استرعى هجوم جوي أميركي في الموصل في 17 آذار/مارس الجاري، والذي أسفر على ما يبدو عن مقتل أكثر من مئتَي شخص في صفوف المدنيين، انتباهاً متزايداً إلى الضحايا المدنيين، وأثار حالة من الغليان الشديد في وسائل الإعلام العراقية. يُلقي هذا السجال بعبء إضافي على الجهود التي يبذلها رئيس الوزراء حيدر العبادي من أجل الحفاظ على تماسك التحالف المناهض للدولة الإسلامية فيما يحاول إدارة الجوانب المحلية والدولية للتحالف، ويواجه في الوقت نفسه شوائب في العمليات العسكرية والإنسانية التي تنفّذها حكومته.
يشي السجال المحترف، ولو كان مشحوناً بالعواطف، الذي شهده مجلس النواب حول الهجمات الجوية في 28 آذار/مارس، بأن التحالف سيصمد. لم يكن وزير الدفاع عرفان الحيالي الوحيد الذي دافع عن اعتماد العبادي على التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، فقد انضم إليه أيضاً وزير الداخلية قاسم الأعرجي، الشخصية البارزة في تنظيم بدر الموالي لإيران. في حين أن قتل المدنيين في الموصل، المدينة السنّية الأكبر في العراق، مسألة بالغة الحساسية، أشاد النواب السنّة والشيعة على السواء بشجاعة القوى الأمنية – رغم أن البعض طالبوا بتغيير تكتيكي من أجل خفض الاعتماد على المدفعية الثقيلة التي ينتقدونها لافتقارها إلى الدقة، بما في ذلك الذخائر المرتجلة المدفوعة بالصواريخ.
لقد نجحت بغداد عسكرياً عن طريق الاستخدام المفرط للقوات التابعة لوزارة الداخلية وللقوات الخاصة، لا سيما جهاز مكافحة الإرهاب. غير أن عجز الجيش عن تأدية دور قتالي مجدٍ تسبّب بالاعتماد الشديد على الهجمات الجوية والمدفعية. في حين تلحق الحكومة – مع ما يتمتع به من تفوّق هائل في الموارد البشرية والمادية – هزيمة عسكرية نكراء بتنظيم الدولة الإسلامية، تبدو واضحة للعيان نقاط ضعفه والنواقص التي يعاني منها. يقود جهاز مكافحة الإرهاب الهجوم انطلاقاً من شرق دجلة، في حين اكتفى الجيش ووحدات الشرطة الفيدرالية وقوات البشمركة الكردية بشن هجمات على ضواحي الموصل. أما وحدات الجيش الجديدة التي درّبتها القوات الأميركية بعد انهيار الجيش في العام 2014 في إطار مجهود لإنعاش الدولة العراقية، فكان دورها هامشياً، واقتصر في شكل أساسي على دور داعم في الهجمات التي قادتها قوات أخرى. والهجوم الوحيد الذي شنّه الجيش، في مطلع كانون الأول/ديسمبر، كان مصيره الفشل مع تعرّض جنوده لكمين أثناء تقدّمهم، ما اضطُرّ جهاز مكافحة الإرهاب إلى التدخل لإنقاذهم.
في أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، عمد العبادي إلى تغيير التكتيكات للاعتماد أكثر على الشرطة الفيدرالية المدجّجة بالسلاح التابعة لوزارة الداخلية، وعلى وحدة الاستجابة للطوارئ التابعة لها، التي تضم عدداً كبيراً من العناصر من تنظيم بدر المدعوم من إيران. وقد نفّذت مع جهاز مكافحة الإرهاب هجوماً من شقَّين حقّق تقدّماً أسرع. بحلول منتصف شباط/فبراير، كانت هذه القوات قد تمكّنت من تحرير كل المناطق الأساسية شرق دجلة، إنما بعدما تكبّد جهاز مكافحة الإرهاب، الذي كان قد خاض الجزء الأكبر من المعارك الضارية لتحرير تكريت والرمادي والفلوجة في وقت سابق، أعداداً كبيرة جداً وغير معهودة من الضحايا، ما فرض "توقفاً مؤقتاً في العمليات". مع انتقال الهجوم نحو غرب الموصل، كُلِّفَت القوات التابعة لوزارة الداخلية بتحرير المدينة القديمة، وقد اضطلعت بدور أكثر بروزاً في العمليات القتالية ما جعلها محط أنظار وسائل الإعلام التي منحتها الحيّز الأكبر من التغطية الإخبارية. أدّى جهاز مكافحة الإرهاب دوراً أكثر هامشية في العمليات في الغرب، في حين كُلِّفت وحدات الجيش بالمهام التي توكَل عادةً إلى الشرطة: الحفاظ على السيطرة في المناطق التي حرّرتها قوات أخرى في الشرق، وإغلاق طرقات الهروب أمام مقاتلي الدولة الإسلامية الفارّين من المدينة.
في حين أن جهاز مكافحة الإرهاب قد يكون القوة الأفضل كفاءة في مجال مكافحة الإرهاب في العالم العربي، تعرّض عناصره الأساسيون، وعددهم ستة آلاف، مع الإشارة إلى موافقة حكومة العبادي في منتصف آذار/مارس على إضافة 1250 عنصراً جديداً إلى الجهاز – تعرّضوا إذاً للإنهاك، من أجل التعويض عن تقاعس وحدات الجيش غير الفعالة. ففي كل العمليات الكبرى في المدن في العامَين الماضيين – تكريت والرمادي والفلوجة – تولّى جهاز مكافحة الإرهاب قيادة القتال فيما كان الجيش لا يزال يتعافى من انهياره في العام 2014، مع تأدية القوات التابعة لوزارة الداخلية دوراً فعالاً أيضاً. بيد أن قتال الشوارع في شرق الموصل، والذي ازداد دموية بسبب تكتيكات التفجيرات الانتحارية التي اعتمدتها الدولة الإسلامية، دفع بجهاز مكافحة الإرهاب نحو حافة الاستنزاف. وقد أتاح ذلك للقادة العسكريين العراقيين بأن يُقنعوا حتى شخصية موالية لإيران على غرار وزير الداخلية الأعرجي، بضرورة الهجمات الجوية الأميركية.
قد تكون لإخفاق جهود إعادة بناء الجيش تداعيات استراتيجية أيضاً على الخطط العسكرية الأميركية في المستقبل والتوازن المؤسسي الداخلي في العراق. وحدات الجيش الجديدة هي نتاج برنامج صندوق تدريب وتجهيز العراق الذي وضعه البنتاغون، والذي شكّل محوراً من محاور سياسة إدارة أوباما في العراق بعد العام 2014. صحيح أنه كانت لإمدادات التجهيز وإعادة التموين التي قدّمها الصندوق قيمة مهمة بالنسبة إلى العراق، إلا أن الشق التدريبي في البرنامج غير ناجح. جهاز مكافحة الإرهاب، الذي يسمّيه العراقيون "الفرقة الذهبية"، قوة متواضعة الحجم شكّلها البنتاغون على امتداد عقد من الزمن. على المستوى الداخلي، أفضى أداء الجيش الضعيف إلى تعزيز مكانة وزارة الداخلية وقواها الأمنية – ما أدّى على الأرجح إلى إضعاف قدرة الجيش على إرساء توازن في مقابل قوات الحشد الشعبي التي تسيطر عليها الميليشيا الشيعية، والتي باتت لها الآن مكانة قانونية كقوة عسكرية.
منذ إطلاق هجوم الموصل في 17 تشرين الأول/أكتوبر، قدّم العبادي رؤية من أجل التوحيد وجمع الشمل. تحدّث عن "الفوز بالسلام" مشدداً على أن المواطنين في المدينة رحّبوا بعناصر الأمن الذين رأوا فيهم صورة المحرِّرين، وليس صورة القامعين كما كان يُنظَر إليهم في السابق. بيد أن هذه السرديات عن علاقات الوئام بين السكان وقوى الأمن عكّرها أيضاً ظهور تقارير عن حدوث تجاوزات. في تشرين الثاني/نوفمبر، اتُّهِمت الشرطة الفيدرالية التابعة لوزارة الداخلية باللجوء إلى التعذيب وتنفيذ أحكام بالإعدام بناءً على إجراءات مقتضبة وتعسفية بحق الأشخاص الذين يُشتبَه بامتلاكهم روابط مع تنظيم الدولة الإسلامية. يتضمن تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتش ووتش في 13 آذار/مارس اتهامات ملموسة، إذ يشير إلى احتجاز أكثر من 1200 مشتبه به في ظروف مزرية في سجن تابع لوزارة الداخلية قرب القيارة، جنوب الموصل.
فضلاً عن ذلك، أصبحت إدارة الحكومة للمساعدات الإنسانية إلى النازحين داخلياً مثار جدل. لقد فشلت وزارة الهجرة والمهجرين العام الماضي في تقديم مساعدات مجدية للنازحين داخلياً خلال معركة الفلوجة، في ضواحي بغداد، ما خفّض التوقعات بشأن قدرتها على تحقيق أداء جيد في شمال العراق. بعد التقارير الإعلامية التي تحدّثت عن عدم حصول أعداد كبيرة من سكان الموصل على المساعدات اللازمة، شنّ وزير الهجرة والمهجرين محمد جاسم الجاف هجوماً لاذعاً في الرابع من آذار/مارس ملقياً اللوم على الأمم المتحدة. تواجه الوزارة تحديات في التمويل. فموازنة 2017 التي بلغت 85 مليار دولار أميركي لم تخصص سوى مليار دولار تقريباً للوزارة التي تعتمد حالياً على بند ينص على اقتطاع نسبة مئوية من رواتب موظفي الدولة لتمويل المساعدات للنازحين داخلياً. غالباً ما تشتكي الوزارات من عدم دفع الأموال بالكامل في معظم الأحيان، وقد صرّح رعد الدهلكي، رئيس لجنة الهجرة والمهجرين النيابية، في 14 آذار/مارس، أن وزارة المال لم تسدّد بعد الأموال المستحقة لوزارة الهجرة والمهجرين عن العام 2017. وقال جاف نفسه في شباط/فبراير إن الوزارة حصلت في فترة 2014-2016، على 850 دولاراً فقط (مليون دينار عراقي) عن كل عائلة نازحة.
على الرغم من الشوائب في الخطة العسكرية الأولى ومن تدهور الوضع الإنساني، بات الانتصار على الدولة الإسلامية في الموصل وشيكاً. لقد أظهر العبادي بصورة مستمرة أنه قائد موحِّد للشمل، غير أن حكومته أخفقت في بناء مؤسسات فعالة. لا بل إن مهمة بناء المؤسسات بالكاد انطلقت.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
كيرك إيتش سويل محلل مستقل للمخاطر السياسية وناشر الرسالة الإخبارية Inside Iraqi Politics التي تصدر كل أسبوعَين. لمتابعته عبر تويتر: UticaRisk@