لم يسجل التاريخ الحديث للأزمات المالية سابقة اللجوء إلى الودائع المصرفية للمواطنين والمستثمرين الأجانب في بلد ما لسد العجز في المالية العامة وإخراج القطاع العام من عثرته أو لإنقاذ عدد من المصارف والمؤسسات المالية الكبيرة المتعثرة. فاقتطاع نحو أربعة في المئة من الودائع التي تتجاوز 100 ألف يورو في المصارف، وبغض النظر عن مصدر هذه الودائع، وهو ما رفضه البرلمان القبرصي محقاً، يعني مناقلة مالية من حسابات المدخرين إلى حساب الحكومة التي ستحصل على قرض من مجموعة من الدول الأوروبية سيوظف لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار. والمفارقة أن الاتحاد الأوروبي الذي تشهد دول عديدة من أعضائه تعثراً مالياً، لم يلجأ إلى هذا النوع من التعدي على الودائع التي هي ملك للمودعين وليس من حق الدول التعدي عليها تحت أي ذريعة كانت.
هناك حلول أكثر ذكاء من السطو على الودائع، أولها اللجوء إلى خفض العملة، وهو خيار غير متوافر نظراً إلى أن قبرص جزء من الوحدة النقدية فلا تستطيع التحكم بسياستها النقدية. والخيار الثاني هو اللجوء إلى خفض الإنفاق العام وإعادة النظر ببنوده، وهو ما يوصف بالسياسة المالية، أو زيادة الضرائب على بعض النشاطات، وذلك لتعزيز إيرادات الحكومة وتقليص نفقاتها، لكن ذلك أيضاً ليس خياراً متاحاً بسهولة بسبب حال التباطؤ التي يمر بها الاقتصاد القبرصي وضيق القاعدة الإنتاجية، فالاعتماد الأول هو على إيرادات قطاع السياحة بالدرجة الأولى، وهي متراجعة لأسباب عديدة منها الأزمة التي تعصف بكثير من دول أوروبا، أما قطاع الخدمات فسيفقد ميزته التنافسية إن زيدت الضرائب عليه.
لكن خيار التشدد في السياسة المالية هو الخيار الوحيد المتاح، إذا كان لقبرص أن تحافظ على الاستقرار في المدى الطويل.
وبغض النظر عن النتائج التي سيجري التوصل إليها، وشكل حزمة الإنقاذ القبرصية، هناك عدد من الدروس المهمة التي أفضت إليها أزمة الجزيرة المتوسطية الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها نصف مليون شخص وتتميز باستقرار ومقدرات كبيرة.
الدرس الأول مفاده انعدام وجود ما يعرف بالملاذات الضريبية الآمنة، فليس سراً أن قبرص اجتذبت عدداً كبيراً من أموال رجال الأعمال الذين ينحدرون من أصول روسية، بودائع يُقدَّر أنها تجاوزت 30 بليون دولار ووفّرت أريحية كبيرة للجهاز المصرفي القبرصي، فباتت مؤشراته صحية، ولم يُدقَّق بمصادر تلك الودائع، لكن وفرتها دفعت بأسعار الفائدة إلى مستويات متدنية، وشجعت على التوسع في الائتمان في شكل كبير، ودفعت أسعار الأصول خصوصاً العقارات إلى مستويات مرتفعة، كما شجعت على انتشار نمط من الاستهلاك فاق قدرات الأفراد العاديين في ظل نظام مصرفي متشدد أو متحفظ.
الدرس الثاني هو أن دول الاتحاد الأوروبي، تستفيد خلال المراحل الأولى من الانضمام من برامج المساعدات التي تقدمها دول الاتحاد على غرار دول أوروبا الشرقية، لكن المساعدات المخصصة لتطوير البنية التحتية وبناء القدرات المؤسسية وتعزيز تنافسية الاقتصاد وتحريره خلال مراحل لاحقة للتنافس مع الدول المتقدمة، ترتب استحقاقات ليست سهلة، وهناك ثمن سياسي يجب دفعه لتحقيق ذلك. ويحدث ذلك من خلال مرحلة متدرجة تمتد على مدى سنوات، ونجحت دول صغيرة مثل أستونيا في استغلال هذه التحول وتحقيق نجاحات واجتذبت عدداً من المصانع الكبرى، لكن قبرص بسبب سلوك صناع القرار واللجوء إلى سياسات شعوبية أجلت كل القرارات العميقة المتعلقة بإعادة هيكلة القطاع العام واكتفت بقرارات سهلة، وسمح «المال السهل» من المصارف المتخمة بالودائع الروسية بالاستمرار في نمط إنتاجي - استهلاكي كما كان سائداً قبل الانضمام إلى الوحدة النقدية. وكل هذا يعني أن الساسة القبارصة لم يقدروا حق تقدير معاني الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وما يجب تغييره داخلياً لزيادة تنافسية الاقتصاد وإنتاجيته.
الدرس الثالث والذي له استحقاقات عربية، يتعلق بالتعدي على الودائع، فحتى الآن المصارف القبرصية مغلقة، وباتت مدخرات المودعين رهينة لدى الدولة، وهذه سابقة فريدة من نوعها وفق المصرفي العربي إبراهيم دبدوب الذي أكد أن سلوك الحكومة القبرصية ستكون له تداعيات، وسيعيد كثيرون النظر في الاتفاقات المتعلقة بالإيداع ومكان الإيداع، فما يحصل في قبرص يهدد بأن الحكومة في وقت الأزمات قد تشارك المودعين أموالهم.
ومهما يكن من أمر، واضح أن آليات الإنقاذ التي يجري تطويرها تلجأ إلى الحلول المالية ولا تسعى إلى البحث عن جذور الأزمة وما الذي تسبب بها، وما الذي دفع بالمسؤولين الماليين إلى التصرف بهذه الطريقة، وكيف سيجري كبحها في المستقبل، الأهم، من سيدفع ثمن ذلك السلوك الواضح أنه لم يستفد شيئاً من دروس الأزمة اليونانية.
على الأرجح ستظهر أوروبا تشدداً بهدف جلب قبرص إلى الحظيرة الأوروبية وإجبارها على اتخاذ القرار الحاسم: البقاء في النادي الأوروبي وتنفيذ الاستحقاقات المترتبة على ذلك، أو البقاء خارج ذلك النادي مع كل ما يعينه ذلك لتوجهات قبرص التي يبدو أنها تنتظر معجزة الغاز كي تستعيد توازنها المفقود بسبب سلوك الساسة الذين اعتقدوا أن العضوية النقدية تعني استمرار العمل كما في السابق، وهذا الافتراض بات خارج البدائل المتاحة.