرات شن تمرّد مسلّح من شأنه أن يلحق الضرر بالمدنيين الذين يؤيدون النظام، هي أمرٌ متنازع عليه بشدّة في صفوف الإسلاميين عموماً. كما أن الوضعية الدينية لمسؤولي النظام ومؤيّديه – وما إذا كانوا غير مؤمنين أو منافقين أو مجرد خاطئين – هو أيضاً موضوع مثير للجدل الشرعي والفكري في صفوف الإسلاميين.

ثمة أيضاً قلق من التداعيات السياسية المترتّبة عن اتخاذ إجراء أكثر جذرية. فقد يؤدّي حمل السلاح مثلاً إلى أضرار اجتماعية كبيرة، ويخلق انقسامات في صفوف الإسلاميين (على غرار سورية)، ويساهم في استثارة مواقف مجتمعية عدائية. كانت كيفية بناء قاعدة اجتماعية متعاطفة مع الاحتجاجات المحليّة موضوعاً ساخناً على أجندة الاحتجاجات.37  أخيراً، اللوجستيات المتعلقة بالعمليات العنيفة وما إذا كان يمكن تدريب الإسلاميين وتجهيزهم بشكلٍ مناسب، هي مسائل أخرى في الخلاف الداخلي. توضح هذه النقاشات جزئيّاً عزوف الإخوان والجسم الرئيس من الإسلاميين عن اللجوء إلى العنف المفتوح.

تردّدت أنباء عن تشكيل منظمات إسلامية جديدة تعكس وجهات النظر الثورية هذه، لكن يصعب التحقق من حجمها وتركيبتها. يعطي شباب رابعة الأولوية إلى قاعدة إيديولوجية إسلامية، بغضّ النظر عن حجمها الصغير المحتمل. تشمل هذه المجموعات الصغيرة تنظيم أجناد مصر38، وحركة "ولِّع"، وحزب حرّاس الثورة، وحركة المولوتوف، وكتائب حلوان. لم تشدّد هذه المجموعات الصغيرة على أن إعادة مرسي إلى الرئاسة هدفٌ أساسي لها. وتختلف أنشطتهم العنيفة (ومعظمها عنف منخفض الوتيرة، مثل حرق سيارات ومراكز الشرطة) عن الإرهاب الإسلامي في سيناء، حيث تشاركهم الجماعات المنظمة مثل جماعة أنصار بيت المقدس، تطرّفهم الإيديولوجي. لكن خلافاً لمواقف أنصار بيت المقدس الإقصائية ودعمهم للعمليات المسلّحة الواسعة ضد أهداف عسكرية وأمنية، يرمي إسلاميّو رابعة إلى استخدام العنف الثوري فقط عندما يكون ذلك ملائماً لتحقيق أهدف الثأر، وتفكيك الهيكل المؤسّسي للدولة، وإثارة انتفاضة شعبية إسلامية مناهضة للنظام. لكن من الصعب التصوّر أن تولّد أعمالهم العنيفة المحدودة تعاطفاً شعبيّاً مع انتفاضتهم الإسلامية، ذلك أن الرأي العام يربط العنف بالاضطراب المدمّر والفوضى.

فشلت حتى الآن محاولات تنظيم هؤلاء الإسلاميين بشكلٍ أكثر منهجية من خلال الأحزاب السياسية أو غيرها.39  لاتوجد هياكل تنظيمية متخصّصة يمكن أن تساعد على تقدير حجمهم. ولاتحظى منتدياتهم الإلكترونية وصفحات الإعلام الاجتماعي الخاصة بهم بعددٍ كبير من المتابعين.40  وينبع تأثيرهم على الحركة الإسلامية الأوسع إلى حدّ كبير من خطابهم، الذي ينعكس في وسائل الإعلام الاجتماعية التابعة لعناصر أكثر اعتدالاً من الإخوان المسلمين.41 

2) الجهاديّون والقطبيّون: يعتقد هؤلاء أن المشروع الإسلامي هو مجهود كلّي ضد الوضع القائم، ولم يكن من المفترض تنفيذه من داخل النظام. ويرى الجهاديون والقطبيون أن الديمقراطية تتنافى مع الإسلام، وأن الإسلاميين سيكونون دائماً مستبعَدين من السياق الديمقراطي. 

يعتقد هؤلاء أن القادة الإسلاميين اقترفوا خطأ كبيراً حين سعوا إلى أسلمة مصر عبر وسائل ديمقراطية.42  ويُنظَر إلى الإجراءات التي اتّخذها الإخوان لنيل ثقة النظام والمجتمع الأوسع على أنها كانت تصالحيّة جدّاً. عوضاً عن ذلك، تبنّى الجهاديون والقطبيون قضية النضال الجهادي، وحملوا السلاح ضد الدولة ورعاتها. مع أن هؤلاء الأفراد أقلية في صفوف الإسلاميين، تُعَدّ إيديولوجيتهم مؤثّرةً في تشكيل الخطاب الإسلامي، ولاقت صدًى لدى جمهور أوسع منذ الانقلاب. وعلى المستوى الإيديولوجي، ترك هؤلاء الباب مفتوحاً أمام جميع الخيارات، بما في ذلك التمرّد العنيف والنزعات التكفيرية.

3) الشباب السلفيّون الغاضبون: إيديولوجيّاً، تبقى هذه المجموعة الثالثة ثابتة في تأييدها للسلفية التي ترفض الفكر القطبي والتكفيري والجهادي. لكن بسبب أحداث رابعة، تعاطف هؤلاء الشباب مع الإخوان المسلمين. وقد تضاءل إقبالهم على الاحتجاج مع مرور الوقت، وستكون خطوتهم المقبلة على الأرجح إما التوقّف تماماً عن العمل السياسي أو الانخراط في عملية إعادة نظر إيديولوجية لإعادة تعريف الرسالة السلفية وركائزها، باعتبارها وسيلة للفهم الديني والتغيير الاجتماعي في السياق الراهن.

ردّ الجماعة

لايزال الإخوان المسلمون يؤمنون بمزايا الأسلمة عبر صناديق الاقتراع، على الرغم من تجربتهم الأخيرة، على عكس حركة "حازمون" (شبكة فضفاضة من مؤيّدي المرشح الرئاسي السابق الشيخ حازم أبو اسماعيل، وهي شخصية بارزة و ملهمة لإسلاميي رابعة) وحركة أحرار (مجموعة أخرى تضمّ إسلاميي رابعة وشباب ثوريين آخرين لايتبنّون إيديولوجيا معيّنة) والجهاديين، والإسلاميين الثوريين. لكن، إلى أن تتيح الظروف إعادة إرساء الديمقراطية الانتخابية، قد ينضمّ الإخوان إلى الإسلاميين الثوريين ضد عدوّهم المشترك: الدولة القديمة. ويرى الإخوان أنه حين تصبح الظروف مرة أخرى مؤاتية لمشاركة الإسلاميين في الانتخابات، يمكنهم عندئذ العودة إلى أساليبهم التشاركية التقليدية.

من الصعب توقّع إلى متى ستتمكّن قيادة الإخوان من الحفاظ على هذا التوازن الهشّ. صحيح أن قادة الإخوان على ثقة بمنظمتهم القوية وقدرتهم على إقناع أعضائها بقراراتهم وتحصينهم من شطط الاتجاهات الراديكالية للإسلاميين الثوريين، لكن إذا كانت قيادة الجماعة ستتصالح مع النظام من دون القصاص لقتلى الجماعة وتحقيق مكاسب واضحة، فقد تواجه خطر فقدان احتكارها لتشكيل الأجندة الإسلامية السياسية الرئيسة وجاذبيتها، باعتبارها نموذجاً للتغيير في نظر الإسلاميين الآخرين في مصر الذين فقدوا الأمل في الأسلمة من خلال العملية الديمقراطية.

مع تزايد انتقال المقاربات والأفكار الصدامية الثورية لإسلاميي رابعة إلى تيار الغالبية، أدرك قادة الإخوان ضرورة الابتعاد رسميّاً عن العنف للحفاظ على صورتهم كضحيّة على الصعيدَين المحلّي والدولي. لكنهم يمتنعون أيضاً عن توجيه انتقاد علني للجوء شباب رابعة، بشكل عشوائي على مايبدو، إلى ممارسة العنف ضد الشرطة، خوفاً من فقدان الدعم في الداخل.

بيد أن عوامل عدة تجعل من الصعب التحقّق من وجود تنسيق لوجستي ثابت على الصعيد المحلي بين الإخوان وبين إسلاميي رابعة في هذه الاحتجاجات العنيفة، بما في ذلك الهيكل اللامركزي لهيئاتهم، وسهولة التنقّل بين المجموعات، وضرورة الاهتمام بغضب الشباب وتعبئتهم على أرضية الثأر لضحاياهم، والظروف اللوجستية المحليّة، والطبيعة العفوية للانتفاضات في صفوف الشباب. مع ذلك، عمل مكتب الإرشاد المؤقّت الجديد من دون هوادة لكبح جماح شباب الإخوان العنيفين المعروفين باسم جماعات التأمين التي لم تَعُد موجودةً منذ ذلك الحين.43 

التجديد والمراجعة الذاتية

قد يبدأ السيناريو الأخير مع اعتراف الإخوان المسلمين بفشل الاحتجاجات الراهنة، ماسيدفع المنظمة إلى الانسحاب من الحياة السياسية مع الحفاظ على أعضائها والتركيز على تجديد نفسها. لكن ذلك قد يكون في منتهى الصعوبة. إذ بقيت رسالة الإخوان المسلمين الإيديولوجية راكدة – تهيمن عليها نصوص الدعاة الإخوانيين من المشرق العربي (إضافةً إلى مؤلّفات البنّا وقطب)، التي تركّز على أهداف دينية، وعلى بناء منظمة كبيرة باعتبارها "جماعة ربانية" تمثّل التجمّع الحركي العضوي المجسّد لشمولية الإسلام، ولاتولي اهتماماً كبيراً للأسس الفلسفية والفكرية.44  أثبطت الجماعة بشكل حازم دائماً محاولات تعديل هذه الرسالة الإيديولوجية، والتزمت عقيدة الإخوان الرسمية الصمت حيال المحتوى الديني والسياسي لمشروع الحركة الإسلامي. ويُدعى المؤيّدون من الشعب إلى المشاركة فقط كمجرّد ناخبين خلال الانتخابات - وإلى تلبية واجب ديني يتمثّل في دعم سياسيّي جماعة الإخوان المسلمين. المجتمع المدني والتمكين الذاتي المجتمعي مهمّان فقط، طالما أنهما يدعمان استيلاء الإخوان على النظام السياسي القائم.

لتجديد نفسها، ينبغي أن تدخل جماعة الإخوان المسلمين في سُبات سياسي، وأن تركّز على الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية والدينية.

تجديد الجماعة لذاتها أمر ضروري، ولاسيما على ضوء صعود منظمات متطرفة مثل الدولة الإسلامية. ومع أن بإمكان الإخوان المسلمين انتقاد أعمال الدولة الإسلامية باعتبارها إما غير ملائمة سياسيّاً أو مخطئة دينيّاً،45  إلا أن المجموعتين تتشاطران إرث إعادة إحياء الإسلام المعاصر (أو الصحوة). كانت عقيدتا العودة إلى الخلافة الإسلامية والتبنّي غير النقدي للتعاليم الإسلامية السياسية التي لاتتناسب والعصر، أساسيّتين في دعاية الصحوة. وقد أُولي الاهتمام البالغ إلى التعبئة العاطفية، وتمّ إغفال الحاجة إلى قراءة نقدية وإعادة فرز التراث الإسلامي على أُسُس تجديدية وإصلاحية.46 

لتجديد نفسها، ينبغي أن تدخل جماعة الإخوان المسلمين في سُبات سياسي، وأن تركّز على الأنشطة الاجتماعية والتعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية والدينية. يجوز استخدام الأدوات الدينية لأغراض سياسية بشكلٍ انتقائي وبارع ومُراعٍ للحساسيات المعاصرة.47  وينبغي أيضاً أن يكون نشاط الجماعة السياسي في حدّه الأدنى، وأن يقتصر على التعاون مع القوى السياسية القائمة الوسيطة الصديقة لها. كما ينبغي أن يكون الهدف استعادة الرضا الثقافي والاجتماعي الشعبي تجاه الإسلاموية، وهو أمر أكثر قابلية للتحقيق على المدى الطويل من موضعة حكم الإخوان لتحقيق منافع اقتصادية واجتماعية.

تعتمد إمكانية نجاح هذا السيناريو على مدى تسامح النظام السياسي القائم، وظهور مصادر وموارد جديدة للإصلاح الديني، وما إذا سيختار الإخوان تبنّي عملية التجديد. لايزال تبنّي ذلك موضع شك، نظراً إلى الاهتمام المتزايد بالمشاركة السياسية، وحجم الاستثمارات المتراكمة فيها، والحفاظ على الوضع القائم.

الإسلام السياسي والديمقراطية في مصر

لايزال دور الدين في العملية الديمقراطية في الشرق الأوسط مدار نقاش. وينبذ بعض الإسلاميين الديمقراطية كليّاً على أُسُس فقهية. إذ يعتقدون أن المبدأ الديمقراطي المتمثل في حكم الشعب ينفي السيادة الإلهية الكليّة على حياة الإنسان (الحاكمية). يشمل هؤلاء الإسلاميون السلفيين والجهاديين.

يقبل آخرون الديمقراطية باعتبارها رديفاً مناسباً للشورى الإسلامية، عبر تبنّي حكم الشعب ضمن قيود معينة. يندرج الإخوان ضمن هذه الفئة، ويقبلون الديمقراطية طالما أنها لاتنتهك الشريعة الإسلامية، ويعتبرونها مدخلاً إلى تأسيس الدولة الإسلامية المستقبلية. يميل خطاب الإخوان المسلمين حول الديمقراطية إلى المبالغة في التشديد على الجوانب الديمقراطية الإجرائية، فيما يقومون بتقييد الحريّات باسم الإسلام، ويشترطون أن يحدّدها الإسلاميون أو الدولة أو هيئات الفقهاء بشكل سلطوي.

يطرح هذا الأمر معضلة. إذ يمكن لإشراك الإخوان في السياسات الديمقراطية أن يؤدّي لاحقاً إلى نظام قائم على الديمقراطية الانتخابية اللاليبرالية48، تستخدم فيه الدولة سلطتها لتفرض قيماً معينة على مواطنيها وتقوّض بعض الحريّات والحقوق، والضوابط والتوازنات المؤسسية. ومع ذلك، فإن إقصاء هذه الجماعة ذات الشعبية من الحياة السياسية بالقوة يزعزع الديمقراطية ويقوّضها على نحو خطير.

أدّت هيمنة النظام النيوليبرالي حول العالم في العقود الأخيرة، مع تفسيره للديمقراطية باعتبارها مجرّد مجموعة من الإجراءات لإدارة الخلافات السياسية الفارغة من أي محتوى اجتماعي-اقتصادي تقدّمي تشاركي، إلى طرح حلٍّ: قبول شكلٍ غير ليبرالي لنظام من الديمقراطية الانتخابية التي يهيمن فيه الإسلاميون، والقبول بمطالبات الهوية الإسلامية باعتبارها حقائق ثقافية في المجتمعات الإسلامية. لكن، كما تظهر الأحداث في مصر بين العامَين 2011 و2013، فشلت هذه المقاربة في التصدّي إلى مخاوف السكان الذين يشعرون بالإقصاء بسبب الإسلام السياسي، والذين بالتالي اختاروا السلطوية غير الإسلامية باعتبارها أفضل الشرَّيْن. تفتقر مصر إلى وسطٍ سياسي محافظ قادر على دمج التقاليد الإسلامية بالحداثة السياسية. وقد أضاع الإخوان فرصة مابعد العام 2011 للبدء ببناء هذا الوسط الذي هم في حاجة ماسّة إليه. فهم إما أنهم لم يضعوا هذه المهمة في صلب الأولويات، أو كانت تنقصهم الإرادة والرغبة والقدرة الإيديولوجية اللازمان للقيام بذلك.

تفتقر مصر إلى وسطٍ سياسي محافظ قادر على دمج التقاليد الإسلامية بالحداثة السياسية.

كان التحدّي الأبرز الذي واجهه الإسلاميّون هو إعادة تشكيل مفهوم الديمقراطية، باعتبارها عملية متأصّلة في الوطن، لامستوردة من الغرب. فعوضاً عن السعي إلى التكيّف العملي والنقاش الفكري حول نوع الديمقراطية الذي يراعي خصوصية الإسلام، كان على الإسلاميين الميّالين إلى الديمقراطية أن يستثمروا طاقاتهم في إدراج العمليات الديمقراطية داخل خطاب العامّة من الناس. كان في وسع الإسلاميين الحفاظ على معتقداتهم المتجذّرة حول أهمية التقاليد والقيم الدينية، ثم الشروع مع ذلك في إعادة تفسير هذه التعاليم الدينية ضمن توجّه الديمقراطية التعدّدية الليبرالية أو التشاركية، وفصل الدين عن الدولة في نهاية المطاف. هذه مهمة صعبة للغاية، وتتطلّب فقهاً سياسياً جديداً وتفسيرات متضاربة للكتب الدينية وتراث العلوم الشرعية والفقهية – تختلف عن مفهوم "الإجماع المتداخل"، للفيلسوف السياسي جون رولز، باعتباره أساس الديمقراطية الليبرالية في مجتمع متعدّد ثقافيّاً. حاجج رولز بأن المطلوب هو حوار منطقي وعقلاني وغير إيديولوجي، يكون مقبولاً للجميع ويصل بهم إلى النتائج المشتركة المنشودة على الرغم من اختلاف مرجعيّاتهم الإيديولوجية.

لكن جمع الإسلاميين وغير الإسلاميين على مشتركات سياسية يتطلّب العمل على الإيديولوجية نفسها، من خلال عملية معقّدة من التفاوض، والمساومة الديمقراطية، وإعادة تفسير الدين، والمراجعة الفكرية الجذرية، وإعادة بناء دور وموقف الدين الصحيح في مايتعلّق بالأُسُس المعيارية للنظام السياسي وعلاقة التمييز والفصل بين الدين وجهاز سلطة الدولة. المهمّة المنسية للنضال الديمقراطي في مصر هي كيفية وضع مجموعة من القواعد والقيم لبناء نظام سياسي تنافسي وشامل - قواعد تجسّد التوافق بين جميع الحركات الإيديولوجية التي تتنافس على موقع سياسي وتتخطى الإرث القائم على الشك والقطيعة. لكن لاغنى عن هذا التوافق المفقود نظراً إلى ثقل الإسلاميين شعبياً في أي عملية ديمقراطية تعدديّة، وعدم جدوى استبعادهم. ومن الضروري أيضاً أن تؤدّي المؤسسات الدينية، على غرار الأزهر، دوراً رئيساً في عملية الإصلاح الديني هذه.49 

من الصعب أن نتصوّر بشكل واضح ماستبدو عليه الحركات الديمقراطية الإسلامية أو مابعد الإسلامية، خصوصاً فيما تزداد الشكوك حول السجل الديمقراطي لحزب العدالة والتنمية التركي الذي أُشيد به سابقاً باعتباره نموذجاً للّيبرالية الإسلامية. يتّضح مع ذلك أن المطلوب إصلاحات فكرية أوسع ضمن الإسلام السياسي حول مسألة العلاقة بين الدين والدولة. ينبغي التخلّي عن مفاهيم مثل الحاكمية والجاهلية، فضلاً عن هدف إعادة الخلافة الإسلامية. كما ينبغي عدم الاستشهاد بالدين في خطابات الأحزاب الإسلامية الديمقراطية. من شأن هذه الحركات الإسلامية الديمقراطية الاستمرار في الإعلاء من شأن القيم الإسلامية، لكن باعتبارها فقط تقاليد ثقافية وطنية ملهمة لثقافة الناس لكن لاتفرضها الدولة. من الضروري أيضاً تحقيق الشفافية التنظيمية والمالية، وقطع العلاقات مع الفروع في الخارج، والفصل بين الدعوي وبين السياسي. بعبارة أخرى، يمكن للحركة الإسلامية الديمقراطية أن تشبه النسخة الإسلامية من الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا – حركة محافظة ثقافيّاً تنافس على السلطة ضمن قواعد الديمقراطية التوافقية. وقد يكون لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية نموذجاً آخر.

للأسف، تفتقر مصر أيضاً إلى لاعبين إسلاميين معتدلين من شأنهم قيادة حركة ديمقراطية. مثلاً، خضع حزب الوسط إلى جماعة الإخوان المسلمين على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، وفقد نتيجة لذلك طابعه المستقل والديمقراطي الأوّلي. وحزب مصر القوية، الذي كان واعداً، فشل حتى الآن في بناء منظمة ذات إيديولوجية واضحة، وكوادر ملتزمة، وقاعدة اجتماعية متميزة، كما خسرت وسطيته المعلنة في خضم الاستقطاب الشديد، ثقة كلٍّ من الإسلاميين وغير الإسلاميين.50 
بالنسبة إلى النماذج التاريخية الملهمة عن الإسلام الديمقراطي في الشرق الأوسط، نشأت الأحزاب الإسلامية في تركيا وتونس تحت ضغط قوي من هياكل الدولة العلمانية وبالتنافس مع حركات سياسية غير إسلامية قوية. كان للمغرب ميزة تتمثّل في نظام ملكي راسخ قادر على تحديد قواعد التعدّدية السياسية والدينية. لكنّ الإخوان المسلمين في مصر ظلّوا عاجزين عن تنفيذ التحولات اللازمة في مواجهة تهديد وجودي مُفترَض. حتى عندما كانوا في سُدّة الحكم، كان الإجراء الإصلاحي الأكثر تقدّمية الذي فكّر فيه الإخوان، من دون نجاح كبير، هو فصل السياسة عن الدعوة. في نهاية المطاف، كان إرث الإخوان المسلمين العقائدي والتنظيمي والتاريخي معقّداً جدّاً، بحيث لم ترضَ الجماعة أن تكون مجرّد فصيل آخر ضمن نظام سياسي ديمقراطي تعدّدي في مصر.

خلاصة

لاتزال جماعة الإخوان قوة مهمة في مصر، لكنها لم تَعُد تحتلّ المكانة نفسها كما كانت الحال قبل إطاحة مرسي. وعلى نحو أكثر عموماً، سيبقى حلم إنشاء نظام إسلامي سياسي واجتماعي حيّاً في مخيّلة الكثير من الإسلاميين، لكن مسألة ما إذا كان الإسلام السياسي سيحظى بإعجاب شرائح أوسع من المجتمع المصري، تبقى رهناً بخيارات القادة الإسلاميين. ستضطرّ القوى الإسلامية إلى التحوّل في مناخ سياسي أشدّ عدائية من فترة السبعينيات إلى التسعينيات - عندما بلغ توسّع الإسلاميين الاجتماعي أوجَه.

لم تكن التطورات حتى الآن مشجّعةً على هذا الصعيد. فقد دفعت معارضة الدولة للإسلاميين والرفض الاجتماعي للمشروع الإسلامي، الإخوان المسلمين والشباب الإسلاميين إلى المزيد من التعنّت. وأدّى تعدّد وجهات النظر إلى زيادة الانقسام أكثر من تعزيز التعدّدية. ومن دون مهام توجيهية وإرشادية وتصوّرات استراتيجية متّسقة، لن يحدث التغيير داخل الحركة الإسلامية بشكلٍ سليم، بل ستخلّله مجموعة من عمليّات الصعود والهبوط.

نظراً إلى استمرار وجود الدولة السلطوية، وإلى الفراغ السياسي والإيديولوجي في مصر، لاتبشّر تجربة التحوّل حتى الآن بالخير، لجهة قيام دولة مصرية ديمقراطية مستقبلية أو لتطور الإسلام السياسي على نحو سليم. كان لسعي الإسلاميين إلى السيطرة بعد سقوط مبارك نتائج وخيمة على حلم الانتفاضة الشعبية بإنشاء نظام سياسي ديمقراطي جديد في مصر. لكن الصحيح أيضاً أن الخسائر الراهنة التي تكبّدها الإسلاميون على يد الدولة القديمة القمعية، كانت لها أيضاً تأثيرات مهلكة على هذه الأحلام الديمقراطية. لايمكن للدولة القديمة في مصر أن تبرّر دكتاتوريتها إلا ضد الإسلام السياسي المُدان، وأن تقنع جمهورها المنهَك بنهجها هذا من خلال إطلاق خطابات متعدّدة لإكسابها الشرعية، من ضمنها الخطاب الديني.

مع أن جماعة الإخوان المسلمين عانت جموداً في القيادة والتنظيم والإيديولوجيا، إلّا أنها أثبتت أنها أكثر قدرة على الصمود ممّا افترض البعض في البداية. وقد ثبت أن تنظيمها القوي والتزام قاعدتها الشعبية الذي لايمكن إنكاره رصيدان قيّمان. وبدفعٍ من استثمارها في المشاركة الانتخابية على مدى عقود، لاتزال جماعة الإخوان المسلمين قادرةً على توليد التزام بالديمقراطية الانتخابية في صفوف أعضائها، شرط أن تتوافر ظروف الديمقراطية الحقيقية. لكنها تواجه حاليّاً منافسة إسلامية شديدة.

مع أن جماعة الإخوان المسلمين نجحت في الحفاظ على تنظيمها، إلّا أنها فقدت علّة وجودها باعتبارها قوة من أجل التغيير التدريجي. وحتى لو تمّ احتواء الميل إلى الإسلام الأصولي العنيف، لايزال النموذج السياسي الكلاسيكي للإخوان المسلمين غير قابل للاستمرار.

حتى الآن، لايزال الإخوان والسواد الأعظم من الإسلاميين يمتنعون عن المواجهة العنيفة مع الدولة، إما بسبب مصالحهم في المشاركة في المجال الاجتماعي أو بسبب افتقارهم إلى الموارد والإمكانية. لكن هذا الموقف قد لايكون قابلاً للاستمرار، نظراً إلى تداعيات السياسات الإقليمية والجمود المحلّي. صحيح أن الإسلاميين المصريين، وفي مقدّمهم الإخوان، يعتبرون تطرّف تنظيم الدولة الإسلامية منفراً ومذموماً. لكن في ظلّ القمع، يبرز التطرّف المسلّح للدولة الإسلامية على أنه النموذج الإسلامي الناجح الوحيد الذي يحصد انتصارات في الوقت الراهن. هذا في حين يتداعى نموذج الإخوان الكلاسيكي المتمثّل في الأسلمة الإصلاحية من خلال النشاط السياسي السلمي. في هذا السياق، قد تجذب النماذج الجهادية في ليبيا والعراق وسورية الإسلاميين المصريين المصابين باليأس بسبب الهزيمة السياسية في العام 2013. الجذور الإيديولوجية المشتركة يمكن أن تسهّل هذا الانتقال. إذ مع أن جماعة الإخوان المسلمين نجحت في الحفاظ على تنظيمها، إلّا أنها فقدت علّة وجودها باعتبارها قوة من أجل التغيير التدريجي. وحتى لو تمّ احتواء الميل إلى الإسلام الأصولي العنيف، لايزال النموذج السياسي الكلاسيكي للإخوان المسلمين غير قابل للاستمرار.

سيبقى الإسلاميون عموماً قوة في المشهد السياسي المصري في المستقبل القريب. لكن لايزال من غير المؤكّد أي سيناريو من السيناريوهات الخمسة حول مستقبل الإخوان ستكون له اليد العليا. فالدولة القديمة والإخوان (الطرفان المتحاربان الأساسيّان في الصراع) ملتزمان تباعاً بنجاح السيناريو الأول والثاني - إما القضاء الكلّي على الإخوان أو عودتهم المظفرة. لكن قصور هذين السيناريوَهين قد يرغم كلا الجانبين على أن يكونا أكثر انفتاحاً على خيارات أخرى، خصوصاً خيار المصالحة. وما لم يتّفق الجانبان على هذه النقطة، تبقى السيناريوهات الثلاثة الأخرى (المصالحة والانقسام والتجديد) مُستبعَدة.

مهما كانت أحلام عودة الإسلاميين إلى الحكم غير واقعية، تعكس الفكرة بأن الإسلام السياسي في مصر بات من الماضي، مستوٍى مماثلاً من التفكير الرغائبي. يتطلّب صعود سياسات مابعد الإخوان (ظهور قوى ديمقراطية إسلامية وغير إسلامية ذات شعبية) نهاية سياسات الدولة القديمة السلطوية، وتنمية اقتصادية، وإصلاحاً دينيّاً جديّاً، ووضع بدائل ديمقراطية تشاركية. بيد أن هذه التطورات كافة تبقى مُستبعَدة على المديَين القصير والمتوسط.

لقد ألقت الاضطرابات الراهنة في مصر – من ضمنها الصراع الاجتماعي والاستقطاب والعنف - ظلالها على إمكانية إدماج الإسلاميين، وعلى قدرة النظام على تحقيق الاستقرار السياسي والحياة الطبيعية. لدى الإسلاميين والدولة القديمة مصلحة مشتركة في استبعاد القوى الأخرى. فقد سعى الإسلاميون إلى الاستيلاء السلمي على النظام السلطوي القائم، وحين فشل ذلك، سعوا إلى مقاومة الدولة القديمة. لم يلقَ أي مسار نحو التغيير الديمقراطي السياسي والاجتماعي – طريقة ثالثة – ترحيباً من الدولة القديمة أو الإسلاميين، الذين لايزالون غير مستعدّين إلى التعامل مع القوى الممكنة الأخرى أو تعزيز التغيير الديمقراطي. وهذا يجعل الإسلامَ السياسي، على غرار الدولة السلطوية القديمة في مصر، جزءاً من المشكلة القائمة بدلاً من أن يكون حلّاً لها.

هوامش

1 وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش، قامت القوات الحكومية بقتل 817 شخصاً على الأقل (والأرجح أكثر من 1000) خلال فضّ اعتصام رابعة. للاطّلاع على التقرير الكامل، أنظر:
Human Rights Watch, All According to Plan: The Rab’a Massacre and Mass Killings of Protesters in Egypt, 2014, www.hrw.org/sites/default/files/reports/egypt0814web_0.pdf.

يقدّر الإخوان عدد ضحاياهم على يد النظام منذ 3 تموز/يوليو 2013 بـ3248 شخصاً. أنظر:
http://wikithawra.wordpress.com/2013/11/12/sisicasualities/.

يقدّر الإخوان أن 41163 شخصاً إضافيّاً قد اعتُقِل أو احتُجِز. أنظر:
http://wikithawra.wordpress.com/2014/01/09/sisi-mansour-detainees.

2 بين تشرين الأول/أكتوبر 2013 وتموز/يوليو 2014، استحوذت لجنة حكومية خاصّة أموال وأعمال 737 شخصاً تابعين للإخوان، بما في ذلك 66 شركة، وأنشطة بيع بالتجزئة وأنشطة تجارية عدّة، إضافةً إلى المدارس المملوكة للقطاع الخاص.

3 جُمِعَت هذه المعلومة من خلال مقابلات مع عددٍ من أعضاء الإخوان المسلمين في القاهرة والجيزة والاسكندرية بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس 2014.

4 يدير طلّاب الإخوان شؤونهم من دون إشراف خارجي من قيادة الجماعة – عملاً بنموذج حزب مصر القوية. مقابلة أجراها الكاتب مع طالب ينتمي إلى الإخوان المسلمين، القاهرة، 14 أيار/مايو 2014.

5 تستند هذه المعلومة إلى سلسلة مقابلات مع مجموعة من طلّاب الإخوان خلال نيسان/أبريل وأيار/مايو 2014.

6 شاركت النساء الإسلاميات، بغض النظر عن الانتماء إلى جماعة الإخوان، بنشاط في الاحتجاجات والتظاهرات. حتى إن بعضاً منهنّ قمن بانتهاك محرّمات إسلامية أساسية، مثل وضع الأغاني تمتدح النضال المناهض للانقلاب. برّرت المكاتب الإدارية انتهاك هذه المحرّمات مشيرةً إلى "ضرورات المعركة".

7 قبل العام 2011، امتنع الإخوان عن ترشيح النساء في الانتخابات على نطاق واسع أو دفعهنّ إلى التحرّك في تظاهرات لحمايتهنّ من غضب النظام. لكن الحال لم تَعُد كذلك. فوفقاً لتقارير الإخوان، ثمة حوالى 65 ناشطة من الإخوان في سجون في أرجاء مصر.

8 Michael Geogry and Tom Perry, “Special Report: As Brotherhood Retreats, Risks of Extremism Increase,” Reuters, www.reuters.com/article/2013/10/28/us-egypt-brotherhood-special-report-idUSBRE99R0DU20131028.

9 مقابلة أجراها الكاتب مع قائد إخواني، الجيزة، أيار/مايو 2014.

10 على سبيل المثال، ينظر العديد من أعضاء الإخوان المسلمين إلى العنف الجهادي على أنه ردّ فعل مفهوم، لابل مثير للإعجاب في بعض الأحوال. يقلّل الإخوان رسميّاً من مصداقية تهم الطائفية، لكن الممارسة المتكرّرة في صفوف الاخوان هي إلقاء اللوم على المسيحيين الأرثوذكسيين المصريين، أو الأقباط، بسبب المشاركة في الانقلاب وإدانتهم بأنهم كارهون للإسلام بسبب معتقدهم الديني.

11 مقابلة أجراها الكاتب مع ناشط في الإخوان المسلمين، الجيزة، تموز/يوليو 2014.

12 المصدر السابق.

13 دُعي رئيس حزب الحرية والعدالة التابع لجماعة الإخوان لحضور الاجتماع الرسمي الذي عقده قادة الجيش لمناقشة خريطة الطريق السياسية مابعد مرسي.

14 مقابلة أجراها الكاتب مع رجل أعمال ينتمي إلى جماعة الإخوان، القاهرة، حزيران/يونيو 2014.

15 عاد العديد من أعضاء جماعة الإخوان السابقين إلى المجموعة بعد مجزرة رابعة لدعم زملائهم وأصدقائهم وأقربائهم السابقين، وذلك بعد أن كانوا تركوا الجماعة احتجاجاً عقب انتفاضة العام 2011. مقابلة أجراها الكاتب مع عدد من أعضاء سابقين في الجماعة، القاهرة، آذار/مارس-أيار/مايو 2014.

16 مقابلة أجراها الكاتب مع قائد في جماعة الإخوان، القاهرة، حزيران/يونيو 2014.

17 المصدر السابق.

18 تجاهلت المحكمة الجنائية الدولية ادّعاءات جماعة الإخوان ضدّ الجيش المصري بتهم ارتكاب الجرائم بحقّ الإنسانية. كما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أوصلا رسالة مفادها أن الانتخابات من شأنها أن تشرّع النظام الحالي في مصر. أخيراً، طردت قطر، وهي أحد الرعاة الأساسيين لكفاح الإخوان ضد الانقلاب، بعض الناشطين الإخوانيين الذين كانوا سكنوا في قطر عقب الانقلاب. وأوحت قطر ضمناً إنها ستقلّص دعمها للإخوان كجزء من المصالحة السياسية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

19 يمكن دفع الديّة لأسرة الشخص المقتول كتعويض بدلاً من العقاب القانوني. وهي ليست جزءاً من القانون المصري، لكن الإسلاميين والسكان يحترمونها باعتبارها تقليداً دينيا و ثقافيا. وتُدفَع الدية عادةً إذا رغبت أسرة الضحية في ذلك أو إذا كان متعذّراً تحديد المذنبين. وفي حالة رابعة ومجازر مماثلة، من الصعب فعلاً تحديد الأفراد المتورّطين.

20 مع أن المفكّر الإسلامي ورئيس حركة النهضة في تونس (التابعة لجماعة الإخوان المسلمين)، راشد الغنوشي، يعارض بشدة الانقلاب العسكري ونظامه في مصر، إلا أنه أعرب، كما زُعِم، عن عدم رضاه تجاه سياسات الجماعة غير الحكيمة وفشلها في قراءة موازين القوى. وقال إن فشل الجماعة في مصر قضى على إمكانيات الإسلاميين كافة في المنطقة، مشاركاً في هذا الرأي فروع الجماعة في الأردن واليمن وأوروبا.

21 مقابلة أجراها الكاتب مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان الشباب، شباط/فبراير-آذار/مارس 2014.

22 مقابلة أجراها الكاتب مع عدد من أعضاء جماعة الإخوان الشباب، شباط/فبراير-آذار/مارس 2014.

23 أنظر بيان حزب الوسط الرسمي:
www.facebook.com/alwasatparty/photos/a.170362426345091.34117.167887129925954/720267474687914/?type=1&theater.

أنظر أيضاً تصريح محمد محسوب، عضو المكتب التنفيذي الأعلى لحزب الوسط:
www.facebook.com/Mahsooob/posts/924153254266168.

24 يبدو أن إحدى أولويات النظام الأساسية هي حماية ضباط الجيش والشرطة (الذين يُعَدّون نقطة قوّته الأساسية) من أي عقاب قانوني على أفعال القتل التي ارتكبوها. تقدّم منظمة هيومن رايتس ووتش بعض الأدلة الموثّقة على ذلك:
http://www.hrw.org/sites/default/files/reports/egypt0814web_0.pdf.

25 Hakan Yavuz, Secularism and Muslim Democracy in Turkey (Cambridge: Cambridge University Press, 2009).

26 Sayyid Qutb, Milestones, http://www.izharudeen.com/uploads/4/1/2/2/4122615/milestones_www.izharudeen.com.pdf.

27 في العام 1994، وضعت جماعة الإخوان بياناً تحت عنوان "رؤيتنا للإصلاح"، أعلنت فيه التزامها بالديمقراطية وحقوق المرأة والتعدّدية السياسية.

28 على سبيل المثال، يمكن أن يشجب خطاب الجماعة الجيش والشرطة باعتبارهما "ظالمَين" ولكن لا باعتبارهما من "الكفّار" – وهو لقب يُعطى للأقباط.

29 مقابلة للكاتب مع عدد من الناشطين الشباب في جماعة الإخوان، القاهرة، حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2014.

30 أثبت إغلاق المساجد ووسائل الإعلام الدينية، وفرض القيود على الأنشطة الدينية، تصويرَ هؤلاء الإسلاميين للصراع على أنه ضد الإسلام.

31 ناقشت وثيقةٌ تداولتها على الإنترنت مجموعةٌ من الأعضاء الشباب في جماعة الإخوان المسلمين، تحت عنوان القضية الأولى"دفع الصائل" وقواعد محاربة "الطائفة الممتنعة". وهذه مصطلحات واردة من الأدبيات الجهادية من سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وقد برّرت الجهاد ضد الأنظمة الحاكمة التي تمتنع عن تطبيق الشريعة أوتقوم بإلحاق الضرر بحياة الأتقياء وحرياتهم وممتلكاتهم في البلدان المسلمة. ولم يُستخدَم هذا المصطلح أبداً من قبل في أدبيات جماعة الإخوان.

32 على سبيل المثال، أقام الإسلاميون حملة على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الهاشتاغ "انتخبوا ال***"، أهانت السيسي واستخدمت اللفط الشعبي الدارج لكلمة القوّاد في وصف السيسي. كما نشرت مواقع إلكترونية تابعة لجماعة الإخوان شرائط فيديو مشينة جنسياً، صوّرها أحد مناصري السيسي في مدينة المحلة الكبرى، كجزء من حملة ضد السيسي. وقد شكّل هذا الأمر انحرافاً كبيراً عن التقاليد الإسلامية في مايتعلّق بمسائل الجنس والأخلاق.  
 
33 أقيمت معسكرات إيديولوجية إسلامية في اعتصام رابعة، وكانت أكبر بكثير من المعسكرات التي نظّمتها جماعة الإخوان في عهد مبارك. وقد تزامن الاعتصام مع شهر رمضان، الأمر الذي زاد من فرص استخدام الشعائر الدينية في الدعاية لصالح الجماعة.

34 "ضمن هذا الكيان، تستطيع جماعة الإخوان تولّي الإدارة السياسية، والسلفيون تولّي الفقه الديني، فيما يستطيع الجهاديون القيام بالجهاد ضد أعداء الإسلام، والتبليغيون تولّي الوعظ والهداية إلى الدين. ومن شأن الدعم المتبادل أن يضاعف قوتهم ويضمن نجاحهم". مقابلة أجراها الكاتب مع إسلامي راديكالي، القاهرة، آذار/مارس 2014.

35 يشمل الناشطون والدعاة الأساسيون الذين يروّجون لهذه الاقتراحات يحيي رفاعي سرور، ومحمد جلال القصاص، وحسام أبو البخاري، وصفوت بركات، ومحمود فتحي، وآخرين.

36 مقابلة أجراها الكاتب مع إسلامي ثوري، الاسكندرية، أيار/مايو 2014.

37 لتعزيز العنف الإسلامي، من المهم جدّاً نيل الدعم الاجتماعي في صفوف المجموعات الاجتماعية البارزة في مواقع الحراك الاحتجاجي. ومع أن الكثير من الناس في معاقل هذه الاحتجاجات يؤيّدونها، إمّا بدافع التعاطف الإيديولوجي أو بسبب إرث محلّي مناهض للحكومة، إلّا أنهم قد يعارضون هذه التكتيكات في حال أصبحت عنيفة جدّاً ومولدة لصدام واسع لاتتحمّل تكلفته المنطقة. مقابلة أجراها الكاتب مع ثلاثة ناشطين إسلاميين ثوريين في معقلَين من معاقل الاحتجاج الرئيسة، حلوان في القاهرة، والهرم في الجيزة، حزيران/يونيو 2014.

38 أعلن تنظيم أجناد مصر مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية أمام جامعة القاهرة في 2 نيسان/أبريل 2014، من بين هجمات أخرى.

39 لم يجرِ تأسيس حزب حازم صلاح أبو اسماعيل، الراية، بسبب النقص في الموارد التنظيمية والكوادر السياسية. وبقيت الأحزاب الأخرى التي تعبّر عن أفكار مماثلة، مثل حزب الفضيلة وحزب الأصالة، هامشية وغير مهمة. وتفتقر الهيئات غير الحزبية مثل الجبهة السلفية، وحركة "حازمون"، و حركة أحرار، والائتلاف الإسلامي العام، وطلّاب الشريعة، إلى الكفاءة التنظيمية.

40 على سبيل المثال، لم تضمّ صفحة "شباب دعوة أهل السنّة والجماعة" على موقع فايسبوك (الجناح الشاب في جمعية قطبية بارزة مقرّها في الاسكندرية)، إلا أعداداً محدودة لم تتجاوز المئات.

41 على سبيل المثال، يشير هاشتاغ "تحولاتي الفكرية الأخيرة" إلى تحوّل الكثير من مويّدي الإخوان المسلمين إلى التطرّف.

42 مثل أتباع الشيخ الراحل رفاعي سرور.

43 شُكِّلَت هذه المجموعات على عجل على أيدي بعض الأعضاء الشباب من الإخوان المسلمين، ردّاً على عنف الشرطة خلال الاحتجاجات الكبيرة في القاهرة والاسكندرية في آب/أغسطس 2013.

44 تشمل هذه النصوص الإيديولوجية سلسلة "جند الله" للداعية الإخواني السوري سعيد حوّى، وأعمالاً من قبيل "المتساقطون على طريق الدعوة" للداعية الإخواني اللبناني فتحي يكن، و"المنهج الحركي للسيرة النبوية" لمنير الغضبان، و"المنطلق" لمحمد أحمد الراشد، إضافة إلى أعمال لإخوان مصريين مثل مصطفى مشهور وجمعة أمين.

45 ندّد يوسف القرضاوي، أحد أبرز الفقهاء المرتبطين بالإخوان المسلمين، بخلافة الدولة الإسلامية باعتبارها غير صحيحة دينيّاً. فإيديولوجيا الدولة الإسلامية تكفّر سائر المسلمين والإسلاميين، بما في ذلك الإخوان أنفسهم. وترتكب الدولة الإسلامية ظلماً مذابح بحقّ الأبرياء باسم الإسلام. وهي تعتبر أن المشاركة في العملية الديمقراطية تصرّف لا إسلامي. وفقاً للقرضاوي، تنبع هذه القراءة غير الصحيحة من منهجية مخطئة حول الشريعة.

46 يفسّر هذا الأمر الارتباك والتناقض في ردود فعل الإخوان إزاء صعود الدولة الإسلامية في العراق والشام. وتتراوح المواقف بين الدعم الكامل للدولة الإسلامية والإعجاب بفعاليتها، وبين المساندة النقدية (التشكيك في بعض المسائل، ولكن دعم نقاط أخرى)، والنقد الواسع (لأسباب عملية وسياسية بشكل أساسي)، والنبذ الكلّي للدولة الإسلامية باعتبارها تكفيرية وخوارجية، والامتناع عن إبداء موقف محدّد تجاهها.

47 على سبيل المثال، بين نيسان/أبريل وحزيران/يونيو 2014، انتشرت حملة كتيبات وملصقات في جميع أنحاء المدن الكبرى في مصر، تطلب من الناس الصلاة للحصول على بركات النبي محمد. كانت هناك تكهنات واسعة حول هوية المسؤولين عن هذه الحملة، وعن مشاركة بعض الإخوان والسلفيين. ردّ النظام عبر إنهاء هذه الحملة بالقوة.  

48 الديمقراطية الانتخابية (Electocracy) هي نظام سياسي يمكن فيه للمواطنين التصويت لاختيار الحكومة، لكن يتم هذا في إطار سلطوي لايوفّر ضمانات الحقوق والحريات الخاصة والعامة الأساسية، إضافة إلى التوازن والفصل بين السلطات. إذن، هي أقرب إلى السلطوية الانتخابية أو التنافسية منها إلى الديمقراطية. (المترجم)الديمقراطية الانتخابية (Electocracy) هي نظام سياسي يمكن فيه للمواطنين التصويت لاختيار الحكومة، لكن يتم هذا في إطار سلطوي لايوفّر ضمانات الحقوق والحريات الخاصة والعامة الأساسية، إضافة إلى التوازن والفصل بين السلطات. إذن، هي أقرب إلى السلطوية الانتخابية أو التنافسية منها إلى الديمقراطية. (المترجم)

49 كان التحديث في الشرق الأوسط في الغالب من فوق وبقيادة الدولة، وتجاهل الحاجة إلى بناء علاقة ديمقراطية ليبرالية بين الدين وبين الحكومة (أي شكل ليّن من العلمانية السياسية). كانت الدولة والدين والمؤسسات التعليمية والتربوية حامية هذه السياسات المحافظة. 

50 Ashraf El-Sherif, “The Strong Egypt Party: Progressive/Democratic Post-Islamists or Just Another Islamist Party?” available at http://media.leidenuniv.nl/legacy/sherif.pdf.