مقدّمة
لم تَعُد العملات المشفّرة تُصنَّف ضمن الابتكارات الهامشية، بل برزت بوصفها مؤشّرًا قويًا على حدوث تحوّلٍ تدريجي ولكن عميق في القطاع المصرفي من الأنظمة المالية التقليدية إلى النماذج الرقمية اللامركزية. فهي لم تَعُد تقتصر على التداول القائم على المضاربة، بل بدأت تشكّل أدواتٍ سياسيةً في التجارة الدولية، تستخدمها الدول للتهرّب من العقوبات، وربما أيضًا لإعادة ضبط تحالفاتها الجيوسياسية. ويتجلّى هذا التحوّل بوجهٍ خاص في مجلس التعاون الخليجي، حيث أصبح التمويل الرقمي الآن محوريًا في التنويع الاقتصادي الوطني، وفي مساعي الدول الأعضاء الرامية إلى تقليص اعتمادها على الأنظمة المالية الغربية.
وقد شكّلت الضغوط الجيوسياسية المتعاظمة، مثل توتّر العلاقات الأميركية السعودية في عهد الرئيس جو بايدن، واستخدام الدولار الأميركي كسلاح من خلال فرض عقوبات على خصوم واشنطن، والتداعيات الاقتصادية لحرب أوكرانيا، حافزًا لتوطيد الشراكات بين دول مجلس التعاون الخليجي والصين وروسيا. وقد ترافقت إعادة التوجّه الاستراتيجي هذه مع انضمام الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية إلى تكتّل مجموعة بريكس الموسّعة، فضلًا عن تكثيف الصين جهودها لتدويل عملتها اليوان، وتطوير أنظمة مدفوعات عبر الحدود قائمةٍ على تقنية سلسلة الكتل (أو البلوك تشاين blockchain). وقد عزّزت هذه التطوّرات من تنامي زخم العملات الرقمية، ما أتاح لمنطقة الخليج وسيلةً لتقليل اعتمادها على الدولار الأميركي تدريجيًا.
وفي المقابل، عمدت الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إلغاء القيود التنظيمية على العملات المشفّرة بتوجيهٍ من السوق، كما يظهر من خلال إنشاء احتياطي استراتيجي من البيتكوين، ورفض إصدار عملة رقمية عن البنك المركزي ((Central Bank Digital Currency - CBDC مدعومة من الدولة. في موازاة ذلك، أبدت الإدارة انفتاحًا متزايدًا تجاه العملات المستقرّة (Stablecoins) الصادرة عن القطاع الخاص والمدعومة من الولايات المتحدة. أما مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدّمته الإمارات والسعودية والبحرين، فيتّجه نحو تجربة العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، واستكشاف منصّات بديلة للدفع بالعملات الرقمية مع كلٍّ من الصين ودول مجموعة بريكس الموسّعة، وأيضًا من خلال مبادرات بين دول مجلس التعاون الخليجي، إلى جانب اعتماد العملات المستقرّة.
ولا تقتصر جهود دول الخليج على تحديث بنيتها التحتية المالية فحسب، بل تعيد التموضع عمدًا في خضمّ صراع عالمي على النفوذ، إذ تسعى، عن طريق تعزيز علاقاتها مع كلٍّ من الصين وروسيا، إلى تنويع تحالفاتها، والتحوّط في وجه الهيمنة الغربية، والتمتّع باستقلاليةٍ أكبر في رسم معالم النظام العالمي خلال المرحلة المقبلة. وفي صُلب هذا التحوّل يبرز سؤالٌ ملحّ: هل يمكن للعملات الرقمية أن تشكّل أساسًا لاكتساب النفوذ الجيوسياسي وتحقيق الاستقلال الاقتصادي لدولةٍ ما؟ وإذ يظلّ الجواب عن هذا التساؤل غير محسوم، فإنّ الرهان المتنامي لدول الخليج على هذا المسار يعكس توجّهًا استراتيجيًا لاختبار جدواه، وما قد يترتّب عليه من مكاسب أو تحديات على المدى الطويل.
العملات المشفّرة تكتسب زخمًا في دول الخليج
يعكس تنامي زخم العملات المشفّرة أو التكنولوجيا المالية في دول مجلس التعاون الخليجي مساعيها إلى تحقيق الإصلاح الاقتصادي والتمتّع بالسيادة المالية والمرونة في وجه التحوّلات الجيوسياسية ومكامن الضعف المرتبطة بالاعتماد على النفط. فقد شهد قطاع التكنولوجيا المالية في دول مجلس التعاون الخليجي تطوّرًا سريعًا، بفضل الدعم الحكومي القوي والتحوّل الرقمي بعد تفشّي جائحة كوفيد-19، ما مهّد الطريق أمام اعتماد تقنية البلوك تشاين على نطاق أوسع. وبدعمٍ من مبادرات سياساتية هادفة، وصل معدّل النمو السنوي المركّب لاعتماد تقنية البلوك تشاين إلى 70 في المئة، ما يسلّط الضوء على مدى الاهتمام الإقليمي بالحلول الآمنة والشفافة والفعّالة التي تتيحها هذه التقنية. في المقابل، لا تزال العملات المشفّرة، وهي أحد أبرز استخدامات تقنية البلوك تشاين، محطّ جدل. فنظرًا إلى طابع المضاربة التي تتّسم به وافتقارها إلى قيمة جوهرية، يرى البعض أنها تشبه سلعةً قابلةً للتداول أكثر منها عملة تقليدية، وهي إذًا قد تطرح تحدّياتٍ تنظيميةً إذا ما أصبحت تُستخدَم على نطاق واسع في المعاملات المالية اليومية أو الاقتصادات الوطنية. لكن الكثيرين عمدوا إلى تسمية العملات المشفّرة بـ"الذهب الرقمي" نظرًا إلى ندرتها، وخصائصها كوسيلةٍ للحفاظ على القيمة، وجاذبيتها الاستثمارية، ولأنها محدودة العرض، ويمكن أن تؤدّي دورًا في التحوّط ضدّ التضخّم.
والواقع أن خصائص العملات المشفّرة أثارت في مختلف الدول ذات الغالبية المسلمة المخاوف بشأن توافقها مع الشريعة، ما أدّى إلى تباين في المقاربات التنظيمية بين دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتالي إلى تفاوت في وتائر اعتماد هذه العملات. وخلافًا لما عليه الحال في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية، لا تزال القيمة السوقية للعملات المشفّرة في دول مجلس التعاون الخليجي ناشئةً نسبيًا، إلا أنها واعدة، إذ بلغ إجمالي حجم السوق منها 744.3 مليون دولار في العام 2024، فيما يُقدَّر أن يبلغ معدلّ النمو السنوي المركّب 16.75 في المئة بين العامَين 2025-2033. ومن المتوقّع أن يصل إجمالي حجم السوق من العملات المشفّرة إلى 791.8 مليون دولار في أواخر العام 2025 وحده، وأن يبلغ معدّل انتشار استخدامها في دول مجلس التعاون الخليجي 19.32 في المئة، بينما يُتوقَّع أن تبقى الولايات المتحدة في الصدارة من حيث الإيرادات، التي ستصل إلى 9.4 مليارات دولار.
وبالنظر عن كثب أكثر إلى كل دولة على حدة، نرى كيف يتعامل كلٌّ منها مع تقاطع الابتكار والامتثال والرقابة من خلال انتهاج مقارباتٍ تتراوح بين القيادة الجريئة والاختبار الحذر والتقييد الصريح. فالإمارات تُعَدّ الرائدة إقليميًا في مجال العملات المشفّرة، إذ تجمع بين أهدافٍ طموحةٍ ترمي إلى اعتماد هذه العملات، وأُطُرٍ تنظيميةٍ واضحة، عن طريق تأسيس هيئاتٍ على غرار سلطة تنظيم الأصول الافتراضية، وإنشاء منطقتَين ماليّتَين حرّتَين. في المقابل، اتّبعت السعودية نهجًا أكثر حذرًا بسبب القيود المرتبطة بالشريعة، حيث حظّرت على المؤسسات المالية تداول العملات المشفّرة. ومع ذلك، تبقى المملكة ثاني أكبر أسواق العملات المشفّرة وأسرعها نموًّا في المنطقة، مدفوعةً بالتبنّي القوي لتداول هذه العملات في أوساط شبابها، الذين يشكّلون 63 في المئة من إجمالي السكان. وما يعزّز حيوية السوق هذه الدورُ الفاعل الذي يضطلع به البنك المركزي السعودي "ساما" في التشجيع على تبنّي تقنية البلوك تشاين، وجذب مؤسسات مالية دولية كبرى مثل روتشيلد وغولدمان ساكس، وكلاهما يخطّط لإطلاق مشاريع من أجل تحويل الأصول إلى رموز رقمية (أو ترميز الأصول) كجزءٍ من منصّات الأصول الرقمية التابعة لهما. إذًا، هذه المشاريع عبارة عن مبادرات لتحويل الأصول المالية التقليدية، مثل السندات أو صكوك تمويل التجارة، إلى رموز رقمية ضمن سلسلة كتل (بلوك تشاين)، بهدف تسهيل الوصول إليها، وجعلها قابلة للتتبّع، وأسهل للتداول على المستوى العالمي.
أما البحرين وعُمان، فاعتمدتا موقفًا قائمًا على إرساء القواعد التنظيمية أوّلًا، حيث أُعطيَت الأولوية إلى ضمان الامتثال للّوائح، وتطوير البنية التحتية اللازمة، وإصدار التراخيص، بدلًا من اعتماد العملات المشفّرة على عجل. فقد عمَد مصرف البحرين المركزي مؤخّرًا إلى تحديث إطاره التنظيمي، مُصنِّفًا الأصول المشفّرة على أنها أوراق مالية، ومُعزِّزًا لوائح مكافحة غسل الأموال بما يتماشى مع المعايير الدولية. ولكن على الرغم من هذه الجهود، لا تزال سوق العملات المشفّرة في البحرين الأصغر في المنطقة (انظر الجدول أدناه). وعلى النحو نفسه، وضعت هيئة الخدمات المالية في عُمان إطارًا تنظيميًا مؤقّتًا لمزوّدي الخدمات الافتراضية، وشروط الامتثال للوائح مكافحة غسل الأموال. ومع أن التنظيمات لا تزال مؤقّتة، منحت الحكومة ترخيصًا لجهتَين لتشغيل مراكز متخصّصة في تعدين العملات المشفّرة واستضافة ومعالجة البيانات.
في المقابل، كانت الكويت وقطر الأشدّ تحفّظًا، إذ انتهجتا المقاربات الأكثر تقييدًا، فاستبعدتا نفسَيهما عمدًا عن أسواق العملات المشفّرة، تماشيًا مع موقفهما الذي يعتبر أن الأصول الرقمية ليست عملة قانونية. مع ذلك، شرعت قطر مؤخّرًا في تليين موقفها، إذ سمحت لمركز قطر للمال، وهو هيئة تنظيمية، بوضع إطار عمل قانوني للأصول الرقمية، أُصدِر في أيلول/سبتمبر 2024، ويشمل عملية ترميز الأصول، والاعتراف القانوني بالعقود الذكية. كذلك أنشأت الدوحة إطارًا تنظيميًا متمايزًا خاصًّا بالأصول الرقمية (هو لائحة الأصول الرقمية) لتعزيز الابتكار في مجال التكنولوجيا المالية.
فضلًا عن ذلك، أبدت دول مجلس التعاون الخليجي انفتاحًا، وإن كان بحذر، تجاه العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، خصوصًا بسبب إمكاناتها الاستراتيجية في تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي، وفي تعزيز كفاءة المدفوعات عبر الحدود. فهذه العملات تشكّل، إلى جانب فائدتها التقنية، أصولًا استراتيجيةً في إطار الجهود الأوسع التي تبذلها دول الخليج لإعادة ضبط سيادتها المالية. وتتصدّر الإمارات والبحرين وعُمان والسعودية البرامج التجريبية في مجال "العملات الرقمية للبنوك المركزية بالجملة"، المُصمَّمة للمؤسسات المالية، لتسهيل تسوية المعاملات المالية المحلية وكذلك المعاملات والتحويلات المالية عبر الحدود. فعلى سبيل المثال، أجرى البنك المركزي السعودي ومصرف الإمارات المركزي، في العام 2019، اختبارًا لقابلية التشغيل البيني لمعاملات العملات الرقمية للبنوك المركزية عبر الحدود كجزءٍ من مشروع "عابر" (Project Aber). وأجرت البحرين عددًا من اختبارات قابلية التشغيل البيني مع مجموعة جي بي مورغان، وهي حاليًا في المرحلة التجريبية.
في غضون ذلك، استكملت قطر البنية التحتية اللازمة، وستجري تجربةً للعملات الرقمية للبنوك المركزية بالجملة، مع إمكانية التوسّع إلى العملات الرقمية بالتجزئة. فعملات البنوك المركزية الرقمية بالتجزئة، المُصمَّمة للاستخدام المحلي، وفي بعض الحالات للمعاملات العابرة للحدود، تنطوي على مزايا عدّة، بما فيها الاستغناء عن الجهات الوسيطة المصرفية. يمكن أن يسهم ذلك في تقليل تكاليف المعاملات، وتعزيز المنافسة بين المصارف التجارية، ما من شأنه تحسين أسعار الفائدة على الودائع، وتعزيز الإقراض المصرفي، وتسهيل الحصول على الخدمات المالية من خلال الاعتماد اللامركزي للعملات الرقمية.
والواقع أن العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية تمثّل بديلًا سياديًا للأنظمة التقليدية التي يهيمن عليها الدولار، إذ توفّر قدرًا أكبر من المرونة والشفافية في عالمٍ يشهد إعادة ترتيبٍ لمراكز القوة المالية. لكن اعتمادها من جانب هذه المراكز على نطاقٍ واسع سيطرح تحدّياتٍ كبيرة، إذ إنها تنافس الودائع المصرفية التقليدية، التي تشكّل حاليًا 83 في المئة من تمويل المصارف. من شأن ذلك أن يقوّض قدرة النظام المصرفي التقليدي على إصدار القروض، الأمر الذي يقلّص هامش ربحية البنوك، ويُضعِف فاعلية أدوات السياسة النقدية التقليدية، مثل تعديلات أسعار الفائدة.
في هذا السياق، تبرز العملات المستقرّة كبدائل مستساغة أكثر من العملات المشفّرة المتقلّبة. وعادةً ما تكون هذه الأصول الرقمية مربوطةً بالعملات السيادية مثل الدولار الأميركي أو اليورو، ما يوفّر استقرارًا في الأسعار، ووضوحًا تنظيميًا أكبر. ومع أنها تندرج ضمن اللوائح التنظيمية الأوسع للعملات المشفّرة، غالبًا ما يجعلها دعمُها بالعملات الورقية أقلّ عرضةً للتدقيق، الأمر الذي يسهّل اعتمادها على نطاق أوسع. الجدير بالذكر أن مصرف الإمارات المركزي وافق مؤخّرًا على أول عملة مستقرّة مُنظَّمة، وهي عملة AE Coin، في إطار جهوده الرامية إلى دمج الأصول الرقمية في النظام المالي الرسمي، وهو ما يؤكّد طموح الدولة إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا للتمويل الرقمي.
دور الأصول الرقمية في إدارة شؤون الدولة: التشعّبات الجيوسياسية
مرّ المشهد الجيوسياسي في الخليج، على مدى العقدَين الماضيَين، بتحوّلٍ كبيرٍ اتّسم بتوطيد التعاون مع الصين وروسيا. وهذا التطوّر ليس مجرّد نتيجةٍ لتحوّل ديناميات القوة العالمية، بل هو جهدٌ مدروسٌ من دول مجلس التعاون الخليجي لتنويع تحالفاتها، وتعزيز استقلاليتها في السياسة الخارجية، والتكيّف مع عالم متعدّد الأقطاب أكثر من السابق. وقد تسارع هذا التوجّه شرقًا بفعل عوامل محفّزة عدّة، من بينها توتّر العلاقات الأميركية السعودية في عهد إدارة بايدن، وأهداف التنويع الاقتصادي الإقليمي، وحرب أوكرانيا، والعقوبات الغربية على روسيا، وابتعاد مجلس التعاون الخليجي عن شبكات التجارة الغربية.
أحد أبرز تجلّيات هذا التحوّل بروزُ دبي بوصفها مركزًا تجاريًا عالميًا رائدًا، وذلك جزئيًا نتيجة انتقال الشركات الروسية من جنيف، سويسرا، إلى الإمارات العربية المتحدة، للالتفاف على العقوبات الدولية. واللافت أيضًا كان إشارة السعودية إلى انفتاحها على تسعير مبيعات النفط باليوان، مع أنها تعتمد على نظام البترودولار منذ أمدٍ طويل، الأمر الذي يشير إلى إمكانية إعادة ترتيبٍ أوسع للتحالفات العالمية في مجالَي الطاقة والتمويل. بالتوازي مع ذلك، تقدّم الجهود التي تبذلها الصين لتدويل اليوان من خلال مبادلات العملات، والمعاملات العابرة للحدود، ومبادرات العملات الرقمية، بديلًا لمنطقة الخليج عن اعتمادها على الدولار الأميركي.
وما يعزّز توجّه الخليج شرقًا انضمامُ الإمارات والسعودية إلى مبادرة مجموعة بريكس الموسّعة، بدوافع مختلفة ولكن متكاملة. فالإمارات تسعى إلى ترسيخ مكانتها بوصفها مركزًا ماليًا عالميًا، في حين أن السعودية تهدف إلى الابتعاد عن الاعتماد على النفوذ الأميركي. في المقابل، اقترحت مجموعة بريكس آلياتٍ ماليةً بديلةً عن تلك الخاصة بالولايات المتحدة، حيث دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إنشاء "منصّة بريكس" قائمةٍ على تقنية البلوك تشاين لتسهيل المعاملات عبر الحدود باستخدام العملات الرقمية. وهذا يتوافق مع مشروع "الجسر" التجريبي للعملات الرقمية المتعدّدة للبنوك المركزية (mBridge) في العام 2021، وهو مبادرة لبنوك مركزية متعدّدة، تشمل الصين وتايلاند والإمارات، بالشراكة مع بنك التسويات الدولية. يُذكَر أن السعودية انضمّت إلى المشروع في العام 2024.
وبينما أعلن بنك التسويات الدولية (BIS) رسميًا أن دوره في المرحلة التجريبية اكتمل بعد التطوير الناجح لمنتج الحدّ الأدنى القابل للتطبيق لمنصّة "الجسر"، يرى بعض المراقبين أن خروج البنك من المشروع جاء بفعل الضغوط الأميركية، وهو ادّعاءٌ نفاه البنك علنًا. وبغضّ النظر عن السبب، ترك انسحابُ بنك التسويات الدولية من المبادرة المشروعَ تحت سيطرة المصارف المركزية، ما يعكس الحاجة إلى محاولةٍ أكثر جرأةً لإقامة هيكل نقديّ موازٍ. وعلى الرغم من ظهور مؤشّراتٍ على أن الصين قد تكون مستعدّةً لاتّخاذ هذه الخطوة، تنطوي التداعيات الجيوسياسية للسعي إلى تحقيق الاستقلالية النقدية لدول مجلس التعاون الخليجي على مخاطر؛ فمن شأن هذه الخطوة توتير العلاقات مع واشنطن، أو حتى إثارة ردود فعلٍ انتقامية ماليّة. وبالفعل، يؤكّد احتمال فرض تعريفاتٍ جمركية انتقامية، خصوصًا في ظلّ إدارة ترامب التي تنظر إلى الانفصال المالي عن الصين على أنه ضرورة استراتيجية، مدى ارتفاع المخاطر التي يمكن أن تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي.
تسلك الولايات المتحدة اليوم مسارًا مختلفًا في سياساتها المتعلّقة بالأصول الرقمية، حيث تتصدّر العملات المشفّرة والأصول الرقمية أجندتها الاقتصادية. وقد جسّد أمران تنفيذيان هذا التحوّل، يرمي أوّلهما إلى رفع القيود عن القطاع، وتسهيل قيادة الولايات المتحدة لمجال العملات المشفّرة، مع حظر إصدار عملة رقمية عن البنك المركزي الأميركي. أما الأمر التنفيذي الثاني، فيُنشِئ احتياطيًا استراتيجيًا من البيتكوين لتخزين البيتكوين والعملات المشفّرة الأخرى، ما يجعلها فئةً جديدةً من الأصول الوطنية السيادية. هذه التطوّرات دفعت النقاشات حول دور البيتكوين والعملة المشفّرة في إدارة الدولة إلى صدارة الخطاب السياسي العالمي. ولم تَعُد البيتكوين والأصول الرقمية الأخرى مجرّد أداةٍ للتهرّب من العقوبات أو للتداول القائم على المضاربة، بل أصبحت الآن تزيد التكهّنات حول احتمال أن تعمَد الصين وروسيا، وربما دول مجلس التعاون الخليجي، إلى تكديسها. ومع ذلك، إن التقلّب الشديد وطابع المضاربة اللذَين تتّسم بهما البيتكوين يقوّضان جدواها كأصلٍ احتياطيّ موثوق، في حين أن أي فائدة استراتيجية مُحتمَلة لها ستكون محدودة، ومُعتمِدة بشكلٍ أساسي على تقلّبات السوق، لا على السياسات الحكومية.
وبينما قد تُقدِم حكومات مجلس التعاون الخليجي على تجربة حيازات العملات المشفّرة والبيتكوين لتنويع احتياطياتها، تواجه الجهودُ المبذولة لدمجها في أُطُر السياسة النقدية تحدّياتٍ جوهرية. في الوقت نفسه، يعكس اعتماد دول مجلس التعاون الخليجي العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية، ولا سيما من خلال شراكات تتطلّع إلى الشرق، أو مبادرات إقليمية مثل مشروعَي "الجسر" و"عابر"، توجّهًا استراتيجيًا طويل الأجل يُعطي الأولوية إلى قابلية التشغيل البيني والاستقلالية، ووسيلةً لتشكيل قواعد التجارة أو حتى التأثير عليها. لكن هذا الأمر ينطوي على تحدّيات كبيرة، أبرزها المشاكل التقنية المرتبطة بقابلية التشغيل البيني، ومخاطر استبدال العملات، وزيادة تقلّبات تدفّقات رأس المال، وإمكانية انتقال الصدمات الخارجية بصورة أسرع.
تُشكّل العملات المستقرّة ثقلًا موازنًا لهذه التحدّيات. فعوضًا عن اعتماد إطار نقديّ جديد كليًّا، تعزّز هذه العملات دور الدولار الأميركي في الاقتصاد الرقمي، من خلال إتاحة المعاملات القائمة على الدولار عبر شبكات البلوك تشاين اللامركزية من دون الحاجة إلى علاقة مباشرة بالنظام المصرفي الأميركي. هذا الأمر يجعل الدولار أكثر قابليةً للنقل، ويسهّل الوصول إليه، ولكنه يقلّل أيضًا إشراف الولايات المتحدة وسيطرتها على كيفية استخدام الدولار وأماكن استخدامه.
خاتمة
إن النهج الذي يتّبعه مجلس التعاون الخليجي في ما يتعلّق بالعملات المشفّرة مبنيٌّ على سعيه إلى تحقيق التنويع الاقتصادي، وتحالفاته الجيوسياسية المتغيّرة، وأُطُره التنظيمية الآخذة في التطوّر. وحتى في دول مجلس التعاون الخليجي التي تتّخذ موقفًا أكثر حذرًا، من المُتوقَّع أن تكتسب الأصول الرقمية زخمًا، وتبرز بوصفها ركنًا أساسيًا في الاستراتيجية الاقتصادية والجيوسياسية الأشمل للمنطقة. وبالنظر إلى المستقبل، يُتوقَّع أن ينمو حجم المعاملات التجارية باستخدام العملات المشفّرة، إضافةً إلى مبادرات الأصول الرقمية الأخرى مع الصين أو دول بريكس، أو روسيا. ولكن لا يزال مستبعدًا في المدى القريب حدوث تحوّلٍ شامل، نظرًا إلى احتمال حصول ردّ فعلٍ سياسي واقتصادي أميركي.
تضع البيئة التنظيمية المؤاتية لدول مجلس التعاون الخليجي هذه الدول في موقعٍ يتيح لها الاضطلاع بدورٍ محوريّ في الابتكار وتطوير آلياتٍ بديلة لإنجاز المعاملات التجارية، وهما مجالان قد يوفّران مزايا اقتصادية أكثر أهميةً واستقرارًا. فضلًا عن ذلك، من المتوقّع أن تكتسب العملات الرقمية الصادرة عن البنوك المركزية والمدعومة من الدولة زخمًا. فغياب عملة رقمية للبنك المركزي الأميركي يفسح المجال أمام مجلس التعاون الخليجي لتولّي دورٍ قيادي في اعتماد عملاتٍ رقمية صادرة عن البنوك المركزية في الأنظمة المالية. لكن عدم وجود حالاتٍ عمدت فيها دولٌ رسميًا إلى إدراج العملات الرقمية للبنوك المركزية في أنظمتها المالية، ثم إدارة تأثيرها على أسعار الفائدة وآليات الإقراض، وربحية المصارف، سيُبطِئ عملية اعتماد هذه العملات. في الوقت عينه، يُتوقَّع بشدّةٍ أن تزيد دول مجلس التعاون الخليجي اعتماد العملات المستقرّة، إذ إن نموذجها يتجاوز سيطرة العملات الأجنبية أو تلك الصادرة عن الدول، ما من شأنه أن يتيح إمكانية وصولٍ ومرونةً أكبر. وقد تؤدّي العملات المستقرّة إلى تراجع السيطرة الأميركية، ما يمهّد الطريق أمام نظامٍ يُصار فيه إلى تداول القيمة المُقوَّمة بالدولار على نحو مستقلّ عن نفوذ الولايات المتحدة.
أخيرًا، في ظلّ تطوّر العملات الرقمية من مجرّد ابتكارٍ تكنولوجي إلى أداةٍ جيوسياسية، لم يَعُد السؤال يُطرَح عمّا إذا كانت دول الخليج ستشارك في هذا التحوّل، بل عن مدى جرأتها في هذه المشاركة. في نهاية المطاف، سيعتمد مسار مجلس التعاون الخليجي لا على مدى توافقه مع القوى العالمية فحسب، بل أيضًا على كيفية استخدامه الاستراتيجي لمزاياه التنظيمية من أجل صياغة نظام مالي رقمي يعبّر عن أولوياته الخاصة.
الجدول 1: تنظيم العملات المشفّرة وآفاق السوق في دول مجلس التعاون الخليجي في العام 2025 | |||||
الدولة |
الهيئة التنظيمية |
الوضع التنظيمي |
إيرادات السوق المتوقّعة للعام 2025 |
معدّل انتشار استخدامها من إجمالي السكان |
انتشار الاستخدام: عدد المستخدمين |
الإمارات العربية المتحدة |
سلطة تنظيم الأصول الافتراضية هي الجهة المعنية بتنظيم الأنشطة المتعلّقة بالعملات المشفّرة في إمارة دبي، باستثناء مركز دبي المالي العالمي. يُصنَّف سوق أبوظبي العالمي ومركز دبي المالي العالمي كمنطقتَين ماليتَين حرتَين. وتمتلك كلٌّ من هاتَين المنطقتَين الحرّتَين سلطة منظّمة مستقلة تدير الأصول المالية والافتراضية. |
تُعدّ دبي مركزًا للعملات المشفّرة، وتمتلك إطارًا تنظيميًا شاملًا. |
254.30 مليون دولار |
39 |
3.78 ملايين |
المملكة العربية السعودية |
البنك المركزي السعودي |
التبنّي القوي لتقنية سلسلة الكتل "البلوك تشاين"؛ قيام السلطات السعودية بتحذير المؤسسات المالية من التعامل بالعملات المشفّرة. |
498.20 مليون دولار |
19 |
7.40 ملايين |
قطر |
هيئة تنظيم مركز قطر للمال |
إحراز تقدّم تدريجي. فقد أعلنت هيئة مركز قطر للمال عن إصدار إطار قانوني للأصول الرقمية في أيلول/سبتمبر 2024، يشمل عملية ترميز الأصول، والاعتراف القانوني بالعقود الذكية. وأنشأت الدوحة أيضًا إطارًا تنظيميًا خاصًّا بالأصول الرقمية. (هو لائحة الأصول الرقمية للعام 2024). |
|
الأرقام غير متوافرة |
الأرقام غير متوافرة |
البحرين |
مصرف البحرين المركزي |
وضع إطار عمل منظّم، مع إصدار التراخيص لمنصّات التداول، وتصنيف الأصول المشفّرة على أنها أوراق مالية، وتعزيز لوائح مكافحة غسل الأموال بما يتماشى مع المعايير الدولية. |
2.00 مليون دولار |
6 |
93.85 ألفًا |
الكويت |
بنك الكويت المركزي |
حظر التعامل بالعملات المشفّرة. |
23.20 مليون دولار |
6 |
273.62 ألفًا |
عُمان |
البنك المركزي العُماني |
وضعت هيئة الخدمات المالية في عُمان إطارًا تنظيميًا مؤقتًا لمقدّمي الخدمات الافتراضية وشروط الامتثال لأحكام مكافحة غسل الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب. ومع أن اللوائح التنظيمية لا تزال مؤقّتة، منحت الحكومة ترخيصًا لجهتَين لتشغيل مراكز متخصّصة في مجال تعدين العملات المشفّرة واستضافة ومعالجة البيانات. |
14.10 مليون دولار |
5 |
253.24 ألفًا |
مجلس التعاون الخليجي |
791.80 مليون دولار |
19 |
11.80 مليونًا |
||
المصادر: https://www.difc.ae/; https://www.adgm.com/; https://www.vision2030.gov.sa/; https://www.sama.gov.sa/ar-sa/Pages/default.aspx; https://www.cbb.gov.bh/ar/; https://www.bahrainedb.com/ar; https://www.cbk.gov.kw/ar; https://www.cbom.gov.om/; https://www.qcb.gov.qa/ar/pages/default.aspx; https://www.statista.com/outlook/fmo/digital-assets/ |
هذه المادة مرخّصة بموجب أحكام وشروط رخصة المشاع الإبداعي العمومية نَسْبُ الـمُصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية. للمزيد من التفاصيل، يُرجى زيارة الرابط التالي: نَسبُ المصنَّف 4.0 رخصة عمومية دولية | المشاع الإبداعي