المصدر: الغد
ضرب العالم العربي في العقد الحالي إعصاران، كان الأول منهما أكثر ظهورا للعيان، و سمي بتفاؤل "الربيع العربي"، و كان عبارة عن احتجاجات شعبية ضد ضعف الحاكمية في المنطقة.
وعقدت آمال واسعة في حينه، أن هذه الاحتجاجات ستنتج حقبة جديدة تسودها الديمقراطية و سيادة القانون. و لكن هذه الاحتجاجات، ربما باستثناء تونس، أنتجت بدلا من ذلك اضطرابات جديدة و حروبا أهلية.
ثم جاء إعصار آخر في 2014 عندما انخفضت أسعار البترول دون المائة دولار، مهددة نظام الحوكمة الذي بني في المنطقة على أساس النفط. وقد أدت الأسعار المتدنية الجديدة إلى صعوبة استمرار تمويل الموازنات المتضخمة، أو محاباة الطبقات النخبوية، أو تجاهل الحاجة لإصلاحات تم تأجيلها في السابق لوقت طويل. هذه ليست حالة طارئة، لأن أسعار النفط لن تعود على الأغلب لمستوياتها قبل العام 2014.قد يبدو على السطح أن العديد من الدول العربية استطاعت تجاوز هذين الإعصارين. و لكن المنطقة مرشحة لمزيد من الاضطرابات، باعتبار أن 2011 و 2014 ليسا إلا العوارض الأولية لحالة تحول عميقة تجري في المنطقة، و هي أن العقود الاجتماعية السابقة التي حافظت على الاستقرار المصطنع تتعرض اليوم للتفكيك، وأن هناك حاجة للمنطقة لصياغة عقود اجتماعية جديدة تجنب العالم العربي مزيدا من القلائل.
لقد استخدمت الحكومات العربية النفط و لأكثر من خمسين عاما لتمويل أنظمة ريعية . و قد استخدمت هذه العوائد لخلق الوظائف في القطاع العام، إضافة لتقديم الخدمات الأساسية كالصحة و التعليم مقابل قبول المواطنين بضعف تمثيلهم سياسيا في عملية صنع القرار. أما وقد كبر حجم القطاع العام درجة التخمة في الكثير من هذه البلدان، بينما انخفضت أسعار النفط، فإن المعادلة التي ارتكزت عليها العقود الاجتماعية القديمة بدأت بالاختلال بسبب عدم قدرة الحكومات على الحفاظ على نوعية الخدمات المقدمة، بينما لا تزال تصر على احتكار صناعة القرار و عدم تطوير أنظمة سياسية من الفصل و التوازن لضمان حسن الحوكمة. كما أنها خلقت طبقات ريعية حولها أخذت بالانعزال المتزايد عن الناس.
ثم جاء الإعصار الثاني العام 2014. في شهر آب (اغسطس) من ذلك العام، هبط سعر النفط دون 100 دولار للبرميل بعد أن كان قد وصل لأكثر من 140 دولارا. كانت النتيجة المباشرة لذلك أن الدول المصدرة للنفط لم تعد قادرة على الاستمرار في أنظمة "الرفاه"، كما أن الدول المستوردة للنفط لم تعد أيضا قادرة على الاستمرار في الاعتماد على المساعدات النفطية أو حوالات العاملين في تلك الدول لإدامة أنظمتها شبه الريعية هي الأخرى.
لقد أدى النظام الريعي في الأردن إلى وصول حجم الدين إلى 96 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن عدم التركيز على الإنتاجية، إضافة إلى تدني النظام التربوي و ضعف المناخ التشريعي الملائم لتهيئة القطاع الخاص لاستيعاب عدد كبير من القوى العاملة بدلا من القطاع العام، أديا لتراكم البطالة لتصل إلى 18.5 ٪ اليوم، و أكثر من 30 ٪ بين فئة الشباب. و لم تعد المعالجة الاقتصادية البحتة مقبولة لدى قطاعات واسعة و خاصة لدى الشباب الذين يطالبون اليوم بنهج جديد يعطيهم صوتا تمثيليا أكبر.
لعل ذلك الدرس الرئيس من الإعصارين اللذين حلا بالمنطقة، من ضرورة الابتعاد عن النظام الريعي و الانتقال السلس و المتدرج لنظام يعتمد الإنتاجية و تعظيم النمو و تمكين الفئات ذوات الدخل المحدود.
و لعل الدرس الأكبر أن مثل هذا الانتقال السلس و المنتظم لن يتأتى دون توازيه مع إصلاح سياسي حقيقي يشرك المواطن جديا في عملية صنع القرار و يشعره أنه شريك في القرار الاقتصادي الذي سينتج عنه صعوبات مرحلية قبل الوصول لشاطئ الأمان. لن يؤدي تجاهل ضرورة توازي المسارين الاقتصادي و السياسي إلا إلى المزيد من الاحتجاجات.
تم نشر هذا المقال في جريدة الغد.