A picture taken from a position at the Israeli border with the Gaza Strip shows the destruction due to Israeli bombardment in the besieged Palestinian territory on May 18, 2025
المصدر: Getty

تدمير المجتمع المحلّي وإضعافه وتجريده من الملكية: رأسمالية الكوارث ومخطّطات ما بعد الحرب في غزة

بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، ينبغي أن تقوم عملية إعادة الإعمار على ثلاثة مبادئ أساسية، وهي: حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وفي الاضطلاع بدورٍ فاعل على الصعيد المحلّي، وفي التمتّع بالسيادة.

 نور عرفة و ماندي تيرنر
نشرت في ١٠ أكتوبر ٢٠٢٥

مقدّمة

دمّرت الحرب الإسرائيلية على غزة حياة الفلسطينيين في القطاع، وأجهزت على الاقتصاد السياسي والبنية التحتية هناك. ولا يزال الفلسطينيون عالقين في صراعٍ من أجل البقاء، فيما يخوضون مفاوضات للحصول على الإغاثة الإنسانية. في الوقت نفسه، تتباحث بقيّة دول العالم حول مستقبل غزة ضمن خطط إعادة إعمار القطاع في "اليوم التالي" للحرب، مع العلم بأن هذه الخطط بمعظمها تَحرم الفلسطينيين من الاضطلاع بأيّ دور، لا بل تُنذر بتكريس شكل خطير من "رأسمالية الكوارث".

يشير مصطلح "رأسمالية الكوارث"، الذي صاغته نعومي كلاين في كتابها The Shock Doctrine (عقيدة الصدمة) الصادر في العام 2007، إلى أن النزاعات والكوارث الطبيعية وغيرها من الأزمات يمكن أن تُنتِج بيئةً مؤاتية للنخب السياسية والاقتصادية لإضعاف المجتمعات المحلّية وتجريدها من الملكية. فالهيمنة السياسية في ظلّ غياب الرقابة الديمقراطية تتيح لهذه النخب السيطرة على أموال إعادة الإعمار واستغلالها، وتمنحها الفرصة للاستيلاء على الأراضي والموارد الطبيعية، وخصخصة الخدمات. وتواجه غزة خطر أن تصبح مثالًا جديدًا على رأسمالية الكوارث، كما حصل سابقًا في العراق وأفغانستان ولبنان، وغيرها من البلدان.

بالرغم من كثرة الخطط المطروحة لإعادة إعمار غزة، فإنّ أربعًا منها تحديدًا تسهّل هذا المسار. وقد وضعت الحكومتان الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في الوضع داخل القطاع اثنتَين من هذه الخطط. فالخطة الأولى، بعنوان "غزة 2035"، أعدّتها الحكومة الإسرائيلية، في حين أن الخطة الثانية، المسمّاة "خطة اقتصادية لإعادة إعمار غزة: نهج البناء والتشغيل ونقل الملكية"، هي من إعداد جوزيف بيلزمان، أستاذ الاقتصاد في جامعة جورج واشنطن، وقد قدّمها في تموز/يوليو 2024 إلى فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وشكّلت مصدر إلهام لرؤية ترامب القاضية بتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". أما الخطة الثالثة فهي صادرة عن "فريق العمل المعني بمستقبل غزة"، وتمثّل مشروعًا مشتركًا بين المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي الأميركي (JINSA) وتحالف فاندنبرغ (Vandenberg Coalition)، وكلاهما من مراكز الأبحاث الأميركية التابعة لتيّار المحافظين الجدد والموالية لإسرائيل. وأخيرًا، صدرت الخطة الرابعة، بعنوان "مسارات نحو سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، عن مؤسّسة راند، وهي مركز أبحاث آخر معنيّ بالسياسات الأميركية، وتعتمد هذه الخطة نهجًا مشابهًا لما اقترحه المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي الأميركي وتحالف فاندنبرغ.

تشترك الخطط الأربع في اقتراحها ثلاث آليات رئيسة تمهّد الطريق أمام رأسمالية الكوارث، وهي: إنشاء بنية حوكمة تَحرم الفلسطينيين من الاضطلاع بدور سياسي فاعل ومن التحكّم بمستقبلهم؛ والشروع في الاستيلاء على الأراضي واستخراج الموارد، والانتفاع من مشاريع إعادة الإعمار؛ وفرض ترتيبات أمنية توفّر الشروط اللازمة لاستمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية لإسرائيل وحلفائها.

علاوةً على ذلك، وفي ضوء ما وثّقته الأدبيات الأكاديمية حول نمط الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يسعى إلى تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم لتوسيع السيطرة والملكية اليهودية الإسرائيلية، يُحتمَل أن تتّخذ رأسمالية الكوارث في هذا السياق خصائص فريدة، أبرزها خطر التطهير العرقي لسكّان غزة. ففي الواقع، تتضمّن الخطّتان الإسرائيلية والأميركية، اللتان تمثّلان أكثر أشكال رأسمالية الكوارث تطرّفًا، تصوّرًا ضمنيًا لإعادة إعمار غزة من دون الفلسطينيين. في ظلّ التداعيات الناجمة عن هذا النوع من السيطرة الخارجية واحتمال تجريد الفلسطينيين من ملكيّتهم، لا بدّ من إعادة التأكيد على مبادئ الممارسات الفضلى في إعادة الإعمار بعد النزاعات، كما وردت في نهج "الترابط الثلاثي" الذي تعتمده الأمم المتحدة، والذي يرى أن التعافي المستدام يجب أن يقوم على حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وفي الاضطلاع بدورٍ فاعل على الصعيد المحلّي، وفي التمتّع بالسيادة، وهي كلها قيمٌ تتناقض كليًّا مع ما تطرحه خطط "اليوم التالي" الأربع.

كيف تُمهّد خطط إعادة إعمار غزة الطريق أمام رأسمالية الكوارث

تتحقّق الظروف المؤاتية لرأسمالية الكوارث حين يُحرَم السكّان المحلّيون من الاضطلاع بأيّ دور سياسي فاعل خلال فترات الفوضى وبعدها مباشرة. وتُعدّ هذه الخطوة الأولى نحو ما سمّاه عالم الجغرافيا ديفيد هارفي "مراكمة الثروة عبر التجريد من الملكية"، وذلك من خلال الاستيلاء على الأراضي وغيرها من الموارد الطبيعية، بالتوازي مع تنفيذ سياسات الخصخصة والاستثمار الأجنبي المباشر التي تَحرم المجتمعات المحلّية من الأموال اللازمة للاستثمار في مستقبلها أو التحكّم باقتصادها السياسي.

تُجسّد تجربتا أفغانستان بعد العام 2001 والعراق بعد العام 2003 هذا المسار بوضوح. فقد شهد البلَدان "تغييرًا للنظام" عبر حروب قادتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ثم شنّ هؤلاء حملات مكافحة التمرّد للقضاء على تأثير الحزبَين الحاكمَين السابقَين في المجتمع، أي حركة طالبان في أفغانستان وحزب البعث في العراق. في أفغانستان، تشكّلت حكومة من النخب الموالية للغرب، انتقت الولايات المتحدة أعضاءها بعناية، وكانت خاضعة لإملاءات مئات "الخبراء" الدوليين ولرقابة الجهات المانحة. ووفقًا للباحثة النرويجية في العلوم السياسية والمتخصّصة في الشأن الأفغاني، أستري سوركيه، لم تكن لدى السلطات الأفغانية أيّ سيطرة على أموال إعادة الإعمار، وحوّل المانحون ثلثَي المساعدات مباشرةً إلى متعهّدين اختاروهم بأنفسهم.

أما في العراق، فقد أنشأت الولايات المتحدة "سلطة الائتلاف المؤقتة" برئاسة بول بريمر. وقد تولّى بريمر مسؤولية إدارة الصندوق الضخم لأموال إعادة الإعمار، التي ذهبت بمعظمها إلى شركات أميركية عبر عقود ممنوحة من دون مناقصات. وعدّل بريمر أيضًا القوانين العراقية لفتح الاقتصاد أمام الشركات الأجنبية. في كلا البلدَين إذًا، أدّى حرمان المجتمعات المحلّية من التحكّم بأموال إعادة الإعمار إلى تمكين الجهات الأجنبية من تحقيق أرباح طائلة على حساب السكان.

انطلاقًا من هاتَين التجربتَين جزئيًا، يمكن رصد ملامح رأسمالية الكوارث في خطط "اليوم التالي" الأربع الخاصة بغزة. فكل واحدة من هذه الخطط تدعو، بدرجات متفاوتة، إلى فرض هياكل حوكمة لا تحظى بتأييد محلّي، وتضع ترتيبات أمنية تضمن السيطرة الخارجية. وتفسح هاتان الخطوتان المجال أمام فرض أُطر اقتصادية تمكّن الأطراف الخارجية من الاستحواذ على الموارد المحلّية ومراكمة الأرباح عبر تجريد السكّان من الملكية.

في ما يتعلّق بهياكل الحوكمة، تعتمد الخطط الأربع استراتيجياتٍ تَحرم الفلسطينيين من القدرة على التحكّم بمستقبلهم، على الأقل في المدى القريب إلى المتوسط. وتشمل هذه الاستراتيجيات إرساء إدارة دولية بإشراف إسرائيل ودول أخرى، تتولّى إعادة بناء الاقتصاد ومؤسّسات الحوكمة. فخطة "غزة 2035" الإسرائيلية تُطلق على هذه الهيئة اسم "هيئة إعادة تأهيل غزة". أما خطة الولايات المتحدة، القائمة على نموذج البناء والتشغيل ونقل الملكية، فتقترح إنشاء "إدارة مدنية/حكومة إلكترونية" تخضع لسيطرة مستثمرين أجانب "يشترون" حصصًا في غزة بموجب "عقود إيجار لمدة خمسين سنة". وبناءً على هذه الخطة، تنتفي السيادة الفلسطينية، ولا يمكن التطرّق إلى هذه المسألة إلا بعد انتهاء مدّة العقد. وتطرح خطّة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي الأميركي وتحالف فاندنبرغ إنشاء "صندوق دولي لإغاثة غزة وإعادة إعمارها"، بينما تُفضّل مؤسسة راند تسمية "سلطة ائتلافية متعدّدة الجنسيات". ولا يُعطي أيٌّ من هذه الخطط دورًا فعليًا للمؤسّسات الفلسطينية، باستثناء بعض الإشارات العابرة إلى مشاورات مع شخصيات فلسطينية تتحقّق إسرائيل والولايات المتحدة من خلفيّاتها وتوافقان عليها مسبقًا. والجدير ذكره في هذا السياق هو أن حرمان السكّان المحلّيين من القدرة على إدارة عملية إعادة الإعمار وتمويلها هو خطوة أولى وأساسية نحو تكريس رأسمالية الكوارث.

بعدئذٍ، تتحوّل جهود إعادة الإعمار المدفوعة بالأزمات إلى أدوات للاستحواذ على الموارد العامة، والاستيلاء على الأراضي، وتحويل الثروات من السكّان المُجرَّدين من ملكيّتهم إلى أصحاب رؤوس الأموال الخاصة. وتتجلّى هذه الديناميّات بأوضح صورها في كلٍّ من خطة الولايات المتحدة القائمة على نموذج البناء والتشغيل ونقل الملكية، وخطة "غزة 2035" الإسرائيلية. فتجسّد الخطة الأميركية مفهوم "مراكمة الثروة عبر التجريد من الملكية" بوضوح، إذ تحوّل الأراضي الفلسطينية إلى سلعة استثمارية. وفي هذا الإطار، يُصوَّر قطاع غزة على أنه منطقةٌ تفتقر إلى أيّ قوانين للملكية العقارية، وبالتالي يمكن طرحه بأكمله للبيع أمام المستثمرين الأجانب. وبموجب هذا النموذج، يشتري هؤلاء المستثمرون "حصصَ ملكية في غزة" من خلال ترتيبات الإيجار، ما يحوّل القطاع إلى سلعة تدرّ الربح. كذلك، يمنح هذا النموذج المستثمرين سيطرةً شاملة على الحكم والبنية التحتية والاقتصاد في غزة. وتعزّز الخطة مبدأ الخصخصة من خلال التركيز على "تولّي القطاع الخاص توفير الخدمات العامة"، ما يحوّل الأصول العامة الفلسطينية إلى مصادر لتحقيق الأرباح الخاصة للمستثمرين الأجانب.

أما خطة "غزة 2035" الإسرائيلية، فتطبّق مبدأ "مراكمة الثروة عبر التجريد من الملكية" من خلال الاستحواذ المباشر على الموارد وإعادة هيكلة الأراضي. فتستهدف الخطة صراحةً احتياطيات غزة الضخمة من موارد الطاقة، التي تُقدَّر بـ122 تريليون قدم مكعّبة من الغاز و1.7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج في حوض الشام شرق البحر المتوسط، ويَظهَر ذلك بوضوح من خلال مواقع منصّات استخراج النفط المبيّنة في الرسوم التوضيحية التي تتضمّنها الخطة. ومع أن موارد النفط والغاز هذه يجب تقاسمها، كونها تقع ضمن حقول مشتركة، فإن إسرائيل تستغلّها لمصلحتها الخاصة. وتُضاف إلى ذلك خطّة الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي من خلال إنشاء منطقة تجارة حرّة ضخمة تغطّي غزة والعريش وسديروت وتمتدّ على مساحة 141 ميلًا مربعًا، إلى جانب بناء خطوط سكك حديدية تؤدّي إلى تقسيم الطريق السريع الأساسي في غزة، ما يحوّل الأصول العامة الفلسطينية إلى مصادر ربح خاصة للمستثمرين الأجانب. علاوةً على ذلك، فإن دمج هذه الخطة مع مشروع "نيوم" السعودي، والممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، من شأنه تحويل غزة إلى مركز عبور إقليمي يُسهّل تدفّقَ رؤوس الأموال وإقامةَ طرق تجارية من دون إيلاء أيّ اعتبارٍ لحاجات الفلسطينيين الاقتصادية. ويعكس هذا الدمج المنطق الذي يستند إليه الإطار العام للاتفاقات الإبراهيمية، والذي مهّد الطريق أمام إقامة شراكات اقتصادية إقليمية تهمّش المطالب الفلسطينية.

والأهم من ذلك، تفترض الخطّتان ضمنيًا أن تهجير الفلسطينيين شرطٌ مسبق لتنفيذهما. فخطة "البناء والتشغيل ونقل الملكية" الأميركية تطالب صراحةً بـ"تجريف ]غزة[ بالكامل" بهدف إزالة أنفاق حماس، ناهيك عن أن بيلزمان، مُعِدّ الخطة، قال في مقابلة صحافية إنّ تنفيذ هذا المشروع "يتطلّب تفريغ ذلك المكان بالكامل... إفراغه حرفيًا، وحفره من جديد". أما خطة "غزة 2035"، ومع أنها لا تذكر مسألة التهجير صراحةً، فتقترح "إعادة البناء من الصفر"، ما يكشف الهدف الضمني المتمثّل في تهجير السكّان. وتعزّز تصريحات عدّة صادرة عن مسؤولين إسرائيليين هذا الاستنتاج، إذ أعرب هؤلاء عن نيّتهم ارتكاب تطهير عرقي بحقّ الفلسطينيين في غزة. وبالتالي، إذا نجحت إسرائيل في تحقيق هذا الهدف، فمن المرجّح أن يخضع مستقبل غزة لإحدى هاتَين الخطّتَين أو ما يشبههما.

وفي حين أنّ التقريرَين الصادرَين عن مركزَيْ الأبحاث لا يناقشان بصورة مباشرة الاستيلاء على الموارد الاقتصادية، فإنهما يضعان شروطًا مسبقة للحوكمة، أدّت إلى تجريد السكّان المحليّين من الملكية في سياقات أخرى تاريخيًا. فتقترح الخطّتان فرض سيطرة إدارية على غزة من دول أخرى وبيروقراطيّين خارجيين، بدلًا من مؤسسات متجذّرة محلّيًا وخاضعة للمساءلة أمام سكان القطاع، ما يجسّد النهج المألوف لرأسمالية الكوارث. وقد بيّنت تجارب سابقة أن هذا النوع من الهياكل يُسهّل الاستيلاء على أموال إعادة الإعمار، وفرض ترتيبات جديدة على مستوى الاقتصاد السياسي من دون الحصول على تأييد محلّي.

ومن الركائز الأخرى لرأسمالية الكوارث التي تظهر بوضوح في الخطط الأربع، استخدام الترتيبات الأمنية لتوفير الظروف الملائمة من أجل فرض السيطرة السياسية الخارجية وإعادة الهيكلة الاقتصادية، وإدامة هذه الظروف. فجميع الخطط تدعم استمرار استخدام إسرائيل للقوة العسكرية لـ"تحييد" حماس وغيرها من الجماعات المعارِضة، وتوصي بأن تحتفظ إسرائيل بـ"السيطرة الأمنية" على قطاع غزة. ففيما تعبّر الخطة الإسرائيلية عن هذا التوجّه صراحةً، تربط خطة "البناء والتشغيل ونقل الملكية" الأميركية بين الأمن والمصالح الرأسمالية بشكل مباشر، إذ توصي بحماية مصالح المستثمرين المالية. كذلك، تقترح خطة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي الأميركي وتحالف فاندنبرغ، وخطة مؤسسة راند إنشاء قوة أمنية متعدّدة الجنسيات تتمركز في القطاع ويجمعها تنسيقٌ وثيق مع إسرائيل. وتُكلَّف هذه القوة أيضًا بإعادة تدريب قوات أمن جديدة تابعة للسلطة الفلسطينية، والتدقيق في خلفية عناصرها، والإشراف عليها، علمًا أن هذا النهج نفسه هو الذي اعتُمِد في خريطة طريق العام 2003 لإنهاء الانتفاضة الثانية. ويمثّل هذا النهج، الذي يركّز على التدابير الأمنية بشكلٍ أساسي، سمةً محورية من سمات رأسمالية الكوارث، إذ تستخدم فيه الدولة أدوات العنف والسيطرة العسكرية لقمع الحراك السياسي وضمان توفير ظروف مستقرّة لجذب رؤوس الأموال الخاصة.

ويعكس هذا النمط نهجًا غربيًا موحّدًا لما يُسمّى عمليات "السلام" بين الجانبَين الإسرائيلي والفلسطيني. فكلّ الخطط الغربية لتحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين، منذ اتفاق أوسلو الأوّل (1993) وأوسلو الثاني (1994)، مرورًا بخريطة الطريق من أجل السلام (2003)، وصولًا إلى خطط ما بعد النزاع في غزة اليوم، وضَعت أمن إسرائيل في صدارة الأولويات. كذلك، ربطت جميع هذه الخطط قيام دولة فلسطينية ذات سيادة بما يُسمّى "مفاوضات الوضع النهائي" التي لم تنعقد قط. أما حزم المساعدات الضخمة لإعادة الإعمار بعد كل عدوان عسكري إسرائيلي، فقد مثّلت شكلًا من أشكال بناء السلام عبر مكافحة التمرّد، يهدف إلى شراء صمت الفلسطينيين. وفي جميع الخطط الخاصة بغزة، يُستخدَم الأمن كذريعة للسيطرة الخارجية، ويصبح بالتالي أداةً رئيسة لتكريس رأسمالية الكوارث.

هذا وتوفّر الخلفيات المؤسّسية والمسارات المهنية لمُعدّي هذه الخطط أدلّةً إضافية على مدى تَغلغُل رأسمالية الكوارث في أُطر إعادة إعمار غزة. فتكشف خلفيّات الكتّاب عن انخراط مستمر لشخصياتٍ أو جهات موالية لإسرائيل، أو لمن لديهم خبرة سابقة في تنفيذ مشاريع مشابهة في بيئات أخرى في مراحل ما بعد النزاع، مثل العراق وأفغانستان. وتشير هذه الاستمرارية المؤسّسية إلى أن الخطط المقترحة لغزة ليست ظاهرة منعزلة ومنفردة، بل هي جزءٌ من نمط أوسع من التحوّل الاقتصادي والسياسي الذي يتبع النزاعات والكوارث، والذي نادرًا ما يسمح للمجتمعات المحلّية بتحديد أولوياتها والتحكُّم بمسار تعافيها.

في سياق هيمنة إسرائيل الاستعمارية الاستيطانية على الفلسطينيين، من المرجّح أن تنطوي رأسمالية الكوارث على خاصيّتَين فريدتَين. أولًا، إلى جانب إدارةٍ دولية يقودها الغرب في الغالب ويشارك فيها بعض النخب المحلّية المتماهية مع المشروع، ستواصل إسرائيل ممارساتها الشرسة في إطار مكافحة التمرّد. وثانيًا، بالتوازي مع الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وتجريدهم من الملكية، سيتوافر دافعٌ مباشر للتطهير العرقي. ففي حالات أخرى من رأسمالية الكوارث، سواء في سياقات النزاع مثل العراق وأفغانستان، أو في سياقات الكوارث الطبيعية مثل هايتي، لم يكن من الضروري قتل السكّان المحلّيين أو تهجيرهم للاستيلاء على أراضيهم ومواردهم. أما في حالة إسرائيل، فتشكّل هذه الممارسات جوهر مشروعها الهادف إلى إحلال المستوطنين اليهود الإسرائيليين مكان الفلسطينيين. وبالتالي، إن اقتران الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي برأسمالية الكوارث يجعل من هذا النموذج أكثر فتكًا بحقّ الفلسطينيين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الجانب لم تشهده تجارب رأسمالية الكوارث الأخرى، ما يعني أنّ السياق الحالي هو الأخطر على الفلسطينيين منذ نكبة العام 1948.

مبادئ لعملية إعادة إعمار مستدامة وأخلاقية

نظرًا للمنطق الذي تستند إليه الخطط المطروحة لغزة، من الضروري إعادة التأكيد على المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تُوجّه جهود إعادة إعمار القطاع وتأهيله. وتتمثّل هذه المبادئ في: حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، وفي الاضطلاع بدور فاعل على الصعيد المحلّي، وفي التمتّع بالسيادة. وهي مبادئ كلّها مُكرَّسة في القانون الدولي وأُطر الأمم المتحدة، وتوفّر بديلًا شاملًا للنماذج الاستغلالية التي تتضمّنها الخطط التي نحلّلها في هذا المقال. وعلى وجه التحديد، يشكّل نهج "الترابط الثلاثي" المُعتمَد من الأمم المتحدة، الذي يدمج بين العمل الإنساني والمساعدات الإنمائية وجهود بناء السلام، دليلًا مهمًا لتنفيذ عملية إعادة إعمار أخلاقية، كونه يشجّع على اتّخاذ تدابير تعالج الأسباب الجذرية للنزاع، مع تعزيز القدرات المحلّية المستدامة.

وتحديدًا، لا بدّ من التشديد على ثلاثة مبادئ أساسية لضمان عملية إعادة إعمار أخلاقية ومستدامة لغزة، ووضع حدّ لدورة الحرب–الدمار–إعادة الإعمار المستمرّة على مدار العقدَين الماضيَين. وتشكّل هذه المبادئ مجتمِعةً بديلًا شاملًا لنماذج رأسمالية الكوارث في الإعمار.

أولًا، أظهرت التجارب السابقة، ولا سيما في غزة، أن التعافي المستدام لا يمكن أن يتحقّق من دون معالجة الأسباب الجذرية للنزاع والدمار. لذا، يجب أن ترتبط أي خطة "لليوم التالي" بعملية سياسية أوسع تهدف إلى وقف الحصار غير القانوني الذي تفرضه إسرائيل على غزة، وإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية، مع الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ونيل الحرية والعدالة. وتُعَدّ السيادة على الحدود، والأراضي، والتجارة، والموارد المالية للدولة شرطًا جوهريًا لتحقيق التنمية والخروج من دائرة الاعتماد على المساعدات، وهي أهداف واردة في إطار "الترابط الثلاثي" الذي تعتمده الأمم المتحدة.

ثانيًا، يجب منح الفلسطينيين زمام المبادرة وتمكينهم من الاضطلاع بدور شامل في عملية إعادة الإعمار. ويجب على المؤسسات الفلسطينية المتجذّرة في المجتمع المحلّي التخطيط لجهود إعادة الإعمار على المدى القريب والمتوسط والبعيد وتنفيذها. ويشمل ذلك ضمان قدرة الفلسطينيين على تحديد كيفية تخصيص الأموال، وتوزيع العقود، والتحكّم بعمليات اتّخاذ القرار. ويتطلّب تولّي زمام المبادرة مشاركة فاعلة لجميع مكوّنات المجتمع الفلسطيني في عمليات التخطيط والحوكمة، بدل أن تبقى حكرًا على حفنةٍ من النخب الاقتصادية والسياسية الفلسطينية التي توافق عليها إسرائيل. وهذا المبدأ يضمن أيضًا مشاركة النساء، والشباب، والفصائل السياسية المختلفة، ومنظمات المجتمع المدني، والفئات المهمّشة، في تحديد أولويات إعادة الإعمار واستراتيجيات تنفيذها. وعلى الجهات الخارجية أن تكتفي بتقديم الدعم بدلًا من فرض الإملاءات، ما يضمن أن تعود فوائد إعادة الإعمار على الفلسطينيين أنفسهم لا على المتعهّدين الأجانب، وأن تُسهِم في بناء قدرات الاقتصاد المحلّي بدلًا من تكريس علاقات استغلالية. وينسجم هذا النهج مع إعلان باريس بشأن فعالية المعونة، الذي ينصّ على ضرورة أن تحدّد الشعوب المتضرّرة ومؤسّساتها أجندات التنمية والحَوكمة.

يتطلّب تطبيق هذا المبدأ أن تقود المؤسّسات الفلسطينية المتجذّرة في المجتمع المحلّي عملية تصميم أُطُر إعادة الإعمار انطلاقًا من القاعدة، مستندةً إلى الخبرات والمعارف التي راكمها الفلسطينيون خلال الدورات المتكرّرة من التدمير وإعادة البناء. وتتمثّل الخطوة الأولى والأساسية في تشكيل لجنة فلسطينية واسعة التمثيل لإعادة الإعمار، تضمّ أصواتًا متنوّعة من المجتمع المدني في غزة، بما في ذلك المنظمات المجتمعية، والمؤسّسات الأكاديمية، وشبكات الأعمال، والخبراء الفلسطينيين من الداخل والخارج. وتُكلَّف هذه اللجنة بإعداد خطة وإدارة جهود إعادة الإعمار، إلى جانب التنسيق مع الشركاء الدوليين لضمان أن يصبّ الدعم الخارجي في خدمة الأهداف التي يحدّدها الفلسطينيون، لا أجندات المانحين الأجانب. ويضمن هذا النهج التشاركي أن تراعي عملية إعادة الإعمار وجهات النظر الفلسطينية المتنوّعة على مستوى المجتمع المحلّي، وليس اعتبارات النخب السياسية أو الاقتصادية.

ثالثًا، لا بدّ من إعادة هيكلة المساعدات الدولية لتفادي مشكلة عدم التنسيق والتنافس بين الجهات المانحة، وضمان أن يكون دعم الجهات المانحة مُنسَّقًا مع القيادة الفلسطينية. وتشير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) إلى أن اعتماد إطار الأمم المتحدة لإعادة الإعمار المستدامة يتطلّب مجهودًا دوليًا متّسقًا، لا أجندات منفصلة تُفضي إلى التبعية والتنافس بين الجهات المانحة. ويعني ذلك أن على المانحين جمع مواردهم وتنسيق مساعداتهم بما يتماشى مع أولويات يحدّدها الفلسطينيون أنفسهم، وتُنفَّذ عبر آليات خاضعة لسيطرة المجتمع المحلّي. ويساعد هذا النمط من التنسيق على منع تحوّل المساعدات إلى أداة للهيمنة الخارجية بدلًا من أن تكون وسيلة حقيقية للتعافي.

النظر إلى ما بعد غزة

تكشف الخطط الأربع لإعادة إعمار غزة عن نمط مقلق. فهي تُقصي الأصوات الفلسطينية من الأُطر التي ستحدّد مستقبل سكّان غزة بشكل منهجي. وبالرغم من تقديمها كحلولٍ للدمار في غزة، تتضمّن هذه الخطط استراتيجيات أتاحت لرأسمالية الكوارث الازدهار في سياقات ما بعد النزاع في أماكن أخرى. ويُنتِج التلاقي بين هياكل الحوكمة المفروضة من الخارج، والترتيبات الاقتصادية التي تسهّل الاستيلاء على الأصول، والإطار الأمني المُصمَّم لقمع أيّ معارضة سياسية للسيطرة الإسرائيلية على غزة، بيئةً خصبة لتجريد السكّان من الملكية والانتفاع من مشاريع إعادة الإعمار، وهما سمتان رئيستان لرأسمالية الكوارث.

فضلًا عن ذلك كلّه، تمتدّ تداعيات هذا النموذج إلى ما هو أبعد من غزة نفسها. فقد أصبح القطاع ساحة اختبار ستحدّد المسار المستقبلي لعملية إعادة الإعمار بعد النزاعات على مستوى العالم. وعبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن ذلك صراحةً حين قال إن نجاح خطته في غزة قد يسمح بـ"إعادة تطبيقها في اليمن وسورية ولبنان". وبالتالي، فإن قبول المجتمع الدولي بفرض الحوكمة من الخارج، والاستيلاء على الموارد الاقتصادية، والإقصاء المنهجي لوجهات النظر المحلّية في غزة، سيُشكّل سابقة خطيرة يمكن تكرارها في مناطق أخرى بحاجةٍ إلى إعادة إعمار. وفي المقابل، إذا استندت عملية إعادة إعمار غزة إلى مبادئ تقرير المصير، والمشاركة الشاملة، والدعم الدولي الخاضع للسيطرة المحلّية، فقد تُشكّل نموذجًا بديلًا يضع التعافي الحقيقي في صدارة الأولويات، بدلًا من الاستغلال. وبما أن ما يحدث في غزة لن يبقى محصورًا فيها، فإن تنفيذ عملية إعادة إعمار ناجحة هناك ليس شأنًا فلسطينيًا فحسب، بل هو قضية عالمية أيضًا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.