المصدر: تعليق على أحداث
وعلى رغم التعتيم الاعلامي الذي تمارسه السلطات الليبية عبر حجب الأنترنت، وتعقّب الصحافيين، والناشطين السياسيين والحقوقيين الذين يجرؤون على التحدث مع وسائل الإعلام العربية والدولية، فإن الخطاب التهديدي الذي وجهه سيف الإسلام القذافي إلى الشعب الليبي يفيد بما لايدع مجالا للشك أن عهد القذافي قد أوشك على نهايته. فقد أصبحت لهجة التخويف من الحرب الأهلية، ومن الإمارة الإسلامية، ومن الفقر و الحرمان الذي قد يصيب بعض المناطق بسبب التوزيع غير المتكافئ للموارد النفطية على التراب الليبي، بمثابة الورقة الأخيرة التي يسعى القذافي وحاشيته إلى التلويح بها من أجل ردع المنتفضين الذين يطالبون برحيلهما. بيد أن الاحتجاجات انتقلت بعد الخطاب من بنغازي والقبائل الشرقية نحو طرابلس.
صحيح أن السقوط المتوقع لـ"النظام" في ليبيا يأتي بعد حالتي تونس ومصر، إلا إن هناك مجموعة من الخصوصيات تميز الحالة الليبية قد تؤثر بشكل مختلف على مستوى التضحيات المطلوبة لإحقاق التغيير، وعلى تحديات ورهانات مرحلة مابعد اسقاط منظومة القذافي.
أولا، ما يميّز ليبيا على المستوى الاقتصادي هو كونها بلدا بتروليا غنيا، حيث يشكّل النفط مايزيد عن تسعين بالمئة من قيمة الصادرات وثمانين بالمئة من الايرادات الحكومية. وبما أن عدد سكان ليبيا لايتجاوز الستة ملايين نسمة، فإن الثروة البترولية تجعل من ليبيا أغنى دولة افريقية حيث يصل الدخل الفردي إلى مايقارب 15000 دولار مقابل 4000 دولار بالنسبة لتونس وحوالي 2700 دولار فقط بالنسبة لمصر. وتعتبر هذه إشارة قوية إلى أن ايرادات النفط حتى حين يتجاوز سعره عتبة المئة دولار على السوق العالمية، قد لاتكون كافية لوقف رياح التوق إلى التغيير والمطالبة بالحرية والكرامة. وعلى رغم شح المؤشرات الاحصائية التى يمكن الارتكاز عليها إلا أن الزائر لهذا البلد الغني يفاجأ بمستوى المعيشة البدائي والمتقشف لأغلبية الأسر الليبية، وضعف البنيات التحتية، ورداءة الخدمات الاجتماعية.
ثانيا، الضعف الشديد للقطاع الخاص المحلي باستثناء القطاع غير المنظم الذي يعتاش منه عدد كبير من الليبيين ومن العمالة المهاجرة، وغياب أية سياسة للتنويع الاقتصادي على رغم الامكانيات الهائلة التي تتوفر عليها ليبيا لتطوير قطاعي الصناعة والسياحة.
ثالثا، تمركز جميع السلطات في يد القذافي وأفراد عائلته وعشيرته "القذاذفة"، وثمة غياب كامل لأية مؤسسات حقيقية للدولة، أو أحزاب أونقابات أوجمعيات المجتمع المدني. وعلى رغم أن القذافي حاول بكل الوسائل ايهام الليبيين بأنهم يمارسون الديمقراطية المباشرة، وأنهم يديرون شؤونهم بأنفسهم في إطار مايسمى باللجان الشعبية، فإن الليبيين لم تنطل عليهم تلك السخافة واعتبروها وسيلة استعملها القذافي من أجل التهرب من المسؤولية والمحاسبة.
رابعا، الاعتماد على كتائب خاصة بقيادة أبناء القذافي وعلى عناصر من المرتزقة يبدو أنها استقدمت من دول جنوب الصحراء، والتي تستعمل الرصاص الحي بشكل مكثف لمواجهة المتظاهرين، ثم اللجوء إلى قصف المدنيين العزل بواسطة الطائرات الحربية. ونتيجة لذلك تجاوز عدد الضحايا الأرقام التي سجلت في تونس ومصر خلال فترة قصيرة، وتبقى مرشحة إلى الارتفاع في ظل تعنت القذافي، وعدم اكثراته بما يتعرض له شعبه.
خامسا، رغم المواقف الشعبوية المعادية للغرب التي يعلن عنها القذافي من حين لآخر، فإن المصالح الاقتصادية التي تمثلها ليبيا قد تفسر الموقف المتخاذل للولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا تجاه العنف الذي يواجه به المتظاهرون الليبيون العزل. فقد قامت ليبيا بمجهودات هامة خلال السنوات الأخيرة من أجل تحسين بيئة الأعمال واستقطاب الاستثمار الأجنبي ولاسيما في قطاع النفط، مما أدى الى تقاطر المستثمرين الباحثين عن فرص الربح والذين حصلوا على عقود للتنقيب أو استغلال آبار النفط والغاز. وأية مواقف تتضامن مع الشعب الليبي في معركته من أجل الحرية والكرامة من طرف دولة ما قد تؤدي إلى المس بمصالح رجال أعمالها ومستثمريها في ليبيا. ويعد هذا الموقف المتخاذل إشارة قوية إلى الذين كانوا يعتقدون أن الغرب يمكن أن يساعد في عملية الانتقال الديمقراطي.
هذه العوامل الخمسة يمكن أن تجعل من اسقاط العقيد وحاشيته مهمة تستغرق وقتا أطول، وقد تتسبّب في وقوع المزيد من الضحايا المدنيين العزل في ظل التعتيم الاعلامي للسلطة الليبية، والصمت الدولي، والاعتماد على الملشيات والمرتزقة الأجانب. إلا أن التغيير في ليبيا آت لامحالة، وسوف يعزز التغيير الذي حدث في تونس ومصر و يفتح آفاقاً حقيقية للتنمية الاقتصادية في الجزء الشرقي لشمال افريقيا.