المصدر: Getty

تهدئة من دون أفق سياسي: لماذا تفشل الاستراتيجية الإسرائيلية في السيطرة على الفلسطينيين

تواجه منظومة السيطرة الإسرائيلية معارضة فلسطينية قوية، لكن جميع السيناريوهات المتاحة للخروج من هذا الوضع ستفاقم الأمور بالنسبة للإسرائيليين، إلا إذا فكروا في الخيار الوحيد الذي من شأنه تحقيق مطالب الفلسطينيين في المدى الطويل، وهو إنهاء الاحتلال ومنحهم حق تقرير مصيرهم.

نشرت في ٤ يناير ٢٠٢٣

مقدّمة

ابتداءً من منتصف العام 2022، سُجِّلت زيادة ملحوظة في عدد الهجمات التي يشنّها الفلسطينيون على المستوطنين والجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وكذلك داخل إسرائيل. وكشف هذا النمط عن أوجه قصور كبيرة في السياسات الإسرائيلية الرامية إلى السيطرة على الفلسطينيين تحت الاحتلال وتثبيت استقرار الحكم الإسرائيلي. وقد استندت الاستراتيجية الإسرائيلية لإرساء الاستقرار، بوحيٍ من العقيدة الحديثة لمكافحة التمرّد، إلى ركيزتَين اثنتَين: استخدام إجراءات تهدئة لاحتواء الفلسطينيين من خلال توفير تسهيلات اقتصادية، والاعتماد على السلطة الفلسطينية لضبط الفلسطينيين بالنيابة عن إسرائيل. لكن عددًا كبيرًا من الفلسطينيين يتصدّى الآن لنهج التهدئة الإسرائيلي ويرفض التدابير التقييدية للسلطة الفلسطينية، خصوصًا مع تآكل شرعيتها.

سيقود هذا الوضع إلى عدّة سيناريوهات محتملة تنطوي جميعها على مجموعة من التعقيدات التي ستعرقل مساعي إسرائيل للحفاظ على الوضع القائم في ما يتعلق الفلسطينيين. في المدى القصير، ومع تحوّل المجتمع الإسرائيلي نحو يمين الطيف السياسي وأقصى اليمين، كما أظهرت نتائج الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، من المتوقع أن تشهد الاشتباكات بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين تصعيدًا في الأراضي المحتلة وداخل حدود إسرائيل للعام 1948. قد يقود ذلك إلى مرحلة جديدة في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية تشهد المزيد من سفك الدماء، إلى حين بلورة إطار سياسي جديد ينهي الاحتلال، ويمنح الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم، ويضمن حقوق الجميع.

استراتيجية إسرائيل لتحقيق استقرار حكمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة

منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حزيران/يونيو 1967، تمثّل هدف إسرائيل الأساسي في فرض حكمها من خلال إدارة الفلسطينيين واحتوائهم، وقمع تطلّعاتهم السياسية، وثنيهم عن دعم أنشطة المقاومة. بالإضافة إلى العمليات العسكرية، وهدم المنازل، والقتل الموجّه، والاعتقالات، استخدمت إسرائيل وسيلتَين أكثر تروّيًا لكمّ أفواه الفلسطينيين وإسكاتهم.

تمثّلت الوسيلة الأولى في توفير تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين وتحسين ظروفهم المعيشية، بهدف دفعهم إلى القبول بالحكم الإسرائيلي. على سبيل المثال، بُعيد العام 1967، قامت إسرائيل بإصدار تصاريح لشركات الأنسجة والأحذية الفلسطينية، ومنح قروض بفوائد منخفضة للمستثمرين الفلسطينيين في غزة، ودمج اليد العاملة الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي.1 واستمرت هذه السياسة في المرحلة التي أعقبت اتفاقيات أوسلو بعد العام 1993. فمثلاً، عمدت إسرائيل في العام 2022 إلى إصدار 20,000 تصريح جديد لفلسطينيين من الضفة الغربية للعمل في إسرائيل، وقامت بتسهيل شروط الحصول على تصاريح العمل. ومنحت إسرائيل أيضًا معونات اقتصادية لغزة، في أعقاب النزاع الأخير الذي شهده القطاع في آب/أغسطس 2022، تمثّلت بزيادة أعداد التصاريح التي تُجيز لسكان قطاع غزة العمل في إسرائيل. إضافةً إلى ذلك، أصدرت إسرائيل هذا العام قرارًا قضى بإتاحة الفرصة أمام فلسطينيي الضفة الغربية للسفر عن طريق مطار رامون في جنوب إسرائيل، علمًا بأنها علّقت لاحقًا العمل بهذا القرار لأسباب لا تزال غير واضحة.

السبب الأساسي وراء سياسة إسرائيل لإعطاء هكذا تسهيلات اقتصادية مبني على فرضيّة أن الحرمان الفلسطيني سيتسبّب باحتجاجات سياسية وباشتداد المعارضة ضد إسرائيل، في حين أن توفير المحفّزات الاقتصادية سيزيد من تكلفة معارضة الاحتلال وبالتالي يضمن "هدوء" الفلسطينيين. وقد تم ترويج هذا الأسلوب في التفكير من قبل موشيه دايان، وزير الدفاع الإسرائيلي بين العامَين 1967 و1974، الذي سعى إلى تطبيع الاحتلال من خلال تعزيز ازدهار الأفراد. وفي هذا الصدد، أوضح تقرير عسكري صادر في العام 1970 أن "السبيل الوحيد لتجنّب انفجار محتمل للقوى الاجتماعية هو السعي بصورة مستمرة إلى تحسين مستوى المعيشة والخدمات التي تُقدَّم إلى هذا المجتمع المحروم".2

وقد اتّبعت إسرائيل هذا المنطق نفسه في الأراضي المحتلة في مرحلة ما بعد أوسلو. فعلى سبيل المثال، بما أن الحصول على أي تصريح من إسرائيل مشروطٌ بالحصول على موافقة أمنية إسرائيلية، جعل نظام التصاريح الإسرائيلي قدرة الفلسطينيين على السفر، والقيام بالأعمال، والعمل في إسرائيل رهنٌ بالموافقة السياسية. وهكذا، يُستخدَم نظام التصاريح كأداة تأديبية لمكافأة الفلسطينيين على امتثالهم من جهة، أو معاقبتهم على مقاومتهم لإسرائيل من جهة أخرى. وفي هذا الصدد، قدّمت إسرائيل بعض التسهيلات الاقتصادية لقطاع غزّة بعد جولة القتال الأخيرة كحافز لحماس يُثنيها عن الانخراط في نزاع مستقبلي مع إسرائيل، علمًا أن أي تصعيد ضدّ إسرائيل سيؤدّي إلى وقف تلك التدابير. بعبارة أخرى، بدلًا من إنهاء الاحتلال، ركّزت إسرائيل على تقديم حلول اقتصادية محدودة وسطحية لمشكلة سياسية عميقة الجذور.

هذه الوسائل التي تستخدمها إسرائيل من أجل التهدئة وإحلال السلم مترسّخة في نظرية مكافحة التمرّد. فعلى النقيض من الحرب التقليدية والنُّهج المتمحورة حول تدمير الأعداء، والتي تركّز على استخدام القوة الفتّاكة لقمع المتمرّدين، يتمحور النهج الحديث في مكافحة التمرّد أكثر حول السكان. فعلى سبيل المثال، عرّف ديفيد كيلكولن، المستشار الخاص السابق لوزير الخارجية الأميركي لشؤون مكافحة التمرّد، هذا المفهوم قائلًا: "مكافحة التمرّد عبارة عن منافسة... من أجل الحق والقدرة على الفوز بقلوب السكان وعقولهم ورضوخهم"، وهو ما يؤدّي إلى ثنيهم عن دعم التمرّد.3 ومن أجل تهدئة السكان المدنيين، اعتمدت نظرية مكافحة التمرّد على إجراءات كثيرة مثل توفير الخدمات الاجتماعية، وتعزيز التنمية الاقتصادية واحتواء النخب المحلية. وعلى الرغم من تجدّد الاهتمام بمكافحة التمرّد خلال عمليات الغزو التي قادتها الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق في الفترة الممتدّة بين 2001 و2003، فإن هذه الاستراتيجية قد وُلدت من رحم عمليات مكافحة الانتفاضات المناهِضة للاستعمار خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين، كتلك التي قادها الفرنسيون في الجزائر أو البريطانيون في كينيا ومالايا.

تمثّلت الركيزة الثانية للاستراتيجية الإسرائيلية لتثبيت الاستقرار في الاعتماد على قيادة السلطة الفلسطينية لضبط الفلسطينيين سياسيًا. فبعد إنشائها في العام 1994 كجزء من اتفاقيات أوسلو، أصبحت السلطة الفلسطينية الجهة الأساسية التي تدير حياة الفلسطينيين، وعملت أيضًا كمؤسسة للحكم الإسرائيلي غير المباشر. فقد حُمِّلت السلطة الفلسطينية مسؤولية حماية الأمن الإسرائيلي من خلال قمع المقاومة الفلسطينية، مقابل الحصول على منافع وريوع. وتتماشى هذه الاستراتيجية القائمة على تكليف السلطات المحلية بالمهام الأمنية مع عقيدة مكافحة التمرّد، ولا سيما مع ما يسمّيه كيلكولن نهج "من أسفل إلى أعلى"، الذي يركّز على بناء تحالفات مع النخب المحلية، سواء كانت جهات حكومية أو غير حكومية، وتحميلها مسؤولية بسط الاستقرار والتهدئة.4 ويعكس هذا التركيز على تعزيز دور الجهات المحلية الممارسة الاستعمارية القائمة على الحكم غير المباشر في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والتي استخدمتها بريطانيا وفرنسا بصورة خاصة، إذ حكمت هاتان الدولتان مستعمراتهما والدول الخاضعة لانتدابهما بالتعاون مع حكّام محليين وغيرهم من الوجهاء.

وعلى الرغم من كل هذه الممارسات، كشفت الموجة الأخيرة من الهجمات ضد الإسرائيليين قصور السياسة الإسرائيلية وفشلها في إخضاع الفلسطينيين. فقد ازداد تدريجيًا زخم المقاومة المسلّحة الفلسطينية، التي يقودها شبّانٌ يهاجمون الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، خصوصًا بعد هبة الكرامة التي اندلعت في أيار/مايو 2021 عقب القرار الذي اتّخذته إسرائيل بإجلاء العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جرّاح في القدس الشرقية. وبدأت مجموعات مسلّحة فلسطينية، ولا سيما في نابلس وجنين الواقعتَين في شمال الضفة الغربية، بتحدّي عملية "كاسر الأمواج" التي أطلقتها إسرائيل في النصف الأول من العام 2022 لقمع هذه المجموعات. ومنذ ذلك الحين، انتشر جوّ التحدّي في مختلف أنحاء الضفة الغربية ليشمل القدس ورام الله والخليل وبيت لحم وقلقيلية ومدنًا أخرى. وتقع في صلب هذا التحدّي مجموعةٌ مسلّحة تُعرَف بـ"عرين الأسود"، مقرّها مدينة نابلس القديمة. تضمّ المجموعة شبّانًا في مطلع العشرينيات من عمرهم ينتمون إلى فصائل سياسية مختلفة، ولكنهم قرّروا نبذ الخلافات الفئوية ووحّدوا صفوفهم لمحاربة الاحتلال. وقد اكتسبت هذه المجموعة شعبية عالية في أوساط الفلسطينيين، لدرجة أنها أصبحت تسبّب "صداعًا شديدًا" لإسرائيل، فأصبحت هدفًا للاعتقالات والاغتيالات، ما أدّى إلى تراجع أنشطتها.

ومع أنّ الهجمات الحالية لا تزال محدودة النطاق، فإنها أظهرت من جديد محدودية استراتيجية التهدئة الإسرائيلية القائمة على إعطاء بعض التسهيلات الاقتصادية. والدليل على ذلك استمرار المطالب السياسية الفلسطينية، والثورات الكثيرة التي اندلعت ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967، ومنها الانتفاضة الأولى في العام 1987، والانتفاضة الثانية في العام 2000، ومؤخرًا مسيرات العودة الكبرى في فترة 2018-2019، وهبة الكرامة في أيار/مايو 2021، التي اتّسعت رقعتها لتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والمجتمعات الفلسطينية داخل إسرائيل.

من السهل فهم أسباب ذلك. صحيحٌ أن الفلسطينيين يحصلون على تصاريح ومحفّزات اقتصادية أخرى، بيد أنهم لا يزالون يتعرّضون يوميًا للإذلال ويواجهون عنفًا لا هوادة فيه تمارسه الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، يشمل المداهمات الليلية، وسرقة الأراضي، والحرمان من الحقوق، وأعمال الهدم، والتهجير القسري، والتهميش الاقتصادي، وتصاعد وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين، والمراقبة المشدّدة، والاعتقالات الجماعية، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية، وفي الأعوام الخمسة عشرة الأخيرة،شنّ خمس عمليات عسكرية ضد غزة. قد أدّى القمع الذي يتعرّض له الفلسطينيون، فضلًا عن الإنكار الإسرائيلي الكامل لتطلّعاتهم السياسية، إلى تأجيج غضبهم واستيائهم.

السبب الثاني وراء فشل السياسة التي تنتهجها إسرائيل لتثبيت استقرار حكمها في المناطق الفلسطينية المحتلّة نابعٌ من الضعف المتزايد للسلطة الفلسطينية وافتقارها للشرعية في نظر الفلسطينيين. ومن أهم أسباب ذلك هو فشل مشروع بناء الدولة، حيث أن السلطة فلسطينية كان من شأنها أن تتحوّل إلى دولة تتمتّع بالسيادة والاستقلال. لكن مع منع إسرائيل قيام دولة فلسطينية، فقدت السلطة الفلسطينية مبرّر وجودها، وبات يُنظَر إليها بأنها مؤسسة متواطئة في المأزق السياسي ومستفيدة منه. وهكذا، تَسبّب السلوك الإسرائيلي المتناقض – بحيث تحتاج إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية لبسط الاستقرار لكن في الوقت نفسه تقوّضها من خلال حرمان الفلسطينيين من أي أفق سياسي – بشلّ أداة أساسية للسيطرة على السكان الخاضعين للاحتلال.

ثمة أسباب أخرى وراء تآكل مصداقية السلطة الفلسطينية، منها فسادها، ووعدم إجراء انتخابات رئاسية منذ العام 2005، وانتخابات تشريعية منذ العام 2006، وقمعها لشتّى أشكال الانتقادات، بالإضافة إلى إحكام الرئيس محمود عباس قبضته على المؤسسات الفلسطينية وممارسته الحكم بموجب مراسيم رئاسية منذ تعليق أعمال المجلس التشريعي في العام 2007. وقد أدّت السلطوية المتزايدة للسلطة الفلسطينية، فضلًا عن تنسيقها الأمني مع إسرائيل وعدم وجود استراتيجية سياسية واضحة لإنهاء الاحتلال، إلى تعاظم خيبة الفلسطينيين، بما في ذلك في أوساط عناصر القوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية. فوفقًا لاستطلاع آراء أُجري في حزيران/يونيو 2022، أبدى أكثر من 75 في المئة من الفلسطينيين رغبتهم في استقالة الرئيس عباس، واعتبر 59 في المئة منهم أن السلطة الفلسطينية تشكّل عبءًا على الفلسطينيين، وأيّد نحو نصف الأشخاص المستطلَعة آراؤهم حلّ السلطة. وقد برز ضعف السلطة الفلسطينية بوضوح في المواجهات المسلّحة الأخيرة، إذ فشلت السلطة الفلسطينية في وقف الهجمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية، وعندما أقدمت على توقيف أحد أعضاء مجموعة عرين الأسود في أيلول/سبتمبر الماضي، وقع اشتباك قوي بين شبان فلسطينينين والقوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في أنحاء مختلفة من الضفة الغربية.

التداعيات السياسية الطويلة الأمد والسيناريوهات المحتملة

قد تفرز الصعوبات الحالية التي تواجهها إسرائيل في تثبيت استقرار حكمها ثلاثة سيناريوهات محتملة. قد لا تتحقق جميعها، وفي بعض الحالات قد لا تحدث إلا في المدى الطويل، ولكن جميع هذه السيناريوهات لن تُرسي الاستقرار الذي تريده إسرائيل إذا فشلت في إنهاء الاحتلال.

السيناريو الأول المحتمل هو أن تحاول إسرائيل بسط سلطتها على الفلسطينيين من خلال اللجوء إلى مستويات أعلى من العنف. ويُعتبر هذا السيناريو معقولًا في ضوء نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، التي أتاحت لبنيامين نتنياهو العودة إلى السلطة مستفيدًا من دعم أحزاب اليمين المتطرّف العنصرية. فقد أصبح حزب الصهيونية الدينية، الذي كان في السابق على هامش المشهد السياسي الإسرائيلي، ثالث أكبر حزب في الكنيست، وسيتسلّم أعضاؤه مناصب حكومية بارزة. ومن أحد غلاة اليمين المتطرّف في إسرائيل اليوم إتامار بن غفير، الذي كان عضوًا في حزب كاخ المتطرّف، الذي تمّ حظره في العام 1988 بسبب عنصريته الشديدة ضدّ الفلسطينيين. وقد أدين بن غفير بتهمة التحريض على العنف وأُعفي من الخدمة العسكرية بسبب معتقداته.

دعا بن غفير إلى اتّخاذ سلسلة من التدابير، التي لن تؤدّي سوى إلى زيادة تعنّت الفلسطينيين، ما سيقوّض بشكل أكبر سياسة إسرائيل الرامية إلى إرساء الاستقرار. وتشمل هذه الدعوات طرد المواطنين الفلسطينيين واليهود "غير الأوفياء"، والدخول غير المقيّد لليهود الإسرائيليين إلى المسجد الأقصى، وفرض ظروف أقسى على السجناء الفلسطينيين. ويريد بن غفير، الذي كان يعلّق في منزله صورة لباروخ غولدشتاين، المستوطن المتطرّف الذي قتل تسعة وعشرين فلسطينيًا في العام 1994، استخدام المزيد من العنف ضدّ الفلسطينيين وإطلاق النار على راشقي الحجارة. علاوةً على ذلك، يعارض حزب القوة اليهودية الذي يتزعمه بن غفير، إقامة دولة فلسطينية أو إجراء أي مفاوضات مع السلطة الفلسطينية.

غالب الظن أن تنامي نفوذ هذه الشخصيات في المشهد السياسي الإسرائيلي وتحوُّل الشباب الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتشدّد سيقودان إلى وقوع اشتباكات أكثر حدّة بين الفلسطينيين من جهة والجنود الإسرائيليين والمستوطنين اليهود من جهة أخرى. وفي حال قامت الحكومة الإسرائيلية باتّخاذ المزيد من الخطوات الاستفزازية، مثل تغيير وضع المسجد الأقصى، وتصعيد استخدامها للقوة ضد الفلسطينيين، فقد تندلع انتفاضة جديدة قد تمتدّ إلى المناطق العربية داخل حدود 1948. في هذه الحالة، إذا شاركت السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية في الانتفاضة، فسوف يسدّد ذلك ضربةً قاضية لعملية أوسلو، ولا سيما إذا حلّت السلطة الفلسطينية نفسها وأنهت التنسيق الأمني مع إسرائيل. في تلك الحالة، ستصبح إسرائيل أمام خيارَين في التعامل مع ملايين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها، فإما طردهم وإما قمعهم إلى ما لا نهاية. ولكن في نهاية المطاف، ستكون إسرائيل أمام معضلة لا يمكن حلّها إلا من خلال إنهاء الاحتلال وتلبية مطلب الفلسطينيين بالحصول على حقهم في تقرير مصيرهم.

السيناريو المحتمل الثاني، والذي يمكن أن يتماشى مع السيناريو الأول، يتمثّل في لجوء إسرائيل إلى توظيف استراتيجية ذات طابع لامركزي أكبر في مكافحة التمرّد، بمعنى أن تقوم بتوسيع تحالفاتها مع شخصيات فلسطينية محلّية، خصوصًا في ظل ضعف السلطة الفلسطينية المتنامي وعجزها عن القضاء على المقاومة في الضفة الغربية. وقد يُكلَّف هؤلاء الأشخاص الذين ستتحالف معهم إسرائيل بشؤون أمنية وإدارية – ربما من خلال مجالس محلية خاضعة لسيطرة إسرائيل – مقابل الحصول الحصري على الخدمات الاقتصادية وامتيازات أخرى. وقد تشمل النخب التي تتعاون معها إسرائيل رجال أعمال وشخصيات قبَلية، ولا سيما في منطقة جنوب الضفة الغربية المعروفة بشبكاتها القبَلية الراسخة. ويشبه هذا السيناريو المحاولات التي بذلتها إسرائيل في أواخر سبعينيات القرن العشرين لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية من خلالإنشاء روابط القرى وبناء علاقات مباشرة مع وجهاء القرى، في مسعى لإرساء مؤسسات قادرة على توليد دعم فلسطيني للاحتلال.

وَتظهر علامات هذا السيناريو منذ الآن في بعض الأماكن. فخلال العقد المنصرم، عملت إسرائيل على توطيد علاقاتها مع شخصيات أساسية في مجال الأعمال وفي صفوف العشائر والمنظمات غير الحكومية في أجزاء مختلفة من الضفة الغربية، متجاوزةً السلطة الفلسطينية التي يجب أن تؤدّي، في المبدأ، دور الوسيط بين الإدارة الإسرائيلية والفلسطينيين.5 فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن على الفلسطينيين أن يتقدّموا بطلبات للحصول على تصاريح من خلال وزارة الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، تقوم بعض النخب المحلية بتقديم الطلبات مباشرةً إلى إسرائيل بناءً على علاقات تربطها بضباط إسرائيليين. حتى إن حفنةً من رجال الأعمال في جنوب الضفة الغربية تحوّلوا إلى جهات فاعلة جديدة في الجهود التي تبذلها إسرائيل لمكافحة التمرّد، إذ أوكِلت إليهم مهمة إنشاء بنية تحتية "مناهضة للإرهاب" ونظام للمراقبة الذاتية في شركاتهم، مقابل امتيازات وتدابير حصرية تتيح لهم الحصول على تسهيلات تجارية.6

وقد يؤدّي تطبيق هذه التدابير على نطاق أوسع إلى تفاقم شرذمة الفلسطينيين وانقسامهم إلى كانتونات صغيرة خاضعة لسيطرة زعماء محلّيين، ما يؤدّي إلى مزيد من التفكك داخل المجتمع الفلسطيني. ولكن مثلما رفض الفلسطينيون روابط القرى، لأنهم اعتبروا أعضاءها متواطئين مع إسرائيل، قد يرفضون أيضًا الاعتماد الإسرائيلي الكبير على النخب الفلسطينية المحلّية، ولا سيما في حال وصول قيادة فلسطينية بديلة إلى السلطة تملك استراتيجية واضحة لضمان حقوق الفلسطينيين.

أما السيناريو المحتمل الثالث فيتمثّل في انهيار السلطة الفلسطينية، وسعي إسرائيل إلى تشكيل حكومة عسكرية من جديد في الضفة الغربية. سوف يُعيد ذلك الفلسطينيين إلى مرحلة ما قبل أوسلو حين كانت إسرائيل تتحكّم بحياتهم بطريقة مباشرة وتدير شؤونهم الإدارية والأمنية من خلال الإدارة المدنية الإسرائيلية. ولكن احتمالات حدوث هذا السيناريو أقل، وذلك لسببَين أساسيين. أولًا، ستترتّب عنها تكاليف مالية طائلة لإسرائيل، فمن أحد الأسباب خلف عملية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية كآلية للحكم غير المباشر هو أن الحكم المباشر الإسرائيلي كان قد تحوّل إلى عبء مالي وعسكري على كاهل إسرائيل، ولا سيما بعد اندلاع الانتفاضة الأولى في العام 1987.7 لذلك، كان إنشاء السلطة الفلسطينية ملائمًا من ناحية احتفاظ إسرائيل "بسلطة الجهة ذات السيادة في الأراضي [المحتلّة] – من دون الالتزام بالواجبات المترتّبة عن ذلك"، بحسب ما جاء على لسان مستشار سابق لرئيس الوزراء الراحل أرييل شارون.

والسبب الثاني هو تغيّر السياق الجيوسياسي ولا سيما في ظل الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا. فمثلما لاقت الجهود الروسية لفرض هيكلية حوكمة في أجزاء من أوكرانيا إدانةً عالمية، يمكن أن يؤدّي سلوك إسرائيل بإنشاء حكم عسكري مباشر إلى ردود فعل مماثلة قد يفصّل القادة الإسرائيليون تجنّبها. من هذا المنظور، من المحتمل أن الوسائل التي ستلجأ إليها إسرائيل لترسيخ الاستقرار ستلقى معارضة من الفلسطينيين ومن المجتمع الدولي أيضًا، ولا سيما وسط تبدّل نظرة المجتمع الدولي إلى إسرائيل، مع وصفها بأنها دولة أبرتهايد (أو فصل عنصري) من منظمات دولية كبرى لحقوق الإنسان.

خاتمة

تواجه منظومة السيطرة الإسرائيلية معارضة فلسطينية قوية، في حين أن الوسائل المتاحة أمام الإسرائيليين للخروج من هذا الوضع لن تؤدّي سوى إلى تفاقم الأمور، ما يُظهر أن استراتيجيتهم لا يمكن أن تسود إلى ما لا نهاية. تكمن المشكلة الأساسية في عدم استعداد صنّاع القرار الإسرائيليين للنظر في الخيار الوحيد الذي من شأنه إرضاء الفلسطينيين في المدى الطويل، والذي يقوم على إنهاء الاحتلال، وتلبية تطلّعات الفلسطينيين إلى الحرية والعدالة والكرامة، وضمان حق جميع المواطنين في المساواة السياسية والمدنية والاقتصادية-الاجتماعية والثقافية.

هوامش

1 Neve Gordon, Israel’s Occupation (Berkeley: University of California Press, 2008), 62–69.

2 Gordon, Israel’s Occupation, 63.

3 David J. Kilcullen, Counterinsurgency (Oxford: Oxford University Press, 2010), 29.

4 Kilcullen, Counterinsurgency, 160.

5 عمل ميداني أجدته المؤلّفة في مدينة الخليل (بين تشرين الأول/أكتوبر 2018 وآب/أغسطس 2019) في إطار التحضير لأطروحة الدكتوراه (غير المنشورة) في جامعة أكسفورد التي تحمل عنوان:
"Dependency, Privilege, and Counter-Insurgency: A Case Study of the Industrial Elite of Hebron in the Occupied West Bank."

6 المصدر السابق.

7 Gordon, Israel’s Occupation, 169.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.