يساعدنا إمعان النظر في نتائج مؤشرات التطور على استيعاب الأسباب الأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية متفاقمة التي يعيشها العالم العربي. فالتداول السلمي للسلطة والمشاركة الشعبية في صنع القرار مازالتا نادرتين، فيما يعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي زيادة معدلات الفقر وتضخّم الأسعار وشح الموارد الغذائية. في هذا الإطار، تأتي نتائج "مؤشر الحكم الصالح" للعام 2007 الخاص بالمنطقة العربية وشمال افريقيا (الذي أعدّه البنك الدولي)، وأيضاً نتائج "مؤشر مدركات الفساد" للمنطقة العربية للعام 2008 (الذي أعدته منظمة الشفافية الدولية) لتعزز نظرية الخلل البنيوي وانتشار الفساد في الأنظمة السياسية العربية، هذا في حين يعكس "مؤشر الدول الفاشلة" للعام 2008 الخلل في البيئة الاجتماعية العربية.
يساعدنا "مؤشر الحكم الصالح" على مقاربة هذا الواقع، إذ هو يقيس مستوى كل من: المساءلة والمحاسبة، الاستقرار السياسي، فاعلية الحكومة، طبيعة الرقابة ونوعيتها، سيادة القانون وأيضاً مراقبة الفساد. وقد حصلت الدول العربية على نسبة 23.7 في المائة ضمن بند "المساءلة والمحاسبة" و44.9 في المائة ضمن بند "فاعلية الحكومة" بينما حصلت دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على نسبة 91.4 في المائة بالنسبة للمؤشر الأول و88.7 في المائة بالنسبة للمؤشر الثاني. وبمقارنة مؤشرات الدول العربية الآنفين مع دول اميركا اللاتينية يتبين أن مؤشر فاعلية الحكومة جاء مشابهاً بينما مؤشر المساءلة والمحاسبة كان متدنياً لصالح الدول العربية بنسبة حوالي 28 في المائة.
وإذا قارنا مؤشرات الحكم الصالح في الدول العربية مع مثيلاتها من دول اميركا اللاتينية يتبين أن الأرقام متقاربة على الصعيد العام وتختلف في مؤشرين اثنين هما سيادة القانون لصالح الدول العربية والمساءلة والمحاسبة لصالح دول اميركا اللاتينية. وهذا الضعف لدى الدول العربية مرده إلى غياب أو عدم فاعلية القوانين التي تعزز مبادىء الحكم الصالح وحكم القانون. ويدخل قانون الانتخابات ضمن تلك القوانين كونه هو الذي يسمح بإعادة تكوين السلطة وتمثيل الشعب تمثيلاً عادلاً وحقيقياً. اذ غالباً ما تكون الانتخابات هزيلة الشكل والمضمون ومبنية على قوانين لا تسمح بالمنافسة الديمقراطية. وتجدر الملاحظة الى ان أغلب دول المنطقة العربية تسجّل مشاركة سياسية ضعيفة في الانتخابات، كما أن معظم الحكومات العربية لا تسمح لمنظمات المجتمع المدني بمراقبة العملية الانتخابية.
تعكس نتائج هذه المؤشرات مدى افتقار معظم بلدان المنطقة العربية الى آليات جدية لمكافحة الفساد وتعزيز الرقابة. فعدد كبير منها لم يُصادق على تشريعات تتعلق بالاثراء غير المشروع وعدم تضارب المصالح العامة والخاصة. أما المؤسسات الرقابية فهي في معظمها هيئات غير مستقلة تخضع للسلطة التنفيذية. إضافة الى ذلك، لم تبادر بعد بعض البلدان العربية إلى إقرار قوانين تؤمّن "حق الوصول الى المعلومات" وغيرها من القوانين المشابهة، مما يجعل من الصعوبة بمكان اطلاع المواطنين على سير العمل في القطاعات الحكومية. الاهتمام الجدي في مثل هذه القوانين غائب لأن السرية والكتمان تمسكان بخناق أسس الحكم في المنطقة العربية.
بالعودة إلى نتائج مدركات الفساد للعام 2008 والذي شمل هذا العام 180 دولة من بينها 20 دولة عربية، يمكن تصنيف الدول العربية من الأقل فساداً الى الأكثر فساداً من خلال المعدل الذي تناله والذي يتراوح بين 0 و10 نقاط. وتُظهر نتائج الاستطلاع، أن دولة قطر حلت في المرتبة 28 من ضمن 180 عالمياً ونالت معدل (6.5) نقاط والمرتبة الأولى عربياً. سجّلت دول منطقة الخليج تقدماً ملحوظاً منها؛ دولة الإمارات العربية المتحدة التي احتلت المرتبة الثانية عربيا وسلطنة عمان التي احتلت المرتبة الثالثة عربياً والمرتبة 41 عالمياً، والبحرين التي حصلت على نتيجة (5.4). أما بالنسبة إلى دول المشرق العربي ودول شمال افريقيا، فباستثناء الأردن الذي شهد بعض التقدم قياساً بالعام الفائت بحصوله على معدل (5.1) بعد أن كان (4.7)، فلم يسجل أي من هذه الدول تقدماً يذكر. أما العراق والصومال فقد نالتا معدل (1.3) و(1.0) على التوالي وحلتا في المرتبتين 179 و180 وهما الأدنى في سلم المؤشر. هذه النتائج تؤكد أنه على الرغم من الوعود المتكررة بالإصلاح السياسي والاداري والإقتصادي، مازالت الدول العربية، وفق هذا المؤشر، تحتل مراتب متدنية، مما يطرح التساؤلات حول مدى توافر الإرادة السياسية الجديّة في مكافحة الفساد وايجاد ثقافة مجتمعية لمكافحته.
تشكل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية معياراً لتقدم الافراد والمجتمعات. لكن المنطقة العربية ما زالت تنوء تحت وطأة أزماتها الخانقة حيث سوء التنمية وانعدام التوازن وتدني الخدمات الحكومية كالطبابة والتربية والتعليم والضمان الاجتماعي. ويأتي في هذا الاطار "مؤشر الدول الفاشلة" للعام 2008 الذي يشمل 177 بلداً ليُظهر أثر العوامل الاجتماعية - الاقتصادية في تحقيق الإستقرار في بلد ما وليرسم علاقة جدلية بين الأمرين.
وتشمل العوامل الاجتماعية: الضغوط الديمغرافية، الكثافة السكانية، حركة النزوح أو التهجير الكثيفة. أما العوامل الاقتصادية فتشمل قياس: التنمية الاقتصادية (متوازنة أم لا)، نمو اقتصادي (سريع أو بطيء). وفي هذا المجال، ضمّت المجموعة الاولى من الدول الفاشلة، والتي تراوحت معدلاتها بين (114.2) و(95.6)، 20 بلداً من بينها أربع دول عربية هي: السودان، العراق، الصومال ولبنان. أما الفئة الثانية والتي تراوحت معدلاتها العامة بين (95.4) و(88.7) فضمت مصر، سوريا واليمن. ويمكن القول أن العوامل الاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة تؤدي الى تدني مستوى الخدمات العامة والى تفشي الفقر والبطالة في أوساط شرائح اجتماعية عدة. إن غياب الاستقرار السياسي والاجتماعي يولّد مناخات عامة تتماهى مع ثقافة الفساد بحجة "الامر الواقع" ويؤدي الى أزمات اجتماعية تقوّض سلطة الدولة وتهدد استقرارها الأمني والاجتماعي فيغيب معها "مفهوم الدولة الجامعة والحاضنة" للشعب. في هذه الحالة تنعدم إمكانية قيام حكم صالح، فتتشتت الموارد وتتبعثر الجهود وتحتدم المنافسة بين اعضاء المجتمع الاهلي على تقاسم تلك الموارد، كما يحصل في العديد من الصراعات المحلية في كثير من دول العالم كالسودان والصومال بالإضافة الى لبنان وفلسطين وان كان بمرتبة اقل.
انطلاقاً مما تقدم، يمكن الاستنتاج أن الدول العربية تفتقر الى آليات سليمة ينتظم من خلالها العمل المؤسساتي، وهي لازالت قاصرة عن تحقيق مبادىء الحكم الصالح واحترام الخطوط الحمر التي تُنظّم العمل السياسي ضمن إطار المؤسسات. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يبذلها بعض السياسيين وبعض منظمات المجتمع المدني العربي، لم يُطرح هدف مكافحة الفساد كأولوية في جدول أعمال الأنظمة العربية.
وبالتالي، المطلوب تعزيز العلاقة بين المواطن وبين الدولة عبر: توسيع المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار والتي تبدأ من خلال الضغط من اجل اقرار قوانين انتخابية ديمقراطية وعادلة، ينتخب من خلالها الشعب نواباً جاهزين لمساءلة ومحاسبة السلطة التنفيذية على اعمالها، مما يؤمّن مشاركة شعبية في الحكم عبر ممثليه هذا من جهة، ومن جهة اخرى عبر بناء تحالفات بين الحكومات والهيئات التشريعية والقطاع الخاص والإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وتتعزز العلاقة ايضاً عبر ضمان استقلالية السلطات العامة وتعاونها مع بعضها البعض عبر فصل النيابة عن الوزارة مما يمنع سيطرة مؤسسة على اخرى ويفعّلأطر الرقابة المتبادلة، وأخيراً لا بد من إطلاق عجلة التنمية المتوازنة في المناطق التي تشكل المدخل الأساس لاستقرار الاوضاع الإجتماعية والامنية في الدول العربية.
خليل جبارة مدير الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية وأمين عام منظمة "برلمانيون عرب ضد الفساد".