ليس معقولاً أن يبقى المشهد الانتخابي اللبناني على حاله بعد التطورات التي عصفت بالبلد الصغير لبنان، خصوصاً منذ 14 فبراير الماضي، تاريخ اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. فميزان القوى الانتخابي تغير كليا بعد أن أنهى الجيش السوري انسحابه من جبل لبنان و الشمال خصوصاً أن هذا الانسحاب سيكتمل في27 الشهر الحالي من كل البلد قبل الانتخابات النيابية التي يفترض أن تحصل قبل نهاية مايو المقبل.
فإذا كان الحدث الذي أطلق ديناميات جديدة في المجتمع السياسي اللبناني هو التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود في 3 سبتمبر الماضي، نتيجة تجرؤ العديد من القوى السياسية على معارضة هذه الخطوة، كذروة في تراكم النقمة على مرّ السنوات ضد الإدارة السورية للوضع اللبناني، فإن اغتيال الحريري ضاعف هذه النقمة و زاد من توسيع القاعدة الشعبية للمعارضة.
قبل اغتيال الحريري، كانت السلطة اللبنانية و القوى الموالية لها و لسوريا تحضر نفسها للانتخابات مطمئنة إلى قدرتها على الاحتفاظ بالأكثرية في البرلمان، مستندة إلى الوجود السوري. أما المعارضة فكانت تعبئ الرأي العام في شكل يعزز قدرتها على أن تحظى بهذه الأكثرية، مراهنة على أن تحول الرقابة الدولية المتواصلة على الوضع اللبناني و خصوصاً الانتخابات، دون أن ترتاح السلطة في تزويرها أو في ممارسة الضغوط عليها.
بعد الاغتيال استعجل الموالون الاتفاق على قانون الانتخاب، إثر الحداد و الحزن اللذين لفا البلاد، متجاوزين التداعيات السياسية التي تركها، كأن شيئاً لم يكن.والاعتقاد السائد هو أن شطب الحريري كائناً من كان الذي اغتاله، كان يهدف إلى الحؤول دون أن يملأ فراغاً سياسياً ناتجا عن الانسحاب السوري لأنه الأقدر على أن يشكل جسراً سياسياً بين الأفرقاء اللبنانيين، بسبب ذلك المزيج الفريد بين حجم زعامته السنية و اللبنانيةو دوره العربي و علاقاته الدولية .
في اختصار كان الحريري الأقدر مع حلفائه، على أن يشكل محور استعادة الحياة السياسية اللبنانية طبيعتها بعد الانسحاب السوري، لأن حجمهسيأخذ من حجم القوى المصطنعة التي نشأت بحكم الدعم السوري لها و لذلك لخص شعار المعارضة: "نريد معرفة الحقيقة" حول اغتيال الحريري، تلك العلاقة بين النقمة الشعبية الرافضة لفرض السياسات بالقوة إلى حد السجن أو النفي أو الاغتيال، و بين الانحياز الشعبي الكبير إلى المعارضة.فحلفاء دمشق استندوا إلى سياسة الفرض في نفوذهم. الحقيقة هدفها تعرية الذين قتلوا الحريري لإسقاطهم و لتجريدهم من أي تأييد شعبي ممكن بعدما باتت السلطة متهمة بإعاقة التحقيقات في الجريمة. وهي حقيقة يفترض أن تترجمها الانتخابات التي تختزل موازين القوى الفعلية، بتجديد التمثيل السياسي في لبنان.
و نشأ شعور في لبنان بأن الانتخابات النيابية باتت مهددة لأن الصراع السياسي المتصاعد بعد الاغتيال بات أكبر من الانتخابات نفسها بسبب إعطاء المعارضة الأولوية، لكشف الفاعلين و لإقالة القادة الأمنيين. لقد استدعى خوض المعارضين معركة الحقيقة في الشارع و المجالات الأخرى إلى تأجيل المناقشات حول قانون الانتخاب الذي كان أحيل إلى المجلس النيابي قبل اغتيال الحريري في شكل باتت المهل القانونية لإجراء الانتخابات محشورة. إلا أن أياً من الفرقاء اللبنانيين أو الخارجيين لم يكن يجرؤ على اقتراح تأجيل هذه الانتخابات، لأن كل فريق يترك لغيره تحمل مسؤولية ذلك،أمام الرأي العام. لكن السلطة و الموالين لدمشق اتخذوا قراراً ضمنياً بتأخير الانتخابات بحجة لم يجد بعض الوزراء الحلفاء لسوريا حرجا في الإعلان عنها:"لماذا نسلم المعارضة السلطة عبر الانتخابات من دون ثمن؟"
لقد طرح التغيير في موازين القوى الشعبية بعد اغتيال الحريري و مع اقتراب نهاية الانسحاب السوري، مجموعة من القضايا في شأن الانتخابات:
اتجه الموالون إلى تغيير مشروع قانون الانتخاب، بعد أن أحالوه إلى البرلمان على أساس اعتماد الدائرة المصغرة أي القضاء. و استند بعضهم إلى صيغة اتفاق الطائف الذي يجمع أركان المعارضة و الموالاة على التمسك به كوثيقة أنهت الحرب اللبنانية في العام 1989، و هو ينص على الدائرة الموسعة أي المحافظة. و اعتقد الموالون أنها تخفف من خسائرهم، إذا أضافوا إليها اعتماد التمثيل النسبي بدل الأكثري. لكن استطلاعات الرأي أثبتت أن المعارضة تبقى متفوقة في الدائرة الموسعة حتى لو اعتمدت النسبية، في شكل واضح. و هذا ما دفع دمشق إلى نصح حلفائها بالسعي إلى التمديد للمجلس النيابي الحالي سنة لعل موازين القوى تتغير في هذه الأثناء. إلا أن الضغط الدولي و العربي على سوريا من جهة و حرص حزب الله الشيعي على عدم الذهاب بعيداً في تجاهل التطورات الحاصلة على الصعيد الشعبي نتيجة أخطاء السلطة و حلفاء دمشق من جهة ثانية، أديا إلى التراجع عن السعي للتأجيل سنة. لكن بعض الموالين ظلوا على مطلبهم التأجيل ثلاثة إلى ستة أشهر و سعوا إلى ابتزاز المعارضين لمحاولة أخذ ضمانات منهم بعدم إسقاط بعض رموز حلفاء دمشق الرئيسيين الذين يصعب نجاحهم بحكم قدرة المعارضة على ترجيح منافسيهم في المقاعد الموزعة طائفياً في لبنان، مقابل تقصير مدة التمديد للبرلمان.
تواجه المعارضة تحدي تسمية المرشحين السنة في العاصمة و الشمال و الجبل و البقاع و الجنوب خصوصاً أن الحريري الأكثر نفوذاً بين السنة بلا منازع، كان ينوي خوض المعركة الانتخابية في كل المناطق، خلافاً للدورات الانتخابية السابقة حيث كان يراعي حلفاء سوريا فكان يجير الأصوات التي يمون عليها لهم بناء لطلبها. و هو كان قرر عدم استخدام نفوذه الشعبي الواسع لمصلحة السوريين هذه المرة، بالرغم من الضغوط التي مارسها بعض أركان السلطة عليه لهذا الهدف قبل اغتياله. لقد زاد الاغتيال التفاف الناس حول تيار الحريري بين السّنة، و في طوائف أخرى، لكن الافتقاد إلى المرجعية التي كان يمثلها قد يصعّب عملية توحيد اختيار المرشحين إلا إذا تمكنت عائلة الحريري و قادة تياره من إيجاد صيغة تعوض غيابه. كما أن المنافسة ستشتد بين القوى السياسية المعارضة في الوسط المسيحي. فلكل منها (العماد ميشال عون، القوات اللبنانية، الزعامات التقليدية و العائلية) طموحه في ملء الفراغ الذي سيتركه انحسار نفوذ الموالين لسوريا في مناطق المسيحيين.
** وليد شقير مدير مكتب الحياة في بيروت.