على إثر خلاف سياسي في مجلس الوزراء حول تعيين قائد جديد للجيش اللبناني، دعا ميشال عون، زعيم التيار الوطني الحر، إلى احتجاجات في الشارع، وقد تجمّع أنصار الحزب في بيروت في التاسع من تموز/يوليو الجاري. يُشار إلى أن الرئاسة التي تُعتبَر المنصب الماروني الأهم في السياسة اللبنانية، شاغرة منذ أيار/مايو 2014، كما أن ولاية قائد الجيش - وهو أيضاً منصب ماروني مهم - تنتهي في أيلول/سبتمبر المقبل. على الرغم من أن عون اعتبر أن المأزق الذي يحيط بانتخاب رئيس للجمهورية وتعيين قائد للجيش يشكّل تعدّياً على حقوق المسيحيين، إلا أن الدعوة التي أطلقها للنزول إلى الشارع هي مناورة أساسية في إطار مسعاه لتمكين التيار الوطني الحر وحلفائه داخل الحزب.
عندما وقّع التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية "إعلان النوايا" في حزيران/يونيو الماضي لانتخاب رئيس قوي، أصبح عون صاحب اليد العليا في مقابل الأحزاب المسيحية الأخرى. فبما أن سمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، زار عون في الرابية لتوقيع الإعلان، بات جعجع يُعتبَر الشريك الأصغر. كما أن الإعلان - وهو في شكل أساسي اتفاق على التوصّل إلى اتفاق بين الحزبَين - وضع حداً بطريقة استباقية لأي تهديدٍ بإقصاء التيار الوطني الحر من أي اتفاق رئاسي بين حزب الكتائب وتيار المستقبل أو حزب الله وتيار المستقبل.
واقع الحال هو أن حزب الكتائب، الذي انصرف اهتمامه مؤخراً إلى نقل السلطة من رئيس الحزب أمين الجميل إلى نجله سامي ماجعله عرضةً للهشاشة، ليس في موقع يخوّله تهديد هيمنة التيار الوطني الحر في أوساط الناخبين المسيحيين الذين يتقرّبون أكثر فأكثر من الأعضاء الآخرين في فريق 8 آذار/مارس، مع تنامي سمعة حزب الله الذي يظهر في صورة الحامي ضد تنظيم الدولة الإسلامية. على ضوء الشغور في منصبَين مخصّصَين تقليدياً للموارنة، وحالة الفوضى والضياع لدى الأحزاب المسيحية الثلاثة (يركّز التيار الوطني الحر وحزب الكتائب على التنظيم الداخلي، أما حزب القوات اللبنانية فقد أُضعِف موقفه وسط ماكُشِف عن أن جعجع طلب الدعم المالي من السعودية)، بدت الدعوة التي وجّهها عون للاحتجاج والتعبئة العامة بمثابة مغامرة سياسية حكيمة.
لو تخلّى التيار الوطني الحر عن الرئاسة في العام 2014، في بداية الشغور في المنصب، غالب الظن أنه كان ليحصل فقط على قانون انتخابي أكثر مؤاتاةً لفريق 8 آذار/مارس وربما حصة أفضل في الحكومة المقبلة - ولذلك لم تكن لديه أسباب كافية للتخلي عن الرئاسة. لكن منذ أيار/مايو 2015، عندما طُرِح تعيين قائد للجيش على طاولة المفاوضات، حصل التيار الوطني الحر على فرصة الفوز بالصفقة الأفضل حول المنصبَين. مكانة التيار قوية جداً إلى درجة أن بإمكانه التخلي عن الرئاسة لفريق 14 آذار/مارس، في حال أراد ذلك، في مقابل منحه قيادة الجيش التي تُعتبَر الأدنى مرتبة بين المنصبَين. أو بإمكان التيار أن يستخدم "الثلث المعطّل" في مجلس النواب في موضوع الانتخابات الرئاسية للحصول على تنازلات استجابةً للضغط المستمر الذي يمارسه في ملف تعيين قائد للجيش. بإمكان فريق 8 آذار/مارس أيضاً أن يتخلّى عن طموحاته الرئاسية في مقابل ثلاثة مطالب: قانون انتخابي معدَّل، والثلث المعطّل في الحكومة، وقيادة الجيش. بالنسبة إلى التيار الوطني الحر، يتيح ذلك أيضاً فرصة تعزيز مكانة العميد روكز، صهر العماد عون والقائد الحالي لفوج المغاوير في الجيش اللبناني والمرشّح الشعبي المحتمل لخلافة عون، وذلك عبر تعيينه قائداً للجيش.
الأهم من ذاك، من شأن صفقة المقايضة بين الرئاسة ومنصب قائد الجيش أن تجعل من التيار الوطني الحر اللاعب الأقوى في السياسة، لأنه بهذه الطريقة يتنازل تيار المستقبل للتيار الوطني الحر بدلاً من التنازل لأحد حلفائه المسيحيين، مثل حزب القوات اللبنانية أو حزب الكتائب، في فريق 14 آذار/مارس. قد يستخدم عون وأنصاره هذا النصر السياسي لتعزيز مكانته قبل الانتخابات الداخلية التي سيشهدها التيار الوطني الحر في أيلول/سبتمبر المقبل. يبدو أن المرشحَين الأساسيين هما النائب عن بعبدا، آلان عون، ابن شقيقة ميشال عون، وجبران باسيل، صهر عون ووزير الخارجية الحالي. لقد سرت شائعات بأن عون قد يدفع باتجاه التوصل إلى توافق داخل التيار عبر تعيين أحدهما رئيساً والثاني نائباً للرئيس، إلا أن هذا ليس مؤكّداً حتى الآن.
إذا احتدمت المواجهة بين المرشّحَين، قد يتسبّب ذلك بانقسام كبير في صفوف التيار الوطني الحر، لاسيما وأن كلَيهما سياسيان رفيعا المستوى، ويتمتعان بالنفوذ في أوساط ناخبي الحزب. في حال فشل عون في الحصول على تعيين شامل روكز قائداً للجيش، قد يولّد ذلك أجواء من الإخفاق قبيل الانتخابات الداخلية، وربما يؤدّي إلى إضعاف عون ومرشحيه المفضلين، وتعطيل نقل السلطة في التيار الوطني الحر. لذلك سعى عون إلى استخدام تظاهرات التاسع من تموز/يوليو الجاري من أجل ممارسة الضغوط على الحكومة لتعيين روكز بأسرع وقت ممكن. كلما اقترب شهر أيلول/سبتمبر، زادت الاحتمالات بأن يقبل عون باتفاق لتقاسم الرئاسة وقيادة الجيش مع فريق 14 آذار/مارس تفادياً لكل مايمكن أن يشكّل عامل إلهاء وتشتّت على مشارف الانتخابات الداخلية في التيار الوطني الحر. ولهذا السبب على الأرجح، يعطّل تيار المستقبل أي نقاش حول منصب قيادة الجيش قبل آب/أغسطس المقبل.
بحسب منطق فريق 14 آذار/مارس، إذا رفض عون التخلي عن الرئاسة في مقابل حصوله على قيادة الجيش، قد يعيّن مجلس الوزراء قائداً آخر للجيش ويحرم عون من فرصة تعيين روكز لبضع سنوات إضافية. من شأن ذلك أن يتسبّب بإضعاف عون قبيل الانتخابات الداخلية ويحرمه من قيادة الجيش، فيما يسمح في الوقت نفسه لفريق 14 آذار/مارس بأن يصوّره بأنه المسؤول عن تعطيل انتخابات الرئاسة. يعتبر هؤلاء أنه ينبغي على عون أن يقدّم تنازلات، وإلا يخسر المنصبَين معاً.
وبحسب منطق التفكير الذي يتّبعه عون، إذا ضغط على مجلس الوزراء الآن لتعيين صهره قائداً للجيش، لن يُضطر إلى التخلي عن طموحاته الرئاسية لاحقاً، لأن المقايضة بين الرئاسة وقيادة الجيش لن تعود مطروحة على الطاولة. ولن يعود بإمكان فريق 14 آذار/مارس حرمان التيار الوطني الحر من قيادة الجيش، وهكذا لن يكون لدى التيار مايخسره إذا استمر في الضغط من أجل الفوز بالرئاسة. ومن شأن ذلك أن يضعف أيضاً المنافس الأساسي لعون على منصب الرئيس، العميد جان قهوجي، الذي يبقى وجوده في قيادة الجيش الورقة الرابحة الأكبر في يده.
من هذا المنطلق، يستخدم عون مختلف الوسائل للضغط على الحكومة. فقد اتّهم رئيس الوزراء تمام سلام باستغلال صلاحياته عندما رفض هذا الأخير إدراج تعيين قائد جديد للجيش على جدول أعمال مجلس الوزراء. دستورياً، يُحدّد رئيس الوزراء السنّي جدول الأعمال في اجتماعات مجلس الوزراء (المادة 64)، مع العلم بأنه يُسمَح للرئيس الماروني بأن "يعرض أي أمر من الأمور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال" (المادة 53). في ظل الشغور في منصب الرئاسة، أخذ عون على عاتقه حماية مصالح المسيحيين عبر الإعلان بأنه يحق للتيار الوطني الحر - باعتباره الحزب المسيحي الأكبر الممثَّل في الحكومة - أن يضطلع بصلاحيات الرئيس خلال جلسات مجلس الوزراء. فردّ فريق 14 آذار/مارس بالإشارة إلى أن عون يتحمّل المسؤولية في نهاية المطاف لأنه يعطّل انتخاب أيّ رئيس غيره.
فضلاً عن ذلك، كان الإقبال ضعيفاً على التظاهرات التي دعا إليها عون، وجاءت المواجهة بين أنصار التيار والجيش قرب السراي الكبير لتزيد الأمور تعقيداً. في اليوم التالي، شنّ عون هجوماً كلامياً على قيادة الجيش على خلفية الحوادث التي وقعت خلال التظاهرات، وفي حين أن قائد الجيش العميد جان قهوجي لم يرد مباشرةً على كلام عون، جاء الرد بطريقة غير مباشرة عبر صفحة نجله جو قهوجي على موقع "تويتر"، حيث أشار هذا الأخير إلى ازدواجية المعايير لدى التيار الوطني الحر الذي يمدح العميد روكز عندما يتخذ الجيش موقفاً يعجب التيار، وينتقد قهوجي عندما يتخذ الجيش نفسه موقفاً لايعجبهم.
على الرغم من أن الاحتجاجات قد تبدو بأنها مناورة سياسية حكيمة، إلا أنها تشكّل هزيمة لعون في الشارع ومجلس الوزراء والمؤسسة التي يريدها أن تمارس تأثيراً أكبر. حتى إن عون يخسر من نفوذه داخل كتلته. فقد انتقد سليمان فرنجية، زعيم تيار المردة الذي يُعتبَر من حلفاء عون المقرّبين، خطوات عون السياسية في الأيام التي أعقبت الاحتجاجات، قائلاً إنه يدعم مطلب عون لكنه لايوافقه على الأسلوب (التظاهرات). وعلى الرغم من أن حزب الله صرّح في العلن أنه يقف إلى جانب حلفائه المسيحيين في فريق 8 آذار/مارس، إلا أن عدم مشاركته في الاحتجاجات تحمل دلالات معبِّرة في هذا السياق. فعبر رفضه القيام بتحرّك شعبي ضد قائد الجيش الحالي، ربما سعى إلى إنقاذ ماء الوجه مع قهوجي الذي يُعتبَر أيضاً المرشح التوافقي الأقوى للرئاسة. ثمة أمرٌ أكيد: تنتظر التيار الوطني الحر مرحلة عاصفة في الأسابيع القليلة المقبلة، وهم يجرّون فريقهم والبلاد بأسرها معهم، باعتبارهم طرفاً أساسياً في فريق 8 آذار/مارس وفي النسيج اللبناني.
رامز داغر مدوِّن سياسي لبناني عبر Moulahazat.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.