المصدر: Getty

قبضة قيس سعيّد على تونس تكبّدها ثمنًا باهظًا

إن الإنفاق الاجتماعي المفرط في تونس يفتقر إلى الإنصاف والفاعلية، الأمر الذي يفاقم مشاكلها المالية. مع ذلك، سمح هذا الإنفاق المرتفع لنظام قيس سعيّد بكسب الوقت إلى حين إجراء الانتخابات، وتفادي وقوع أزمة وشيكة. أما الآن، فيهدّد الاستمرار في هذا النهج بدخول البلاد في حلقة مفرغة قد تزعزع الاستقرار الاجتماعي.

نشرت في ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٤

مقدّمة

في أعقاب مظاهرات الربيع العربي في العام 2011، لم تتمكّن الحكومات المتعاقبة في تونس من معالجة المشاكل الاقتصادية الراسخة، ما أطلق موجةً من الشعبوية بلغت ذروتها عند استيلاء الرئيس قيس سعيّد على السلطة في 25 تموز/يوليو 2021. ومنذ تسلّم سعيّد سدة الحكم، أعطى الأولوية إلى تركيز الصلاحيات في شخص الرئيس، وإعادة بناء النظام السياسي لزيادة مركزية السلطة، وإضعاف الضوابط والتوازنات، وقمع المعارضة. وبدلًا من معالجة التحديات الاقتصادية، اعتمد سعيّد سياسة مالية توسعية أدّت إلى ارتفاع متوسّط العجز المالي ليبلغ نحو 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الثلاث الماضية، وسط ركود النمو الاقتصادي. وفي العام 2023، سجّلت البلاد ثاني أدنى مستوياتٍ من النمو الاقتصادي منذ العام 2015، عند 0.4 في المئة، بعد أن شهدت معدّل النمو الأدنى على الإطلاق في العام 2020، أي السنة الأولى من تفشّي وباء كوفيد-19. غالب الظن أن يستمرّ هذا المنحى من الأداء الاقتصادي الضعيف خلال الفترة المتبقّية من العام 2024، إذ توقّع صندوق النقد الدولي ألّا يزيد النمو عن حدود 1.6 في المئة.

في العام 2023، حدثت قطيعة مع صندوق النقد الدولي بسبب موقف سعيّد المناهض للمؤسسات المالية الدولية، ما أدّى إلى خسارة تونس كل مصادر تمويلها التقليدية تقريبًا. واختار سعيّد تمويل العجز المالي بالاعتماد على الاقتراض من القطاع المصرفي ومن البنك المركزي، فشهدت البلاد ارتفاعًا قياسيًا في معدّل التضخم وصل إلى 9.3 في المئة ذلك العام. وفي ظلّ غياب الإصلاحات الهيكلية، إضافةً إلى الإنفاق الزائد، وقعت تونس منذ العام 2021 في شرك السياسات غير المستدامة على صعيد الاقتصاد الكلّي. وأسفرت القرارات الاقتصادية المُرتجَلة التي اتّخذها سعيّد، والقائمة على رفض الإصلاحات والاعتماد الشديد على الاستدانة المحلية (نظرًا إلى ندرة مصادر الدين الخارجي)، عن التضحية باستثمارات مُنتِجة لصالح الحفاظ على الوضع الراهن المُكلِف. في غضون ذلك، تراجع حجم الاستثمارات باطّراد منذ العام 2011، ولم يتعافَ بعد من صدمة وباء كورونا، إذ تدنّى من 26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2011 إلى 14 في المئة في العام 2023، وسجّل انخفاضًا قياسيًا في العام 2020 بلغ 13 في المئة، ما أفضى إلى عواقب وخيمة، مثل انتشار البطالة والفقر. فقد ارتفعت معدّلات البطالة بشكل حادّ، لتصل إلى 39 في المئة في صفوف الشباب، و24 في المئة في صفوف خرّيجي الجامعات في العام 2023. هذا وتعيش نسبة 17 في المئة من السكان تحت خط الفقر، وتطال براثنه 37 في المئة من سكان إقليم الوسط الغربي نظرًا إلى التفاوت الاجتماعي والتنموي بين المناطق.

ركّزت شعبوية سعيّد، التي تصاعدت بعد استيلائه على السلطة في العام 2021، بشكلٍ أساسي على ضمان إعادة انتخابه لولاية ثانية، ونجح في تحقيق هذا الهدف في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، عبر التلاعب بالقانون الانتخابي وقمع المعارضة، بحسب ما ذكرت بعض التقارير. مع ذلك، تظلّ استدامة استراتيجية النظام موضع شكٍّ كبير. فقد ثَبُت أن هذا النوع من الشعبوية مدمّرٌ اقتصاديًا وينمّ عن قصر نظرٍ سياسي، لأنه قوّض أُسس الاقتصاد التونسي وألحق أضرارًا اجتماعية بالفئات الأكثر احتياجًا: أي الفقراء، والشباب العاطلون عن العمل، والأشخاص العاملون بعقود مؤقّتة ويفتقرون بالتالي إلى الأمان الوظيفي.

وعلى الرغم من ادّعاء سعيّد بأنه يتصرّف نيابةً عن الفقراء، صبّت سياساته الاقتصادية بشكل أساسي في صالح ميسوري الحال. وقوّضت استراتيجية الاستدانة التي اتّبعها عملية استحداث فرص العمل وفاقمت التضخّم، ما أثّر بشكلٍ غير متكافئ على الفقراء الذين يخصّصون حصة كبيرة من ميزانية الأسرة لتأمين الحاجات الأساسية. صحيحٌ أن هدف سعيّد من الإنفاق الاجتماعي المرتفع كان الحفاظ على القدرة الشرائية لأبناء الطبقتَين الوسطى والفقيرة، إلّا أن نظام الدعم الشامل ليس الحلّ الشافي. فهو مُكلِفٌ ماليًا، وغير فعّالٍ اقتصاديًا – لأنه يشجّع على الاستهلاك المُفرَط - وغير منصف اجتماعيًا، لأنه يفيد الأغنياء أكثر من الفقراء. لذا، يكمن الحلّ الأفضل في استبدال نظام الدعم الشامل بشبكة أمان واسعة وموجّهة، تركّز على الفئات المحتاجة. قد يضرّ رفع الدعم بالعائلات ذات الدخل المتوسط على المدى القصير، لكن الإبقاء على نظام الدعم من دون إصلاحه يهدّد بدفع جميع السكان إلى براثن الفقر. ومن المخاوف الرئيسة التي تساور الطبقة الوسطى هي ندرة فرص العمل، وتردّي جودة الخدمات العامة التي تتعرّض إلى الخصخصة على نحو متزايد وترتفع تكلفتها. ونتيجةً لذلك، أصبحت الطبقة الوسطى مضطرّة إلى سداد تكاليف التعليم والرعاية الصحية والنقل، في حين أن الفقراء يعانون من نقص التمويل في المدارس، وسوء تجهيز المستشفيات، وتداعي شبكات النقل أو غيابها. حافظت تونس على هذه السياسات غير السليمة وذات النتائج العكسية من خلال اعتماد إجراءات مُرتجَلة ومؤقّتة هدفت إلى المماطلة وكسب الوقت إلى حين إجراء الانتخابات، وساعدت في تفادي حدوث أزمة وشيكة. لكن الاستمرار في هذا النهج لفترة مطوّلة قد يُدخل تونس في حلقة مُفرَغة من شأنها زعزعة الاستقرار الاجتماعي.

نفقات اجتماعية كبيرة، لكن غير عادلة وغير فعّالة

منذ العام 2021، شهدت الحصة المخصّصة للإنفاق الاجتماعي – أي التحويلات المالية والدعم – من ميزانية الدولة التونسية ارتفاعًا، واستُخدمت كشبكة أمان للتخفيف من حدّة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد. فقد بلغت نسبة التحويلات المالية والدعم 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2023، لتكون تونس من بين الدول الأعلى إنفاقًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ذلك العام. هذا المنحى ليس جديدًا، إذ سلكت النفقات الاجتماعية في تونس بصورة تدريجية مسارًا تصاعديًا منذ العام 2011، وارتفعت نسبتها من 2.4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في العام 2010 إلى 6 و12 في المئة في العامَين 2018 و2023 على التوالي. وتشمل السلع التي يغطّيها الدعم بشكل أساسي المنتجات البترولية والكهرباء والغاز والحبوب. وبلغت نسبة التحويلات – أي التحويلات المالية الاجتماعية والتمويل المخصّص للشركات المملوكة للدولة على السواء – حوالى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. يُشار إلى أن معظم الخسائر التي تكبّدتها الشركات المملوكة للدولة، والتي تطلّبت تغطيتها تحويلاتٍ مالية، كانت مرتبطة بالشركة التونسية للكهرباء والغاز، والشركة التونسية لصناعات التكرير، وديوان الحبوب. وهدفت هذه الزيادة الكبيرة في الدعم أساسًا إلى التخفيف من حدّة التداعيات الناجمة عن الارتفاع العالمي في أسعار الموادّ الغذائية والوقود عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022. لكن هذا المنحى استمرّ خلال العام 2024، مع رفض سعيّد إدخال أي إصلاحات إلى نظام الدعم، متذرّعًا بالحاجة إلى الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين. وهكذا، بقيت نسبة التحويلات المالية والدعم مرتفعة، ويُقدَّر أنها بلغت 11.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024

إن قرار الحكومة التونسية القاضي بالحفاظ على الإنفاق الاجتماعي المرتفع وتجنّب إجراء إصلاحات في نظام الدعم الشامل أو في الشركات المملوكة للدولة المسؤولة عن استيراد الوقود والمنتجات الغذائية الأساسية، ينبع من استراتيجيةٍ لإدارة الديون تستند إلى الإيديولوجيا الشعبوية من جهة، والحسابات السياسية من جهة أخرى. فقد أدّى رفض سعيّد إبرام اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي إلى مفاقمة شحّ التمويل الخارجي، الأمر الذي أرغم تونس على الاعتماد بشكل متزايد على قطاعها المالي المحلي، بما في ذلك البنك المركزي، من أجل تغطية عجز ميزانيتها. لكن تنامي العجز نتيجة إصرار الرئيس على إبقاء الإنفاق الاجتماعي مرتفعًا أدخل البلاد في حلقة مفرغة تتكوّن من عوامل عدّة، هي: تعاظم العجز المالي، ومزاحمة تمويل القطاع الخاص، وضغوط تضخّمية، وانخفاض معدّل الاستهلاك بسبب التضخّم، وتراجع حجم الاستثمارات، ونقص فرص العمل وتدهور الظروف الاجتماعية، وتصاعد السخط الشعبي الذي يسعى النظام إلى تهدئته من خلال الإنفاق الاجتماعي المرتفع، ما يفاقم العجز المالي أكثر فأكثر.

إذًا، أحجمت حكومة سعيّد عن إدخال إصلاحات على نظام الدعم وحافظت بالتالي على ثبات أسعار المنتجات الغذائية الأساسية في محاولةٍ منها لاحتواء مشاعر الغضب المُحتملة في أوساط الفقراء والطبقة الوسطى، ولا سيما الفئة التي تعتمد على الدولة وتضمّ حوالى 645 ألف منتسب إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، يمثّلون ما نسبته 7.4 في المئة من السكان الذين هم في سنّ العمل. وفي أعقاب الإضراب الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل في جميع أنحاء البلاد في العام 2022، وقّعت الحكومة والاتحاد العام اتفاقًا لزيادة أجور أعوان الوظيفة العمومية بواقع 3.5 في المئة فقط خلال السنوات الثلاث المقبلة (من 2023 إلى 2025). لكن باتت هذه الزيادة راهنًا أدنى من معدّل التضخم، ما يُضعف القدرة الشرائية للعمّال والموظّفين.

وبدلًا من استخدام الرصيد السياسي لإدخال إصلاحات جريئة إلى نظام الدعم، لجأت السلطات منذ العام 2022 إلى التقنين وترشيد التوريد لخفض النفقات على الدعم، ما أدّى إلى نقص توافر الموادّ الغذائية. صحيحٌ أن مثل هذا الترشيد قد يكون مقبولًا من الناحية الاجتماعية على المدى القصير، بحيث قوبلت الاعتراضات الشعبية بالقمع، إلّا أنه ليس مستدامًا على المدى الطويل. بل يكمن الحلّ الأفضل في استبدال نظام الدعم الشامل بشبكة أمان اجتماعي واسعة ومحدّدة الأهداف. لكن من الصعب تطبيق هذا الحلّ على المستوى السياسي، ولو تمّ البدء في تنفيذه قبل انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2024 لكان قوّض آمال سعيّد بإعادة انتخابه لولاية ثانية. يتطلّب مثل هذا الإصلاح توجيه المساعدات إلى الأُسر بناءً على دخلها، ووضع عتبات أو معايير لتحديد أهلية تلّقي الإعانات والتحويلات النقدية قبل رفع الأسعار تدريجيًا، وهذا الأمر قد يثير استياءً في أوساط الفئات المُستثناة. أدّت المحاولات السابقة لإلغاء الدعم إلى اندلاع مظاهرات في جميع أنحاء البلاد في العام 1978، وأيضًا في العام 1983. وبدلًا من أن يحاول سعيّد تطبيق إصلاحات مُجدية، اختار إبقاء الوضع القائم على حاله.

نظرًا إلى الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، التي تشهد تدنّي معدّلات النمو وانتشار البطالة، حافظت الحكومة على مستويات مرتفعة من الإنفاق على أنظمة الحماية الاجتماعية. مع ذلك، باتت شبكات الأمان هذه أقل فاعليةً في حماية التونسيين، كما بدا واضحًا من تنامي مشاعر الاستياء بسبب تدهور الخدمات العامة، وخصوصًا في قطاعَي التعليم والرعاية الصحية، اللذَين أصبحا مُكلفَين جدًّا للطبقة الوسطى. علاوةً على ذلك، لا يزال نطاق الحماية الاجتماعية محدودًا، إذ يعجز عن توفير التغطية الكافية للفئات السكانية الفقيرة التي تزداد عددًا.

تتألّف منظومة الحماية الاجتماعية في تونس من مكوّنَين أساسيَّين: برامج الضمان الاجتماعي الخاصة بالموظفين والعاملين في القطاعَين العام والخاص الذين يشكّلون معظم المنتمين إلى الطبقة الوسطى، وبرنامج المساعدات الاجتماعية المخصّص لإعانة الفئات السكانية الفقيرة، ويُعرَف باسم برنامج الأمان الاجتماعي.1 وبحسب آخر التقديرات في العام 2020، بلغت النفقات على الحماية الاجتماعية في تونس أكثر من 7.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أعلى من المتوسط المسجّل في العالم العربي (وهو 4.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي). وتضمّ هذه المنظومة صناديق الضمان الاجتماعي لموظفي القطاعَين العام والخاص (باستثناء المساعدات الصحية) والتحويلات النقدية للفئات الفقيرة. وعلى الرغم من التداعيات التي خلّفها تفشّي وباء كورونا واستمرار حالة الركود الاقتصادي، بقيت التحويلات النقدية للفئات الفقيرة مستقرة نسبيًا عند نحو 0.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا منذ العام 2018. يشير هذا الواقع إلى أن الموارد التي تخصّصها الدولة لمساعدة الفئات السكانية الفقيرة والمحتاجة لم ترتفع، على الرغم من تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

يمكن تحسين شبكات الأمان الاجتماعي في تونس من خلال توسيع نطاق تغطية البرامج وتوجيه الإعانات إلى الفئات السكانية الأكثر احتياجًا على نحو أفضل. في الوقت الراهن، يغطي برنامج الأمان الاجتماعي، الذي يقدّم التحويلات النقدية والرعاية الصحية المجانية أو بالتعريفة المنخفضة إلى الفقراء، 30 في المئة من التونسيين. ويوفّر كذلك تحويلاتٍ نقدية شهرية وخدمات طبية مجانية إلى 333 ألف أسرة فقيرة (ما يُعادل أكثر من 10 في المئة من سكان تونس)، بفضل الدعم المالي الذي يحصل عليه من الشركاء الدوليين. وأدّى تفشّي فيروس كورونا إلى ارتفاع عدد الأُسر التي تحصل على المساعدات بشكل كبير من حوالى 260 ألف أسرة في العام 2019 إلى نحو 310 آلاف أسرة في العام 2023. وازدادت قيمة التحويلات النقدية من 180 دينارًا (60 دولارًا) في العام 2020 إلى 200 دينار (65 دولارًا) في العام 2022، حتى وصلت إلى 220 دينارًا (73 دولارًا) في العام 2023، وبلغت أخيرًا 240 دينارًا (80 دولارًا) في العام 2024. مع ذلك، نظرًا إلى ارتفاع معدّل التضخم وتدهور الأوضاع الاقتصادية، لا يزال تأثير زيادة التحويلات النقدية موضعَ تساؤل، ما يثير شكوكًا حول مدى فاعليتها في خفض معدّل الفقر بصورة مستدامة على المدى الطويل.

صحيحٌ أن برنامج الأمان الاجتماعي يوفّر الرعاية الصحية المجانية للفئات السكانية الأكثر احتياجًا، والخدمات الطبية بالتعريفة المنخفضة لنحو 620 ألف أسرة أخرى من ذوي الدخل المنخفض، إلّا أنه لا يستطيع ضمان جودة الرعاية الصحية المُقدَّمة بسبب تدهور القطاع الطبي ونقص الأدوية وتسارع وتيرة الخصخصة. لقد سلّط الأداء الضعيف لنظام الرعاية الصحية في تونس خلال تفشّي وباء كورونا الضوء على مدى تقهقر هذا القطاع منذ فترة طويلة. فقد شهدت البنية التحتية للرعاية الصحية العمومية في تونس ركودًا منذ العام 2011، على الرغم من النمو السكاني وتفاقم الفقر، بينما ارتفع عدد المرافق الصحية الخاصة بنسبة 28 في المئة بين العامَين 2010 و2018. وكان الإنفاق العمومي على الصحة قد تراجع قُبيل تفشّي وباء كورونا من 7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2018 إلى 5 في المئة فقط في العام 2019. وخلال السنوات القليلة الماضية، تفاقم هذا التدهور في قطاع الرعاية الصحية العمومي نتيجةً للنقص الفادح في الاستثمار في هذا القطاع، الأمر الذي أثّر سلبًا بالدرجة الأولى على الفئات السكانية الفقيرة.

لا يُعالج الإنفاق الاجتماعي المرتفع مشاكل تونس الهيكلية، بل يعمَد إلى كسب الوقت ليس إلّا. في غضون ذلك، تتزايد باطّراد أعداد السكان المعوزين، فيما يتسبّب غياب الاستثمارات بتسريع وتيرة تردّي الخدمات العمومية، ما يسفر عن عواقب اجتماعية كارثية. ويُعدّ الخمول في أوساط الشباب مشكلة كبيرة في تونس بسبب انتشار البطالة والتسرّب المبكر من الدراسة ونقص مرافق التدريب المهني. فالشباب غير العاملين وغير الملتحقين بالتعليم أو التدريب يشكّلون نسبة كبيرة من القوة العاملة المُحتمَلة في تونس. وقد كشفت دراسة صدرت مؤخرًا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن أكثر من ربع الشباب التونسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا يقعون خارج دائرة التعليم والعمل والتدريب. ويسلّط هذا الواقع الضوء على البطالة الهيكلية في تونس وعجز البلاد عن إدماج الأجيال الشابة في سوق العمل، إذ يجري إقصاؤها في الكثير من الأحيان من الاقتصاد ومن برامج الحماية الاجتماعية. ويكشف أيضًا عن عدم فاعلية الإنفاق الاجتماعي في ظلّ غياب الاستثمارات وفرص العمل.

كيف تعمَد الشعبوية إلى كسب الوقت

انطبعت عملية صنع السياسات في عهد سعيّد بالميل إلى اتّخاذ إجراءات مُرتجَلة وقصيرة الأمد. ونظرًا إلى الموارد المالية المحدودة والمخاوف من وقوع اضطرابات اجتماعية، لجأ سعيّد إلى تكتيكات ثلاثة هي: تقييد الواردات للإبقاء على احتياطيات البنك المركزي، واعتماد نهج العصا والجزرة للحفاظ على إذعان الشرائح السكانية المعرّضة للتأثّر اقتصاديًا، وتفادي تضخّم فاتورة الأجور، وبناء شبكات الزبائنية للحصول على دعم الفئات الفقيرة. تندرج هذه التكتيكات في إطار الشعبوية التي تركّز على كسب الوقت وضمان بقاء النظام، بدلًا من السعي إلى تطبيق إصلاحاتٍ هادفة.

منذ العام 2022، عمَدت الحكومة إلى تقييد واردات الموادّ الأساسية التي تحتكر الدولة استيرادها، بسبب افتقارها إلى العملات الأجنبية اللازمة لشراء هذه المنتجات. وقد أدّى هذا الانخفاض في استيراد الموادّ الغذائية الأساسية إلى نقص متكرّر في المنتجات المدعومة مثل السميد، والدقيق، وزيت الطهي، والأرزّ، والسكر، فبات من الصعب التعويض عن تردّي الموسمَين الزراعيَّين في العامَين 2022 و2023 من خلال زيادة الواردات. في الواقع، تراجع محصول الحبوب في تونس بمقدار الثلثَين خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2023 بسبب الجفاف، ولم يتمكّن ديوان الحبوب من زيادة الواردات بالقدر الكافي للتعويض عن هذه الخسارة. لكن على الرغم من تراجع العجز في الميزان التجاري في العام 2024، استمرّ نقص السلع والموادّ الأساسية في السوق التونسية. وخلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2024، سجّلت قيمة الصادرات الغذائية ارتفاعًا بنسبة 35.4 في المئة، مدفوعةً في المقام الأول بزيادة عائدات تونس من صادرات زيت الزيتون المُقدّرة بنحو 62 في المئة تقريبًا. في المقابل، تراجعت قيمة الواردات الغذائية بنسبة 11.1 في المئة، ويُعزى ذلك بشكلٍ كبير إلى خفض واردات السكر (بنسبة 39.6 في المئة) والحبوب (بنسبة 19 في المئة). وينطبق ذلك بوجهٍ خاص على المنتجات التي توزّعها الشركات المملوكة للدولة. ونظرًا إلى أن هذه الشركات كانت مُثقَلة أصلًا بالديون ولم تحصل على تحويلاتٍ كافية من الميزانية، لم تتمكّن من زيادة مشترياتها الخارجية.

أسفر هذا الشحّ في الموادّ الأولية عن نتيجتَين بارزتَين. أولًا، أدّى إلى تنامي نشاط السوق السوداء، ولا سيما لبيع موادّ مثل السكر والسميد. هذا ويضطّر السكان الأكثر فقرًا إلى الوقوف في طوابير لسعاتٍ طويلة أمام متاجر البيع بالتجزئة (أو السوبرماركت) في الأيام المخصّصة لتوزيع الموادّ عليها من أجل شراء السكر، الذي يجري بيعه لاحقًا بسعرٍ أعلى في السوق السوداء. وقد أصبحت هذه الطوابير الطويلة خارج المتاجر مشهدًا معتادًا. وثانيًا، أفضى النقص الحادّ في المواد الأساسية إلى زيادة حركة التجارة غير الشرعية عبر الحدود مع الجزائر. وبات آلاف التونسيين اليوم يتوجّهون إلى السوق الجزائرية للتبضّع وشراء مؤونتهم من الموادّ الغذائية وغيرها، بموازاة اتّساع شبكات التجارة غير الرسمية بين البلدَين. واستجابةً للطلب المتزايد، شهدت المناطق الحدودية الجزائرية فتح متاجر سوبرماركت جديدة. وفي المقابل، بدأت السلطات الجزائرية أيضًا باتّخاذ إجراءات صارمة لمكافحة تجارة الموادّ المدعومة القائمة على شبكات غير رسمية واسعة النطاق.

مثل هذا النقص في الموادّ الاستهلاكية الأساسية ليس مستدامًا من الناحيتَين الاجتماعية والسياسية. وقد رفض سعيّد تحمّل المسؤولية السياسية عن ذلك، بل اعتمد اعتمادًا شديدًا على استحضار نظريات المؤامرة، مُلقيًا اللوم على "المضاربين" على الأسعار، ومُستخدمًا نظريات المؤامرة كشكلٍ من أشكال "إيديولوجيا التبرير" للتهرّب من المساءلة.

في ظلّ غياب الإدارة الاقتصادية المتّسقة، لجأ سعيّد إلى تكتيك العصا والجزرة للجم السخط المتنامي في أوساط الفئات السكانية الأكثر احتياجًا. إن حالة المعلّمين النوّاب أو المعوّضين (المتعاقدين) الذين يطالبون منذ سنوات بتوظيفهم بعقودٍ دائمة في قطاع الوظيفة العمومية، تسلّط الضوء على العواقب الاجتماعية الناجمة عن استراتيجية الاستدانة التي يتّبعها النظام. وكشفت احتجاجات المعلّمين النوّاب عن وعود سعيّد غير المُحقَّقة بإصلاح قوانين العمل وإنهاء عقود التشغيل الهشّة والقصيرة الأجل. يمثّل هؤلاء المعلّمون، الذين يتراوح عددهم بين 12 ألفًا و17 ألفًا، نحو 10 في المئة من القوة العاملة في التعليم في تونس، لكنهم يتقاضون أقلّ من نصف رواتب المعلّمين العاديين، ويتلقّونها على امتداد تسعة أشهر فقط، في ظلّ حرمانهم من الحق في التغطية الاجتماعية الكاملة. لجأت وزارة التربية منذ أكثر من عقدٍ من الزمن إلى التشغيل الهشّ بسبب قيود الميزانية وضعف التمويل، إذ تدّعي أن نسبة 97 في المئة من ميزانيتها تُصرَف للأجور. وقد كان اللجوء إلى المعلّمين النوّاب ذوي الأجور المتدنية والوضع الوظيفي الهشّ، ولا سيما في المناطق التي تعاني من التهميش، ممارسةً متّبعة منذ عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، واتّسع نطاقها بعد الإطاحة به في العام 2011. وكان الهدف من هذا التشغيل الهشّ في القطاع التعليمي تهدئة الغضب الاجتماعي في أوساط خرّيجي الجامعات العاطلين عن العمل وسدّ النقص في الكوادر التعليمية، لكن من دون توفير الأمان الوظيفي.

على الرغم من الوعود الكثيرة التي قطعها سعيّد بوضع حدٍّ لنظام العمل بعقودٍ مؤقتة، لم تُعرَض أي عقود طويلة الأمد على المعلّمين. لقد أخّرت الحكومة مرة أخرى انتداب معلّمين نوّاب لغاية العام 2025، وأعلنت في مشروع ميزانية الدولة للعام 2025 عن اعتزامها تعيين 7,592 معلّمًا، لكنها لم تقدّم أي خطط واضحة حول الميزانية أو توقعات نموٍّ موثوقة. وفيما قدّرت الحكومة أن تسجّل تونس نموًا بنسبة 3.2 في المئة، توقّع صندوق النقد الدولي مؤخرًا أن تحقّق نموًا في حدود 1.6 في المئة فقط خلال العام 2025. مع أن الحكومة تعتزم زيادة الإنفاق في العام 2025، رفضت بشكلٍ حاسم الاتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج إنقاذ مالي، ما يعني أنها لن تتمكّن من تلبية حاجاتها التمويلية. ويبدو أن الوعود التي قُطعت للمعلّمين النوّاب ستبقى مجدّدًا حبرًا على ورق.

حاول سعيّد، منذ استيلائه على السلطة، إبقاء الإنفاق الاجتماعي مرتفعًا والحؤول دون تضخّم فاتورة الأجور. لقد بلغت فاتورة أجور الوظيفة العمومية، قبل انقلاب سعيّد على الدستور في العام 2021، مستوى مرتفعًا عند 16.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2020، قبل أن تستقر عند نحو 14.5 في المئة خلال العامَين 2022 و2023، لتنخفض بعدئذٍ إلى 13.6 في المئة في العام 2024. هذا وأطلق سعيّد في العام 2023 حملة لمراجعة التعيينات التي حصلت في الوظيفة العمومية خلال العقد الفائت، آملًا أن تؤدي إلى تسريح عددٍ كبير من موظّفي القطاع العام وإلى شغورٍ في الوظائف. مع ذلك، فشلت الحملة في تحقيق أهدافها بعد أشهر، فلم يبقَ أمام الرئيس من خيارٍ سوى تجاهل مطالب المعلّمين النوّاب.

سعيًا للحفاظ على قاعدة دعمٍ في أوساط الفئات السكانية الفقيرة، لجأ سعيّد إلى شبكات الزبائنية من خلال الترويج لما يُعرَف بالشركات الأهلية المُموَّلة من الدولة وخاضعة لسيطرتها، وتصويرها على أنها حلٌّ لمشكلة البطالة. يتولّى ولاة المناطق مهمة الإشراف على هذه الجمعيات التعاونية التي توفّر لها المصارف المملوكة للدولة الدعم التمويلي. عبّر الفقراء في المناطق الريفية عن أملهم بأن يحقّق هذا النظام فوائد ملموسة، ولا سيما أن الشركات الأهلية أُنشئت في قطاعاتٍ مثل النقل والخدمات، لكن هذه المشاريع فشلت عمومًا في تحقيق الأرباح. وقد طالبت المجتمعات الريفية مرارًا بتسهيل الوصول إلى الأراضي المملوكة للدولة، بيد أن المقاربة التي انتهجها سعيّد لم تعالج هذه القضية المهمة. فسياساته لم تحمل إجاباتٍ واضحة حول مسائل مهمة متعلّقة بملكية الأراضي ووجهات استخدامها مثلًا. وثبُت لغاية الآن أن هذه الشركات غير فعّالة اقتصاديًا، على الرغم من أنها تشكّل محاولةً لاحتواء الغضب الشعبي في أوساط الفقراء من خلال إنشاء شبكات محسوبيات والحفاظ على قاعدة الدعم السياسية لسعيّد. وبعد إعادة انتخابه لولاية ثانية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، من المرجّح أن تزداد انتظارات هذه القاعدة الداعمة له، وخصوصًا حيال مسألة الوصول إلى الأراضي، ما قد يُدخلها في صدامٍ مع المصالح الراسخة ضمن بيروقراطية الدولة والقطاع الخاص.

خاتمة

قد لا يعكس فوز سعيّد بولاية ثانية، بعد حصوله على 90 في المئة من الأصوات، رضا التونسيين عن قيادته على المدى الطويل. فنسبة الإقبال المتدنية على التصويت (28 في المئة) ومشاركة الشباب الضئيلة في الاقتراع (6 في المئة للفئة العمرية التي تتراوح بين 18 و35 سنة) تسلّطان الضوء على مشاعر السخط واليأس السائدة في أوساطهم. وإذ أُصيب كثرٌ من التونسيين في العام 2019 بخيبة أملٍ من الديمقراطية التي مهّدت الطريق أمام تصاعد الشعبوية، أظهر انخفاض نسبة الإقبال على التصويت أن استراتيجية سعيّد المتمثّلة في الحفاظ على الوضع القائم وكسب الوقت لم تنجح في توسيع القاعدة الداعمة له.

مع احتدام الأزمة المالية، سيواجه سعيّد لحظة الحقيقة في العام 2025 وسط تحديات اجتماعية واقتصادية جمّة. وسيتعيّن على تونس تلبية حاجاتها الملحّة إلى التمويل وتطبيق الإصلاحات الضرورية للخروج من حلقة الإنفاق المرتفع، والمديونية، والركود الاقتصادي. لكن هذه الإصلاحات ستقتضي من سعيّد وضع رصيده السياسي على المحك. ومثلما أدّى تدهور الأحوال الاقتصادية إلى تعثّر عملية الانتقال الديمقراطي في العام 2021، قد تفضي التداعيات الاجتماعية للشعبوية إلى إغراق تونس في الاضطرابات نتيجةً للركود الاقتصادي، ومعدّلات التضخم المتنامية، والمخاطر المُحدِقة المرتبطة بانخفاض قيمة الدينار. حتى الآن، يبدو أن التونسيين يحاولون تدبّر أمورهم وسط الأزمة، ويختارون في الكثير من الأحيان الهجرة بدلًا من الاحتجاج. لذا، لا بدّ من الانتظار لرؤية كيف سيتعاملون مع التحديات الكثيرة في المستقبل، بعد أن أضنتهم الآمال المُبدَّدة. 

هوامش

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.