المصدر: Getty

الإسلام الرسمي في العالم العربي: التنافس على المجال الديني

تمنح المؤسسات الدينية الإسلامية الرسمية في الدول العربية الحكومات دوراً رئيساً في الحياة الدينية، لكن مثل هذه المؤسسات لاتكون سوى نادراً مجرّد رجع صدى لصوت الأنظمة، ويصعب توجيهها نحو منحى معيّن.

نشرت في ١١ مايو ٢٠١٧

كل الدول العربية لديها مؤسسات دينية إسلامية كبيرة، تمنح الحكومات دوراً رئيساً في الحياة الدينية. هذه المؤسسات تطوّرت على نحو مُتباين، وفقاً للتجارب التاريخية المختلفة في كل دولة. تمتعت الدولة عبر هذه الكيانات، بنفوذٍ وشأو على التعليم الديني، والمساجد، والإعلام الديني المرئي والمسموع، ماحوّل المؤسسات الدينية الرسمية إلى أدوات فعّالة للسياسات العامة. بيد أن تعقيد المشهد الديني يعني أن مثل هذه المؤسسات لاتكون سوى نادراً مجرّد رجع صدى لصوت الأنظمة، وأنه من الصعب توجيهها نحو منحى معيّن.

المؤسسات الدينية في العالم العربي

  • المؤسسات الدينية الرسمية في العالم العربي، وعلى رغم أنها عموماً موالية لأنظمة بلدانها، إلا أنها بيروقراطيات ضخمة يسمح لها حجمها وتعقيدها ببعض الاستقلال الذاتي.
  • تتحكّم الأنظمة العربية بالهياكل الدينية الرسمية، لكن قدرتها على لَيّ عنق هذه المؤسسات الدينية لملاءمة أهدافها تبدو متباينة.
  • تطوُّر المؤسسات الدينية الرسمية يعود بأصوله إلى عملية تشكُّل الدولة الحديثة.
  • المؤسسات الدينية الرسمية تلعب أدواراً متعددة، تشمل الانخراط في قطاعات الأوقاف، والبر والإحسان، والإرشاد، وتفسير النصوص الدينية، والتعليم، والصلاة، وقانون العائلة، والإعلام المرئي والمسموع.
  • تتعرّض سلطة الأصوات الدينية الرسمية على نحوٍ مطّرد إلى التحدي من قِبَلْ أطراف غير رسمية. بعض هذه الأطراف توجد كليّاً خارج الهياكل الرسمية، لكن بعضها الآخر قد يجد ملاذاً في أجزاء تتمتع بقدر من الاستقلال الذاتي في المؤسسات الدينية، مايضيف مزيداً من التعقيد على المشهد الديني في العديد من البلدان.
  • اللاعبون الدوليون يرغبون بمشاهدة ممثلي المؤسسات الدينية الرسمية يعارضون التطرّف العنفي. لكن الواقع أن المسؤولين الدينيين غير حائزين سوى على أدوات إيديولوجية محدودة لمواجهة الإسلاميين المتطرّفين، وأولوياتهم مختلفة عن تلك التي تضعها أطراف من خارج المنطقة.

العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الدينية

  • تخاطر الأنظمة، بسبب تصرفها بشكل طُفيلي في الشأن الديني وأيضاً بسبب سعيها إلى زيادة سيطرتها، بجعل المسؤولين الدينيين يبدون مجرّد أُجراء، الأمر الذي يقوّض صدقيتهم. كما أنها تخاطر بدفع المعارضين إلى أحضان المنظمات السرّية.
  • يمكن للأنظمة، من خلال السماح للمؤسسات الدينية الرسمية بممارسة شيء من الاستقلال الذاتي، أن تُحسِّن قدراتها الرقابية والسُمعة الحسنة للمسؤولين الدينيين. بيد أن هذا قد يعني أيضاً أنها ستخسر بعض السيطرة وتخلق بشكل غير مباشر فضاءات يمكن أن ينتظم فيها معارضوها.
  • يتعيّن على الدول الغربية أن تعرف أن حجم وتعقيد المؤسسات الدينية الرسمية، يعنيان أنها ليست قادرة دوماً على أن تكون فعّالة في مكافحة التطرّف، كما قد ترغب هذه الدول. ثم أن الأنظمة التي تسيطر على هذه المؤسسات، غالباً ماتكون لها أجندات أوسع من مجرّد منازلة المجموعات المتطرّفة.
  • بالنسبة إلى أولئك الذين يسعون إلى إنزال الهزيمة بالإيديولوجيات المتطرّفة، فإن التحالف مع الأنظمة السلطوية ومؤسساتها الدينية يبدو خياراً جذّابا. لكن هذه المقاربة، عبر طرحها توقعات غير واقعية حول ماتستطيع الأنظمة ومؤسساتها أن تفعل أو ماهي مستعدة لفعله، وأيضاً عبر استنساخ الاستراتيجية التي غالباً ماتَهزُم نفسها بنفسها بسبب اعتمادها على أدوات السيطرة السلطوية لمكافحة الحركات والأفكار المُنشقة والمُتمردة، لن تقدم شيئاً سوى أوهام الحلول.

مقدّمة

في صيف العام 2016، استمتع قرّاء الصحافة المصرية بمطالعة القصص اليومية المتعلّقة بالمجابهة العلنية الصاخبة التي اندلعت آنذاك بين وزارة الشؤون الدينية وبين الأزهر. وهذا الأخير، كما هو معروف، هو المجمّع البحثي والتعليمي الضخم المُعترف به دستورياً بكونه السلطة الرئيسة للشؤون الدينية في مصر. كانت وزارة الشؤون الدينية تسعى إلى أن يكون هناك خطبة جمعة واحدة من وضعِها في كل مساجد مصر، بيد أن الأزهر حمل بعنف على هذه الخطوة، وسرعان ماكانت له اليد العليا في هذه المعركة بين هاتين المؤسستين النافذتين. وهكذا بدا أن الدولة المصرية تتخانق مع نفسها وتنشر غسيلها على كل الأسطح، حول من تُناط به مسؤولية تحديد مايقوله الخطباء من على سدة المنابر.

كان هذا حدثاً مُدهشاً ومُحيّراً، يمسُّ موضوعاً كان موضع جدلٍ ونزاع. فالمؤسسات الدينية للدول في العالم العربي تُثير حيالها تقييمات قوية، وإن متناقضة، ليس في البلدان التي تنشط فيها وحسب بل أيضاً في طول العالم وعرضه: هل هي شريكٌ في النضال لمواجهة التطرّف العنيف، أم مجرّد أبواق لأنظمة سيئة السمعة، أم حاضنات للتيارات الراديكالية؟ كلٌ من هذه التوصيفات الثلاثة تتضمن قدراً من الصحة، لكن هذه المؤسسات هي قبل كل شيء بيروقراطيات واسعة الأذرع وليست البتة واهنة الأهمية في الحياة السياسية والدينية، حتى وإن كان من الصعب توجيهها نحو منحى معيّن. صحيح أن سلطتها هي موضع نزاع دوماً بين أفراد ومنظمات خارج نطاق الدولة، لكن مثل هذه البيروقراطيات حاضرةٌ ونابضة في العديد من المجالات. إنها عموماً موالية للأنظمة القائمة، بيد أنها تظهر أيضاً علائم استقلال ذاتي، وتنحو عموماً إلى معاداة التيارات المتطرّفة. ولذا تُعتبر أفضل الواقيات منها.

اعتاد متابعو السياسات في العالم العربي على التعثُّر بالدين، لأن قضايا الإيمان تبدو لصيقة للغاية بالعديد من النزاعات السياسية. في المقابل، خَدَمَ الدين أيضاً كمنصّة لقاء واحتشاد للقوى المعارضة والحركات الاجتماعية. لكن التركيز فقط على الدين في علاقته بالإيمان الشخصي والمعارضة السياسية، يُغفل ويُسقط من الحساب العوامل الأخرى التي تدخل في نسيج مسألة الحوكمة في الدول العربية. فوزارات التعليم تضع الكتب الدراسية الدينية، ووزارات الشؤون الدينية تدير المساجد، ومفتي الدولة يُقدّم التفسيرات للشريعة، ومحاكم الأحوال الشخصية تُحدّد للزوجات والأزواج والأباء والأمهات والأولاد كيفية مواءمة سلوكهم مع أصول الإسلام.

مع ذلك، وفي حين أن الدول تصوغ الدين بالعديد من الوسائل المختلفة، إلا أن المؤسسات الدينية الرسمية، على غرار الأزهر، واجهت تحدياً مزدوجاً في السنوات الأخيرة. فأنصار الأنظمة السياسية القائمة يُطلّون عليها بكونها أدوات مفيدة، كما سعت الأنظمة العربية إلى استخدامها لترسيخ حكمها وتحصينه. علاوةً على ذلك، تعرّضت هذه المؤسسات أيضاً إلى ضغوط دولية لحملها على مجابهة التطرّف العنفي عبر الهيئات الدينية التي تُشرف عليها، فيما تُجبرها جماهيرها الدينية، في الوقت نفسه، على أن تكون الصوت الأمين المُعبِّر عن الحقيقة الدينية. لكن مروحة واسعة من الأطراف غير الرسمية مزّقت هذا الاحتكار للسلطة الدينية التي اعتاد المسؤولون الدينيون التمتُّعَ بها.

في خضم هذه البيئة، احتفظت المؤسسات الدينية الرسمية بنفوذ راجح، لكن من غير المحتمل أن تكون قادرة على استخدامه بأي طريقة متَّسقة، سواء لخدمة أجنداتها أو لخدمة أولئك الذين يستعملونها لأغراضهم الخاصة. والحال أن مصر ومؤسساتها الدينية تُساعد على وجه الخصوص في تسليط الأضواء الكاشفة على هذه الحقيقة، لكن هذه المسألة تستأهل الاهتمام كذلك في بلدان أخرى في المنطقة، كما يتبدّى حين ندقّق في الأنماط المختلفة لسلوكيات مؤسساتها الدينية.

الجذور الحديثة لمجمّع الدين- الدولة

ليس من غير المعتاد أن تُبدي الدول اهتماماً بالدين، إذ تتضمّن معظم الدساتير في العالم بعض الإشارات إليه، حيث يكون هدفها في الغالب احتضان المعتقدات والممارسات الدينية، مع العمل بعمق في الوقت نفسه على تشكيل هياكلها وبُناها. فضلاً عن ذلك، ليست الأديان الرسمية غير شائعة في العديد من البلدان، حيث تقوم الدولة بدعم أو تنظيم المؤسسات الدينية عبر العديد من الأشكال والتمظهرات.

ماهو غير عادي في العالم العربي ليس الدور العام للدين، بل مدى هذا الدور وحجمه. بعض الطرق المميّزة التي تنتظم في إطارها العلاقات بين الدولة والدين قد تعود بجذورها إلى ماقبل العصور الحديثة، وترتبط بالعقيدة الإسلامية وتجارب أوائل مجتمعات المؤمنين والمبادئ الجوهرية المُشتّقة من النصوص المقدّسة. لكن، مع تدشين عملية بناء الدولة عبر العالم العربي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، أُقيمت هذه العلاقات على نحو مختلف في كل بلد. ونتيجةً لذلك، تطوّرت المؤسسات الدينية الرسمية على نحو مختلف أيضا. وقد تأصّل هذا التطور في تفصيلاته- وحتى في العديد من قسماته العامة- بشكل أساسي في عملية تشكُّل الدولة الحديثة. والواقع أن تشكيل الدولة وتنظيم الدين سارا يداً بيد "بحيث أن الدين الحديث في البلدان الإسلامية تموضع حول سُدّة الدولة".1

ماهو شائع ومشترك بين الدول العربية واضح وجلي: فمعظمها يمنح الإسلام وضعية رسمية، ولديها مؤسسات توفّر الفتاوى الشرعية وتدير دوائر الأوقاف والجمعيات الخيرية، وتُطبّق بعض صيغ قوانين العائلة الإسلامية. مفتو الدولة هم ابتكار يعود أساساً إلى القرنين التاسع عشر والعشرين، حين بدأت الدول لتوّها آنذاك بتعيين مسؤولين دينيين، وتأسيس بيروقراطية منوط بها إصدار الفتاوى الشرعية، علاوةً على الحلول مكان، أو توسيع، البيروقراطية الدينية العثمانية أحياناً.

كذلك، تجد وزارات الشؤون الدينية وعملية تأميم الأوقاف والزكاة جذورها في التاريخ الحديث. ومع إقامة البيروقراطيات المعقّدة والأجهزة القانونية في الدول في القرنين التاسع عشر والعشرين، أسفرت الوظائف القضائية، والتعليمية، والتدريبية، والخيرية- جنباً إلى جنب مع تنظيم المجالات والمساحات العامة- عن بلورة دور نشط لمؤسسات الدولة في الحقول الدينية. كما سعت القوى الإمبريالية الغربية، التي أرادت عقلنة إدارة الدول التي تسيطر عليها في المنطقة، خاصة في الفترة بين الحربين العالميتين في القرن العشرين، إلى تنظيم الدين، أحياناً عبر تعريف وتحديد مجاله.

فيما كانت العلاقات العائلية في المنطقة منوطة جزئياً منذ أمد طويل بالتعاليم الإسلامية والشريعة، لم يكن ثمة وجود ببساطة لفئة منفصلة من قانون الأحوال الشخصية (الذي هو ربما أهم عنصر جوهري في الشريعة بالنسبة إلى العديد من أتباعه اليوم)، قبل أن يبدأ الحكام الاستعماريون والدول المستقلة برسم حدود تشريعات وتشكيل محاكم مُحددة خاصة بقضايا العائلة خلال القرن التاسع عشر. ليس هناك مبرّر عقيدي للادّعاء بأن تطبيق العلاقات الزوجية وفق الطريقة الإسلامية أكثر أهمية بالنسبة إلى الله من تبادل السلع بأسلوب إسلامي. لكن، ومع بدء مختلف سلطات الدولة بإدخال إصلاحات قانونية في العصر الحديث، شكّل الزواج، والطلاق، والوراثة، المجالات التي كان يتم التحرّك فيها بأناة وحَذَر. وهذه السلطات فعلت ذلك من خلال تشكيل مجال قانوني لشؤون العائلة حرصت فيه على صياغة قواعد متّسقة مع أحكام الفقه الإسلامي القديمة.

في بعض الأماكن، قامت القوى الإمبريالية، مثل الفرنسيين في الجزائر، بدعم وضع قانون إسلامي يحكم الأحوال الشخصية، لأنها لم تكن متحمسّة للانغماس في مثل هذه القضايا. في أماكن أخرى، على سبيل المثال في مصر والعراق، سعى الحكام المحليون الطموحون إلى توكيد دور أقوى للدولة ووضع قانون رسمي للأحوال الشخصية. وهم استندوا إلى مصادر إسلامية وبحثية لضمان ذلك، بيد أنهم مع ذلك أمروا المحاكم بإصدار أحكامها وفقاً لتشريع مكتوب للأحوال الشخصية بدلاً من تفسيراتهم الشخصية للفقه الإسلامي.2

لكن، حتى في هذا المجال المُحدّد، ثمة تباين إقليمي واسع حول من يضع القانون، وماذا يجب أن يتضمن، ومن يطبّقه. على سبيل المثال في السعودية واليمن، اللتين لم تخضعا البتة إلى السيطرة الإمبريالية الغربية، لاتزال المحاكم الإسلامية، أو الشرعية، هي نظرياً محاكم الفقه العام حتى اليوم، لكن يساعدها في اليمن جسم من التشريعات الموثّقة. وفي السعودية (التي لاتزال تقاوم المدونات القانونية) تقوم هيئات شبه قضائية بإنفاذ التنظيمات والمراسيم. وهكذا، تباينت الترتبيات المؤسسية وفقاً للتحقيب الزمني ولمدى بناء الدولة، وكذلك لدرجة وطبيعة السيطرة الخارجية.

والحال أن الآثار التاريخية بقيت في شكل مجموعة فريدة في الغالب من الهياكل والمصطلحات في البلدان العربية، التي كان لكلٍّ منها خريطة مؤسسية مختلفة حول الإسلام الرسمي. وحتى حيث تبرز تشابهات بين البلدان، ثمة ترتيبات متمايزة. ففي السعودية، مثلاً، تعمل منظمة تُدعى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق مايمكن وصفه بالشرطة الدينية. وهذا لانظير له في مواضع أخرى في العالم العربي. وفي المقابل، العديد من البلدان لديها هيئات رسمية مسؤولة عن الأبحاث الدينية التي يلتئم فيها شمل كبار العلماء. بيد أن هذا يتخذ مختلف الأشكال: ففي المغرب يترأس الملك المجلس العلمي الأعلى؛ وفي مصر، ثمة مؤسسة مماثلة هي هيئة كبار العلماء تقوم هي بنفسها بتعيين أعضائها.

ثم أن هذه الهياكل ليست متباينة وحسب، بل هي معقّدة أيضا. وربما ليس مفاجئاً أن جهاز الدولة المصري، الذي يوفّر بيئة دينية رمزية في العالم العربي، يعجّ بالبيروقراطيات الدينية الصاخبة التي يتحدى بعضها التوصيفات السهلة لها. وهذه تشمل دار الإفتاء المصرية، ومكتب شيخ الأزهر، وجامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وهيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ولجنة الفتوى.

كلٌ من هذه الهيئات لها تاريخ مميّز يتطلَّب أحياناً مايشبه الحس بعلم الآثار لفهمها. فمكتب مفتي الدولة، الذي يترأسه مسؤول يوصف عادة بالمفتي الأكبر، تأسّس في نهاية القرن التاسع عشر لأسباب تتعلّق بالإصلاحات القانونية، إنما أيضاً بهدف التشديد على الاستقلالية الذاتية عن الإمبراطورية العثمانية. والأزهر تأسّس كمسجد شيعي في القرن العاشر، لكنه يطرح نفسه الآن على أنه السلطة السنّية الأبرز في مصر وحتى في طول العالم الإسلامي وعرضه. والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ليس أعلى في الواقع، بل هو هيئة استشارية داخل وزارة الشؤون الدينية. وهيئة كبار العلماء هي مؤسسة أقدم داخل الأزهر، لكنها بُعِثَت مجدداً في مصر مابعد العام 2011 بمرسوم عسكري لمنح الأزهر الاستقلالية التي يريد عن عملية سياسية كانت واعدة في تلك الفترة بالنسبة إلى صعود نفوذ جماعة الإخوان المسلمين.

ثمة أنماط جليّة برزت في خضم هذه التموجات البيروقراطية. ففي العالم العربي، يُعتبر التعليم الديني إلزامياً عموماً حتى المدرسة الثانوية. والمساجد يُرخَّص لها من قِبَل الدولة، وغالباً مايجري التعاطي معها كأملاك لهذه الأخيرة. كما أن الدولة تُراقب الخطب وتصادق على تعيين الدعاة الذين غالباً مايتلقون توجهيات رسمية. فضلاً عن ذلك، يتم معظم التعليم الديني العالي داخل مؤسسات الدولة التي تنظّم المؤسسات والنشاطات الخيرية، وأحياناً تُديرها مباشرة. وقد ساعد انغماس الدولة في الشؤون الدينية على رسم لوحة من التعقيد المؤسسي في كل المنطقة. صحيح أن المؤسسات الدينية الرسمية حصلت على مروحة واسعة من المهام، لكن تعقّدها أفرز سلطات متشابكة وغالباً ما أعاق أهدافها.

خريطة الإسلام الرسمي

تلعب المؤسسات الدينية الرسمية أدوراً متعددة في كل العالم العربي. وقد فرّخت هذه الواجبات الدينية التي ألزمت الدولة نفسها بها سلسلة من البيروقراطيات التي لاتحوز دوماً القدرة على العمل ككل متّسق. ولأن مؤسسات الإسلام الرسمي تطوّرت كحصيلة لصعود الدولة الحديثة وبموازاتها، فإنها عكست أيضاً حقيقة الدولة المتوسّعة. وهذا شمل سيطرة الدولة وإشرافها على مروحة من النشاطات الدينية، حتى ولو لم تكن سلطتها مُطلقة.

يتعيّن على المؤسسات الرسمية أن تقلق ليس حيال بعضها البعض وتشابك المسؤوليات وادّعاءات النفوذ وحسب، بل أيضاً لأن كل بيروقراطية دينية تُواجه منافسة من خارج جهاز الدولة، ما أضاف طبقة أخرى من التعقيد. الأبرز بين هذه المسؤوليات هي على وجه الخصوص انخراط المؤسسات الدينية في مجالَي الأوقاف والأعمال الخيرية، والإرشاد والتفسير، والتعليم، والصلاة، وقانون العائلة، والإذاعة والترويج.

الأوقاف والعمل الخيري

تلعب الأطراف الدينية الرسمية، التي توجد عموماً في وزارة الشؤون الدينية في البلد المعني، دوراً حيوياً في الإشراف على العمل الخيري. وهذا يتم بطريقتين: الأولى، عبر تنظيم، وفي العديد من الحالات، إدارة، الأوقاف الدينية التي تُقام غالباً لدعم المساجد، والمدارس، أو لأهداف البر والإحسان. والواقع أنه في معظم بلدان المنطقة، يجد أولئك الذين يؤسسون صندوق أوقاف مجازاً أنفسهم يعملون عبر مثل هذه الوزارة. وهنا، المضاعفات ليست جسيمة دينياً فقط بل اقتصادياً ومالياً أيضا، حيث أن مجموعة كبيرة من العقارات والممتلكات الممنوحة لأغراض خيرية تسقط في حضن سيطرة الدولة. وقد تجاوزت وزارات في بعض البلدان مهام الأوقاف التقليدية لتنخرط في مشاريع تنموية أوسع مُصمّمة لمساعدة الفقراء أو العاطلين عن العمل، مثل تأسيس تعاونيات المُنتجين.

الطريقة الثانية تتم عبر قيام وزارات الشؤون الدينية غالباً بتنظيم الزكاة أيضا. وفي بعض البلدان، قد تكون هذه المهمة لامركزية وتُدار من خلال المساجد المحلية، فيما تُبذل في بلدان أخرى جهودٌ أكبر للانخراط في مراقبة مركزية. بيد أن الواجب الديني الخاص بأداء الزكاة، لايحتاج إلى أن يتم في إطار مُجاز رسميا، بل يُسمح به في سياقات شخصية وأقل رسمية. وهكذا، تعلقُ أطراف الدولة بين رحى المانحين الأتقياء، وبعضهم يرتاب من مدى فعالية واستقامة الهياكل الرسمية، وبين المسؤولين من ذوي العقلية الأمنية الذين يواجهون ضغوطاً دولية مطّردة لضمان عدم استخدام هذه الأصول بطرق غير آمنة سياسياً (كدعم المجموعات المتطرّفة والعنفية).

الإفتاء والإرشاد

تقليدياً، الفتاوى، أي تفسيرات علماء الدين للشريعة الدينية حيال سؤال أو مسألة معيّنة، لاتُعتبر مُلزمة. لكن هذه الحقيقة بعينها هي التي تستطيع تحسين سلطتهم الأخلاقية لأنها (على المستوى المثالي) تُطلَب طوعاً من المؤمنين، وتُقدّم من قِبَل علماء زاهدين من دون النظر إلى الظروف الخاصة بكل حالة.3 وقد برزت الفتاوى كأداة ومَعبَرٍ مُهمَّين للمناقشات حول القضايا الدينية، لأنها كانت الشكل الذي طوّر العلماء في إطاره تفسيراتهم على نحو أكمل. معظم الدول في المنطقة لديها مفتي يطلب رأيه أطراف الدولة المحتاجون إلى إرشاد وتوجيه حول مسائل الشريعة. لكن ليس ثمة من سبيل لإجبار المؤمنين على اللجوء إلى هيئات رسمية أو شخصيات مُحددة بحثاً عن مثل هذا الإرشاد.

يحظى العلماء غير الرسميين من مختلف الألوان والتوجّهات (سواء أكانوا سلفيين، أو حديثين، أو ذاتيي التعليم، أو معتقدين بالمساواة بين الجنسين، أو نصّيين، وغيرهم) بشعبية متنامية. وهم يستخدمون وسائل مختلفة للإجابة على الأسئلة، بما في ذلك المقابلات وجهاً لوجه، والحوارات التلفزيونية، والبريد الإلكتروني، وفايسبوك. رجل الدين الشيعي البارز آية الله علي السيستاني له موقع إلكتروني يمكن لأتباعه عبره طرح أسئلتهم حول أي موضوع يهمّهم.4 والشيخ الأزهري المشهور سالم عبد الجليل يبتسم بعطف وحنو خلال توجيهه الإرشاد الشرعي الإسلامي إلى سلسلة متتابعة وسريعة من المشاركين في برنامجه التلفزيوني. ولايدّعي السعودي اليافع أحمد الشقيري امتلاك أي معرفة دينية محددة، لكنه يُطلق تنبيهات دينية وأخلاقية ونصائح على التلفاز بطريقة جادّة وخاشعة، وجذلة، ومنفتحة، ومُحمِّسة. ومع مثل هذه البيئة التنافسية، لجأ مُفتون مُجازون رسمياً في بعض الأحيان إلى تأسيس مواقع إلكترونية تعجّ بالخطوط الهاتفية الساخنة، وظهروا على الشاشات، باذلين بذلك جهوداً مُضنية للحفاظ على مواقعهم والبقاء على صلة مباشرة بالعامة.

في هذه الأثناء، تصاعدت الأحاديث حول "الفتاوى غير المُنظّمة"، التي تصفها السلطات الدينية بأنها أضعف نوعية وجودة من تلك التي يقدّمها الممثلون الدينيون الرسميون، في أجهزة الإعلام الرسمية في العديد من البلدان العربية. بعض هذه الدول سعت إلى مكافحة هذه الفتاوى، لأنها غالباً ماتطرح تفسيرات غير اعتيادية أو متطرّفة. وبالنسبة إلى العديد من المسؤولين الدينيين، تؤدي هذا الغابة من الفتاوى إلى إرباك المؤمنين العاديين، وهكذا، قد تبدو الفتاوى من مصادر متنافسة على أنها مجموعة من الأقوال الدينية المُخلخلة حول نقاط حسّاسة في التعاليم الدينية، لكنها في الواقع جزء من صراع سياسي حول من يجب أن ينطق باسم الإسلام.

التعليم

التعليم الديني موضوع إجباري في المناهج الرسمية في كل الشرق الأوسط. ولأن معظم الأنظمة التعليمية مُمركزة للغاية، يتلقى الغالبية الكاسحة من الطلاب صيغاً من المعتقدات والممارسات الإسلامية المقننة في نصوص وضعتها هيئات متخصّصة في وزارات التعليم. بعض البلدان لديها شبكات منفصلة من المدارس الدينية للأطفال من عائلات دينية على وجه الخصوص، مثل تلك التي يُشرف عليها الأزهر في مصر. وحين يأتي الأمر إلى التعليم العالي، ترجح كفة مؤسسات الدولة على مراكز التعليم غير الدُولتية. وعلى الرغم من أنه كانت هناك زيادة في الجامعات الخاصة، إلا أن هذه لاتستند عموماً إلى أسس دينية. ولذا، المعاهد غير الدُولتية للشريعة الإسلامية أو لمواضيع دينية أخرى قليلة العدد وصغيرة من حيث المُلتحقين بها.

مع ذلك، الاحتكار الرسمي غير كامل. فغير المسلمين مستثنون من التثقيف الرسمي حول الإسلام. وإذا ما كان عدد المؤمنين بدايانات أخرى كافياً، قد تسمح الدولة لهم بكتب وصفوف دينية موازية خاصة بهم، وأحياناً بتنظيم وترخيص من وزارة التعليم في إحدى البلدان. الدول لاتحوز عموماً على احتكار كامل للتعليم، وفي العديد من البلدان أيضاً شبكات من المدارس الخاصة، تكون أحياناً مرموقة أكثر من المدارس الرسمية. يُطلب من مثل هذه المدارس أن تتأقلم مع البرامج التعليمية الرسمية في كل المواضيع، بما في ذلك الدين، لكن بعضها ينجح في التهرُّب من قسط مهم من الرقابة الرسمية. خارج المدارس، سواء العامة أو الخاصة، تبرز أيضاً أنظمة أقل رسمية تقدّم دروساً في المساجد، والكنائس، ومجموعات الدراسة. ومنذ أواخر القرن العشرين، بدا أن شعبية هذه المجموعات تنامت، ربما بفعل الانتشار المزدوج للتعليم والتقوى في آن.

الصلاة والسيطرة على المساجد

حين يُصلّي المؤمنون في العالم العربي، تؤكّد الدولة غالباً حضورها. فصلاة الجمعة الجماعية، التي تُقام في المساجد، مثلها مثل بعض الصلوات المُنتظمة خلال أيام الأسبوع- أو، إذا ماكانت فسحة المكان غير كافية، تقام الصلاة في الأماكن العامة- تُنظَّم وتُرخَّص وتراقب من قِبَل الدولة. وتشرف وزارات الشؤون الدينية عموماً على توفير الموظفين، والصيانة، وتسيير المساجد. وخلال الأوقات السياسية الحسّاسة، تمدّ أجهزة الأمن يد العون لمراقبة الدعاة وأولئك الذين يتجمّعون خارج أوقات الصلاة.

نظريا، تُعتبر سيطرة وزارة الشؤون الدينية على أماكن العبادة كليّة تقريبا، حيث لاتعترف العديد من الحكومات العربية بالمساجد التي لاتُشرف عليها. بيد أن قدرة الدول على كلٍّ من مراقبة، وتوفير الموظفين، وصيانة المساجد، تتباين إلى حد كبير، ثم أن وجود المساجد غير الرسمية أو غير المعترف بها أمر شائع، خصوصاً في بلدان المنطقة الأكثر اكتظاظاً والمُفتقِرة إلى المال.

قانون الأحوال الشخصية

حين يوفّر الدين الإرشاد حيال الحياة العائلية، يفعل ذلك غالباً عبر هياكل الدولة. (وهذا صحيح حتى في بلد عربي ليس لديه دين رسمي كلبنان. انظر الإطار 1). فضلاً عن ذلك، تقوم المحاكم، التي هي ببساطة أفرع من النظام القضائي الرسمي، بإنفاذ قانون الأحوال الشخصية في معظم البلدان. لكن في حفنة من الدول- كالأردن ولبنان وفلسطين- ثمة نظام محاكم متميّز كلياً (وإن هو مع ذلك رسمي)، أو مجموعة أنظمة للطوائف المعترف بها، تتناول قضايا الزواج والطلاق والميراث. وبالنسبة إلى العرب الراغبين في نيل الاعتراف الرسمي في مثل هذه القضايا، ليس ثمة إمكانية لتجنُّب احتكار هياكل الدولة. تُعتبر مسألة تقنين قانون الأحوال الشخصية مدعاة للنزاع والشقاق. فقد شهدت مصر والأردن والمغرب وتونس، على سبيل المثال، نقاشات عامة في العقود الأخيرة تركّزت في الغالب على قضايا حسّاسة على غرار حقوق المرأة وآليات الطلاق.

بيد أن مثل هذا الإطار لايستبعد الأطراف غير الرسمية، التي قد تسعى إلى التوسّط أو التحكيم، خصوصاً في النزاعات العائلية. وقد أدركت المحاكم وأطراف رسمية في بعض الأحيان، كأئمة المساجد، الحاجة إلى الوساطات غير الرسمية أو غير المُلزمة، وعرضوا أحياناً مثل هذه الخدمات، أو طلبوا تدريب موظفيهم في مجال الأرشاد العائلي أو الوساطة.

لبنان: استثناء يُثبِت القاعدة

ناثان ج. براون

لبنان هو الدولة الوحيدة في العالم العربي الذي ليس لديه دين رسمي. لكن، في حين أن هذا الترتيب اللبناني متميّز وخاص، إلا أنه بالكاد علماني، لابل هو يرقى إلى إسباغ الوضعية الرسمية على مختلف الطوائف.

لايتجنّب الدستور اللبناني أي ذكر للدين الرسمي وحسب، بل يُلزم نفسه أيضاً (بعد تعديله العام 1989) بإلغاء "الطائفية" السياسية.5 وعلى رغم أن الطائفية غير معرّفة بشكل مفصّل في النص، إلا أنها تُفهم على أنها نظام يُحتفَظ فيه بحصص مُحددة في مؤسسات الدولة لمختلف الطوائف الدينية، فيما تكون الترتيبات السياسية موضع تفاوض، عملياً، بين قادة هذه الطوائف. ومع أن ثمة التزاماً في الديباجة المعدّلة بوضع حد للطائفية السياسية، يشي النص الغامض للدستور بأنه يتم الاعتراف بالطوائف الدينية في مجال الأحوال الشخصية (المادة 9) والتعليم (المادة 10)؛ وأنه يحق لقادة الطوائف تحدي دستورية بعض القوانين المتعلّقة بالدين (المادة 19)، وأنه حتى بعد إلغاء التمثيل الطائفي الراهن في البرلمان، ستواصل الطوائف الحصول على شكل من التمثيل في مجلس شيوخ يؤسّس لاحقا (المادتان 22 و24).

تعترف الدولة اللبنانية اليوم بـ18 طائفة دينية مختلفة- 5 منها إسلامية و12 مسيحية وواحدة يهودية-، لمعظمها قيادة تعترف بها الدولة. وهناك مجموعة من 15 قانوناً للأحوال شخصية ومحاكم تُطبّقها. وفي السنوات الأخيرة، أطلق بعض اللبنانيين حملة قانونية للسماح بالزواج المدني وحققوا بعض الانتصارات المحدودة، لكن في معظم الحالات، تنصاع المحاكم المدنية والسلطات السياسية في لبنان إلى المحاكم الطائفية وتسمح لها باستقلالية كاملة.6 وبالتالي، ترتبط المحاكم والقادة الدينيين بشكل عضوي بطوائفهم، لكنهم ينطقون باسم قوة وسلطة الدولة اللبنانية في القضايا المرتبطة بمجالاتهم.

تُدار قضايا دينية أخرى على المنوال نفسه، عبر الاعتراف بالاستقلالية الطائفية، وإنما أيضاً بمنح قادة الطوائف قدراً من سلطة الدولة. على سبيل المثال، السنّة اللبنانيون يحكمهم تشريع يعترف باستقلالتهم الكاملة في الشؤون الدينية والأعمال الخيرية. وينيط القانون عملياً بسلطة واحدة، هي المديرية العامة للأوقاف الإسلامية، أمر إدارة الأوقاف، والمساجد، والوعظ في الطائفة.7

توجد في لبنان مدارس رسمية، لكن الكثير من اللبنانيين يفضّلون تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة (التي يرتادها غالبية أطفال المدارس)، حيث الانتماء الطائفي شائع. وهكذا، الطبيعة التعددية الطائفية للبنان تجعل من المستحيل على الدولة تعليم الدين. علاوةً على ذلك، حتى وضع كتاب تاريخ موحّد يبدو مستعصياً، وهذا ما يؤدي عملياً- كما في مجالات أخرى- إلى السماح للمدارس بتطوير برامجها الخاصة في كل الحقول.

على عكس معظم الدول العربية، إعلام الدولة في لبنان ضعيف، حيث يسيطر القطاع الخاص إلى حد كبير على الإذاعات ومحطات التلفزة.8 وهذا ما يجعل هذا البلد يبدو حالة شاذة في السياقات الإقليمية من حيث الدرجة التي يسمح فيها بالاستقلالية الطائفية. بيد أن هذا الشذوذ ليس حاداً كما قد يبدو لأول وهلة، فهو لايفصل الدين عن الدولة بقدر مايضم القيادة الدينية إلى حظيرة الدولة ويسمح للقادة الدينيين بالتحدّث إلى حد ما باسم سلطة الدولة. وحصيلة كل ذلك هي المزيد من التنافر لا الاتّساق.

الإذاعة والتلفزيون

تعج غالباً الإذاعات ومحطات التلفزة التي تُسيطر عليها الدولة في العالم العربي بالبرامج الدينية، وتلاوة القرآن، ونقل الصلوات الجماعية الرئيسة، والمحاضرات الدينية. ويلجأ المذيعون الرسميون في معظم الأحيان إلى المؤسسات الدينية الرسمية لتغذية مضمون برامجهم، وهذا قد يشمل المساجد الرئيسة التي قد يحضر إليها رؤساء الدول في الصلوات الجماعية المهمة، أو حيث يُلقي كبار المسؤولين الدينيين أو علماء الدين الخطب.

بدءاً من التسعينيات، انضم إلى هذا النوع من الإعلام الرسمي مذيعو المحطيات الفضائية، الذين غالباً مايطرحون مقاربات بديلة لبث رسائلهم. وقد تلقّى المذيعون هؤلاء دعماً من دول مُعيّنة تبحث عن وسائل لممارسة التأثير عبر الحدود. وفي العقد الأول من هذا القرن، دخل إلى المعمعة مذيعون خاصّون يتوزعون على مجموعة واسعة من التوجهات. ومازاد الصورة اكتظاظاً واضطراباً دخول وسائط التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، التي تطرح توجهات وصيغاً دينية واسعة التشعُّب، على الخط. وهكذا، بات يجتذب المشاهدين كل شيء، من برامج الفتاوى على الهاتف إلى النقاشات المثيرة والإيحائية، وحتى برامج تعليم الطبخ واللغة بسياق ديني. إحدى الفضائيات، "إقرأ"، بدأت كمحطة دينية واسعة الاستقطاب في الثمانينيات، فيما أطلق رجل الدين يوسف القرضاوي في التسعينيات برنامجاً دينياً نافذاً حول الشريعة الإسلامية في قناة الجزيرة. لكن، سرعان ما انضم إلى هذه المحطات جحافل من الدعاة، والخطباء المُفوَّهين، ومقدّمي النصح، ومقدّمي برامج الحوار، وطارحي الفتاوى، والمذيعين التعليميين.

لايزال للإسلام الرسمي صوت قوي، لكنه الآن واحد من جمهرة. كما لايزال للدول العربية العديد من الوسائل للتحدث بثقة وجزم حول الدين، إذ أن القضاة، والمُفتين، وعلماء الدين، والوزراء، ومسؤولي الجامعات، يدّعون كلهم امتلاك مثل هذه السلطة، لكن لا أحد منهم قادر على فعل ذلك من دون مُنازع. فعدد المنافسين غير الرسميين تنامى في غضون السنوات الأخيرة، وكذا الأمر مع نفوذهم، ومن الصعب أحياناً رسم الخط الفاصل بين الدين الرسمي وغير الرسمي، حيث يُطل القادة غير الرسميين من على أجهزة الإعلام التابعة للدولة، فيما يحاول مسؤولون دينيون بناء قاعدة مُتابعين لبرامجهم من خلال وسائط الإعلام الاجتماعي والمحطات الفضائية.

جديرٌ بالملاحظة هنا هو التنوّع داخل جهاز الدولة. إذ غالباً مايكون للمسؤولين توجهات متباينة، وسلطات قضائية متشابكة أو متنافسة، وصدام حول حس المهمة، وتنافسات شخصية، ومصالح مؤسسية مختلفة. كل من هذه القوى يجذُب بقوة، لكن ليس بالضرورة في اتجاه واحد.

الإسلام الرسمي وإسلام النظام

تبدو الهياكل الدينية الرسمية الضخمة في العالم العربي في كل مكان. فحين يرغب العرب بالصلاة، أو تقديم تبرعات البر والإحسان، أو تعليم أولادهم، أو الاستماع إلى المذياع، سيقابلون على الأرجح موظفي وهيئات الدولة، حتى ولو كان ثمة فرصة أحياناً لتجنُّبهم. الأنظمة في المنطقة لها سطوة وشأو كبيران على الهياكل الدينية الرسمية، لكن تأثيرات ذلك متباينة في أحسن الأحوال في مجال قدرة الأنظمة على استخدام هذه الهياكل صعبة المراس لتحقيق أهدافها الأمنية أو السياسات العامة، أو لِلَيْ عنق الأطراف الدينية الرسمية كي تتناسب مع مراميها. وحتى حين يلتزم نظام ما بإصلاح يُعتبر على نطاق واسع ناجحاً، على غرار قانون العائلة في المغرب العام 2004، (انظر الإطار 2)، تكون الدوافع والمحصلات معقَّدة.

لدى الأنظمة ثلاثة انشغالات في الحقل الديني، تتعلّق كلّها بطبيعة الحيّز الديني المُنظّم بشدة ولكن غير المُسيطّر عليه تماماً من قِبَلْ الدولة: الأول، أنها ترغب بالحصول على الدعم لسياستها وإيديولوجياتها. والثاني، أنها تسعى إلى منع مناوئيها السياسيين من استخدام الحيّز الديني لتعبئة الأتباع بهدف تحقيق أجنداتهم. وإذا ماعجزت الأنظمة عن ذلك، تسعى حينذاك إلى مراقبة مثل هذه النشاطات. ثالثاً، وأخيرا، أظهرت الأنظمة، خاصةً في السنوات الأخيرة، اهتماماً خاصاً بالجماعات المتطرّفة التي لبعضها طابع عابر للوطنيات. ووفق المصطلحات الراهنة في دوائر السياسات الغربية، تُطل الأنظمة العربية على الدين بوصفه ساحة حرب لمواجهة التطرّف العنفي، وعلى المؤسسات الدينية للدولة كسلاح يمكن توظيفه في هذه المعركة. الرقابة الإدارية للهياكل الدينية

تحوز الأنظمة، في سياق محاولاتها لاستخدام الوجود الديني للدولة في مجال إنفاذ أهدافها، على سلسلة من الوسائل المهيبة، وإن كانت خرقاء. ففي وسعها الانخراط في الرقابة الإدارية على الهياكل الدينية الرسمية، جنباً إلى جنب مع فرض السيطرة على القضايا المالية والموظفين. وغالباً ما يقوم رأس السلطة التنفيذية أو المؤسسة الحاكمة بتعيين كبار المسؤولين الدينيين، كوزراء الشؤون الدينية، وكبار قضاة المحاكم الشرعية ومُفتو الدولة، وكذلك كبار مسؤولي التعليم، بشكل مباشر. ثم أن وضع الميزانية والتوظيف يمران عبر مسؤولين رفيعين، ما يمكّن التدقيق بعناية بمجموع العاملين الدينيين.

بيد أن هذه الدرجات من السيطرة عصيّة على الاستخدام الدقيق. فمع وجود كثرة وافرة من المؤسسات الدينية في ثنايا جهاز الدولة، يكون بالمستطاع جعلها مادة للسيطرة، بيد أنها قد تصبح هي نفسها مراكز قوة لها قواعد شعبية. علاوةً على ذلك، ليس ثمة تنسيق دوماً بين هذه الهياكل، حيث أن مختلف الأطراف في المؤسسة الدينية تجد نفسها تتقدّم بمطالب متنافسة مع بعضها البعض. وتخاطر الشخصيات الرئيسة في المؤسسة الرسمية بخسارة مصداقيتها إذا مانسجت تعاليمها على منوال الحاكم لتوائم نزواته. ثم أن المحاكم الدنيا والهيئات الطلابية في مدارس الدولة والدعاة المحليين، قد لايتّبعون بشكل آلي تعليمات المستويات العليا الدينية. باختصار، تنطلق الأصوات المتباينة والمتنافرة دينياً من داخل أجهزة الدولة نفسها.

إعادة توكيد سيطرة الدولة على الإسلام الرسمي في المغرب

دورث إنغلكي

قد يكون قانون العائلة المغربي للعام 2004 هو الأكثر مدعاة للنقاش والجدل في تاريخ المملكة. فالمَلَكِية حصدت مدائح وافرة محلية ودولية لتعزيزها حقوق المرأة. صحيح أن القانون حسَّن الوضعية القانونية الرسمية للمرأة، إلا أن قدراً من التركيز على السياقات التي حدث هذا الإصلاح في إطارها، يشي بمضاعفات بعيدة المدى بالنسبة إلى الجهود المتواصلة لإصلاح القطاع الديني.

كان هدف هذه العملية من الإصلاح القانوني مزدوجاً. فهو وُجِّه نحو إعادة توكيد سيطرة الدولة، خصوصاً منها سلطة الملك، على القطاع الديني. كما استهدف كذلك تحديث المؤسسات الدينية لبث الروح فيها مجددا، وإيجاد إسلام رسمي حديث يمكن أن يكون محرّكاً للإصلاح وليس عقبة كأداء أمام التغيير.

والحال أن الهجمات الإرهابية على الدار البيضاء في أيار/مايو 2003، التي أودت بحياة 45 شخصا، أوضحت بجلاء أن السيطرة على القطاع الديني أمر حاسم لاستقرار النظام. وهكذا، بدأ إصلاح القطاع الديني مباشرةً بعد الهجمات، فأُنشئت مديريتان جديدتان داخل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: مديرية المساجد ومديرية التعليم العتيق (التقليدي). أُنيط بالأولى إحكام القبضة المُحكمة على المساجد، فيما تعمل الثانية للسيطرة على التعليم الديني.9

كان قانون العائلة للعام 2004 أيضاً بمثابة جهد لتعزيز سلطة الملك على القطاع الديني. فالملك، الذي يُسمى أمير المؤمنين والذي يُعيد نسبه إلى النبي محمد، يُعتبر أعلى سلطة دينية في البلاد. وقد تحقق إصلاح 2004 رسمياً من خلال الاجتهاد الذي قام به الملك نفسه. وتستند إدعاءات سلطة الملك على قانون العائلة إلى التشريع القانوني الذي يُعتبر الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهو غير قابلٍ للعلمنة. وأشار تقرير للجنة البرلمانية للعدل والتشريع وحقوق الإنسان أن قانون العائلة يؤكد الركائز الثلاثة للنظام المغربي: "الإسلام، والخيار الديمقراطي، ومؤسسة أمير المؤمنين".10

شهدت عملية إعادة توكيد السلطة الملكية على الإسلام الرسمي مزيداً من التعزيز من خلال الإصلاح الدستوري العام 2011، الذي نصّ على أن المجلس العلمي الأعلى، الذي يرأسه الملك، هو المؤسسة الوحيدة في المغرب المسموح لها بإصدار الفتاوى، الأمر الذي رسّخ احتكار الملك للآراء الدينية.

اتُّخذت خطوة أخرى نحو إصلاح القطاع الديني في مجال التعليم، بهدف إعادة تنشيط هذا القطاع. فقد كان التعليم الديني في حالة انحدار منذ الحقبة الاستعمارية، بفعل عاملين رئيسين اثنين: الأول، التنافس مع المدارس الحديثة التي أقامتها الإدارة الاستعمارية الفرنسية، وتراجع قيمة الشهادات التي تعطيها المدارس الدينية التقليدية. والثاني، أن المَلَكية حاولت بعد الاستقلال إضعاف المراكز التقليدية للتعليم الإسلامي مثل جامعة القيروان، عبر كبح جماح طموحاتها الأكاديمية لضعضعة علماء الدين.

لكن الدولة عكست هذا المنحى في العقد الأول من القرن الحالي. ففي العام 2005، أُجريت إصلاحات كبرى في دار الحديث الحسنية، وهي مؤسسة للتعليم الديني، عبر تعديل برامجها. ومنذ ذلك الحين، تعيّن على الأئمة المستقبليين أن يدرسوا مواضيع غير دينية مثل علم النفس، والتاريخ، والمنطق، والاتصالات. هذا الإصلاح اعتبُر ضرورياً لأن الخريجين لم يكونوا مؤهلين للقيام بمهام في بيئة اجتماعية مُتغيّرة. وهكذا أعلن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق أن هذا الإصلاح سيساعد على وقف تدهور هذه المؤسسة.11

وبالمثل، حَلَّتْ في العام 2006 الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مؤسسة تركّز على الأبحاث الدينية، مكان رابطة علماء المغرب السابقة. وبعد 2006، تم تأسيس 12 مركزاً بحثياً- بينهم مركزين لدراسة الصوفية ودراسات المرأة- لتوفير معرفة دينية راقية ولإعادة منح القطاع الديني الذي تسيطر عليه الدولة دوراً مهماً في معالجة المشاكل الاجتماعية.

المجال الأخير لإصلاح القطاع الديني تمثّل في تأنيث الحقل الديني. فقد سُمح للنساء بالانضمام إلى المجلس العلمي الأعلى وكذلك إلى مجالس العلماء المحلية. وفي العام 2006، تخرّج أول صف من المرشدات الدينيات في برنامج رعته أولاً وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وفي العام 2015، توسّع البرنامج ليصل إلى معهد محمد السادس لتدريب الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي جرى تأسيسه حديثاً. توفّر المرشدات أساساً التوجيه الديني في المساجد، وهو جهد يستهدف في الدرجة الأولى بلورة إسلام غير عنيف ولا يجب إدراجه في سياق المحاولات للترويج لتأنيث إسلامي. علاوةً على ذلك، صدرت فتوى عن المجلس العلمي الأعلى تعلن أن الإمامة قصر على الرجال- بكلمات أخرى النساء لايستطيعون أن يكّن أئمة صلاة الجمعة-.12 وهذا أظهر محدودية الإصلاح الذي لم يتحدَّ التفسيرات التقليدية للشريعة الإسلامية.

العديد من المرشدات المعيّنات كنّ عضوات في جماعة العدل والإحسان، أكبر حركة إسلامية في المغرب. ويفترض أن هؤلاء العضوات السابقات في حلقات المرأة في هذه المنظمة، هنّ من بين أفضل طلاب الجامعات في مجال الدراسات الإسلامية، لكن يمكن أيضاً أن تكون الدولة وضعت عينها على عضوات هذه الجماعة بهدف إضعاف جهود هذه الأخيرة لتحرير المرأة في إطار إسلامي، من خلال تعيين عضوات المنظمة الأكثر نشاطاً وحيوية في هذا المجال. إذ بالنسبة إلى السلطات، التحرُّر يجب بعد كل شىء أن يحدث فقط من داخل أطر تقودها الدولة.

طال إصلاح القطاع الديني في العقد الأول من هذا القرن عناصر مختلفة للغاية فيه. وعلى رغم أن بعض هذه الإصلاحات صُوِّرَت على أنها مشاريع أنثوية على غرار إصلاح قانون العائلة، إلا أن هذه الجهود المتباينة تشاطرت كلها عاملاً واحداً حاسما، وهو زيادة السيطرة الملكية على القطاع الديني. إذ أظهرت الإصلاحات أن الشرعية الدينية للملكية المغربية، تعمل ليس انطلاقاً من الاعتقاد بحُرمة وقدسية الملك وحسب، بل هي تتطلّب أيضاً السيطرة الملكية على الإسلام الرسمي.

بالإجمال، أدى الإصلاح إلى انقسامات جديدة بين المؤسسات الدينية التي طبّقت فيها الإصلاحات، مثل كليات الشريعة في الجامعات العادية، وبين تلك التي لم تشهد هذه الإصلاحات. والحال أن المغرب يحتاج إلى مقاربة شاملة لإصلاح القطاع الديني الذي يؤثّر على كل مراكز التعليم الديني، بما في ذلك كليات الشريعة في الجامعات، إذا ماكان الهدف ليس فقط إنفاذ سيطرة الدولة، بل أيضاً خلق إسلام رسمي مُتسامح ومُعتدل.

دورث إنغلكي (دكتوراه من جامعة أكسفورد، 2015)، باحثة ناشئة في كلية ليشتنبيرغ (Lichtenberg-Kolleg)، جامعة غوتنغن (University of Göttingen).

على سبيل المثال، كانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية تُربك النظام على نحو دوري ويُكبح جماحها بين الفينة والأخرى، خاصةً في العام 2016 حين صدرت مجموعة من القيود التي حرمتها من بعض صلاحيات الشرطة. بيد أن مثل هذه القيود العامة على دورها حُدَّت بسبب رغبة النظام في الوقت نفسه باسترضاء قواعد دينية مهمة ولذا، وعلى رغم تقلُّص الظهور العلني لأفراد الهيئة، إلا أن القيود المفروضة عليهم لاتزال تسمح لهم بالانخراط في عمليات مراقبة ثقيلة الوطأة.13

الإشراف على موظفي ومعلمي المؤسسات الدينية الرسمية

الأداة الأخرى المتوافرة في أيدي الأنظمة للإشراف على المستويات الدنيا من المسؤولين الدينيين والتعليميين، تتضمّن استخدام البيروقراطية الدينية والجهاز الأمني لإملاء مضمون الخطب الدينية، أو تنظيم مايقال في صفوف الدراسة. بيد أن تنفيذ مثل هذه الرقابة الشاملة أمر شاق وتطفُّلي للغاية، كما أظهرت بجلاء الصراعات الأخيرة في مصر حول مسألة السيطرة على المساجد. على سبيل المثال، في العقود الأخيرة، يشي السيل الدافق من بيانات وزراء مصريين حول مبادرات جديدة في هذا الصدد بأنهم لم يتمكّنوا قط من ممارسة السيطرة التي وعدوا بها. وقد أشار دعاة ومسؤولون دينيون في مصر والأردن والكويت وفلسطين إلى أن التوجيهات التي يتلقونها من الدولة، تطبّق غالباً بشكل فظ وخشن ولاتكون فعّالة تماما. بالطبع، كبار المسؤولين يحددون مايجب أن يُقال، لكن ليس بطريقة تتطلّب عموماً من الدعاة أن يكونوا مجرّد رجع صدى آلي. بالإجمال، يقول الأئمة إن الانشغالات الرسمية عَرَضِية، كما يمكن أن تكون أيضاً بيروقراطية للغاية. وذكر الأئمة المصريون أن اللغة الأكثر تحديداً وجزماً وصرامةً التي يتلقونها حول الخطب، تتعلّق بتحديد الوقت، وأن بعضهم عوقب بسبب الإسهاب والإطناب.14 وفي العام 2016، أسرّ إمام مصري بأنه لايوجد عملياً أي تدريب أو مواصلة للدراسة حالما يحتل الدعاة موقع المسؤولية.15

هذه التجربة المصرية ليست فريدة من نوعها. فالمساجد الفلسطينية عاينت هي الأخرى إدارة صارمة، وليس فقط في مناسبات محددة. وذكر إمام فلسطيني في نابلس أُجريت معه مقابلة في العام 2015 بأنه كان حراً بشكل معقول في ظل كلٍ من إدارتي إسرائيل والسلطة الفلسطينية لقول مايريد، طالما أنه يتجنّب التطرّق إلى مواضيع سياسية واضحة.16 والأمر نفسه كان على هذا النحو حين شكّلت حماس الحكومة الفلسطينية العام 2006. تغيّر الأمر فقط مع حكومة رئيس الوزراء السابق سلام فياض، التي تولّت الحكم في الفترة بين 2007 و2013، حين باتت القيود شديدة، لأنها (الحكومة) اعتبرت المساجد حديقة خلفية لحماس. وقد اشتكى مصلِّ في مسجد كبير في رام الله بأنه تمّ تعيين إمام سلفي في المسجد لكونه ببساطة غير متعاطف مع حماس.17

تميل التوجيهات الإيجابية، مثل اقتراح موا ضيع رئيسة في الخطب، إلى أن تكون غامضة في معظم البلدان، وتدعو إلى التطرُّق إلى مسائل عامة تحتاج إلى عناية (كمشاكل الشبان). أما التوجيهات السلبية فقد تكون أكثر إجهاداً بكثير. وتحدّث بعض الأئمة عن زيارات لمسؤولين أمنيين، خاصةً بعد الإدلاء بخطبة فُسِّرت على أنها سياسية. علاوةً على ذلك، يمكن لتعريف مايُعتبر سياسياً أن يكون أمراً سياسياً للغاية. وكما لاحظ أحد الأئمة بامتعاض، بعد أن أجرت مصر الاستفتاء الدستوري العام 2014 المدعوم من نظام مابعد الانقلاب: "إذا أيّدت الاستفتاء فهذا ليس شأناً سياسيا. أما إذا عارضته فهو أمر سياسي".18

حين فُرِضَت قيود مباشرة أكثر، تسبّبت بامتعاض أعمق. ففي مقابلات مع العديد من الأئمة في مصر بعد إطاحة الرئيس آنذاك محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، كاد إمام مسجد صغير في القاهرة أن يجهش في البكاء وهو يصف مدى إحكام قبضة الرقابة عليه.19 وانقلب إمام آخر من ضواحي القاهرة إلى حالة من التوتر الفاقع حين سار الحوار نحو منحى سياسي، قبل أن يقوم بحركة وضع اليد على الفم.20 وفي العام 2016، تنهّد إمام، عمل في مسجد كبير في القاهرة، بعمق حين كان يشرح كيف تطلب وزارة الشؤون الإسلامية، ووزارة الداخلية، ووزارة السياحة، كلها أن تكون لها كلمة في كيفية إدارة المسجد. واشتكى مسؤول ديني كان قد تعاطف مع النظام الجديد في العام 2014 قائلاً: "علينا بالتأكيد أن نستأصل شأفة الدعاة المتطرّفين، لكننا لانحتاج إلى ضابط مخابرات في كل مسجد".21

بث الرسائل الإيديولوجية

أخيرا، يمكن للأنظمة استخدام السيطرة على الجهاز الديني لبث وترويج الرسائل الإيديولوجية. ثم أنه من المعروف أن البرامج المدرسية، التي تمليها وزارات التعليم، تُصاغ عموماً بطريقة تُسِر الحكام سياسيا. لكن، في حين أن البرامج الدينية في العالم العربي أثارت انتقادات دولية، إلا أنه نادراً ما جرى تفحُّص فعالية الرسائل المُتضمَّنة فيها. فالكتب الدراسية السعودية، على سبيل المثال، تُصاغ بطريقة لصيقة بالتفسيرات الوهابية، بحيث تسجّل تقسيمات حادة ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين، بل هي تتخذ أيضاً خطاً صارماً حيال ماتعتبره ممارسات ومعتقدات إسلامية قويمة. بيد أن معظم مناهج وبرامج التعليم الأخرى للدول تتضمن نظرة أكثر شمولية بكثير للدين، فتُعلِّم أساسيات المعتقدات، والتاريخ، والسلوكيات، فيما هي تدمج معاً الدين والوطنية والأخلاق السوية.22 وفي أحاديث مع خريجين من مختلف الأنظمة التعليمية في العالم العربي، يمكن للمرء أن يسمع العديد من التعليقات حول الوسائل التي لايأخذ فيها الطلاب الدين على محمل الجد كموضوع، بالقدر نفسه الذي يسمعون فيه الملاحظات على مضمون التعليم.

فضلاً عن ذلك، تستطيع الدول أيضاً الترويج لرسائلها الدينية الخاصة بوسائل أخرى. إحدى هذه الجهود الدولية في هذا المجال تمثّلت في رسالة عمّان العام 2004 وإعلان مراكش العام 2016.23 كلا هذين كانا كناية عن بيانات تُشدِّد على مواضيع الإدماج للجميع، جنباً إلى جنب مع تنديد عنيف بالتطرّف والعنف بلغة دينية واضحة وجليّة. البيانان صيغا برعاية الملكين المضيفين، وشارك فيهما مسؤولون دينيون من كل أنحاء العالم الإسلامي. والواقع أن المشاركة الواسعة التي تحققت في عمّان كانت لافتة على وجه الخصوص، في ضوء البيئة الطائفية والاستقطابية السائدة هذه الأيام؛ وهي ضمّت مروحة واسعة من الشخصيات الدينية وكذلك قادة دينيين غير رسميين ومُثقفين. بيد أن فعالية مثل هذه الرسائل كانت محدودة، والإجماع الذي تحقق كان ملفتاً، لكن عمره كان من عمر الزهور.

قد يشير قارىء انتقادي ساخر إلى اللغة الرائعة، وإن العامة، للإعلانين الصادرين في عمّان ومراكش، ويستنتج أن تأثيرهما الرئيس هو إرضاء الجمهور الدولي. لكن يحتمل أن يكون العكس هو الصحيح. ففي كلا الحالين، كان التأثير أكبر على الأرجح في البلدين المُضيفين. وفي حين أن الإشارة إلى البيانات في البلدان الأخرى كانت نادرة، إلا أن النظامين الأردني والمغربي استشهدا بهما مراراً وتكرارا، حيث أنهما بديا تواقَين إلى ربط الفخار الوطني ببيانات ليبرالية بعض الشىء حول القضايا الدينية، وإلى تحسين مكانة وسمعة مؤسساتهما الدينية.

والحال أنه يتعيّن على كل الأنظمة أن تأخذ في الاعتبار للغاية مصداقية المؤسسة الدينية الرسمية، فيما هي تستخدمها للسيطرة ولتعزيز ركائز حكمها. بيد أن المفارقة في المؤسسات الدينية الرسمية واضحة على وجه الخصوص في مصر، أكبر بلد عربي من حيث السكان، إذ هناك يمكن أن نعثر على التفحّص الأفضل لمؤسسة دينية تبدو ضخمة ومفككة في آن.

الصراع على السلطة الدينية في مصر مابعد 2013

قادت الأنظمة المصرية الدين في الحياة العامة، لكنها فعلت ذلك عادةً بشكل غير ثابت. وهذه الحقيقة كانت واضحة بجلاء في عدد من الخلافات غداة الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 2013، من ضمنها مسائل السيطرة على المساجد، و"تجديد الخطاب الديني"، والتباينات المذكورة أعلاه حول خطب المساجد. مثل هذه السلسلة من الحقبات المطوّلة شهدت تنازع كلٍ من الرئاسة، والأزهر، ووزارة الشؤون الدينية، حول توكيد نفسها في مجال الدور التوجيهي، أحياناً بالتنسيق مع بعضها البعض وأحياناً عبر التنافس.

الأزهر والحملة على جماعة الإخوان المسلمين

الأزهر، بفعل وجوده المُهيمن في مصر ونفوذه في ماوراء الحدود، كان على وجه الخصوص لاعباً رئيساً في هذه الأحداث. كان استعداده للانغماس في حمأة المعركة، اختباراً لمدى قوته بالنسبة إلى مختلف الأطراف. بالطبع، تأثيرات كل هذه التطورات على الحيّز الديني كانت حقيقية، لكن ربما كان الطرف السائد في خاتمة المطاف هو الأزهر نفسه. إذ في حين أنه جزء من الدولة وله قيادة تُدين بالولاء للنظام، إلا أن الأزهر تمكّن من توكيد قدر من الاستقلال الذاتي وأظهر أن قربه من مراكز السلطة لايجعل منه كياناً خانعاً تماما.

والواقع أن مرحلة 2011-2013 زادت إلى حد كبير من رغبة قيادة الأزهر في حماية استقلالها الذاتي عن الحقل السياسي، وتعزيز سيطرتها الداخلية. وقد حصدت المؤسسة سطوة اعتبارية ضخمة في دستور 2012 قصير العمر، فهي أُعطيت دوراً مُحدداً لم تطلبه في تفسير الشريعة الإسلامية، لكنها هي نفسها اعتبرت أيضاً جماعة الإخوان والسلفيين مصادر تهديد يتعيّن الوقوف في وجهها. وقد أقدمت قيادة الأزهر على هذا التوجُّه الاستقلالي ليس في العلاقة مع الرئاسة في عهد جماعة الإخوان وحسب، بل أيضاً في داخل هيئات الطلاب وفي مؤسساتها.24

في أعقاب إطاحة مرسي عن كرسي الرئاسة، اكتشفت المؤسسة الدينية الرسمية أنها أصبحت ساحة معركة لكل ما كان يحدث في مصر. فقيادة جماعة الإخوان كانت إلى حد كبير خارج المؤسسة الدينية، لكن كان لديها أنصار في داخلها. ثم أن بعض المسؤولين الدينيين، بمن فيهم حتى أولئك الذين يشتبهون بجماعة الإخوان، بدأوا يدركون أن الصراع المحتدم بين الجماعة وبين القيادة السياسية الجديدة للبلاد، قد أصبح نزاعاً بين الدين وبين العلمانية، وبالتالي كان من الضروري اتخاذ موقف ما.

القيادة العليا في الأزهر كانت أقل تمزّقاً، لكنها مع إلى هجوم غير مبرّرذلك أبدت تحفظات. فقد وقف أحمد الطيب شيخ الأزهر، أي الشخصية التي تقف على رأس شبكة المؤسسات التعليمية والبحثية، إلى جانب الفريق عبد الفتاح السيسي حين أعلن هذا الأخير إطاحة مرسي. لكن، في الأسابيع اللاحقة، وحين تجمّع أنصار جماعة الإخوان في الساحات وطالبوا بإطلاق سراحه وعودته إلى السلطة، دعت قيادة الأزهر، والطيب شخصيا، إلى الحوار والحل السلمي للأزمة. وحين فُضّت الاعتصامات بالقوة، غاب الطيب عن القاهرة، في خطوة اعتبرها المراقبون احتجاجاً صامتاً على فظاظة النظام الجديد.25

جهود السيسي لتشكيل مفاصل الحياة الدينية

في العام التالي، واصل نظام السيسي التحرّك ضد أنصار الإخوان المسلمين في مختلف أرجاء المؤسسة الدينية، فعمد إلى إقالتهم من مناصب السلطة، وسعى إلى إنهاء تأثيرهم في المناهج الدراسية،26 وقام بإسكات حركة احتجاجية قوية بين طلاب الأزهر. وفي حين وُضِع حد للاحتجاجات الوطنية الأوسع نطاقاً التي اندلعت ضد عزل مرسي عبر اللجوء إلى القمع في آب/أغسطس 2013، تواصلت المظاهرات في جامعة الأزهر على امتداد العام الأكاديمي التالي، فردّ النظام بالطرد والاعتقالات ونشر قوة أمنية خاصة. وفي خريف 2014، انطلقت موجة عاتية من القمع مع بداية العام الأكاديمي الجديد، تمكّنت من وضع حد للاحتجاجات المنظَّمة في الأزهر، لكن تبعاتها طالت حتى أنصار النظام. واليوم، من الصعب أن تلتقي أزهرياً من دون أن يخبرك عن أصدقاء أو زملاء أو أفراد من أسرته اعتُقلوا أو طُردوا أو تعرّضوا للإصابة.

آنذاك، قاد وزير الأوقاف محمد مختار جمعة حملة لإغلاق المساجد غير المرخّصة، وحظر الدعاة الذين لم يستحصلوا على أذون رسمية للوعظ، وأعاد تنظيم الأعمال الخيرية وأنشطة الدعم التي تتولاّها لجان مرتبطة بالمساجد الكبرى، وأغلق المساجد بين صلاة وأخرى.27 واليوم، حتى أنصار الحملة يقولون إنها لم تؤتِ أُكلها كاملاً، فإمكانات وزارة الأوقاف على مستويَي الرقابة والعديد البشري لم تكن ببساطة كافية، حتى وإن حظيت بالمؤازرة من الأجهزة الأمنية، لفرض السيطرة الكاملة المنشودة. وفي حين اشتكى مسؤولون دينيون وسواهم من الوطأة الشديدة للحملة التي يشنّها النظام، واقع الحال هو أن الفضاءات الدينية في مصر– ولاسيما المساجد ووسائل الإعلام– تخضع الآن إلى سيطرة أشد إحكاماً بكثير بالمقارنة مع بضع سنوات خلت.

بحلول مطلع العام 2015، شعر السيسي – الذي كان قد أصبح رئيساً للبلاد – بالجرأة الكافية ليذهب أبعد من مجرّد إجراءات الضبط والسيطرة وليأخذ زمام المبادرة بنفسه. وهكذا خاض غمار التعاليم الدينية، عندما تحدث، أمام جمهور من القادة الدينيين في الأزهر، عن الحاجة إلى "تجديد الخطاب الديني".28 كانت كلمات الرئيس قوية الوقع– منبّهاً الحاضرين إلى أن الله والعالم يراقبانهم– لكنها اقتصرت أيضاً على العموميات إلى حد كبير. من الواضح أنه كان يقصد بكلامه التفكير الديني الذي حمّله السيسي مسؤولية ترويج التطرّف والإرهاب والعنف. لكن لم يكن واضحاً ما إذا كان المستهدَف من هذا التصريح هو تنظيم الدولة الإسلامية أو الإخوان المسلمون، أو المتشددون في صفوف الأزهر، أو الفقهاء من ذوي التفكير الأكثر تقليدية الذين يُنظَر إليهم بأنهم ظلاميون وعديمو فعالية من دون أن يكونوا مصدر تهديد، أم أن المستهدَف هو مزيج من هؤلاء جميعاً.

وقعت قيادة الأزهر نفسها في حيص بيص حول السبيل إلى الرد. كان من الصعب تجاهل نداء مباشر من الرئيس، بيد أن عدداً كبيراً من المسؤولين من ذوي المناصب العليا لم تعجبهم النبرة المتغطرسة التي ظهرت في هذه التصريحات الصادرة عن شخصية ذات تدريب عسكري لاديني.29 كما أن قيادة الأزهر اعتبرت أنه ليس هناك من داعٍ لتوجيه مثل هذه الرسالة إلى مؤسستها. فالدعوة الموجّهة إلى الخبراء والفقهاء لرفض الأفكار المتشددة، وتعزيز المنهاج الدراسي في جامعة الأزهر، وتفسير التعاليم الإسلامية بطريقة تتناسب مع الاحتياجات الاجتماعية، هي مطلبٌ ترفعه قيادة الأزهر نفسها. وعندما استُتبِع خطاب السيسي بانتقادات في الصحافة ووسائل الإعلام للخطاب الديني السائد في مصر، تكوّن لدى عدد كبير من أعضاء الأزهر انطباعٌ بأن مؤسستهم تتعرّض إلى هجوم غير مبرّر.30

خلال العام التالي، تبنّت هذه المؤسسات الدينية الرائدة في مصر فكرة تجديد الخطاب الديني كرجع صدى لكلام الرئيس. لكنها فعلت ذلك بأساليب مختلفة جداً. فقد ردّدت وزارة الأوقاف، في مؤتمرات وبيانات عامة، النداء بحماسة، وبدا الوزير شديد التلهّف لإثبات نفسه في عيون النظام. أما مكتب مفتي الدولة فكان أشد حذراً في تعاطيه مع المسألة. وقد صدر الرد الأقوى والأكثر تفصيلاً عن قيادة الأزهر التي تبنّت التجديد، لكنها سعت جاهدةً أيضاً إلى التأكيد بأن مسار التجديد كان انطلق قبل خطاب الرئيس، وبأنه من الأفضل ترك المسألة في عهدة الخبراء داخل الأزهر نفسه. إذن، بدلاً من أن يرى الأزهر في الدعوة التي وجّهها الرئيس تحدّياً لأسلوبه في تدبير الأمور، عمل مسؤولوه، وعلى رأسهم الشيخ أحمد الطيب نفسه، على تبنّي اللغة التي استخدمها الرئيس ونسبها إلى أنفسهم بطريقة أكّدوا فيها أن القيادة لهم في هذا المجال.31

الصراع البيروقراطي في مصر

في صيف 2011، سُلِّطت أضواء كاشفة على الصراع غير الخفي بين المؤسسات الدينية في مصر، في سياق الخلاف حول الخطب المكتوبة. فقد أصدر وزير الأوقاف تعميماً فرض فيه على جميع الدعاة في البلاد إلقاء خطبة واحدة مكتوبة تضعها الوزارة بنفسها. أثارت هذه الخطوة سجالاً واسعاً، ولقيت بعض الدعم ممّن اعتبروا أن مستوى الخطب غير جذّاب، وأنها تستغرق وقتاً طويلاً جداً. بيد أن الدافع الحقيقي كان على ما يبدو سياسياً بقدر ما هو يتعلق بالمواعظ نفسها.

حتى بعد انقضاء ثلاثة أعوام على الجهود التي يبذلها النظام لفرض سيطرة مركزية قوية على الدين، أقرّ المسؤولون بأنه لازال هناك دعاةٌ سلفيون وإخوانيون وغيرهم من الدعاة المعارضين للنظام قادرون على إسماع أصواتهم. صحيح أن الدعوة التي وجهها الرئيس المصري أثارت انقساماً في صفوف المسؤولين في المؤسسة الدينية، غير أن موقف كبار المسؤولين في الحكومة كان واضحاً لالبس فيه. فقد أبدى جمعة تأييداً شديداً للمجهود، حتى إنه صعد على المنابر في كبريات المساجد حاملاً نسخة عن الخطبة الموحّدة المسموح بإلقائها. في البداية، عبّرت قيادة الأزهر عن شكوكها بشأن الخطوة، مشيرةً إلى أنه من شأنها إعفاء الدعاة من الحاجة إلى تثقيف أنفسهم، مايحوّلهم إلى أشخاص آليين باردين في نظر المؤمنين. ثمّ حوّل الأزهر كلام السيسي لمصلحته معتبراً أن فرض خطبة رسمية واحدة سوف يتسبّب بتجميد الخطاب الديني بدلاً من تجديده.32

تبعاً لذلك، تحوّلت المعركة إلى صراع بيروقراطي حول هوية المؤسسة التي يعلو صوتها فوق الجميع. وفي هذا الإطار، تمكّن شيخ الأزهر من التفوّق على الوزير في المناورة. فقد وجّه في البداية دعوة إلى هيئة كبار العلماء لتأييد موقفه، ثم اجتمع برئيس الجمهورية، إنما ليس فقط بصفته رئيس المؤسسة الأعرق والأكثر تفويضاً بموجب الدستور لتكون صوتاً للتعاليم الإسلامية، بل أيضاً بصفته مدعوماً من مجموعة من الفقهاء المُكلّفين التحدّث والتصرف بحزم ومن موقع السلطة الآمرة في الشؤون العقيدية والشخصية. بعد هذا اللقاء، عُقِد اجتماع بين الشيخ، الذي بات يتصرف بناءً على دعم رئاسي واضح، وبين وزير الأوقاف. حاول جمعة إنقاذ ماء الوجه عبر جعل الخطب المكتوبة غير إلزامية، لكن كان من الواضح أنه خرج خاسراً من المواجهة التي اتخذت طابعاً علنياً غير معهود. وسرعان ما بات جلياً أن الصدام لم ينتهِ فصولاً. أصبح ممكناً إلقاء الخطب من دون القراءة من نص رسمي (ولو كان ذلك يحصل، باعتراف الجميع، تحت العين الساهرة لوزارة الداخلية)، غير أن الخلاف تجدّد بين الأزهر ووزارة الأوقاف بعد أيام قليلة، حول الجهة المسؤولة عن تجديد الخطاب الديني.33

ربما أتاح الصراع ونتائجه نافذة نادرة للإطلالة على أنواع الخلافات التي تطرأ بصورة منتظمة في الميدان الديني الرسمي في مصر، وأيضاً في العالم العربي عامةً. فغالباً ما تتناقل طواحين الشائعات روايات عن خصومات شخصية ومؤسسية وعقيدية بين كبار الفاعلين الدينيين الرسميين في معظم بلدان المنطقة. كانت النتيجة لافتة بالدرجة نفسها. فوزير الأوقاف، وهو عضو في الحكومة ويتصرف بناءً على مشيئة الرئيس، وشخصية مستعدة للتماهي مع سياسات الرئيس وخطابه وأولوياته، تعرّض إلى الهزيمة على يدَي شيخ الأزهر، الشخصية المقرّبة أيضاً من النظام لكنها تتمتع باستقلالية ذاتية أكبر بكثير في الجوهر بالمقارنة مع الفروع الأخرى في الدولة المصرية. وكشف هذا الصراع كيف أن المؤسسات الدينية الرسمية ليست مجرّد أدوات في أيدي النظام بل أيضاً مساحة للنزاعات. كما أظهر أنه لهذه الكيانات نوعٌ من الرسالة والمصالح المؤسسية، التي تختلف أحياناً بين كيان وآخر، وأنها تتمايز عن النظام مع أنها تصب عامةً في الخط نفسه.

في المسائل الحسّاسة، وليس أقلّها منع المساجد من التحوّل إلى بؤر تُستخدَم في تعبئة المعارضة وتحتضن نشاطها، توفّر المؤسسات الدينية التابعة للدولة في مصر دعماً أساسياً. غير أن الانتقال من مصالح الحاكم إلى النتائج المؤسسية ليس سلساً على الدوام. إذ لبعض المؤسسات أولويات خاصة بها، في حين أن الجهود الآيلة إلى تعزيز فعاليتها ومصداقيتها غالباً ماتفضي إلى زيادة استقلاليتها الذاتية – وبالتالي قدرتها على اتباع جداول أعمال خاصة بها، وحتى تأمين حيّز محدود ومحمي للمجموعات المعارضة داخل صفوفها. وعندما تنخرط الجهات الدينية الفاعلة الرسمية مع المعارضين، غالباً ماتفعل ذلك بطريقة تتعامل بجدّية مع أفكارهم، حتى أنها قد تميل باتّجاههم. قد تكون هناك خصومة سياسية بين المؤسسات الدينية الرسمية وبين التنظيمات الإسلامية، إلا أنه ثمة قرابة إيديولوجية بينهما في معظم الأحيان.34 باختصار، عبر بناء مؤسسات ذات امتداد واسع والسماح لها بالتمتع بدرجة معينة من التخصص والاستقلالية الذاتية، يُظهر جهاز الدولة أنه ليس جسماً متماسكاً. بل إنه كيان يستطيع التعبير عن عدد كبير من المصالح والتوجهات والأصوات المختلفة – حتى وإن كان بعضها معارضاً أحياناً للنظام.

أزمة المصداقية في المؤسسات الدينية الرسمية

تستطيع الأنظمة في الدول العربية استخدام الحضور القوي لحكوماتها في الميدان الديني الرسمي لتحقيق أهداف أمنية أو سياسية أو إيديولوجية. وحتى الحفز على مايُسمّى الاعتدال أو التسامح، غالباً ما تكون له صبغة موالية للنظام بوضوح (انظر الإطار 3). لكن بإمكان الأنظمة التلاعب بالقطاع الديني، في أفضل الأحوال بأسلوب أخرق إلى حد كبير، لأن نفوذ المؤسسات الدينية الرسمية ليس مطلقا. وواقع الحال أن المؤسسات الدينية الرسمية لاتخدم دائماً مصالح النظام بطريقة فعّالة، حتى عند تسليم إدارتها إلى أنصار النظام. وغالباً ماتؤدّي الممارسات ثقيلة الوطأة التي تلجأ إليها الدولة، إلى تقويض مصداقية ممثلي المؤسسات الدينية الرسمية، فيصبحون انهزاميين على المدى الطويل.

التباس التسامح المفروض في سلطنة عُمان

أنيل شيلين

يتمايز الميدان السياسي في سلطنة عُمان على صعيدَين اثنين. إذ تولي الدولة أهمية خاصة للتسامح، وتمارس أيضاً سيطرة أكبر على الميدان الديني بالمقارنة مع معظم البلدان العربية الأخرى. ثمة ترابطٌ بين هاتين السمتَين.

تضطلع وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان بأنشطة مشابهة لتلك التي يقوم بها نظراؤها في البلدان العربية الأخرى. فهي تُعنى بتنظيم الفضاءات الدينية، وتسديد رواتب الدعاة والأئمة الإسلاميين المنتمين إلى التيار السائد، وتُساهم في محتوى التعليم الديني في المدارس الرسمية. لكن على النقيض من عدد كبير من البلدان الأخرى حيث تتنافس الجهات الدينية الفاعلة غير الرسمية مع المتحدثين باسم الإسلام الرسمي، تمارس الدولة في سلطنة عمان احتكاراً فعلياً على الخطاب الديني. فهي لاتسمح سوى بوجود عدد قليل من المنظمات الأهلية، أما الأحزاب السياسية والدينية وسواها من الأحزاب فمحظورة. مستوى السيطرة الذي يُمارَس على الأفرقاء الفاعلين في الميدان الديني أكثر شمولاً بالمقارنة مع عدد كبير من البلدان العربية الأخرى، وذلك بسبب قلة عدد السكان في عُمان، وثروتها النفطية، وموقع السلطان بصفته حاكماً مطلق الصلاحيات. وفي هذه المجالات، تُشبه سلطنة عمان الدول الأخرى الصغيرة في مجلس التعاون الخليجي.

في الأعوام الأخيرة، ظهرت سردية التسامح الديني كموضوع أساسي بالنسبة إلى الدولة العمانية. يستخدم النظام احتكاره للخطاب الديني الرسمي لإظهار السلطنة في صورة البلد الذي يُقدّم دعماً فريداً من نوعه للحرية الدينية. على سبيل المثال، أُنتِج فيلم بعنوان "التسامح الديني" بتكليف من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، يُسلَّط الضوء على التعددية الإسلامية في عمان والتسامح تجاه الأديان غير الإسلامية. تُصدر الوزارة أيضاً مجلة "التفاهم" التي تروّج للحوار الديني بين المسلمين وكذلك الحوار الديني بين مختلف الأديان، فضلاً عن تنظيمها حملة بعنوان "افعل شيئاً من أجل التسامح"، تشمل قمصاناً، وتغريدات عبر تويتر، ومعرضاً عن السفر.35

مزاعم الوزارة عن التسامح ليست مجرّد حملة إعلامية، بل جرى تقديم البرهان عليها إلى حد كبير في تقرير الحرية الدينية الدولية للعام 2015 الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية،36 الذي أكّد أن غير المسلمين يمارسون شعائرهم الدينية بحرية في منازلهم والأماكن المخصصة لهذا الغرض. وعلى النقيض من الشطر الأكبر من البلدان العربية، تستدعي الوزارة قادة مسيحيين ويهوداً لإلقاء الخطب في الجامع الكبير في العاصمة مسقط. لم تشهد عُمان عنفاً جهادياً على أراضيها، كما أنه لم يُسجَّل التحاق أيّ عماني بالقتال في صفوف الدولة الإسلامية. وتكشف أحاديث مع العمانيين أنهم ينظرون إلى التسامح الديني على أنه جزء أساسي من هويتهم الوطنية.

يتناسب الإسلام الرسمي في عُمان جيداً مع أجندة السياسات الأميركية الساعية إلى ترويج الحريات الدينية ومحاربة التطرّف العنفي. ولمّح مسؤولون في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى أنه بإمكان سلطنة عمان أن تشكّل قدوةً لبلدان أخرى تتخبط في مواجهة التشنجات المذهبية والتطرّف العنفي. بيد أن عاملَين اثنَين يعطّلان من قدرة عُمان على تأدية دور ديني قيادي في المنطقة: الإباضية والسلطوية.

أولاً، تنفرد سلطنة عُمان بأن الإسلام الرسمي فيها ليس سنّياً ولا شيعياً، بل إباضياً. خارج عُمان وبعض الجيوب الصغيرة في أفريقيا، الإباضية مجهولة أو يُساء فهمها إلى حد كبير. يعتبر الموقف الرسمي العُماني أن التسامح هو نتيجة التقليد الديني الإباضي، مقروناً بالكوزموبوليتانية المستندة إلى التجارة. وبما أن الإباضيين هم تاريخياً أقلية دينية، تتيح الإباضية ممارسات تسمح بعيش مشترك أكثر فعالية مع المسلمين غير الإباضيين، بما في ذلك الزواج والميراث. غير أن طبيعة الإباضية الرسمية في عُمان تقلّل من احتمالات أن تنظر الدول الأخرى إلى هذا المذهب باعتباره قدوة لها.

تزعم وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أن الإرث التاريخي، وليس الحسابات، هو الذي يحفّز التسامح الرسمي في عُمان، لكنه قد ينزع أيضاً فتيل التشنجات المذهبية الداخلية. وعلى الرغم من أن السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد ينتمي إلى الإباضية، غالب الظن أن السنّة في عمان أكثر عدداً من الإباضيين. لايُسمَح بإجراء تعداد فعلي، لكن التقديرات الرسمية تقول إن نسبة الإباضيين تبلغ نحو 75 في المئة من المواطنين.37 بيد أن مصادر غير رسمية تقول إن الإباضيين يشكّلون ما يناهز 45 في المئة من السكان.38 يحظر قانون المطبوعات والنشر للعام 1984 نشر كل ما من شأنه "بث روح الشقاق بين أفراد المجتمع"، والمقصود بذلك، في نظر الصحافيين، الخلافات المذهبية.39 بيد أن التشنجات المذهبية الإقليمية قد تجعل هذه الهويات أكثر بروزاً.

ثانياً، حتى لو نجحت سلطنة عمان في تغليف التسامح في شكل من أشكال الإسلام أكثر عمومية، إلا أن احتكار الدولة العُمانية للخطاب الديني هو حجر عثرة أكثر منه مصدر قوة. وعلى النقيض من العديد من الفاعلين الدينيين غير الرسميين الذين يتنافسون على التأثير في عدد كبير من البلدان العربية الأخرى، نجحت حكومة عُمان في القضاء على المصادر البديلة للسلطة الدينية، عن طريق الرقابة والحكم السلطوي. ترويج عُمان للتسامح وحصانتها ضد التطرّف قد لايدومان إلى ما لا نهاية، ولاسيما أن الأمرَين يتوقفان على الهدوء السياسي الذي يتم شراؤه بواسطة الاحتياطيات النفطية الآخذة في التناقص. علاوةً على ذلك، غالب الظن أن السلطان المقبل لن يتمتع بالدعم نفسه الذي يحظى به راهناً السلطان قابوس الذي نجح في أن ينسب لنفسه الازدهار الذي تشهده البلاد بدفع من النفط. نتيجةً لذلك، قد لاتكون مستويات السيطرة الراهنة قابلة للاستدامة. ويمكن أن تحلّ مكان الخطاب الديني الموحّد في عمان آراء متعددة، قد يكون بعضها أقل تسامحاً إلى حد كبير.

يُنظَر أحياناً إلى تجزؤ السلطة الدينية في البلدان العربية بأنه يطرح إشكالية. غير أن سلطنة عُمان تُظهر أن الخطاب الديني الذي يُفرَض بالقوة قد لايحمل حلاً في المدى الطويل، حتى لو كان يتبنّى قيم التسامح.

أنيل شيلين طالبة دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، ومديرة برنامج الباحثين خلال المرحلة الجامعية في كلية إليوت للشؤون الدولية (Elliott School of International Affairs).

ليس الحكّام وحدهم يواجهون قيوداً وخيارات صعبة. فالأسلوب الذي تعمل به المؤسسة الدينية وطريقتها في تقديم نفسها في الأعوام الأخيرة، تسبّبا باستفحال المشاكل التي يصطدم بها الفاعلون الدينيون الرسميون في الدول العربية. صحيح أن المؤسسات الدينية الرسمية تطغى في المنابر والوسائل الإعلامية وقاعات التدريس والمناسبات المرخَّصة رسمياً، إلا أنها ليست الأماكن الوحيدة للحديث عن الدين في العالم العربي. فالنقاشات تحدث في عدد كبير من الفضاءات الإضافية حيث يمكن سماع مجموعة متنوّعة من الأصوات. وتتيح تكنولوجيات التواصل الجديدة والوسائط الأكثر تقليدية (وفي معظم الأحيان الاثنان معاً) للأصوات غير الرسمية التعبير عن آرائها في شؤون الدين. ثم أن النفوذ لاينتقل بسهولة من وسيلة إلى أخرى. فمن يُسمَح لهم بالصعود إلى المنابر لايسيطرون بالضرورة على موجات الأثير؛ ومَن يضعون الكتب المدرسية أو يصدرون الأحكام، لايمتلكون بالضرورة أعداداً كبيرة من المتابعين عبر موقع فايسبوك. وحتى عندما تتنافس السلطات الدينية في المنطقة في ما بينها، فإن هذا التنافس يدور في ميادين مختلفة.

قد يعبّر عدد كبير من القادة الدينيين الرسميين – عمداء كليات دينية ومُفتين وقضاة – عن مشاعر شاملة ويعربون عن اشمئزازهم الشديد من العنف والتطرّف. لكن عندما يفعلون ذلك، يُنظرَ إليهم – داخل بلدانهم بالتأكيد، إنما وبالأخص خارجها – كمسؤولين في الدولة بقدر ما هم سلطات دينية. لن يُنظَر إليهم بأنهم يتمايزون عن النظام الذي يحكم منظومتهم السياسية. فضلاً عن ذلك، قد يرى عدد كبير من الشباب في منطقة تواجه تنامي الفجوة بين الأجيال، أن القادة الدينيين يجسّدون جيلاً أكبر سناً، جيلاً قديم الطراز وسلطوياً جرى تدجينه ويفتقر إلى الفعالية.

ليست هناك مساحة عامة واحدة في العالم العربي، بل مجموعة كاملة من ساحات الخلاف والسجال، وعدد كبير منها تصعب متابعته. والنفوذ والسطوة غير قابلَين عموماً للانتقال من ميدان إلى آخر. بعض القادة الدينيين الأكثر تأثيراً في العالم العربي اليوم، هم شخصيات إعلامية أكثر منه رؤساء منظمات أو مؤسسات موقَّرة. وهم يتواصلون عن طريق البرامج التي تتلقى اتصالات هاتفية، والتغريدات عبر موقع تويتر، والـ"بوستات" عبر موقع فايسبوك، والتجمعات العامة. هؤلاء الدعاة الجدد، كما يُسمّون أحياناً، منتشرون في مختلف أنحاء الخريطة السياسية (وبعضهم يبقون خارج الخريطة عبر تجنّب الخوض في المواضيع السياسية). وتلجأ سلطات دينية محترمة أخرى إلى الأدوات التقليدية المُتمثّلة في الأطروحات المتبحّرة أو الفتاوى المتماسكة منطقياً لخوض السجال في ما بينها. لقد تعلّم الإخوان المسلمون، على امتداد عقود عدة، ممارسة نفوذهم عن طريق الحضور الاجتماعي والمنظمات المنضبطة. ويتحلّق السلفيون حول معلّمين موقّرين يركّزون على التدقيق في دراسة النصوص وعلى الممارسة الدينية الصحيحة. وينخرط بعض الفاعلين الدينيين في شكل أساسي في العمل الذي يمكن أن يتنوّع كثيراً بدءاً من العمل الخيري وصولاً إلى العنف الشديد.

لذلك، فإن المنصب الذي يتمتّع بالصفة القانونية، لايمنح بالضرورة نفوذاً عقيدياً أو معنويا. وتشغل المؤسسات الرسمية مجموعة واسعة من الفضاءات في الميادين الدينية والتربوية والقانونية،40 لكن غالباً ما تتعرض إلى التحدي، لذلك، تتّبع استراتيجيتَين اثنتين من أجل تعزيز مواقعها. الأولى تتمثّل في محاولتها اعتماد تقنيات وطرائق جديدة لتأكيد دورها. على سبيل المثال، ابتكرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت أشكالاً جديدة من التصدّق بالأموال، تذهب أبعد من التبرعات الخيرية للأسر المعوزة، وتشمل مشاريع إنمائية مصمّمة لخدمة المجتمعات المحلية. وتستقطب هذه المقاربة مزيداً من التبرعات الطوعية.41 وتبذل وزارات أخرى في المنطقة جهوداً مماثلة. وعمدت بعض المساجد ومحاكم الشريعة إلى تدريب موظفيها في مجال المشورة للعائلات والوساطة الأسرية من أجل الظهور في صورة ودّية للأزواج الذين يعانون من المشاكل. وأنشأت الهيئات التي تُصدر الفتاوى خطوطاً ساخنة، ومواقع إلكترونية، وسواها من الوسائل الصديقة للمستخدم بما يُتيح للمؤمنين طلب الإرشاد. وقد سعى الأزهر إلى تدريب فقهاء في مقتبل العمر قادرين على بث روح أكثر شباباً وأقل إثارة للملل، ليتمكّنوا من المشاركة في النقاشات العامة.42

أما الثانية، فتتمثّل في قيام المؤسسات الدينية الرسمية باستخدام ما تتمتع به من استقلالية ذاتية لتعزيز مصداقيتها. وهي تؤكد على أنه مهما اتّسع نطاق عملها في إطار النظام الحالي، إلا أنها ليست أدوات تلقائية في يد النظام. والواقع أن الأنظمة لاتتخذ دائماً موقفاً عدائياً إزاء هذه الاستراتيجية، إذ تتيح لها ضمّ المنشقين المحتملين إلى صفوف المؤسسات الرسمية، حيث يخضعون إلى الرقابة وتدريبات على الانضباط. ويمكن أن يتمثّل التأثير في خلق ثغرات دخول إلى مزيد من الحركات المستقلة داخل كنف المؤسسة الدينية الرسمية.

نجد في جميع أنحاء العالم العربي أمثلة عديدة على سلوك هذا المسار. فعلى سبيل المثال، اعتُبرت طريقة تعامل وزارة الشؤون الدينية الكويتية تقليدياً وديّة تجاه الإخوان المسلمين في البلاد. وبالمثل، نُظِر إلى الأساتذة الأردنيين- خصوصاً ولكن ليس حصراً أولئك المتخصصين في تعليم اللغة العربية أو الدين- على أنهم خاضعون إلى سيطرة الإسلاميين، إلى درجة أن النظام عرقل باستمرار محاولات تشكيل نقابة للأساتذة.43 وفي السعودية، وجدت العديد من الأصوات الأكثر جرأة منابر لها في الجامعات والمؤسسة الدينية في البلاد، وتمتّعت بحماية محدودة بفضل ولاء قادة تلك المؤسسات للأسرة الحاكمة.44 ومنذ تموز/يوليو 2013، شهد الأزهر في مصر انقسامات سياسية محورية حول نظام البلاد المدعوم من الجيش والتدابير التي اتّخذها ضد الإسلاميين. وفي هذا الإطار، أوضح أحد المسؤولين في الأزهر أنه عندما عُرض عليه منصب، برز جدال بين أصدقائه حول ما إذا كان، بقبوله الوظيفة، يهين كل أولئك الذين قُتلوا خلال القمع الوحشي للتظاهرات في آب/أغسطس 2013.45 وفيما بدا هو مُخلصاً للنظام، إلا أن الضغط الاجتماعي كان كفيلاً بجعله يتردد في قبول المنصب.

يترتب على الاستقلالية الذاتية التي تتمتع بها المؤسسات الدينية الرسمية أكلاف أخرى بالنسبة إلى الأنظمة، فضلاً عن جعل المسؤولين الدينيين مؤيدين جامحين. إذ بإمكانها تحويل قيادة هذه المؤسسات إلى مجموعات ضغط في القطاع الديني. وفي حين يبقى المسؤولون الدينيون عموماً موالين لأنظمتهم الخاصة، تروّج أصوات منشقّة هادئة لخطابات لاتحمل في طياتها تحدّياً، حتى أنها تسلك الخط الإيديولوجي الرسمي في الوقت نفسه الذي تدافع فيه عن مصالح مؤسستها وعن حسّ المهمة فيها. من جهته، دافع الأزهر عن حقّ فرض الرقابة الثقافية في مصر، وتحتفظ المحاكم الشرعية الأردنية بصلاحية صياغة قوانين الأحوال الشخصية. وبدورها عمدت المؤسسة الدينية السعودية إلى جعل مناهج التعليم من أصعب الأمور التي يمكن للنظام إصلاحها.

تواجه الأنظمة، من جانبها، مايبدو لها معضلة قاسية، أو على الأقل مشكلة يصعب التعامل معها. وهي تجد نفسها أمام خيارين: الأول، أنه يمكنها أن تفسح المجال أمام بعض التعددية والاستقلالية الذاتية، معززةً بذلك قدرتها على الرصد، ورافعةً مصداقية كبار المسؤولين، ومُوفّرةً قدراً من الحماية لمنتقديها؛ والثاني إمكانية التدخّل على نحو أكبر، كما هو الحال في مصر والأردن، حيث برزت محاولات لوقف إقامة صلاة الجماعة في المساجد الصغيرة، ولجمع كل المصلين يوم الجمعة في عدد أقل من المساجد في مواقع أكثر مركزية. مع ذلك، يمكن أن يدفع ذلك المنشقّين إلى الانضمام إلى منظمات سرّية، وربما تحويل النقّاد المتذمرين إلى خصوم مغتاظين. ليست الليبرالية أو الولاء هما السبب الذي يدفع الأنظمة إلى إرخاء الحبل أكثر للمؤسسات الرسمية، بل إدراك حجم المشاكل التي يمكن أن يُحدثها الإفراط في شدّه. حتى أن نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين منح الحوزة في النجف، التي تتكوّن من مدارس دينية وعلماء شيعة بارزين، قدراً كبيراً من الاستقلال الذاتي تحت إشراف الدولة، طالما هي تبتعد عن القضايا السياسية.

تشكيل الإسلام على المستوى الدولي

بدأت المؤسسات الدينية في العالم العربي تستقطب اهتماماً دولياً بعد الهجمات الإرهابية التي طالت الولايات المتحدة في 11 أيلول/سبتمبر 2001. ووصل المطاف بالبعض إلى اعتبار هذه المؤسسات حاميةً للتطرّف. وقد استقطبت الهرمية الدينية السعودية اهتماماً خاصاً ليس فقط على خلفية دورها المحلي، بل أيضاً بسبب الدعم المالي والمؤسسي والعقيدي الذي قدمته للنهج السلفي الذي يمكن أن يتحوّل إلى نهج طائفي وجهادي.

مع ذلك، ومع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العام 2014، تحوّل شطر كبير من الاهتمام نحو تطويع المؤسسات الدينية كحلفاء في الجهود المبذولة لمكافحة التطرّف العنيف. وخلال زيارة قام بها في تشرين الأول/أكتوبر 2014 إلى القاهرة، شرح وزير الخارجية الأميركي وقتئذٍ جون كيري بالتفصيل النهج الجديد. فهو خصّ بالذكر، خلال إيجازه مختلف الأدوار التي يمكن أن تؤديها هذه المؤسسات في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، المؤسستيْن الدينيتيْن الرسميتيْن السعودية والمصرية كمشاركتين أساسيتين في هذه الحملة:

"التحالف المطلوب للقضاء على [الدولة الإسلامية] ليس عسكرياً فقط، أو حتى في الدرجة الأولى، ونحن نرحب بمساهمة الجميع في هذا الجهد، وعلى وجه الخصوص تلك الجهود الرامية إلى التصدي لمزاعم التنظيم المخطئة بشأن الإسلام، هذا الدين السلمي. وكما قال مفتي السعودية، أو المجلس الذي يصدر الفتاوى، ليس هناك شيء قط في تنظيم الدولة الإسلامية له علاقة بالإسلام.

بالتالي، يجب أن تعمل كل هذه العناصر بإيقاع موحّد. وقد قام الجنرال جون آلان، الذي يعمل على تنسيق هذه الجهود،- ليس العسكرية منها بل تلك المبذولة في إطار التحالف ككل- بزيارة مصر وعدد من الدول الشريكة الأخرى، لضمان لمّ شمل كل الأطراف معاً. وباعتبارها عاصمة فكرية وثقافية للعالم الإسلامي، لمصر دور حاسم تلعبه وتستمر به كما تفعل الآن، والمتمثّل بالتنديد العلني لإيديولوجيا الكراهية والعنف التي ينشرها تنظيم الدولة الإسلامية. ونحن نقدّر جداً العمل الذي بدأت مصر تقوم به بالفعل.

شكّل ذلك محوراً رئيساً في مناقشتنا في جدة الشهر الماضي، ومرة أخرى اليوم في محادثاتي مع وزير الخارجية المصري [سامح] شكري. وأعتبر أنه من المهم في الحقيقة إلى حدّ كبير أن تكون المؤسسات الدينية في الأزهر ودار الإفتاء [مكتب مفتي الدولة] على حدّ سواء داعمة كلياً ومُدركة لضرورة استخلاص هذه الفروقات المرتبطة بالدين".46 جاذبية مثل هذا النهج بالنسبة إلى الدبلوماسيين الغربيين واضحة. فالمؤسسات الدينية الرسمية هي جهات فاعلة دُولتية، تمتلك أحياناً حسّاً بالمسؤولية حيال تمثيل الدين في الخارج وكذلك في الداخل. وبالتالي، تكون هذه هي المنظمات التي تدفعها الدبلوماسية بين الدول إلى الواجهة كمحاورين. جميع القادة الدينيين الرسميين تقريباً يشعرون بالذعر بالفعل (وبالطبع بالتهديد) جراء صعود حركات أكثر تطرّفاً. ومن المرجح أن ترحب الأنظمة، ولاسيما في مصر والسعودية، وكلاهما من الشركاء التقليديين للدول الغربية على الصعيد الأمني، بفكرة ترقية كبار المسؤولين الدينيين كنماذج وأمثلة أخلاقية يُحتذى بها.

تحظى سياسة دعم الأنظمة القائمة، وتأييد محاولاتها لحشد الدعم الدولي من خلال إبراز مؤسساتها الدينية الخاصة كحصن منيع ضدّ التطرّف، بدعم من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة. ففي أعقاب اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع نظيره المصري عبدالفتاح السيسي في نيسان/أبريل 2017، وصف البيت الأبيض الاجتماع كما يلي:

"اتّفق الرئيس ترامب والرئيس السيسي على مواصلة تنسيق الجهود العسكرية والدبلوماسية والسياسية لإلحاق الهزيمة بالإرهاب. وأقرّ الرئيسان باستحالة هزيمة الإرهاب بالقوة العسكرية وحسب، وتعهّدا بالبحث عن سبل لمعالجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية التي تغذي الإرهاب. وأشاد الرئيس ترامب بجهود السيسي الشُجاعة الرامية إلى تعزيز الفهم المعتدل للإسلام، واتّفق الطرفان على ضرورة الاعتراف بالطابع السلمي للدين الإسلامي والمسلمين في جميع أنحاء العالم".47

لكن الواقع أن الذين يسلكون مثل هذا المسار قد يصابون بخيبة أمل. فمعظم الحكومات الغربية غير مهيّأة هيكليّاً لنسج علاقات مع المؤسسات الدينية الرسمية في العالم العربي، إذ ليست لديها مناصب تعادل مفتي الدولة أو وزراء الشؤون الدينية. ومع أن الأنظمة السياسية الأوروبية قد تضم قادة دينيين رسميين، إلا أنها تميل غالباً إلى رؤية القضايا من إطار محلّي، وتفهم مسائل الدين والدولة في العالم العربي من خلال منظور التاريخ والمؤسسات الأوروبية. وهذا الواقع لايشي فقط بغياب متحدّثين ندّيين في الشؤون الدينية، بل يعني أيضاً أن المسؤولين الغربيين يخوضون غمار بيئة مجهولة المعالم وهم يحاولون تلمّس طبيعة السياسات الدينية في العالم العربي.

كل هذه المعطيات عاصفة وشديدة الضبابية، إذ يصعب التمييز على وجه الدقة بين الأطراف الذين ينتمون إلى هذا المقلب أو ذاك – ولاسيما أن حلبة الصراع على النفوذ الديني تعجّ بعددٍ كبير من مختلف اللاعبين الذين لاتني تتبدّل ولاءاتهم. على سبيل المثال، وجّه محمد أبو فارس، أحد قيادات الإخوان المسلمين الذي كان يُعتبر سياسيّاً ناريّاً في الأردن - والذي سُجن في الواقع لفترة بعد زيارة خيمة عزاء الزعيم السابق لتنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي - انتقادات وتنديدات عنيفة للنظام الأردني. لكن، في مقابلة معه في العام 2014، لم يكن لدى أبو فارس مايقدّمه سوى دعوة المسلمين الورِعين الذين تتنازعهم مشاعر التوتّر في خضم البيئة السياسية الراهنة إلى الصبر والصلاة والعمل السياسي كحلٍّ لهم، مُعرباً بوضوح عن شجبه لتنظيم الدولة الإسلامية.48

تبدو السلفية الجهدية والطبعات الأكثر هدوءاً من السلفية متعارضتَين تقريباً في تأثيراتهما السياسية، إلا أنهما ليستا متفارقتَين إلى هذا الحدّ عقيدياً. يتمحور الخلاف الأساسي بينهما حول حساسياتهما السياسية تجاه شرعية الحكّام الحاليين، وربما وصل إلى درجة الاختلافات العقيدية حول آرائهم إزاء الواجبات نحو حاكم شرعي. فالإطلالة السعودية على الإسلام مثلاً تدعم بشكلٍ كبير الأسرة الحاكمة، ولذا تُعدّ المؤسسة الدينية في المملكة دعامة النظام. لكنها تتشاطر تداخلاً عقيدياً مع بعض المجموعات السنيّة الأكثر تطرّفاً في المنطقة. كما أن الاتّهامات الموجّهة إليها بأنها توفّر بيئة حاضنة لبعض أشكال التطرّف، لم تأتِ من عدم بل هي مبنيّة على أسس متينة.

بالمثل، قد يستمع المرء إلى خطب يوسف القرضاوي، القيادي الشعبوي الموالي للإخوان المسلمين في قطر، فيخاله زعيماً دينياً مرتبطاً بنظام مرحلة مابعد الانقلاب في مصر حين يتحدث بالطريقة نفسها عن الوسطية.49 كلٌّ من القرضاوي والمفتي الأكبر في مصر، على سبيل المثال، يسهبان في الحديث عن فقه الأولويات، الذي يدين التشبّث بحذافير الدين من خلال المقاربات السلفية شديدة الحرفية، والتي تؤدّي بالتالي إلى تجاهل الاعتبارات الأخلاقية الكامنة في الشريعة الإسلامية.

لكن حين يأتي الأمر إلى المستوى السياسي، لايتوانى القرضاوي والمسؤولون الدينيون المصريون عن تبادل الاتهامات. فالقرضاوي أيّد في بعض الحالات التفجيرات الانتحارية، ودَعَمَ جماعة الإخوان في صراعها ضد النظام المصري. وقد حدا موقفه الأول ببعض الدول إلى منعه من دخول أراضيها، فيما دفع موقفه الثاني سفير مصر لدى الولايات المتحدة إلى إدراجه في الخانة نفسها مع تنظيمَي القاعدة والدولة الإسلامية.50 القرضاوي هو نتاج الأزهر، حيث تلقّى تعليمه، وقريبٌ منه عقيدياً، ولم تُصِبه سهام الانتقادات أساساً بسبب مؤلفاته الفقهية الغزيرة، بقدر ماكان ذلك بسبب السياسات التي ينتهجها غالباً، وخطبه العامة المثيرة للجدل أحياناً.

لذا من غير الواقعي أن نتوقع من المسؤولين غير المسلمين أن يخوضوا بنجاح غمار هذه البيئة من التيه والضبابية. إذ أن ذلك يقتضي بناء التحالفات والعلاقات الملائمة، وخوض صولات وجولات من النقاش حول نوع التعاليم الدينية التي تُعتبر مناسبة، وتلك التي ينبغي إثباطها أو التي تُعتبر مُخطئة بكل بساطة، وإصدار الأحكام على مؤهلات ومكانة الأفراد والمؤسسات. وهذا سيجرّهم إلى رُحى المعارك حول التفسيرات الدينية، وأيضاً إلى الاختلافات بين الدول التي تتبنى كلٌّ منها وجهات نظر معينة وتدعم أفرقاء دينيين مختلفين.

وحتى لو نجح الأفرقاء غير المسلمين في تجاوز هذه التعقيدات، من المُستبعد أن يحصدوا منافع تُذكر. إذ ليس في متناول المؤسسات الدينية الرسمية، والأنظمة التي تمارس بعض الإشراف والرقابة عليها، سوى أدوات إيديولوجية محدودة لمكافحة الإسلاميين المتطرّفين، ناهيك عن أن أولوياتها تختلف عن أولويات الأطراف الخارجيين. فمع أن الأنظمة العربية القائمة تسعى إلى قطع دابر القوى المتطرّفة، إلا أنها تبذل في الوقت نفسه جهوداً حثيثة لإدارة البيروقراطيات المُتداخلة والمُعقّدة والقواعد الشعبية الورعة؛ ومراقبة المجال العام؛ وتنظيم المعارضة وردعها وأحياناً قمعها؛ وتوفير قدرٍ من الخدمات المادية والمعنوية إلى المواطنين. وغالب الظن أن هذه الأنظمة تنظر إلى المؤسسات الدينية باعتبارها أدوات تستخدمها محليّاً وتسترضي من خلالها القواعد الشعبية قبل دفعها إلى الانخراط في الحروب الإيديولوجية الإقليمية.

في المقابل، تتوق المؤسسات الدينية إلى زيادة نفوذها، وحماية ميزانيتها، وكسب الاحترام، وصون الحقائق الأزلية، وتوجيه المؤمنين، والحدّ من الفساد، والتنافس مع بعضها البعض. لذا، تسعى إلى إقناع الأشخاص الذين قد يتأثّرون بالرسائل التي تنضح تطرّفاً بأن يسلكوا مساراً أكثر هدوءا. إلا أنها تعمد أيضاً إلى إثباط، وأحياناً قمع، مظاهر التعبير الثقافي والمشاعر الدينية والحراك السياسي والاجتماعي الذي لايمتّ إلى العنف أو التطرّف بصلة. وواقع الحال أن هذه التصرفات بالذات قد تؤدّي إلى استفحال اللاتسامح، وهو تحديداً ما تدّعي المؤسسات الدينية الرسمية معارضته.51

لذلك، يبدو أن الأشخاص الذين يتوقعون من الأنظمة أن تكافح التطرّف من خلال السيطرة على المنظومة الدينية الرسمية، يستخفّون بمدى تعقيد المسألة. فالأنظمة تصبو إلى تحقيق أهداف أوسع نطاقاً من مجرّد محاربة مجموعات معينة، والأدوات التي تملكها غير عملية ومشكوكٌ بفعاليتها. والمؤسسات الدينية عبارة عن هياكل معقّدة ذات أجندات أوسع، قد لايتقاطع بعضها مع مساعي الجهات الفاعلة الدولية. ومع أن الاصطفاف إلى جانب الأنظمة السلطوية والمؤسسات الدينية المرتبطة بها قد يبدو أنه مهمة دبلوماسية ممكنة وجذّابة للجهات الساعية إلى إلحاق الهزيمة بالإيديولوجيات المتطرّفة، إلا أن هذا الحل ماهو إلا سراب على المدى البعيد. خاتمة يبدو النظر إلى المؤسسات الدينية كحليف سياسي مُغرياً، نتيجةً للحضور البارز الذي تتمتع به هذه المؤسسات في المجتمعات العربية. ثم أن الأنظمة غالباً ما تعتبرها أدوات (وإن مُرتبكة) تستخدمها لمواجهة خصومها السياسيين. وترى الحكومات الأجنبية إلى المؤسسات الدينية أيضاً على أنها شريك محتمل في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامي. لكن واقع الحال أكثر ضبابية: فالمؤسسات الدينية الرسمية هي هياكل معقّدة للغاية وذات أجندات فضفاضة ومتضاربة أحياناً، لذا قد تكون مساعي توجيه دفّتها باتّجاه معيّن دون آخر غير ناجعة وغير عملية، حتى أن بعض هذه الأجندات قد لايتقاطع على نحو وثيق مع الأهداف التي تصبو الأنظمة إلى تحقيقها على المدى القصير.

يطرح هذا الواقع معضلة للأنطمة التي تستطيع منح المؤسسات الدينية الرسمية المزيد من الاستقلالية، مايحسّن قدرتها على ممارسة الإشراف والرقابة، ويعزّز مصداقية المسؤولين الدينيين. لكن هذه الخطوة قد تُفقد الأنظمة قدراً من السيطرة، وتتيح لمنتقديها مجالاً للحشد والتعبئة، أحياناً من داخل كنف المؤسسات الدينية الرسمية. كما قد تقرّر الأنظمة، على العكس، رفع سقف التدخّل في شؤون هذه المؤسسات والسعي إلى إحكام قبضتها أكثر على المجال الديني. لكن هذا النهج لن يؤول إلا إلى تصوير القادة الدينيين على أنهم أُجراء لدى النظام، مايقوّض مكانتهم، من دون أن يصب ذلك في صالح أرباب السلطة. لكن كلا المسارين لايوفّران حلّاً شافياً. فأيّاً كان الخيار الذي تتّخذه الأنظمة، ستظلّ المؤسسات الدينية تتخبّط في خضم النوازع التي تتجاذبها، بدءاً من أولوياتها ومصالحها ورسالتها، وصولاً إلى مطالب قواعدها الشعبية المتنافسة داخل المجتمع، والدولة والمجتمع الدولي.

هوامش

1 هذه الجملة مقتبسة عن جوسلين سيزاري في: Jocelyn Cesari, The Awakening of Muslim Democracy: Religion, Modernity, and the State (Cambridge: Cambridge University Press, 2014), 110–111.

2 للاطلاع على بعض المعلومات المفيدة عن الخلفية التاريخية، انظر: Kenneth J. Cuno, Modernizing Marriage Family, Ideology, and Law in Nineteenth- and Early Twentieth-Century Egypt (Syracuse: Syracuse University Press, 2015).

3 حول الدور الراهن للفتاوى، انظر: Hussein Agrama, Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, and the Rule of Law in Modern Egypt (Chicago: University of Chicago Press, 2012). كما أنني كتبتُ عن هذه المسألة في: Nathan Brown, Arguing Islam after the Revival of Arab Politics (Oxford: Oxford University Press, 2016).

4 يمكن زيارة الموقع الإلكتروني هنا، "موقع مكتب سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسين السيستاني"، 3 أيار/مايو 2017، www.sistani.org

5 “The Lebanese Constitution,” the Office of the Lebanese Presidency, May 3, 2017, http://www.presidency.gov.lb/English/LebaneseSystem/Documents/Lebanese%20Constitution.pdf.

6 “Equal and Unprotected: Women’s Rights under Lebanese Personal Status Law,” Human Rights Watch, January 19, 2015, https://www.hrw.org/report/2015/01/19/unequal-and-unprotected/womens-rights-under-lebanese-personal-status-laws.

7 "المديرية العامة للأوقاف الإسلامية"، المديرية العامة للأوقاف الإسلامية، 3 أيار/مايو 2017، http://awqaf.org.lb

8 William Rugh, Arab Mass Media: Newspapers, Radio, and Television in Arab Politics (Westport: Greenwood Publishing Group, 2004), 195.

9 Chafik Laâbi, “Etat et Religion, Comment Lire les Changements Annoncés,” [State and religion, how to Read the announced changes], La Vie Eco, May 7, 2004, http://www.lavieeco.com/news/politique/etat-et-religion-comment-lire-les-changements-annonces-5330.html.

10 House of Representatives, The Report of the Justice, Legislative, and Human Rights Committee on Draft Law No. 70.03, (in Arabic), Mudawanat al-Usra, http://adala.justice.gov.ma/production/legislation/fr/Nouveautes/Code%20de%20la%20Famille.pdf.

11 Malika Zeghal, Islamism in Morocco: Religion, Authoritarianism, and Electoral Politics, translated by George Holoch (Princeton, NJ: Markus Wiener Publishers, 2008), 250.

12 “Morchidates: Le Conseil des Oulémas tranche” [Female religious guides : the ulama council Decides] L’Economiste, May 29, 2006, http://www.maghress.com/fr/leconomiste/70877.

13 هالة الدوسري، "السعودية والصراع على القيادة السنّية"، صدى (مدونة)، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 7 أيلول/سبتمبر 2016، http://carnegieendowment.org/sada/?fa=64503&lang=ar

14 تمّ الكشف عن ذلك مرات عديدة في محادثات شخصية بين المؤلف والدعاة في القاهرة بين 2012 و2016.

15 حديث شخصي، القاهرة، 2016.

16 مقابلة شخصية، نابلس، كانون الثاني/يناير 2015.

17 مقابلة شخصية، رام الله، كانون الثاني/يناير 2015.

18 مقابلة شخصية، القاهرة، 2014.

19 مقابلة شخصية، القاهرة، 2015.

20 مقابلة شخصية، القاهرة، 2015.

21 مقابلة شخصية، القاهرة، 2014.

22 Eleanor Abdella Doumato and Gregory Starrett (editors), Teaching Islam: Textbooks and Religion in the Middle East (Boulder: Lynne Rienner, 2007).

23 للاطلاع على رسالة عمّان، الرجاء زيارة الموقع الإلكتروني التالي الذي تتوافر ضمنه مجموعة متنوعة من الوثائق (على غرار الفتاوى الداعمة) المتصلة بالرسالة المشتركة والاجتماعات والإعلانات المرتبطة بها. انظر "رسالة عمّان"، الموقع الرسمي لرسالة عمّان، 10 أيلول/سبتمبر 2016، http://ammanmessage.com/?lang=ar بالنسبة إلى إعلان مراكش، انظر "إعلان مراكش" للاطلاع على النص، 10 أيلول/سبتمبر 2016، http://www.marrakeshdeclaration.org/files/Declaration-Marrakesh-Eng-27-ar.pdf

24 حول النزاع على دور الأزهر في ههذه الفترة، انظر: Gianluca P. Parolin, “Shall We Ask Al-Azhar? Maybe Not,” Middle East Law and Governance 7 (2015): 212–235.

25 حول خطاب وموقف الأزهر في هذه الفترة، انظر: Basma Abd al-Aziz, The Power of the Text: The Discourse of Al-Azhar and the Crisis of Governance (in Arabic) (Cairo: Sefsafa Publishing House, 2016).

26 خلال السنة التي أمضاها الإخوان المسلمون في السلطة، لم يحدث في الواقع أي تغيير يُذكَر في المناهج الدراسية. انظر: Patrycja Sasnal, Myths and Legends: Modern History and Nationalistic Propaganda in Egyptian Textbooks (Warsaw: Polish Institute of International Affairs, May 2014); لكن الأجواء الرسمية في مصر بعد العام 2013 كانت لاتزال معادية بما فيه الكفاية للإخوان، إلى درجة أن مديري المدارس راحوا يبحثون في المكتبات عن أي مؤشرات عن التأثير الإسلامي، وعندما يُخيَّل إليهم أنهم وقعوا على مثل هذه المؤشرات، كانوا يعملون على اجتثاثها.

27 انظر: Tarek Radwan, “Egypt’s Ministry of Endowments and the Fight Against Extremism,” MENA Source (blog), Atlantic Council, July 23, 2015, http://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/egypt-s-ministry-of-endowments-and-the-fight-against-extremism.

28 Government of Egypt, State Information Service, “Sisi Calls For Renewing Religious Discourse Based on True Understanding of Islam,” December 8, 2016, http://www.sis.gov.eg/Story/107014?lang=en-us.

29 توصلتُ إلى هذا الاستنتاج انطلاقاً من سلسلة محادثات غير رسمية مع مسؤولين دينيين وفقهاء في مصر خلال العام الذي أعقب خطاب الرئيس.

30 سمعتُ هذا الرأي من أزهريين تحدثت معهم خلال العام 2015.

31 انظر، على سبيل المثال، خطاب شيخ الأزهر في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 حول تجديد الخطاب الديني. "غرفة الأخبار| كلمة شيخ الأزهر في افتتاح مؤتمر: "رؤية الأئمة والعلماء في تجديد الخطاب الديني""، فيديو على يوتيوب، نُشر بواسطة eXtra News، 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، تمّت زيارة الصفحة في 23 أيلول/سبتمبر 2016، https://www.youtube.com/watch?v=GhH7NLtCtAQ

32 انظر مثلاً، خالد موسى ومحمد عنتر، "كبار العلماء تقرر بالإجماع رفض ’الخطبة المكتوبة‘"، الشروق، 26 تموز/يوليو 2016، http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=26072016&id=c0f893d3-31e9-4131-8d3d-5609c10485fb

33 سعيد حجازي وعبدالوهاب عيسى، "مراكز الأوقاف لـ"الخطاب الديني" تجدد الخلاف مع الأزهر الشريف"، الوطن، 31 آب/أغسطس 2016، http://www.elwatannews.com/news/details/1372009

34 هذه الملاحظة مستقاة من آرون روك-سينجر الذي كتب: "تبقى نقاط التشابه بين الخصوم قائمة: في العام 2016 كما في العام 1989، بين المؤسسات الرسمية والتنظيمات الإسلامية خصومة سياسية وقرابة إيديولوجية على السواء". انظر: Aaron Rock-Singer, “Printing the Kishkaphone: State Power, Religion, and Censorship in Egypt,” International Journal of Middle East Studies (forthcoming 2017).

35 U.S. Department of State, Bureau of Democracy, Human Rights, and Labor, Oman: July-December 2010 International Religious Freedom Report, U.S. Department of State, September 13, 2011, https://www.state.gov/j/drl/rls/irf/2010_5/168273.htm.

36 U.S. Department of State, “International Religious Freedom Report for 2015,” U.S. Department of State, https://www.state.gov/j/drl/rls/irf/religiousfreedom/index.htm#wrapper.

37 Central Intelligence Agency, “The World Factbook: Oman,” Central Intelligence Agency, January 12, 2017, https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/mu.html.

38 U.S. Department of State, Bureau of Democracy, Human Rights, and Labor, “Oman 2015 International Religious Freedom Report, U.S. Department of State, https://www.state.gov/documents/organization/258040.pdf.

39 Sultanate of Oman, Ministry of Information, “Publications and Publishing Law,” Sultanate of Oman, November 11, 2015, https://omaninfo.om/english/module.php?module=pages-showpage&CatID=162&ID=547.

40 انظر: Sarah Feuer, State Islam in the Battle Against Extremism, Washington Institute Policy Focus, June 2016.

41 مقابلة شخصية مع مسؤول في وزارة الأوقاف الكويتية، مدينة الكويت، كانون الأول/ديسمبر 2011.

42 حديث شخصي مع مسؤول في الأزهر، القاهرة، 2015.

43 ناقشتُ هذه المسألة بشكل مقتضب في: Brown, Arguing Islam, 234–235.

44 Stephane Lacroix, Awakening Islam: The Politics of Religious Dissent in Contemporary Saudi Arabia (Cambridge: Harvard University Press, 2011).

45 محادثة شخصية مع مسؤول في الأزهر، القاهرة، 2016.

46 في التصريحات الأساسية، استخدم كيري مصطلح داعش للإشارة إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وليس "الدولة الإسلامية". John Kerry, “Remarks With Egyptian Foreign Minister Shoukry After Their Meeting,” U.S. Department of State, October 12, 2014, http://www.state.gov/secretary/remarks/2014/10/232898.html

47 “Readout of President Donald J. Trump’s Meeting with President Abdel Fattah Al Sisi of Egypt,” the White House, April 3, 2017, https://www.whitehouse.gov/the-press-office/2017/04/03/readout-president-donald-j-trumps-meeting-president-abdel-fattah-al-sisi.

48 مقابلة شخصية مع محمد أبو فارس، عمّان، 16 تشرين الأول/أكتوبر 2014.

49 أصبح تعبير الوسطية واسع الانتشار في العقود الثلاثة الماضية. ويختلف معناه باختلاف مستخدميه، لكنه يشير عموماً إلى أن الشريعة الإسلامية هي مجموعة من القوانين الإلهية التي وُضعت لتلبية حاجات المسلمين أفراداً وجماعات. والتالي، عندما تُطرح مسألة قانونية ما، ينبغي أن ينطلق الفقه من جهود ترمي إلى وضع القواعد التي تتناسب مع ظروف الزمان والمكان، لا القواعد الأكثر تزمّتاً وصرامة.

50 Yasser Reda, “Countering the Pontiff of Terror,” Embassy of Egypt, Washington, D.C., August 25, 2016, http://www.egyptembassy.net/ambassador-media/countering-the-pontiff-of-terror.

51 ترى سارة فيوور أن المساعي الرامية إلى توحيد تعاليم المؤسسات الدينية المرتبطة بالدولة قد تؤدي أحياناً إلى التعصّب، وهو تحديداً ما تدينه هذه المؤسسات ظاهرياً. انظر: Feuer, State Islam in the Battle Against Extremism, 10.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.