شكّل التراجع المستمر في أسعار النفط مصدراً رئيساً لقلق السلطات الجزائرية لبعض الوقت. فعلى امتداد نحو 15 عاماً، ساهمت عائدات النفط والغازالمرتفعة في الحفاظ على الاستقرار والازدهار اللذين حقّقهما وصول الرئيس بوتفليقة إلى سدّة السلطة. غير أن الهبوط في أسعارالنفط تسبّب في اتّساع عجوزات الموازنة في الأعوام الأخيرة (طبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي بلغ العجز نحو 16.2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2015، ويُتوقَّع أن يكون قد سجّل 17.9 في المئة في العام 2016)، وبتراجع شديد في احتياطيات العملات، ما قد يؤدّي إلى أزمة في ميزان المدفوعات في حال نفادها بحلول سنة 2018، كما هو متوقع.

لكن فيما تلوح في الخلفية عملية توريث حسّاسة في موقع الرئاسة، تخشى الفصائل الحاكمة تطبيق زيادات ضريبية أو خفوضات في الإنفاق قد تتسبّب باضطرابات اجتماعية وتصدُّع في صفوف النخبة. بدايةأعطت السلطات الأولوية لمقاربتَين خوفاً من إطلاق موجة من التململ. مثلت المقاربة الأولى استخدام خطاب بيداغوجي في وسائل الإعلام من أجل تهيئة المواطنين للإجراءات التقشفية المحتومة إنما غيرالمحدّدة. أما المقاربة الثانية فكانت الاستدانة محلياً من خارج القطاع المصرفي بغية الإفادة من المدّخرات التي يولّدها الاقتصاد غير النظامي. إلا أنه من غير المرجّح أن تمارس المقاربة الأولى تأثيراً كبيراً على السكان الذين يحمّلون السياسيين مسؤولية الفساد وغياب الكفاءة، أما المقاربة الثانية فهي أساسية لفهم محاولات النظام تجنّب أي تعديل مالي على المدى القصير.

في نيسان/أبريل 2016، أطلقت الحكومة مخططاً للتمويل المحلي إمتد لستة أشهر عبر بيع سندات إلى رجال أعمال جمعوا ثروات هائلة خارج إطارالاقتصاد النظامي. كانت الفكرة خلف هذه المبادرة أن استخدام هذا المال سيكون كافياً لتمويل خطط الإنفاق الحكومية في المدى القصير، مع تجنّب امتصاص المدّخرات الخاصة التي يولّدها الاقتصاد غير النظامي. لهذا السبب، طرحت السلطات أوراقاً مالية مسجّلة وسندات مغفلة لحاملها بأسعار فوائد تتراوح بين 5 إلى 5.75 في المئة. يؤمّن خيار السندات المغفلة، وهي عبارة عن أوراق مالية من دون الاحتفاظ بسجلات عن المالك أو المعاملة التي أُنجِزت، ضمانة أساسية لرجال أعمال الاقتصاد غير النظامي. غير أن هذه المبادرة التمويلية فشلت في استقطاب قدر كافٍ من الرساميل – وتسبّبت بدلاً من ذلك بمزاحمة المستثمرين الخاصين والمصارف وبتفاقم نقص السيولة عبر تحويل الاستثمارات بعيداً من القطاع المالي النظامي الذي يعاني من الضائقة. فما هو الدافع الذي سيحفز رجال أعمال الاقتصاد غير النظامي في الجزائر إ بتوظيف مدّخراتهم في سندات لا تزيد إيراداتها عن خمسة في المئة ونيف، في حين أنه يمكنهم إنجاز معاملات تدرّعليهم أرباحاً أكثر؟ على سبيل المثال، يمكنهم إستغلال فرصة التحكيم عبر استدانة المال وفقاً لأسعار الصرف الرسمية ثم بيع هذه العملات الأجنبية في السوق السوداء لتحقيق الأرباح.

بعد هذا الإخفاق، سعت السلطات للبحث عن مسلك مختلف. فقد عمدت في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 إلى إنهاء الحظر المفروض منذ وقت طويل على الاستدانة الخارجية، وحصلت على قرض بقيمة 900 مليون يورو من البنك الأفريقي للتنمية. والأهم من ذلك، يقود وزير الصناعة عبد السلام بوشوارب، سلسلة مبادرات الهدف منها تعزيز نشاط الاستثمارات والأعمال في القطاعات غير الهيدروكربونية. اعتمدت استراتيجية بوشوارب بشكل أساسي على ركيزتَين اثنتين: إزالة العوائق أمام الاستثمارات، وتسهيل تطوير قطاع تصنيع محلي وحمايته للحلول مكان الواردات.

بغية تحقيق هذه الأهداف، بدأ بوشوارب في تموز/يوليو 2016 إدخال مزيد من المرونة إلى قانون الاستثمار الذي فرض مقتضيات مرهقة على كاهل القطاع الخاص. يخفّض القانون الجديد المدّة الزمنية المطلوبة للحصول على أذون البناء، وألغيت منه أحكام كانت تفرض على الشركات الأجنبية الاستدانة محلياً والحفاظ على فائض مستمر في العملات الأجنبية. كما يحدّ القانون من نطاق الحق الممنوح للحكومة بأن تكون أول من يتقدّم بمناقصة لشراء الشركات المملوكة من جهات أجنبية عند عرضها للبيع. صحيح أن هذه الإجراءات غير كافية للحصول على أجواء اقتصادية مؤاتية للأعمال في الجزائر، وذلك بسبب استمرار العوائق التي تعترض تسجيل الملكية، والحصول على ائتمان، وإنجاز المعاملات التجارية، وتنفيذ العقود، إلا أنها لا تزال تشكّل نقطة تحوّل أساسية في مقاربة السلطات للسياسة الاقتصادية.

تعد هذه الاستراتيجية أكثر تناغماً مع الماضي الاشتراكي للبلاد. يخطّط بوشوارب للانتقال سريعاً من اقتصاد يستند إلى المواد الهيدروكربونية إلى اقتصاد تصنيعي، بيد أن استراتيجيته تعتمد على تدخّل الدولة من خلال مخطط لاستبدال الواردات بغية توليد قاعدة صناعية بطريقة مصطنَعة. وهكذا، لا يُرحَّب بالاستثمارات الخارجية إلا في إطار مشاريع مشتركة مع شركات محلية – ما يعني الحرص على بقاء الملكية بأيدي الجزائريين. لن يبدأ قطاع التصنيع في الجزائر باستهداف أسواق التصدير إلا في مرحلة لاحقة.

واقع الحال هو أن الحكومة عمدت في الأشهر اللاحقة إلى فرض حصص وقيود أخرى على المستوردين، لا سيما في قطاعَي السيارات والإسمنت، في حين منحت وكالات السيارات مهلة ثلاث سنوات للاستثمار في قطاع تصنيع السيارات كي تتمكن من الاحتفاظ بتراخيص الاستيراد. علاوةً على ذلك، أعلنت وزارة الصناعة عن سلسلة من المشاريع المشتركة بين المستثمرين المحليين والأجانب في قطاعات السيارات والإسمنت والفولاذ والفوسفات. ويسعى بوشوارب أيضاً إلى تشكيل شبكة واسعة من المتعاقدين الجزائريين من الباطن في قطاع السيارات. والمثال الأبرز في إطار هذه الاستراتيجية كان الإعلان عن مشروع مشترك بين شركة "فولسفاغن" ومستورِد السيارات الجزائري "سوفاك" لبناء مصنع من شأنه إنتاج أكثر من مئة ألف سيارة في السنة لبيعها في السوق المحلية بحلول سنة 2022. وتعتقد السلطات أن التصدير سيتبع تلقائياً عندما يصبح قطاع التصنيع المحلي قادراً على الوقوف على قدمَيه، ويُتيح للجزائريين استبدال بعض الواردات. وصرح بوشوارب في الخامس من كانون الثاني/يناير الماضي، أن الجزائر ستصدر الإسمنت والفوسفات في العام 2017، مما سيجعلها سوقاً ناشئة بحلول سنة 2019.

تشكّل هذه الاستراتيجية المقاربة الشاملة الأولى لمشكلة التنمية الاقتصادية والتصنيع في بلد اعتمد لفترة طويلة وبصورة شبه حصرية على إعادة تدوير أموال النفط في الاقتصاد. غير أنها تستمر في تجاهل سلسلة من المسائل التي قوّضت التنمية في الجزائر على امتداد عقود. أبعد من التركيز على المشاريع المشتركة واستقطاب الاستثمارات الخارجية، ليست هناك خطة لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم التي سيستمر الرأسماليون المقرّبون من صنّاع القرارات في الجزائر بممارسة التمييز ضدها. فضلاً عن ذلك، وعلى ضوء الالتباس الذي يحيط بعملية الانتقال السياسي المقبلة على البلاد، ليست هناك ضمانات بأن الإطار التنظيمي سيبقى على حاله – لا سيما وأن الجزائر شهدت تغييرات كثيرة غير متوقعة في الماضي. أخيراً، ليست لدى السلطات خطة لمعالجة المشكلات الكثيرة المستمرة منذ وقت طويل والتي لا تزال تعطّل النمو، مثل تدنّي مستويات الرأسمال البشري، وسوء الإدارة الاقتصادية، وغياب المنافسة في كل القطاعات تقريباً، ومناخ الأعمال المحفوف بتحدّيات وصعوبات جمّة.

* تُرجم هذا المقال من اللغة الانكليزية.

ريكاردو فابياني محلل رفيع المستوى لشؤون شمال أفريقيا في مجموعة أوراسيا.