فيما تتحدث وسائل الإعلام حول العالم عن سقوط شرق حلب، من المهم الإشارة إلى أن الحصار الذي يفرضه النظام على المدينة منذ عامَين، وليس حملة القصف التي بدأت في أيلول/سبتمبر الماضي، هو الذي أدّى في نهاية المطاف إلى سقوطها. فالنقص شبه التام في الوقود في شرق حلب، وعلى الرغم من عدم تسليط الضوء عليه بما يكفي في وسائل الإعلام، تسبّب بتفاقم جميع الظروف الصعبة تقريباً، وساهم إلى حد كبير في استسلام السكان في نهاية المطاف.

يُعتبَر الوقود من السلع الأغلى قيمة في شرق حلب، لأن عدم توافره يؤدّي إلى اشتداد الشح في كل السلع الأساسية الأخرى تقريباً. فمن دون وقود، لاتستطيع فرق الإغاثة، مثل قوات الدفاع المدني السوري، الوصول إلى المكان الذي يتعرض للقصف الجوي بالسرعة الكافية لمعالجة الضحايا أو تشغيل المعدات اللازمة لإزالة الأنقاض بحثاً عن ناجين، ولايمكن تشغيل المولّدات الكهربائية في العيادات الطبية من أجل معالجة المرضى الذين يصلون أحياء. وفي غياب الوقود، لاتتوافر للعائلات كمية كافية من التيار الكهربائي لتدفئة منازلها في الطقس البارد، وتتوقّف حركة النقل في مختلف أنحاء المدينة. يصبح ضخ المياه إلى المنازل أكثر صعوبة عند فصل المحطات عن الشبكة الكهربائية، ولايتسبّب النقص في الوقود بارتفاع شديد في أسعار المواد الغذائية المحدودة وحسب، بل إن عمّال الإغاثة في شرق حلب يشيرون أيضاً إلى أن السكان يجدون صعوبة حتى في طهي المواد الغذائية التي يؤمّنونها لهم في إطار المساعدات، وذلك بسبب الشح في غاز الطهي.

قَطْع الوقود عن حلب ناجمٌ عن سياسة الحكومة السورية الرسمية، وكذلك عن النزاع المستمر مع تنظيم الدولة الإسلامية الذي يحدّ من استخراج الوقود وبيعه في مصدره. طوال أشهر، كان يتم تأمين الوقود إلى شرق حلب عبر شرائه من تنظيم الدولة الإسلامية عن طريق وسطاء كانوا يشحنونه إلى عفرين، وهي بلدة ذات أكثرية كردية تقع على بعد 40 ميلاً (65 كلم) شمال حلب. ومن هناك يُنقَل إلى قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة التي كانت تشرف على تسليمه إلى شرق حلب.

لكن بحسب تقارير محلية، لم يقترب أي صهريج وقود من شرق حلب منذ 20 آب/أغسطس 2016، عندما اندلع القتال على طول طرقات الإمداد. منذ الهجوم على قافلة المساعدات التابعة للأمم المتحدة في 19 أيلول/سبتمبر، والذي شكّل بداية جولة جديدة من القصف الجوي، لم يرغب أي من سائقي الصهاريج في المجازفة ومحاولة كسر الحصار. باتت احتياطيات الوقود المخزّنة في شرق حلب مستنفَدة إلى حد ما، وبحسب قوات الدفاع المدني السورية وسواها من الأجهزة، من شبه المستحيل إيصال الوقود إلى هناك.

لقد وُضِع مخطط عن سابق تصوّر وتصميم كي لايتمكّن أحد من شراء الوقود في شرق حلب. خلال العام المنصرم، ضيّقت القوات الموالية للأسد الحصار حول الجيوب الخاضعة لسيطرة المعارضة بهدف إرغامها على الاستسلام. وفي النصف الثاني من العام 2016، بدأت حملات التجويع هذه تفضي إلى حالات استسلام عن طريق التفاوض. عند استسلام داريا في آب/أغسطس الماضي، وهي ضاحية من ضواحي دمشق اعتُبِرت رمزاً من رموز انتفاضة 2011، كان عدد سكانها قد تراجع من 250000 نسمة إلى نحو 5500. وفي مطلع أيلول/سبتمبر، استسلم حي الوعر في حمص الذي تقلّص عدد سكانه إلى 75000، بحسب تقديرات الأمم المتحدة. في مسار النزاع السوري، من شأن استسلام شرق حلب أن يشكّل انتصاراً للنظام على مستوى غير مسبوق حتى الآن: فعدد سكانها ليس 5500 أو 75000، بل 250000.

بيد أن سكّان شرق حلب وجدوا طريقة لتخطّي أزمة الوقود الحالية – على الأقل مؤقتاً. فهم يعمدون إلى تذويب البلاستيك المتراكم في المستودعات منذ سنوات عدة في إطار حملة لإعادة التدوير، مستخدمين تقنية تعلّموها من سكّان الغوطة، إحدى ضواحي دمشق، التي خضعت للحصار طوال سنوات عدة. تقوم هذه الطريقة المنزلية على حرق أطنان من البلاستيك في براميل حتى الذوبان، ثم تبريدها وتذويبها من جديد. وعندما تبرد، يستخرجون منها مادة يمكن استخدامها بمثابة مازوت لتدفئة المنازل وتشغيل المولّدات، مع العلم بأنها نادراً ماتنجح في تشغيل محركات السيارات.

لكن لولا تخزين النفايات البلاستيكية في المستودعات على امتداد سنوات طويلة، لما كان بالإمكان اللجوء إلى هذه الطريقة. بحسب تقارير ميدانية صادرة عن شركة "فرست مايل جيو"، هناك في المجموع نحو 30 موقعاً حيث يُباع الوقود في شرق حلب. يستطيع كل واحد من هذه المواقع بيع 20 إلى 50 ليتراً من المازوت المنزلي الصنع في اليوم مقابل 1000-1700 ليرة سورية عن كل ليتر (1.82-3.10 دولارات بحسب سعر الصرف في السوق السوداء الذي يبلغ نحو 550 ليرة سورية لكل دولار أميركي). تُظهر خريطة غير رسمية لهذه المواقع أن نحو واحد فقط من أصل كل خمسة مواقع لبيع الوقود يفتح أبوابه، وهكذا حتى لو كان السكان يملكون ثمن الوقود، فهم يعانون من صعوبة شديدة في العثور على هذه المواقع.

يراهن نظام بشار الأسد الآن على أن الأوضاع في شرق حلب ستكون أفضل بعد الاستسلام – ولو كان السبب فقط أن هذه الجوانب في الحياة اليومية لن تكون مصدر معاناة كبيرة. في شرق حلب اليوم، يقتصد السكان قدر الإمكان في استخدام الوقود المتوافر في حال تمكّنوا من الحصول عليه. يُجرون اختبارات كثيرة عبر الخلط بين أنواع مختلفة من الوقود (مثلاً خلط المازوت مع البترول) أملاً في الحصول على مواد تتيح لهم تشغيل الآلات على غرار الرافعات التي تُستخدَم لإنقاذ المدنيين العالقين تحت أنقاض المباني التي يدمّرها القصف. يدرك النظام السوري جيداً أن الحرب لاتُخاض فقط عن طريق القنابل والقذائف أنما أيضاً الخدمات والرواتب. في أعقاب هذا الهجوم الجديد، سوف تسارع السلطات إلى مدّ الأحياء التي استولت عليها قوات النظام، بالخدمات على غرار التيار الكهربائي أملاً في أن يبتهج السكان بحصولهم على التدفئة في الشتاء بحيث يتناسون مشاعر الغبن السياسي التي يكنّونها تجاه نظام الأسد.

النقص في الوقود دليل على نجاح تكتيكات الحصار الذي فرضه النظام السوري في حلب. لكن في حين أن الحصار تكتيك عسكري مطبَّق منذ سنوات، وقد اشتدّت وطأته على وجه التحديد في الأشهر الستة الماضية، الوصول إلى الوقود أكثر تعقيداً إلى حد كبير في مختلف أنحاء سورية. فعلى سبيل المثال، يمكن الحصول على الوقود عن طريق الإنتاج المحلي – كما في محافظتَي الحسكة ودير الزور الغنيتَين بالنفط شرق البلاد – ولايزال بالإمكان شراؤه في إدلب وشمال حلب، إنما يصعب كثيراً الحصول عليه في المناطق الخاضعة للسيطرة المشدّدة من قوات النظام السوري أو على طول الجبهات الأمامية كما في درعا أو ضواحي دمشق. لعل هذه الخطوط المتبدِّلة للوصول إلى النفط لن تحدّد فقط مستقبل حرب الحصار التي يشنّها النظام السوري لناحية المناطق التي سيطالها الحصار في المراحل المقبلة، بل سوف تحدّد أيضاً الحظوظ النسبية لنجاح عمليات الحصار.

شرق حلب على وشك السقوط، مع مايتمخّض عن ذلك من تداعيات دراماتيكية على نتائج النزاع السوري. وفي هذا دليلٌ على أن النظام السوري قادر على فرض حصار همجي أكثر تعقيداً من حملات التجويع الأصغر نطاقاً في دمشق وحمص، حيث كان عدد السكان أقل بعشر مرات تقريباً من العدد في شرق حلب. على الرغم مما أظهره شرق حلب من قدرة على الصمود، إلا أن المشقات تفاقمت بسبب الحصار وأزمة الوقود الناجمة عنه، فاشتدّ العبء على المدينة دافعاً بها نحو نقطة الانهيار.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

نات روزنبلات محلل في شركة "فرست مايل جيو" وطالب ماجستير علوم/دكتوراه في جامعة أكسفورد، حيث يجري بحوثاً عن تأثير التمدين في مدن الشرق الأوسط. يمكنكم متابعته على تويتر: @NateRosenblatt