منذ انهيار نظام صدام حسين، برز شيعة العراق إلى مقدمة الجدل بين المثقفين والسياسيين الغربيين والعرب. فشيعة العراق، الذين هم أغلبية واضحة من أكثر من 60 بالمائة من السكان، لم يشغلوا ابدا مركز الأغلبية أو حتى الأقلية القوية في الحياة السياسية العراقية منذ تأسيس العراق الحديث قبل تمانية عقود. كما أخضعوا من جانب الحكومات التي حكمتهم، لظروف معيشة دون الإنسانية، رغم حقيقة أن أكثر من نصف النفط العراقي يقع في أراضيهم.
دفعت انتفاضة 1991 ضد النظام العراقي بقضية الشيعة إلى اهتمام العالم، إنما لوقت قصير فقط. كان التركيز الكبير على مصير الأكراد، بينما لقيت آلام الشيعة القليل من الاهتمام. في قلب هذا التجاهل الفاضح كان الاعتقاد الغربي أن حكومة شيعية في العراق ستستنسخ النظام الإسلامي في إيران. هذا الفشل في فهم شيعة العراق له جذوره الأكاديمية. وقد أصاب الأكاديمي يستحق نقاش عندما بيّن أن معرفة الغرب الموروثة بطبيعة الشيعية الحديثة تأتي أساسا من العدد الكبير من الدراسات حول الإسلام والثقافة والمجتمع الشيعي الإيراني.
ولفهم أفضل للديناميات الدينية والسياسية في العراق الجديد، بوسع المرء أن يفحص كيف تصرف الشيعة في العامين الماضيين. وترسم حالتان التوجهات الرئيسية في النشاط الشيعي في مرحلة ما بعد صدام. الأولى، في الانتخابات العراقية يوم 30 يناير 2005، أدهش الأداء الضعيف للحزب الشيوعي العراقي كثيرا من المراقبين. فرغم كونه أقدم حزب قائم في العراق، بعضوية كبيرة وبقاعدة عريضة من المتعاطفين، حصلت قائمة الحزب الشيوعي، "اتحاد الشعب" على اثنين فقط من مقاعد الجمعية الوطنية ال 275. لترجمة هذا في أرقام محددة، حصل الشيوعيون على أقل من 70 ألفا من 8 ملايين بطاقة انتخابية. في الصباح التالي، قدمت صحيفة الحزب، "طريق الشعب"، تحليلا صريحا: جزء من المشكلة أن أعدادا كبيرة من القاعدة الرئيسية للحزب، الشيعة، صوتت إلى جانب التحالف العراقي الموحد، وهي قائمة تدعي أنها مؤيدة من آية الله علي السيستاني. وفي نهاية اليوم، أيقظت الرايات الشيعية السوداء والخضراء مشاعر أقوى من رايات الشيوعيين الحمراء.
وتتعلق الحالة الثانية بالحركة القوية والنشيطة للمستبعدين في عراق ما بعد صدام، حركة الصدر. التفت الجماعة حول الشاب مقتدى الصدر، ابن الشهيد آية الله محمد صادق الصدر ووريث عائلة معروفة بإسهامها السخي في الفقه الشيعي والحياة السياسية العراقية. وعندما أدركت مجموعة من اليافعين الفرصة التي يقدمها فراغ السلطة في أعقاب انهيار النظام، ارتدوا عمائم سوداء أو بيضاء وأعلنوا ولاءهم لمقتدى الصدر، واستولوا على كل ما استطاعوا الاستيلاء عليه من المساجد، وأقاموا مكاتب في العديد من المدن. غيّروا اسم أكبر ضواحي بغداد ( في الأصل مدينة الثورة ثم مدينة صدام ) إلى مدينة الصدر. وبالمثل أعادوا تسمية أي شيء يحمل اسم صدام إلى اسم الصدر ـ مستشفيات، أحياء، أسواق ، إلخ.
وبعد أن سيطروا على العديد من المدن العراقية، فرض أنصار الصدر فهمهم الخاص للقوانين الإسلامية. ولأنهم كانوا أصغر من أن يكونوا تجاوزوا المراحل الأولى من التعليم الديني أو حتى التحدث بالعربية المتداولة بمستوى مقبول، ظهروا على محطات التليفزيون مثل " الجزيرة" ونجحوا في تأكيد أنفسهم كرجال دين حاكمين في مدن مثل النجف وكربلاء والبصرة والكوت، بفضل بنادق حراسهم الشخصيين ذي السلوك الخشن والميليشيا التي ارتاحوا إلى تسميتها "جيش المهدي". بل أنهم أقاموا محاكمهم الخاصة وعقدوا محاكمات كثيرا ما انتهت إلى عقوبات قاسية وغير عادية لتجاوزات تتراوح بين امتلاك الكحول وسير النساء علنا دون ما قرروا أنه تحجب صحيح. أما التجاوزات الأكبر، مثل العمل لدى قوات الاحتلال، فكانت عادة تتلقى عقوبة الإعدام. ولم يمنع الافتقار إلى المؤهلات الدينية المتفشي بين مقتدى الصدر وزملائه الذين أعلنوا أنفسهم رجال دين، مئات الآلاف من إظهار التعاطف تجاه الحركة.
لقد أدت عقود من القمع على أساس من الانتساب إلى هوية، إلى تمييع الخط الفاصل بين الديني والدنِس. فمجال الهوية الشيعية العلمانية ينكمش باستمرار، بينما يتوسع مجال التدين السياسي. إذا كانت العلمانية عاجزة عن صون نفسها، فعليها أن تفسح المجال لنوع من الحياة السياسية أكثر تشبعا بالدين. ليس هذا بالضرورة شيئا سيئا، طالما يواصل التدين الشيعي القائم على المعرفة التفوق على التعصب الجاهل.
** عباس كاظم مرشح لدرجة الدكتوراه في قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا، بيركلي.