المصدر: Getty

العمليات العسكرية الأميركية في اليمن لن تنجح

يشكّل ربط الأمن البحري بعملية السلام اليمنية أفضل استراتيجية يمكن أن تتّبعها الولايات المتحدة من أجل التصدّي للتهديد الذي يطرحه الحوثيون على حركة الملاحة البحرية.

نشرت في ٢٤ يناير ٢٠٢٤

نفّذ التحالف البحري والجوي بقيادة الولايات المتحدة في 12 كانون الثاني/يناير جولته الأولى من الضربات ضدّ حركة أنصار الله، المعروفة بالحوثيين، مُستهدفًا مواقع لهم في خمس محافظات يمنية، من ضمنها الحديدة وحجة وصنعاء، ردًّا على هجمات شنّها الحوثيون على سفن الشحن في البحر الأحمر. وأعلن الحوثيون المدعومون من إيران أن هجماتهم لن تتوقّف إلّا إذا التزمت إسرائيل باتفاقٍ لوقف إطلاق النار في غزة ورفع الحصار الذي تفرضه منذ ستة عشر عامًا على القطاع، وسمحت بتدفّق المساعدات الإنسانية إلى غزة من دون عوائق.

رأت الولايات المتحدة، التي تعارض وقف إطلاق النار في غزة بذريعة أنه سيعود بالنفع على حركة حماس، أن الردّ القوي على هجمات الحوثيين كان ضروريًا بسبب التداعيات الاقتصادية الناجمة عنها. فقد عطّلت هذه الهجمات منذ 19 تشرين الأول/ أكتوبر ما نسبته 30 في المئة من حركة الحاويات البحرية العالمية وما لا يقل عن 12 في المئة من إجمالي حجم التجارة البحرية العالمية، التي تصل قيمتها إلى نحو تريليون دولار. ودفعت هجمات الحوثيين شركات الشحن العالمية إلى تجنّب البحر الأحمر على نحو متزايد، وتحويل مسار سفنها باتجاه طريق رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا.

ذكر المسؤولون الأميركيون أن الغارات التي شنّها التحالف ضدّ الحوثيين في 12 كانون الثاني/يناير أدّت إلى خفض قدراتهم الهجومية بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المئة. حتى لو كان ذلك صحيحًا، من المستبعَد أن تُحدث هذه العملية فرقًا استراتيجيًا في سلوك الحوثيين وقدراتهم، نظرًا إلى أهدافهم السياسية من جهة وإخفائهم الأسلحة المتوسطة والثقيلة في المعسكرات والأنفاق الجبلية من جهة أخرى. وفي خطوة تنمّ عن تحدٍّ، أطلق الحوثيون ما لا يقل عن ثلاثة صواريخ بالستية مضادة للسفن في البحر الأحمر بعد وقت قصير من انتهاء العملية العسكرية، واستهدف الصاروخ الثاني منها مدمِّرة U.S.S. Laboon ولكن تم اعتراضه. بدا واضحًا إذًا أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد استهانوا بالحوثيين.

قد يقول البعض إن التحدّي الذي يطرحه الحوثيون على الملاحة البحرية اليوم هو حصيلة سوء إدارة المجتمع الدولي للصراع اليمني في العام 2018 وسياسات الاسترضاء والاحتواء التي مُنيت بالفشل. فقد فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ذلك العام اتفاقية ستوكهولم على الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، ما منعها من استعادة الحديدة. وأتى ذلك بعد إعلان زعيم حركة أنصار الله عبد الملك الحوثي بأن قواته مُنيت بالهزيمة على أيدي القوات الحكومية في معركتها للسيطرة على الحديدة، ما عنى أن الحوثيين تمكّنوا من انتزاع الانتصار السياسي من براثن الهزيمة العسكرية. وازداد الحوثيون جرأةً بعد ذلك، فانتقلوا من وضعية الدفاع إلى الهجوم، فأحكموا قبضتهم على العاصمة اليمنية صنعاء، وقمعوا المعارضة، وبسطوا سيطرتهم على المزيد من المناطق، وسرعان ما أصبحوا يشكّلون تهديدًا فعليًا على مأرب الغنية بالموارد ومعقل الحكومة اليمنية، وعلى المناطق الساحلية التي تسيطر عليها الحكومة خارج الحديدة.

أتاحت هذه التطورات للحوثيين استخدام العدوان الإسرائيلي على غزة بشكل انتهازي لتحقيق أهدافهم في الداخل والخارج على حدٍّ سواء. داخليًا، أراد الحوثيون عكس مسار تراجع التأييد الشعبي لهم، من خلال التعويل على موقف اليمنيين الداعم للفلسطينيين والمناهِض للتدخل الدولي. فنظرًا إلى تصاعد السخط الشعبي تجاه حكم الحوثيين، كما ظهر من خلال إضرابات معلّمي المدارس الحكومية في آب/أغسطس 2023 احتجاجًا على عدم دفع رواتبهم المتأخرة، فضلًا عن الاحتفالات الشعبية العفوية بذكرى ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 (التي أنهت حكم الإمامة الذي يسعى الحوثيون، بطريقتهم الخاصة، إلى إعادته)، سعت حركة أنصار الله إلى تحويل انتباه الناس نحو مشاغل أخرى. أما خارجيًا، فقد أراد الحوثيون الاضطلاع بدورٍ أكبر ضمن محور المقاومة الموالي لإيران، وتعزيز مكانتهم الإقليمية، واستعراض قوتهم العسكرية.

أعلنت الولايات المتحدة عن إطلاق عملية "حارس الازدهار" في 18 كانون الأول/ ديسمبر، لكنها واجهت صعوبة في تشكيل تحالف. وفي مؤشّر مبكر على التشنّجات القائمة، انضمّت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى التحالف لكن سرعان ما انسحبت منه، لأسباب أُفيد بأنها متعلقة بالقيادة والسيطرة، إضافةً إلى إمكانية وقوع خلاف حول نطاق المهمة وأهدافها. هذا وكانت واشنطن تعتزم تشكيل تحالف عسكري عربي غربي، بيد أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر رفضت المشاركة فيه. ولم يشكّل هذا الأمر مفاجأة نظرًا إلى أن هذه الدول الثلاث لا توافق، وإن بدرجات متفاوتة، على السياسات الإقليمية التي تنتهجها الولايات المتحدة والتي تستند بطبيعتها إلى ردّ الفعل؛ ولا تثق بشكل كبير في الإجراءات الأمنية الأميركية؛ ولا تريد أن يُنظر إليها على أنها تدافع عن إسرائيل. كذلك، ساورت كلًّا من الرياض، التي تشارك في محادثات سلام مع الحوثيين، وأبو ظبي، التي انسحبت إلى حدٍّ كبير من الصراع اليمني، مخاوف إضافية من أن يستأنف الحوثيون مثلًا هجماتهم عبر الحدود على السعودية والإمارات.

فما كان من الولايات المتحدة إلّا أن ارتجلت على عجلٍ تحالفًا ضمّ المملكة المتحدة والبحرين وكندا وهولندا وسيشل والنرويج ودولًا أخرى، وأطلق عملية عسكرية بهدف توفير الحماية الدفاعية لحركة الشحن في البحر الأحمر. وحين رأت واشنطن أن المناورات الدفاعية غير كافية، شكّلت تحالفًا أصغر يتألّف من ست دول، من ضمنها المملكة المتحدة، لتنفيذ عمليات هجومية، فشنّ التحالف عندئذٍ ضربات ضدّ أهدافٍ حوثية في 12 كانون الثاني/يناير. ومنذ ذلك الحين، استهدف التحالف أكثر من 80 موقعًا تابعًا للحوثيين، الذين أعادت الولايات المتحدة إدراجهم على قائمة التنظيمات الإرهابية.

مع ذلك، يواصل الحوثيون هجماتهم من دون رادعٍ على السفن في البحر الأحمر، وقد وسّعوا نطاق هذه العمليات لتشمل خليج عدن، إذ شنّوا أكثر من أربع هجمات بالصواريخ البالستية المضادة للسفن هناك. وعلى الرغم من ادّعائهم بدايةً أنهم يستهدفون حصرًا السفن المملوكة لإسرائيل أو تلك المتّجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، ليس هذا ما حصل دائمًا. فعلى سبيل المثال، استهدف الحوثيون سفينتَي الشحن Unity Explorer وNumber 9، مع أنهما غير مرتبطتَين بإسرائيل ولم تكونا متّجهتَين إليها. ومنذ بداية غارات التحالف، لم تتوقف عمليات الحوثيين العسكرية، بل ازدادت أهدافهم، للمفارقة، إذ أعلنوا أن السفن الأميركية والبريطانية أصبحت الآن أهدافًا مشروعة.

كذلك، من المستبعد جدًّا أن تفضي الضربات الجوية والبحرية إلى إضعاف قدرات الحوثيين بشكل كبير. وتُعدّ الإجراءات التي اتّخذتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة محدودة ورمزية، وثمة تساؤلات حول ما إذا تمّ تحديد أهداف عسكرية عالية القيمة. يُشار إلى أن الحوثيين يتمتّعون بخبرة عقدَين من الزمن من الانخراط في حرب العصابات، ويديرون معسكرات وقواعد لامركزية؛ وهم تكبّدوا خسائر محدودة، وقد يتكبّدون المزيد، لكن الثمن في نظرهم يستحق العناء. وصحيحٌ أن الحوثيين يرغبون في تعزيز موطئ قدمهم في البحر الأحمر، لكنهم يريدون أيضًا إخراج الولايات المتحدة من المنطقة. وهذه رغبةٌ يتشاركونها مع إيران، التي تسعى إلى تعزيز تواجدها في البحر الأحمر، وقد زوّدت الحوثيين بالدعم الاستخباراتي من خلال سفنها في خليج عدن. علاوةً على ذلك، بات باستطاعة الحوثيين الآن تحويل إيديولوجيتهم المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل إلى واقع ملموس.

خلاصة القول إن النهج الذي تتّبعه الولايات المتحدة راهنًا لا يحقّق النجاح، بل قد يصبّ في صالح الحوثيين، وبالتالي إيران. ثمة بديل أفضل يتمثّل في وضع استراتيجية أمنية متعدّدة الأبعاد وطويلة المدى، تربط الأمن البحري بعملية السلام اليمنية. وتتطلّب هذا المقاربة، من جهة، مضاعفة الدعم للحكومة اليمنية كي تتمكّن قواتها من طرد الحوثيين من الحديدة ودفعهم إلى الجبال. وتقتضي، من جهة أخرى، أن تعمَد السعودية، وخاصة عُمان، بعد اكتسابهما بشكل متزايد ثقة الحوثيين، إلى تقديم عروض مُغرية لهم لإنهاء عزلتهم وضمّهم إلى الحضن العربي والدولي.

بغضّ النظر عن مصلحة الدول الإقليمية في خفض وتيرة التصعيد، انتقل الحوثيون من شنّ هجمات عبر الحدود على السعودية والإمارات، إلى تعطيل حركة الشحن في البحر الأحمر، فأصبحوا يشكّلون أيضًا تهديدًا لسلاسل التوريد العالمية، ما يُنذر برفع معدلات التضخم. ومن أجل تخفيف الضغط على جبهة جنوب البحر الأحمر، حيث نُشرت السفن الحربية والغواصات التابعة للتحالف، قد يعمَد الحوثيون إلى توسيع رقعة عملياتهم إلى بحر العرب. وعلى الرغم من أنهم أعلنوا عن نيّتهم وقف الهجمات البحرية إذا غيّرت إسرائيل سياساتها في غزة، قد يستخدمون في المستقبل ذريعةً أخرى لاستئنافها.

تتطلّب هذه الأحداث من الولايات المتحدة وحلفائها رؤية التحدّيات المُحدقة بحرية الملاحة في البحر الأحمر من منظور معالجة جذور الأزمة اليمنية، ومراجعة سياساتها وفقًا لذلك. وإلّا، فسيُمنى النهج الأميركي الراهن بانتكاسات متكرّرة على الأرجح.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.