في وقت تتعرّض فيه المصالح الاقتصادية الإيرانية للتهديد بسبب المحاولات السعودية الآيلة إلى تطوير تعاون اقتصادي مع العراق، واحتمال تجدُّد العقوبات بعد الانسحاب الأميركي من خطة العمل المشتركة الشاملة، تركّز إيران بصورة مطردة على تأمين وصولها إلى السوق العراقية، وهي ثاني أكبر مستورِدة للسلع الإيرانية غير النفطية. واقع الحال هو أن نجاح تحالف الفتح الذي يقوده العامري ويرتبط بطهران، والذي حلّ ثانياً بعد تحالف "سائرون" بقيادة مقتدى الصدر في الانتخابات البرلمانية العراقية في 12 أيار/مايو، يُقدّم لطهران ورقة ضاغطة تُمكّنها من فرض سياسي عراقي موالٍ لها في منصب رئاسة الوزراء. لقد أفادت تقارير أن اللواء الإيراني قاسم سليماني، من الحرس الثوري الإسلامي، يقوم بجولات مكّوكية على السياسيين في بغداد من أجل محاولة ضم تحالف فتح في إطار ائتلاف برلماني واسع. لكن حتى منذ ما قبل الانتخابات، تضغط طهران بغية تعزيز مكانة شبكاتها المؤلفة من قوى شبه عسكرية موالية لها في البلاد، لجملة أسباب منها ترسيخ سيطرتها على السياسة الاقتصادية العراقية التي لا تمارس طهران تأثيراً كبيراً عليها بالمقارنة مع تأثيرها في السياسة الأمنية والوطنية.
لقد كثّفت طهران جهودها للتعويض عن الخسائر التي مُنيت بها في تعاونها الاقتصادي مع العراق منذ تنظيم استفتاء الاستقلال الكردي في أيلول/سبتمبر 2017، عندما عمدت إلى إغلاق المعابر الحدودية مع إقليم كردستان العراق. وفقاً لمنظمة تنمية التجارة الإيرانية، ازدادت القيمة الإجمالية للصادرات الإيرانية غير النفطية إلى العراق، بنسبة 13 في المئة في الأشهر السبعة الأولى من العام الفارسي 1396 (21 آذار/مارس 2017 – 20 آذار/مارس 2018) بالمقارنة مع الأشهر نفسها في العام السابق. لكن بعد الاستفتاء الكردي، تراجع معدل النمو السنوي مسجِّلاً نسبة سلبية بواقع واحد في المئة بحلول نهاية الأشهر العشرة الأولى من العام 1396 (أي منتصف كانون الثاني/يناير 2018).
الانسحاب الأميركي من خطة العمل المشتركة الشاملة في الثامن من أيار/مايو، الذي سيتسبب على الأرجح بتراجع العائدات الإيرانية من صادرات النفط الخام والتجارة الخارجية، يدفع بطهران ليس فقط إلى التعويض عن خسائرها التجارية من خلال إقليم كردستان العراق، إنما أيضاً إلى ممارسة مزيد من التأثير الاقتصادي في العراق وخارجه، وتحديداً في سورية التي ترزح تحت وطأة الحرب، وهي حليفٌ جيوستراتيجي لا غنى عنه بالنسبة إلى إيران. غالب الظن أن القطاع السكني الداخلي، الذي يُعتبَر العمود الفقري للاقتصاد غير النفطي في إيران، سيشهد ركوداً من جديد في ظل العقوبات، الأمر الذي ستكون له تداعيات غير مباشرة على مجموعة من الصناعات غير النفطية ذات الصلة، بدءاً من الإسمنت والفولاذ وصولاً إلى البتروكيماويات. وهكذا فإن الركود في الاستهلاك الداخلي سيدفع بإيران إلى زيادة صادراتها غير النفطية، مع إعطاء الأولوية القصوى في هذا المجال للبلدان المجاورة والحليفة مثل العراق وسورية.
من السبل التي تلجأ إليها إيران لتعزيز دورها الاقتصادي في العراق تمويل جهود إعادة الإعمار، حيث يمكن أن تؤدّي صناعاتها غير النفطية دوراً مهماً. لقد ترأس وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وفداً إلى مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق، الذي أُقيم في 12-13 شباط/فبراير. على الرغم من أن الوفد الإيراني لم يتعهّد بتقديم مساعدات خلال المؤتمر، إلا أن نائب الرئيس الإيراني، اسحاق جهانغيري، تعهّد بتقديم خط ائتماني بقيمة 3 مليارات دولار لإعادة إعمار العراق خلال زيارة قام بها إلى بغداد في السابع من آذار/مارس. المبلغ أقل من الأموال التي تعهدت تركيا بتسديدها في مؤتمر الكويت، لكنه يتخطى ما تعهدت به السعودية. لاحقاً، اجتمع وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي بنظيره في بغداد في 18 نيسان/أبريل، في إطار أول لجنة مشتركة للتعاون الدفاعي، واعتبر أنه من مسؤولية إيران المشاركة في إعادة إعمار العراق. لكن وبسبب الأوضاع المالية الصعبة التي تعاني منها إيران – والتي يُرجَّح أن تزداد سوءاً مع تجديد العقوبات – غالب الظن أنها لن تتمكّن من تمويل مشاريع كبيرة لإعادة الإعمار في العراق. ولهذا السبب، ربما تعوّل القيادة الإيرانية على تقديم قروض بدلاً من الهبات، أملاً بأن تساهم أعباء الديون العراقية في ثني بغداد عن القبول بتلك القروض.
فضلاً من ذلك، تسعى طهران إلى الإنفاق على مخططات اقتصادية من شأنها المساهمة في الحفاظ على نفوذها في العراق عبر المساعدة على إنشاء مؤسسات اقتصادية مرتبطة بالقوات شبه العسكرية الموالية لإيران داخل وحدات الحشد الشعبي، مثل عصائب أهل الحق، وحركة حزب الله النجباء، فضلاً عن تطوير برامج الرعاية القائمة. عبر القيام بذلك، تأمل طهران بتكرار تجربة الباسيج، أي الجناح التطوعي شبه العسكري في الحرس الثوري الإسلامي، الذي أدّى دوراً كبيراً في عملية إعادة الإعمار الداخلية بعد الحرب الإيرانية-العراقية من خلال منظمة "جهاد سازندكي" الشهيرة. لقوات الباسيج، التي استوحيت منها هيكلية قوات الحشد الشعبي العراقية، مكوِّن اقتصادي مهم يتيح لها التمتع باكتفاء اقتصادي أكبر، ما يجعلها أكثر قدرةً على الصمود في مواجهة النظام الاقتصادي العالمي الخاضع لسيطرة الولايات المتحدة.
لقد سبق أن حاولت إيران تكرار نموذج الباسيج في لبنان، حيث أتاح التمويل الإيراني السخي، في العام 1988، لحزب الله تأسيس منظمة جهاد البناء التي تهدف إلى تقديم مساعدات إنمائية وتعزيز القوة الناعمة الإيرانية. وعلى غرار تجربة حزب الله، أنشأت القوات شبه العسكرية الموالية لإيران مؤسسات صغيرة في العراق، لا سيما مؤسسة شهداء أهل الحق التابعة لعصائب أهل الحق، والتي تؤمّن المساعدات لعوائل عناصر عصائب أهل الحق الذين يلقون مصرعهم في المعارك. في لبنان، تسببت هذه الكيانات بترسيخ التبعيات المحلية عبر تعزيز شبكات المحسوبيات، غير أن نطاقها بقي محصوراً بفعل انعدام الفرص الاقتصادية نسبياً في البلاد. أما في العراق الغني بالنفط، فمن الممكن أن تعمد الأجهزة الحكومية إلى التعاقد مع هذه المؤسسات من الباطن لإنجاز مشاريع، ما يساهم في تعزيز حجمها وإمكاناتها. على سبيل المثال، وفي حين أن هذه المؤسسات تركّز راهناً على خدمات الرعاية الاجتماعية، مثل بناء المدارس وإدارة العيادات الطبية، بدعم إيراني ومع وصول إلى النظام المصرفي العراقي، يمكن أن تتوسّع نحو مشاريع أكثر تطوراً، مثل بناء الجسور، وتصليح الكهرباء، وتأمين الخدمات المائية. وعلى الرغم من أهمية عوامل الاختلاف المحلية، إلا أن نجاح الحرس الثوري الإسلامي في استنساخ الجانب التنظيمي في نموذج أمني إيراني يعني أنه قادر بسهولة على استنساخ النموذج الاقتصادي ذات الصلة.
في المدى الطويل، تأمل إيران بأن تتيح "الطاقات الاقتصادية العالية" التي يتمتع بها العراق، نظراً إلى موارده النفطية، وأهميته الثقافية، وحاجته إلى إعادة الإعمار، للمنظمات الإيرانية ممارسة القوة الناعمة عن طريق استخدام خبراتها التقنية لتوسيع الانخراط الاقتصادي لهذه الكيانات العراقية شبه العسكرية، التي ستصبح بالتالي أكثر تنافسية من المنظمات الأخرى. تأمل إيران بأن تتمتع هذه الكيانات، بسبب الحوكمة السيئة في العراق، بسطوة أكبر تتيح لها التأثير في السياسة الاقتصادية لمصلحة المصدّرين والمستثمرين الإيرانيين على حساب شركات دولية أخرى لا تخوض معها الشركات الإيرانية منافسة فعلية في السوق في الوقت الراهن.
يقول حميد حسيني، رئيس غرفة التجارة الإيرانية-العراقية المشتركة، إن إيران تتطلع إلى زيادة صادراتها غير النفطية إلى العراق من عشرة مليارات دولار راهناً إلى نحو 15 مليار دولار في غضون العامَين المقبلين. لكن إلى جانب المشكلات المصرفية الثنائية الناجمة عن محدودية الوصول إلى عملات أطراف ثالثة مثل الدولار، تواجه الصادرات الإيرانية إلى العراق تعرفات مرتفعة وقيوداً على الكميات المسموح بتصديرها. غالباً ما يلمّح المسؤولون عن القطاع التجاري في إيران إلى أن السياسات التجارية التي تفرض راهناً حدوداً على الصادرات إلى العراق، تقع خارج نطاق التأثير الإيراني نظراً إلى أن المؤسسات الحكومية والوزارات العراقية موزَّعة على طيف واسع من الأفرقاء السياسيين المختلفين إلى درجة أن التأثير في السياسات يقتضي امتلاك روابط مع مجموعة واسعة من الأفرقاء.
قد يشجّع الدمج الفضفاض لهذه المؤسسات أو الكيانات في هيكلية الدولة، مثلاً تحت مظلة من المؤسسات العراقية المستقلة المعنية بإعادة الإعمار والمدعومة من الحكومة – قد يشجّع إذاً الحكومة العراقية على فتح الباب أمام الكيانات الاقتصادية العراقية الرديفة، التي سيكون عدد كبير منها مرتبطاً بطهران، من أجل تسهيل قدرتها على المساهمة في إعادة الإعمار. وتحت تأثير الضغوط من القوى شبه العسكرية المدعومة من إيران، قد يشمل ذلك خفض التعرفات على استيراد مواد البناء من إيران أو، على نحو أهم، الاستعانة بخدمات هندسية إيرانية، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تعزيز الاستثمارات وزيادة الصادرات إلى السوق العراقية، وتوفير مزيد من الفرص للمؤسسات والشركات المرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي والباسيج من أجل أداء دور استشاري محوري لدى الكيانات العراقية الشقيقة، ما يُفضي إلى تعزيز التأثير الإيراني غير العسكري في البلاد.
تبذل إيران جهوداً بغية إعادة تكوين الحيّز المؤسسي بصورة تدريجية، وذلك عن طريق العمل باطراد على منح الأفرقاء السياسيين والأمنيين الموالين لها سلطات اقتصادية جديدة. قد يُتيح تعزيز نفوذ القوى شبه العسكرية المرتبطة بطهران في البرلمان والحكومة العراقيَّين، قطع أشواط إضافية في هذا الاتجاه.
* تُرجم هذا المقال من اللغة الإنكليزية.
تامر بدوي زميل أبحاث في منتدى الشرق في اسطنبول. لمتابعته عبر تويتر TamerBadawi1@