الحضور الإماراتي الضعيف في مؤتمر "تونس 2020" للاستثمارات الذي عُقِد في 29 و20 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، يسلّط الضوء على التفاوت في العلاقات التونسية مع دول الخليج. فقد اقتصر هذا الحضور على مديرَين تنفيذيين من شركة دبي القابضة المملوكة من أمير دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. واستقبلهما رئيس الوزراء التونسي يوسف الشاهد استقبال رؤساء الدول مُظهراً احتراماً شديداً. لكن على الرغم من التعهدات التي قُطِعت خلال المؤتمر والتي فاقت قيمتها 14 مليار دولار في شكل قروض وهبات واستثمارات، ومن الإعلان عن العديد من المشاريع الواسعة النطاق، الإعلان الوحيد الذي صدر عن الإمارات خلال المؤتمر هو أن شركة الإمارات الدولية للاتصالات (جزء من دبي القابضة) ستبيع حصّتها في شركة اتصالات تونس، والتي تبلغ 35 في المئة من الأسهم.

في المقابل، أعلن أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وهو رئيس الدولة الأجنبية الوحيد الذي شارك في المؤتمر، عن رزمة مالية بقيمة 1.25 مليار دولار، ووقّع السفير القطري في تونس شيكاً إضافياً قدره 2.2 مليونَي دولار لتغطية تكاليف المؤتمر. بدا مؤتمر "تونس 2020"، في شكل عام، وكأنه ردٌّ قطري على مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري الذي نظّمته الإمارات في آذار/مارس 2015، والذي أتاح لها توسيع نفوذها في ذلك البلد.

توطّدت العلاقات بين تونس وقطر إبان ثورة 2011 لأسباب عدة منها الانتقادات التي وجّهتها قناة "الجزيرة" لسياسات زين العابدين بن علي في السنوات السابقة. وفي عهد الائتلاف بقيادة النهضة بين العامَين 2011 و2013، تعزّز التعاون بين البلدَين في قطاعات عدة منها الاقتصاد، والتنمية الاجتماعية والسياسية، والجيش والأمن. على سبيل المثال، وقّع أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني عشرة اتفاقات مع الحكومة التونسية، منها اتفاقات في مجالَي الاستثمار والإنشاءات، إنما أيضاً لتوفير الخدمات الإنسانية والتدريب المهني. لاحقاً في العام 2012، أعلنت وزارة الدفاع التونسية أن القوات المسلحة التونسية تشارك في تدريبات عسكرية في قطر، وكانت الدوحة تزوّد أيضاً الجيش التونسي بالآليات. وقد زعم خصوم النهضة أن قطر تُغدق الأموال على التنظيمات الإسلامية على غرار النهضة، وبدرجة أقل، على أحزاب سياسية أخرى مثل المؤتمر من أجل الجمهورية. في ذلك الوقت، كانت تونس تُعتبَر حليفة أساسية لقطر، إلى جانب تركيا ومصر وليبيا وفاعلين غير دولتيين مثل حماس وبعض الفئات في المعارضة السورية واليمنية.

بعد استقالة حركة النهضة من الحكومة في كانون الثاني/يناير 2014 في أعقاب مأزق داخلي استمر لفترة طويلة، أصبحت مكانة قطر في تونس أقل يقيناً. لكن ما زال بإمكان قطر أن تعتبر أن تونس هي "تجربة ناجحة" في سياستها الخارجية – فقد دعمت بلداً بدا أن انتقاله الديموقراطي يسلك طريقاً ناجحاً. واصلت قطر دعم تونس عن طريق القروض والتبرعات، وتستمر في تأمين تغطية إعلامية إيجابية من خلال وسائلها الإعلامية النافذة المدعومة من الدولة مثل قناتَي "الجزيرة" و"العربي الجديد".

على النقيض، ساد بعد العام 2011 التشنّج في العلاقات الثنائية بين تونس والإمارات التي كانت ثاني أكبر شريك تجاري لتونس في العالم العربي (بعد ليبيا). فقد عمدت الإمارات، بذريعة أن مستقبل السياسة والأمن في تونس ملتبس إلى حد كبير، إلى وقف استثماراتها في البلاد، ونأت بنفسها تدريجاً عن تونس على الصعيد الديبلوماسي، وبلغ هذا الشقاق ذروته مع استدعاء السفير الإماراتي لدى تونس في أيلول/سبتمبر 2013. فقيام تونس بإشراك الإسلاميين في السياسة، واعتمادها سياسة الحياد في ليبيا، والتحالفات التي انضمت إليها، كانت كلّها تتعارض مع الاصطفافات الاستراتيجية للإمارات.

لكن فيما بدأ الضعف يُصيب الفريقَين المفضّلَين لدى قطر في تونس – النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية – فتحت الإمارات قنوات تواصل مع المعارضة، لا سيما حزب نداء تونس. ولدى وصول هذا الأخير إلى السلطة في مطلع العام 2015، أرسلت الإمارات وزير خارجيتها عبدالله بن زايد آل نهيان إلى العاصمة التونسية، في زيارته الأولى منذ أيار/مايو 2011. اجتمع بالرئيس الباجي قائد السبسي، مؤسِّس نداء تونس، ووجّه إليه دعوةً لزيارة أبو ظبي، وقد زار العديد من المسؤولين التونسيين العاصمة الإماراتية لاحقاً في ذلك العام. وكذلك زار السبسي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يحظى بالدعم والرعاية من الإمارات، ووجّه إليه دعوةً لزيارة تونس. كانت القيادة الإماراتية تسعى إلى إخراج تونس من المعسكر القطري وضمّها إلى معسكرها. وقد اعتبرت أنه من شأن دعمها لحزب نداء تونس أن يساهم في إقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي، ويدفع بتونس نحو الاعتراف بالحكومة القائمة في شرق ليبيا وبخليفة حفتر، رجلها العسكري القوي وحليف أبو ظبي. لا هذا ولا ذاك تحقق. كما أن الحكومة التي شكّلها حزب نداء تونس حافظت على علاقات ممتازة مع قطر.

نتيجةً لذلك، استمر التشنّج في العلاقات الإماراتية-التونسية. بحلول منتصف العام 2015، اشتكى عدد كبير من رجال الأعمال التونسيين من رفض طلباتهم للحصول على تأشيرات سفر إلى الإمارات لأسباب غير واضحة، ووجد المغتربون التونسيون الذين يعيشون في الإمارات صعوبة في تجديد أذون عملهم. وقد صرّح السفير الإماراتي لدى تونس أن تلك التدابير تندرج فقط في إطار تعزيز الإجراءات ضد التطرف الإسلامي العنفي، على ضوء الأعداد الكبيرة من الشباب التونسيين الذين يغادرون للقتال في سورية. غير أن الكثيرين من الأشخاص الذين رُفِضَت طلباتهم ليست لديهم روابط معروفة مع أي من التيارَين المتشدّدَين، أو مع السياسة الإسلامية المتطرفة، ويبدو أن التدابير الإماراتية جاءت كوسيلة للضغط على الحكومة التونسية.

حاول الرئيس السبسي تحسين العلاقات في أيلول/سبتمبر 2015 عبر التوجّه إلى دبي للمشاركة في تشييع الشيخ راشد بن محمد بن راشد آل مكتوم، نجل أمير دبي، لكنه لم يتمكّن من الاجتماع بمحمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي وحاكم البلاد الفعلي. حُدِّد موعد لاحقاً لزيارة السبسي إلى أبو ظبي في تشرين الأول/أكتوبر 2015، لكنه أرجئ بقرار من الإماراتيين بحسب ما أُفيد.

في أيلول/سبتمبر 2015، وفي محاولة ربما للرد على الإماراتيين، دعا رئيس الوزراء التونسي آنذاك حبيب الصيد بصورة مفاجئة إلى عقد اجتماع وزاري للنظر في المشاريع الإماراتية الكبرى التي كان قد تم الإعلان عنها قبل العام 2011 لكنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ بسبب التحقيقات التي طالت أسرة بن علي في قضايا فساد. بيد أن المستثمرين لم يرغبوا في التخلي عن هذه المشاريع التي تحوّلت إلى أداة مقايضة في أيدي الإمارات في إطار المحاولات التي بذلها قادتها للتأثير في السياسة الحزبية التونسية. فقد أطلق هؤلاء القادة وعوداً بأنهم سيستثمرون من جديد في هذه المشاريع ما إن تتم تسوية الأزمة السياسية – أي ما إن يحجز حلفاؤهم التونسيون المفضّلون أماكن راسخة لهم في سدّة السلطة – وهكذا جعلوا شركاءهم التونسيين يستمرون في السعي خلف سراب. غير أن الصيد هدّد بإلغاء جميع الاتفاقات، والبحث عن مستثمرين آخرين في حال لم يُظهر الإماراتيون استعداداً للمضي قدماً بتنفيذ المشاريع.

مع استمرار التشنّجات، تُواصل الوسائل الإعلامية والبحثية الإماراتية انتقاد العملية الانتقالية في تونس، كما أنها تُشجّع عدداً من التونسيين من صحافيين ومفكّرين وشخصيات مرموقة على التعبير عن انتقاداتهم على الملأ. على سبيل المثال، غالباً ما تعمد الصحافة والبرامج التلفزيونية في تونس إلى إعادة نشر الأخبار والآراء التي تُعرَض عبر القنوات الإماراتية. في غضون ذللك، تترتب أعباء باهظة على تونس بسبب توقّف التعاون الاقتصادي، مع تجميد استثمارات تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات، وتبقى مسألة التأشيرات عالقة. وانطلاقاً من الحضور الضعيف للإمارات في مؤتمر "تونس 2020"، لا تلوح في الأفق مؤشرات تحسّن.

بيد أن تونس تأمل في التخلص من تبعيتها الحصرية لقطر، وتسعى إلى خطب ودّ الإمارات من أجل إرساء توازن في هذه العلاقات. ونظراً إلى الالتباس المحيط بالدعم الأميركي والأوروبي في المستقبل، تسعى إلى تعزيز روابطها مع دول الخليج. تأمل تونس أيضاً بأن يساهم تحجيم روابطها مع قطر في تهدئة التشنجات السياسية الداخلية – انطلاقاً من الاعتقاد بأن تقديم الإمارات دعماً أكبر للأحزاب العلمانية الأساسية من شأنه أن يساهم ربما في إرساء توازن في مقابل الدعم القطري للنهضة.

أظهر الإماراتيون حتى الآن تفضيلهم لمقاربة الغالب والمغلوب: إما تقبل الحكومة التونسية بشروطهم المتمثّلة في إبقاء الإسلاميين خارج الحكم وتوطيد العلاقات مع الحكومة الموالية لحفتر في شرق ليبيا، وإما تخرج صفر اليدَين. غير أن السعودية، حليفة الإمارات الأساسية، قد تتمكّن من التأثير في المقاربة الإماراتية في التعاطي مع تونس. وقد تعهّدت الرياض بتقديم 850 مليون دولار خلال مؤتمر "تونس 2020" بعد سنوات من الفتور في العلاقات بين البلدَين.

لكن منسوب التشنّج يزداد بين السعودية والإمارات على خلفية التقارب بين الرياض من جهة وقطر وتركيا من جهة ثانية؛ وتوسُّع الشرخ في العلاقات بين السعودية ومصر التي يدور نظامها في فلك الإمارات؛ وسواها من الخلافات في السياسة الخارجية تحديداً حول الملفات الليبية والسورية واليمنية. حتى لو كان السعوديون قد خسروا سطوتهم السياسية على الإمارات، لا يزالون قادرين على الاضطلاع بمكانتهم السابقة كواحد من أكبر الشركاء التجاريين العرب لتونس – أقلّه ما دامت الموارد المالية التي تمتلكها السعودية حالياً تتيح لها استثمار مبالغ طائلة في الخارج.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.

يوسف الشريف معلّق ومستشار تونسي في شؤون السياسة في شمال أفريقيا. لمتابعته عبر تويتر faiyla@.