شهدت الأعوام الأخيرة دينامية سياسية غير مسبوقة في السعودية. فمنذ عام 2002، اتّبعت الحكومة سياسات إصلاحية عدّة. وشملت إجراءاتها الأكثر مواءمةً إصلاح مجلس الشورى وإجراء انتخابات بلديّة وتقنين الفاعلين في المجتمع الأهلي وتطبيق خطط إصلاحية تربوية ومؤسسة مؤتمرات الحوار الوطني. على الرغم من أنّ هذه الإجراءات تبدو أقلّ جوهريّةً عند مقارنتها بالتطوّرات السياسية في بلدان عربية أخرى مثل لبنان ومصر، فهي تشكِّل عناصر انفتاح مهمّة في السياسة السلطويّة السعودية.
في السبعينيات والثمانينيات، كانت السعودية مثالاً واضحاً عن تثبيت السطويّة. كانت أسرة آل سعود المالكة تستخدم عائدات النفط المرتفعة لتعزيز سيطرتها وتوسيع شبكات الولاءات الرعوية عبر البلاد. تضخَّم جهاز الدولة وتضخّم معه دور الأجهزة الأمنية، وسيطرت المؤسّسة الدينية الوهّابية. أحكمت الحكومة قبضتها السلطويّة على المجتمع. وحلّت مكان درجة معيَّنة من التعدّدية متجذِّرة في الهيكليات القبلية للمجتمع السعودي والحكم الخيِّر للملوك الأوائل، دولةٌ قمعيّة ناشئة وأيديولوجيا وهّابية أصولية عدوانية.
حصلت مجموعة من التغييرات كانت بمثابة مؤشّر عن هذا التحوّل من بينها قيام الحكومة بإلغاء الانتخابات البلديّة التي كانت تُجرى بانتظام منذ الستّينيات. ولم تعد الآراء المعارِضة حول المسائل السياسية والاجتماعية والأخلاقيّة مقبولة. وعانت الأقلّيات، لا سيّما الطائفة الشيعية في الأقاليم الشرقية، من تمييز منظَّم وحملات كراهية. أصبحت السياسة السعودية حكراً على الأمراء في الأسرة المالكة ورجال الدين الوهّابيين وحلفائهم في بيروقراطية الدولة.
على الرغم من أنّ عمليّتَي التحديث والتمدّن غيّرتا الخريطة الاجتماعية وخلقتا طبقة وسطى مستقرّة، بقيت المطالبات الشعبيّة بتحقيق إصلاحات ضعيفة. بدا أنّ السعوديّين إمّا يقبلون المنطق الرعوي "لا ضرائب، لا تمثيل" وإمّا يوافقون على التحوّل نحو السياسة المحافِظة الحاصل منذ السبعينيات. والأمثلة الضئيلة عن مجموعات معارِضة تحدّت سلطويّة الأسرة المالكة – مثل سيطرة مجموعة أصوليّة على المسجد الكبير في مكّة عام 1979 وبروز حركة "الصحوة الإسلاميّة" لأوّل مرّة في الثمانينيات – جرى احتواؤها بفاعليّة.
لكن في التسعينيات، بدأ هذا المشهد السياسي يتغيّر قليلاً. ألحقت حرب الخليج عام 1991 أَضراراً بالاقتصاد السعودي، وقوّض وجود القوّات الأميركية في مهد الإسلام شرعيّة الأسرة المالكة. ودفع ارتفاع معدّلات البطالة والفقر المفكّرين والفقهاء الدينيين إلى المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية جوهريّة. والأهمّ من ذلك، رُفِعت "مذكّرة النصيحة" إلى الملك الراحل فهد عام 1991 والتي دعاه فيها نحو خمسين موقِّعاً – فقهاء دينيين – إلى إنشاء مجلس تشريعي واعتماد إجراءات لمكافحة الفساد وتوزيع موارد البلاد بالتساوي بين المواطنين. بعد ردود فعل عنيفة من القوى الأمنيّة ضدّ الموقّعين، أعلن الملك عام 1992 إنشاء مجلس استشاري وطنيّ معيَّن عُرِف ب"مجلس الشورى"، وعرض بالتفصيل خطّة لتعيين مجالس بلدية في كلّ أقاليم المملكة. لكن لم يُمنَح مجلس الشورى ولا المجالس البلديّة صلاحيّات تشريعية أو رقابيّة. وفي النصف الثاني من التسعينيات، طُبِّقت إجراءات إصلاحيّة أخرى محدودة النطاق، لا سيّما على الصعيد الإداري، لتهدئة الاستياء الشعبي المتنامي.
منذ ذلك الوقت، لم تليِّن الأسرة المالكة قبضتها السلطوية. في الواقع، وبحلول نهاية التسعينيات، لجأت الحكومة أمام صعود المجموعات الجهادية العنيفة، إلى أدوات قمعيّة واضحة للتعامل مع الآراء المعارِضة في شكل عام واعتمدت بشدّة على المؤسّسة الدينية للحصول على الشرعيّة في أوساط السكّان. في المقابل، أحكمت الوهّابية الرسمية سيطرتها على ثلاثة محاور في المجتمع: المساجد والمحاكم والمدارس.
عرّضت الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001 المجتمع السعودي للعواقب الكارثيّة المترتِّبة عن سباته الوهّابي السلطوي. كان التأثير الفوري لهجمات 11 سبتمبر/أيلول ممارسة ضغوط دولية متزايدة على الأسرة المالكة بهدف إطلاق إصلاحات جوهريّة لمكافحة الإرهاب والتطرّف. لكنّ الهجمات كانت أيضاً بمثابة محفِّز لنقاشات واسعة النطاق بين النخب السياسية والفكريّة حول "مكمن الخلل" و"ما الذي يجب فعله". فجأةً أعير مزيدٌ من الآذان الصاغية للنداءات الداخليّة المطالبة بالإصلاح. وفي الأعوام الأخيرة، ضخّ هذان العاملان – مطالب الإصلاح الدولية والداخلية – عناصر جديدة من الدينامية والانفتاح في الواقع السياسي السعودي. وولّدا أيضاً حوافز كافية كي تنطلق الحكومة على طريق الإصلاح.
المتاهة السعودية: تقويم الانفتاح السياسي الحالي
شهدت الأعوام الأخيرة دينامية سياسية غير مسبوقة في السعودية. فمنذ عام 2002، اتّبعت الحكومة سياسات إصلاحية عدّة. وشملت إجراءاتها الأكثر مواءمةً إصلاح مجلس الشورى وإجراء انتخابات بلديّة وتقنين الفاعلين في المجتمع الأهلي وتطبيق خطط إصلاحية تربوية ومؤسسة مؤتمرات الحوار الوطني.
نشرت من قبل on ١٥ مارس ٢٠٠٦
Carnegie Endowment